موقف تابعي التابعين وغيرهم من التقيّة
ثامر هاشم حبيب العميدي
منذ 15 سنةموقف تابعي التابعين وغيرهم من التقيّة
وفي هذا الموقف سنراعي أيضاً ما وصل إليه التسلسل السابق مع لحاظ السابق الزمني لكلّ موقف ، على أنّا سندع الكثير الكثير من أسماء العلماء الذين استعملوا التقيّة أو صرّحوا بها ، إذ مرّت أسماؤهم في الفصل الأوّل ، خصوصاً المفسّرين منهم ابتداءً من الطبري ـ ت / ٣١٠ هـ ـ ، وانتهاءً بالصابوني الوهّابي المعاصر ، اللّهمّ إلّا إذا وجدنا كلاماً لأحدهم لم ننقله عنه هناك ، وإن كان ثمّة مجال سنشير إليهم إجمالاً في آخر المطاف ، وممّا وقفنا عليه من هذه المواقف ما يأتي :
٦٣ ـ يعقوب بن إبراهيم المعروف بأبي يوسف ـ ت / ١٨٢ هـ ـ :
يعقوب بن إبراهيم الرجل الثاني في المذهب الحنفي ، وهو من أشهر أصحاب أبي حنيفة ، كانت سيرته قد اختلفت تماماً عن سيرة أبي حنيفة إزاء بني العبّاس ، فقد ولي قضاء بغداد في زمن موسى المهدي ـ ت / ١٦٩ هـ ـ ، ثمّ هارون الرشيد ـ ت / ١٩٣ هـ ـ من بعده ، وهو أوّل من دعي بقاضي القضاة في الإسلام ، وقد بلغت علاقته بالرشيد أنّه كان يأكل معه الفالوذج بدهن الفستق (1).
ولا خلاف بأنّ الشريعة الإسلاميّة لا تحرم الأكل مع السلاطين والحكّام ، ولكنّها نبّهت على خطره ، مغبّة أن يحمل الآكل ـ لا سيّما إذا كان من الفقهاء ـ كرهاً على الإفتاء بما يوافق هوى السلاطين والحكّام. وهذا من البداهة بمكان لا يخفى على أحد.
قال ابن قتيبة الدينوري ـ ت / ٢٧٦ هـ ـ : « لا تكونّن صحبتك للسلطان إلّا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك ، وموافقتهم فيما خالفك ، وتقدير الاُمور على أهوائهم دون هواك » (2).
ولهذا نجد الإمام أبا حنيفة قد أوصى أبا يوسف في أيّامه الأخيرة بقوله : « وإذا رأيت من سلطانك ما لا يوافق العلم ، فاذكر ذلك مع طاعتك إيّاه ، فإنّ يده أقوى من يدك. تقول له : أنا مطيع لك في الذي أنت فيه ، سلطان ومسلّط عليّ ، غير أنّي أذكر من سيرتك ما لا يوافق العلم ، وانصحه في الدين ، وناظره إن كان مبتدعاً » (3) إلى آخر ما جاء في هذه الوصيّة القيّمة.
وفي مقابل هذا نجد أنّ في بعض ما صدر من فتاوى لأبي يوسف ، لا ينسجم مع فقه الأحناف بالمرّة ، وليس له من تفسير غير التقيّة ، ولا نعني بهذا الغضّ من أبي يوسف ، وإنّما نعني به كثرة الضغوط التي كان يواجهها ـ بحكم كونه قاضي القضاة في الإسلام ـ ممّا لا مفرّ له منها بغير التقيّة ، ولا غضاضة عليه في ذلك ، لأنّ الشريعة الغرّاء التي أباحت الكفر ـ وهو من أفظع الأشياء ـ عند الإكراه على القتل أو الوعيد المتلف ، لا شكّ أنّها تبيح للفقيه الفتيا بخلاف الواقع الذي يعلمه ، إن خاف على نفسه التلف.
ولهذا فإنّ ما نذكره من تقيّة أبي يوسف في الإفتاء ، وإن كنّا لا نعلم نوع الإكراه عليها ، إلّا أنّها محمولة على الإكراه المبيح لذلك إن شاء الله ، وإن كان ظاهر بعض فتاويه في نظر حاسديه لا تستوجب مخالفة للشرع الحنيف.
ومن تقيّته في الفتيا ، ما توضّحه المواقف التالية :
الموقف الأوّل : مع المهدي العبّاسي.
ذكر السيوطي ـ ت / ٩١١ هـ ـ انّ الرشيد قد أحبّ جارية من جواري المهدي ، فراودها عن نفسها ، فامتنعت وبيّنت له أنّ أباه قد طاف بها ، ولكن الرشيد قد هام بها حبّاً ، فأرسل إلى أبي يوسف فأفتاه فيما رغب (4).
الموقف الثاني : مع هارون الرشيد.
وذكر السيوطي أيضاً ، انّ هارون الرشيد دعاه مرّة في الليل ، فأفتاه بما يوافق هواه ، فأمر له بمائة ألف درهم (5).
الموقف الثالث : مع اُمّ جعفر البرمكي.
روى الخطيب البغدادي ـ ت / ٤٦٣ هـ ـ بسنده عن أبي عبد الله اليوسفي قال : « إنّ اُمّ جعفرٍ كتبت إلى أبي يوسف : ما ترى في كذا وكذا ، وأحبّ الأشياء إليّ أن يكون الحقّ فيه كذا ؟ فأفتاها بما أحبّت ، فبعثت إليه بحُق فضّة فيه حُقاق فضّة مطبقات في كلّ واحدة لون من الطيب ، وفي جام دارهم وسطها جام فيه دنانير .. » (6).
الموقف الرابع : في جارية عيسى بن جعفر.
أفتى أبو يوسف في جارية عيسى بن جعفر حيث امتنع عيسى أن يهبها للرشيد لما سبق منه من يمين بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك على أن لا يبيع هذه الجارية ولا يهبها لأيّ إنسان مهما كان ، وكانت الفتيا أن قسّم الجارية نصفين لكي يهب عيسى بن جعفر نصفها للرشيد ويبيع النصف الآخر ، وبهذا يخرج من يمينه ، لأنّه لم يحلف على هذا ، ولقد كانت جائزة هذه الفتيا مائتي ألف درهم ، وعشرين تختاً ثياباً (7).
ولعلّ قساوة قول ابن السمّاك في حقّ أبي يوسف جاءت من هذا الباب (8).
الموقف الخامس : في افتائه بجواز التقيّة في الدماء
وهو ما سيأتي في الفصل الثالث في فقه الأحناف ، حيث سنقف على فتياه هناك في جواز التقيّة في الدماء فيما سجّلته أهمّ كتب الأحناف الفقهيّة ، ويمكن أن يقال انّ التقيّة كانت وراء هذه الفتيا ، لأنّ قاضي القضاة أبا يوسف لم يكن بعيداً عن الدماء التي أهرقها الرشيد وأبوه من قبل ، وهذا يعني أنّ الإفتاء بوجوب القصاص من المكرِه والمكرَه ، أو أحدهما عند القتل ، هو بمثابة الحكم بوجوب قتل هارون الرشيد ، وأبيه وجلاديهم ، وهذا ممّا يتعذّر صدوره من قاضي القضاة.
٦٤ ـ أبو الفضل الهاشمي ـ ت / ١٨٦ هـ ـ :
ذكر ابن قتيبة الدينوري ـ ت / ٢٧٦ هـ ـ في عيون الأخبار ، أنّ محمّد بن أبي الفضل الهاشمي قال : « قلت لأبي : لِمَ تجلس إلى فلان ، وقد عرفت عداوته ؟
فقال : أُخبِّئُ ناراً وأقدحُ عن وُدٍّ ! » (9).
وما أقرب هذا القول من قول أبي الدرداء المتقدّم في الفصل الأوّل : « إنّا لنكشِّر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم ».
٦٥ ـ تقيّة عليّ بن إسحاق من هارون الرشيد ـ ت / ١٩٣ هـ ـ :
كان عليّ بن إسحاق بن عبد الله بن العبّاس ، من حاشية هارون الرشيد ، ومن المقرّبين إليه ، والمطّلعين على أسراره ، وقد اتّقى من الرشيد في غير موضع التقيّة ، وذلك فيما حكاه الشبراوي الشافعي ـ ت / ١١٧١ هـ ـ من أنّه كان على علم بما عزم عليه هارون مِن إبادة البرامكة واستئصال شأفتهم ، ورغم ذلك لم تبدر منه أدنى بادرة في إنذار البرامكة بطريقة لا تثير غبار الشك لدى الرشيد في إفشاء سرّه ، ولا تؤدّي إلى الفتنة ، وذلك بتقديم النصح مثلاً وما شابهه ، بل ابتعد حتّى عن دورهم ـ حتّى حصلت نكبتهم ـ تقيّة على نفسه من بطش الرشيد (10).
٦٦ ـ تقيّة الإمام الشافعي ـ ت / ٢٠٤ هـ ـ :
ومن المواقف التي تشهد على تقيّة الإمام الشافعي ـ فيما وقفت عليه ـ موقفان ، وكلاهما مع هارون الرشيد ، وهما :
الموقف الأوّل : مع هارون الرشيد في ذمّ العلويين !
المعروف بين سائر المؤرّخين ، أنّ الإمام الشافعي قد مكث مدّة في اليمن ، وأكثر قبائل اليمن تميل إلى العلويّين ، مع ميل الشافعي نفسه إلى العلويّين ، ومن هنا جاءت محنته ، بل واتّهم بالتشيّع أيضاً.
ولم يكن ذلك خافياً على جواسيس الرشيد ، فقد كتب إليه حمّاد البربري من اليمن رسالة يخوّفه فيها من العلويّين ، ويحذّره أشدّ التحذير من الشافعي ، حتّى ذكر له بأن ما يخرج من لسان الشافعي هو أشدّ من سيف المقاتل !
ولهذا أمر الرشيد أن يُحمل الشافعي مع بعض العلويّين إلى بغداد (11).
ولمّا وصلوا إلى بغداد أمر الرشيد بقتل العلويّين جميعاً فقتلوا حالاً ، وأمّا الشافعي فقد قال كلاماً تقيّة لا يعبّر عن واقع قال : « أأدع من يقول إنّي ابن عمّه ، وأصير إلى من يقول إنّي عبده » (12).
وقد ترك هذا الكلام أثراً في نفس الرشيد فعفى عنه.
الموقف الثاني : رأيه في خلافة هارون الرشيد.
وهذا الموقف أوضح من الأوّل في التقيّة ، وهو ما أورده أبو نعيم الأصبهاني ـ ت / ٤٣٠ هـ ـ في حلية الأولياء في خبر طويل خلاصته :
إنّ الشافعي اُحضر يوماً وهو مقيّد في الحديد إلى مجلس هارون الرشيد ، وكان في المجلس بعض خصومه ، منهم بشر المريسي المعتزلي ـ ت / ٢١٨ هـ ـ
فأراد بشر أن يحرج الشافعي فقال له بمسمع من الرشيد : « ادّعيت الإجماع ، فهل تعرف شيئاً أجمع الناس عليه ، قال نعم : أجمعوا على أنّ هذا الحاضر أمير المؤمنين ، فمن خالفه قُتِل ».
فضحك عند ذلك الرشيد ، وقرّبه وأكرمه بعد أن أمر بفكّ القيد عنه (13).
أقول : إنّ الإمام الشافعي يعلم علم اليقين كيف وصل الرشيد إلى الحكم ، وإنّه لم ينصّ على خلافته كتاب ، ولم تنطق بها سُنّة ، ولم تحصل بها شورى ، ولم ينعقد عليها الإجماع ، وإنّما كانت ملكاً عضوضاً ، ورثها عن أبيه كما يرث الدينار والدرهم فهي خلافة مرفوضة عند أهل النصّ والتعيين ، ومرفوضة عند أهل الشورى والإختيار ، وبالجملة فإنّ خلافة الاُمويّين والعبّاسيّين برمّتهم خارجة عن إطار النظريّة السياسيّة للإمامة والخلافة في الإسلام ، ومن هنا يتّضح أنّ الإجماع المراد بكلام الإمام الشافعي هو « إجماع التقيّة » لا غيره.
٦٧ ـ تقيّة سجادة من المأمون ـ ت / ٢١٨ هـ ـ.
٦٨ ـ تقيّة القواريري من المأمون.
٦٩ ـ تقيّة جمع من الفقهاء من المأمون.
لقد نصّ الطبري ـ ت / ٣١٠ هـ ـ في تأريخه عند تناوله الأخبار في محنة خلق القرآن في زمن المأمون على امتناع سجادة والقواريري ومجموعة من الفقهاء من الإستجابة إلى أمر المأمون ـ في هذه المسألة ـ الداعي إلى القول بأنّ القرآن الكريم مخلوق وليس بقديم.
ولكنّهم ـ كما نصّ عليه الطبري ـ تراجعوا عن موقفهم حين علموا بما عزم عليه المأمون إزاء من لم يسجّل اعترافه ـ بما أمر ـ عند واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، وقالوا جميعاً : إنّ القرآن مخلوق ، إلّا ما كان من أحمد بن حنبل ، ومحمّد بن نوح المضروب (14).
٧٠ ـ أبو مسهر ـ ت / ٢١٨ هـ ـ :
نصّ الطبري في أخبار هذه المحنة أيضاً على أنّه جاء كتاب من المأمون إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، يقول فيه : « وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر ، بعد أن نصّه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن ، فجمجم عنها ولجلج فيها ، حتّى دعا له أمير المؤمنين بالسيف ، فأقرّ ذميماً ، فانصصه عن إقراره ، فإن كان مقيماً عليه ، فأشهر ذلك وأظهره إن شاء الله » (15).
أقول : المراد بأبي مسهر ، هو عبد الأعلى بن مسهر الغساني ، من تابعي التابعين ، وتقيّته واضحة كما ترى ، ولا تحتاج إلى تعليق.
٧١ ـ تقيّة الإمام أحمد بن حنبل ـ ت / ٢٤٠ هـ ـ :
كان الإمام أحمد بن حنبل يرفض أيّ شكل من أشكال التعاون مع العبّاسيّين ، ولم يقبل منهم أيّة وظيفة ، ويحدّثنا تاريخه أنّه كان متقشّفاً لا يقبل هدية من الحاكم قطّ ، وانّه إذا ما اُكرِه على قبولها فسرعان ما يوزعها على الفقراء والمساكين ، وهذه حقيقة يجدها الباحث في جميع كتب التراجم والرجال.
وقد بلغت نفرته من الحكّام انّه حرّم على نفسه شرب ماء دجلة ، لأنّه كان يعدّ ذلك ممّا جرى عليه الغصب ، واكتفى بماء الآبار (16).
وبناءً على هذا الرأي فإنّ سكنه في بغداد يعدّ من أوضح مظاهر تقيّته ، لأنّ من يرى ماء دجلة قد جرى عليه الغصب ، سوف لن يرَى شبراً من أرضِ بغداد إلّا وقد جرى عليه حكم الغصب أيضاً.
ترى ، هل اُكره ابن حنبل على الإقامة ببغداد ؟ أم اتّخذها اختياراً مقرّاً ومقاماً ؟
قال الدكتور القطري في موقف الخلفاء : « انّه سكن بغداد اضطراراً حتّى روي عنه أنّه قال : دفعتنا الضرورة إلى المقام بها ، كما دفعت الضرورة المضطرّ إلى أكل الميتة » (17).
ومن تقيّته أيضاً اختلاف قوله في المحنة ، وما تعرّض له في عهدي المأمون ـ ت / ٢١٨ هـ ـ ، والمعتصم ـ ت / ٢٢٧ هـ ـ. فقد ذكر المؤرّخون لأحداث هذه المحنة أنّ المأمون العباسي كتب إلى إسحاق بن إبراهيم ـ واليه علي بغداد ـ ت / ٢٣٥ هـ ـ كتاباً يأمره فيه أن يمتحن القضاة والفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن فأحضر إسحاق جملة كبيرة منهم ، وفيهم أحمد بن حنبل ، فقال له : « ما تقول في القرآن ؟ قال : هو كلام الله. قال : أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله لا اُزيد عليها » (18).
ثمّ اختلف قوله في عهد المعتصم ، لما امتحنه في هذه المسألة ، فقال : « أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا ، فأحضر له الفقهاء ، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره فامتنع أن يقول : إنّ القرآن مخلوق ، فضرب عدّة سياط ، فقال إسحاق بن إبراهيم : ولّني يا أمير المؤمنين مناظرته ، فقال : شأنك به ، فقال إسحاق : هذا العلم الذي علمته نزل عليك به مَلَك ، أو علمته من الرجال ؟
قال : بل علمته من الرجال.
قال : شيئاً بعد شيءٍ أو جملةً ؟
قال : علمته شيئاً بعد شيء.
قال : فبقي عليك شيء لم تعلمه ؟
قال : بقي عليَّ.
قال : فهذا ممّا لم تعلمه ، وقد علمكه أمير المؤمنين.
قال : فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين !
قال : في خلق القرآن ؟
قال في خلق القرآن !!
فأشهد عليه ، وخلع عليه ، وأطلقه إلى منزله » (19).
وممّا يؤيّد هذه الرواية ما نقل عن الجاحظ ـ ت / ٢٥٥ هـ ـ في كلامه مع الحنابلة ، فقال : « قد كان صاحبكم هذا ـ أيّ : أحمد بن حنبل ـ يقول : لا تقيّة إلّا في دار الشرك. فلو كان ما أقرّ به من خلق القرآن كان منه على وجه التقيّة ، فلقد عملها في دار الإسلام .. ولو كان ما أقرّ به على الصحّة والحقيقة فلستم منه وليس منكم ، على أنّه لم يرَ سيفاً مشهوراً ، ولا ضرب ضرباً كثيراً ، ولا ضرب إلّا الثلاثين سوطاً ، مقطوعة الثمار ، مشبعة الأطراف ، حتّى أفصح بالإقرار مراراً ولا كان في مجلس ضيق ، ولا كانت حالته مؤيسة ، ولا كان مثقلاً بالحديد ، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد ... » (20).
أمّا في عهد المتوكّل ـ ت / ٢٤٧ هـ ـ ، فقد ارتفعت المحنة عنه ، حيث أظهر المتوكّل ميلَهُ نحو المدرسة السلفيّة ، وأرغم الناس على التسليم والتقليد ، ونهاهم عن المناظرة والجدل ، وأمر الفقهاء والمحدّثين بالردّ على أصحاب المدرسة العقليّة وشجّعهم على ذلك ، وأمدهم بالأموال وكلّ ما يحتاجون إليه في سنة / ٢٣٤ هـ ، فبالغوا في الثناء عليه حتّى قالوا : « الخلفاء ثلاثة : أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه في قتل أهل الردّة ، وعمر بن عبد العزيز في ردّ المظالم ، والمتوكّل في إحياء السُنّة وإماتة التجهّم » (21).
وفي ظلّ تلك الظروف المؤاتية أعلن الإمام أحمد بن حنبل رأيه بصراحة في مسألة خلق القرآن ، فقال : « ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ، ولم يقل ليس بمخلوق ، فهو أخبث من القول الأوّل » (22). أيّ : أخبث من القول بخلق القرآن.
كما لعن من يقول القرآن كلام الله ويسكت ، فقال : « وقالت طائفة : القرآن كلام الله وسكتت ، وهي الواقفة الملعونة » (23).
أقول : لا سبيل إلى إنكار تقيّة الإمام أحمد بن حنبل في هذه المسألة على جميع التقديرات ، وهي واقعة منه لا محالة سواء صحّ ما عن اليعقوبي والجاحظ ، أو لم يصحّ ـ عنهما ـ ذلك.
أمّا مع القول بصحّة ما ذكراه ، فالتقيّة واضحة ، ولا لبس فيها.
وأمّا مع عدمه ، فلا إشكال في وقوع التقيّة أيضاً ، لأنّ سكوته في عهد المأمون ـ إذا ما قورن بتصريحه في عهد المتوكّل ـ سيكون من أوضح مظاهر التقيّة.
ثمّ انّ موقف الإمام أحمد بن حنبل مع فرض عدم اعترافه بخلق القرآن ، لا دليل فيه على عدم مشروعيّة التقيّة ، غاية الأمر أنّه رأى حرمة العمل بالتقيّة في هذا الموقف بعينه ، وعلى نفسه دون الآخرين ، لأنّه كان القدوة لعامّة الناس ، فرأى ـ كما يقول الاُستاذ الشملاوي ـ « انّه إذا ما لم يقف هذا الموقف ، ينزلق هذا الرأي في هاوية لا ينبز له رأس أبداً فوقف هذا الموقف » محتملاً أيضاً انطلاقه ـ في هذا الموقف ـ من رأيه الفقهي ، انّه لا تقيّة في دار الإسلام (24).
٧٢ ـ البخاري ـ ت / ٢٥٦ هـ ـ :
يمكن معرفة موقف البخاري من التقيّة ، وذلّ من خلال ما قدّمناه من رواياته في أدلّة السُنّة النبويّة على مشروعيّة التقيّة ، كما في الدليل الأوّل ، والثالث عشر ، والرابع عشر ، وممّا لم نذكره هناك ما أخرجه في كتاب الإكراه ، فقد ورد فيه قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (25) ، وقوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (26) قال البخاري معلّقاً : « وهي التقيّة ».
ثمّ أورد قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ )(27). وعلّق عليه بقوله : « فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون عن ترك ما أمر الله به ، والمكره لا يكون إلّا مستضعفاً غير ممتنع من فعل ما اُمر به ، وقال النبيّ (ص) : « الأعمال بالنيّة » (28).
أقول : إنّ التقيّة هي من أرفق مبرّرات تجنّب البخاري ـ في صحيحه ـ الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ، وإلّا فإنّ أيّ سبب آخر لهذا الموقف فيه ما لا يرضاه أهل السُنّة أنفسهم.
٧٣ ـ الحسين بن الفضل البجلي ـ ت / ٢٨٢ هـ ـ :
٧٤ ـ زهير بن حرب أبو خيثمة الحرشي ـ ت / ٢٣٤ هـ ـ :
روى الحافظ ابن عساكر ـ ت / ٥٧١ هـ ـ ، عن محمّد بن عبد الله الحافظ قال : « سمعت أبا بكر محمّد بن عبد الله بن يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ يقول :
سمعت الحسين بن الفضل البجلي رحمه الله يقول : دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون ، وقد امتحنه ، فأجاب إلى ما سأله ، فكان أوّل ما قال لي : يا أبا علي ! تكتب عن المرتدّين ؟ !
فقلت : معاذ الله ، ما أنت بمرتدّ ، وقد قال الله تبارك وتعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (29) ، فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن » (30).
قلت : انّ قول زهير بن حرب : يا أبا علي تكتب عن المرتدّين ؟! فيه دلالة قويّة على عمل زهير بن حرب بالتقيّة طيلة حكم المأمون وقبل أن يمتحن زهير بذلك ، وتوضيحه :
إنّه كان يرى انّ من يقول بخلق القرآن هو من المرتدّين ، ولا شكّ أنّ المرتدّ تجب عليه أحكام الردّة ، وعلى هذا القول يكون المأمون وولاته من المرتدّين !!
ولعمري ، أيّ تقيّة أوضح من هذه التقيّة ، إذ كيف له أن يلقى الله بإمامة مرتدّ والصلاة خلف ولاته المرتدّين ، وأخذ عطائه منهم ، والتقيّد بأوامرهم ، وهم من المرتدّين ، فالتقيّة إذن عند من أجاب إلى ما سأله المأمون أو امتنع ، ويرى رأي زهير بن حرب واقعه لا بدّ.
٧٥ ـ الجوهري ـ ت / ٣٩٣ هـ ـ :
قال عن الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه تقيّة : « وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله الله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف ، لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر » (31).
وهذا الكلام لا يمكن صدوره عمّن لا ير بمشروعيّة التقيّة ، حتّى وإن لم يكن من أهل الإسلام. فكيف وقائله العالم المسلم الجوهري اللغوي المشهور ؟
٧٦ ـ الفقيه السرخسي ـ ت / ٤٩٠ هـ ـ :
قال عن تقيّة عمّار بن ياسر ـ ت / ٣٧ هـ ـ وأصحابه : « هذا النوع من التقيّة يجوز لغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ... » (32).
وعلّق على كلام الحسن البصري ـ ت / ١١٠ هـ ـ : « إنّ التقيّة جائزة إلى يوم القيامة » ، بقوله : « وبه نأخذ ، والتقيّة أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه. وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ، ويقول إنّه من النفاق ، والصحيح انّ ذلك جائز ، لقوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان، من باب التقيّة » (33).
٧٧ ـ الغزالي ـ ت / ٥٠٥ هـ ـ :
قال في إحياء علوم الدين تحت عنوان : « بيان ما رخّص فيه من الكذب » ما نصّه : « إعلم إنّ الكذب ليس حراماً لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإنّ أقلّ درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً ، وقد يتعلّق به ضرر غيره.
ورُبَّ جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب محصّل لذلك الجهل ، فيكون مأذوناً فيه ، وربّما كان واجباً.
ـ ثمّ قال ـ : الكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكلّ مقصود محمود يمكن التوصّل إليه بالصدق والكذب جميعاً ، فالكذب فيه حرام.
وإِن أمكن التوصّل إليه بالكذب دون الصدق ، فالكذب فيه مباح ، إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً ، وواجب إن كان المقصود واجباً ، كما انّ عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم ، فالكذب فيه واجب » (34).
وقال أيضاً : « فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً ، وعِرضه بلسانه وإن كان كاذباً » (35).
ثمّ بيّن الغزالي عدم جدوى الصدق في بعض الحالات فقال : فلو صدق الإنسان في مواضع الضرر تولّد من صدقه محذور ، فكان عليه أن يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط ، فإذا علم انّ المحذور الذي يحصل بالصدق أشدّ وقعاً في الشرع من الكذب فله أن يكذب.
وإن كان المقصود أهون من مقصود الصدق ، فيجب الصدق. وقد يتقابل الأمران بحيث يتردّد فيهما ، وعند ذلك ، الميل إلى الصدق أولى ، لأنّ الكذب يباح لضرورة ، أو حاجة مهمّة » (36).
أقول : وليت من أنكر التقيّة يعلم أنّ الغزالي قد أباح الكذب لتحصيل الحاجات المهمّة. مع أن من يتّقي بضغط الإكراه هو خارج عن حكم الإفتراء بنصّ القرآن الكريم كما تقدّم.
٧٨ ـ ابن قدامة الحنبلي ـ ت / ٦٢٠ هـ ـ :
صرّح ابن قدامة الحنبلي بعدم جواز الصلاة خلف المبتدع والفاسق إلّا إذا خاف ممّا يلحقه من ضرر إن ترك الصلاة خلفه ، ففي هذه الحالة يمكنه أن يصلّي خلفه تقيّة ثمّ يعيد الصلاة ، واحتجّ عليه بما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ ت / ٧٨ هـ ـ انّه قال : سمعت النبيّ (ص) على منبره يقول : « لا تؤمّنّ امرأة رجلاً ، ولا يؤمّ أعرابي مهاجراً ، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلّا أن يقهره بسلطان ، أو يخاف سوطه ، أو سيفه » (37).
٧٩ ـ ابن أبي الحديد المعتزلي ـ ت / ٦٥٦ هـ ـ :
ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي في شرح النهج ما دار بينه وبين أبي جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة من كلام في شأن أمير المؤمنين علي عليه السلام وذلك في شرح فقرة من فقرات النهج ، وهي من قول الإمام عليّ عليه السلام : « والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ... إلخ » (38) ، وذلك تحت عنوان : « كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبّة الناس لعلّي ».
فقال : « وكان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله ، والحديث شجون.
قلت له مرّة : ما سبب حبّ الناس لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وعشقهم له ، وتهالكهم في هواه ؟ ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ، وغير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيّب منها !
فضحك ، وقال لي : كم تجمع جراميزك عليَّ ؟
ـ وبعد كلام طويل في غاية الدقّة ـ قال : فقلت له : إنّه لم يثبت النصّ عندنا بطريق يوجب العلم، وما تذكرونه أنتم صريحاً فأنتم تنفردون بنقله ، وما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها ، فلها تأويلات معلومة.
فقال لي ـ وهو ضجر ـ : يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا : « لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله » ، دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب والنفوس انّها غير مُرادة ، وانّ المتكلّمين تكلّفوها وتعسّفوها ، فإنّما أنا وأنت في الدار ولا ثالث لنا ، فيستحي أحدنا أو يخافه.
ـ قال ابن أبي الحديد ـ : فلمّا بلغنا هذا الموضع ، دخل قوم ممّن كان يخشاه ، فتركنا ذلك الاُسلوب من الحديث ، وخضنا في غيره » (39).
ويستفاد ممّا تقدّم جملة اُمور :
منها : انّ ابن أبي الحديد لم يكن شيعيّاً قطّ ـ راجع كلامه وتدبّر ما فيه ـ وإنّما كان عالماً منصفاً لا تخشى بوادره.
ومنها : انّه كان يرى التقيّة ، لأنّه شارك السيّد الحسني في ترك هذا الاُسلوب من الحديث ، والخوض في غيره ، لا سيّما وأنّه قال : « فتركنا » و « وخضنا ».
ومنها : تخوّف العلماء من الحديث عن علي عليه السلام ، حتّى في أواخر الدولة العباسيّة ، وما يستتبع خوفهم هذا من التقيّة.
على أنّ ما جرى لابن أبي الحديد والسيّد الحسني مرّة واحدة ، يجري كلّ يوم مرّات ، ولو راجع الإنسان نفسه لوجد انّه قد طبّق هذا الموقف في حياته ، أو أدركه من غيره ، وما أكثر الكلام الذي تغيّر مجراه التقيّة ، أو تحوّله إلى همس فجأة !
٨٠ ـ يحيى بن شرف النووي الشافعي ـ ت / ٦٧٦ هـ ـ :
بين النووي في شرح حديث صحيح مسلم الخاص بذكر الدجّال وفتنته الدلائل التي يعجز عنها الدجّال على الرغم ممّا يظهر على يديه من المخاريق ، ثمّ قال : « ولهذه الدلائل وغيرها لا يغترّ به إلّا رعاع الناس لسدّ الحاجة والفاقة ، رغبة في سدّ الرمق ، أو تقيّة وخوفاً من أذاه ، لأنّ فتنته عظيمة جدّاً ، تدهش العقول ، وتحيِّر الألباب ... » (40).
أقول : إنّ اغترار الرعاع من الناس بالدجّال ممكن ، والتعليل بسدّ الحاجة والفاقة ممكن أيضاً ، أمّا من يتّقيه فلا يمكن أن يغترّ به ، وإن حصلت تقيّة هناك ، فلا تكون إلّا ممّن عرف حقيقة الدجّال وكذبه ، والمهمّ هنا هو تصريح النووي بالتقيّة.
٨١ ـ الشوكاني الزيدي ـ ت / ١٢٥٠ هـ ـ :
ردّ الشوكاني على من زعم انّ التقيّة تجوز في القول دون الفعل ، بظاهر قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) ، فقال : « ويدفعه ظاهر الآية ، فإنّها عامّة فيمن اُكرِه من غير فرق بين القول والفعل ، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول » (41).
٨٢ ـ الآلوسي الحنبلي ـ ت / ١٢٧٠ هـ ـ :
قال عن آية التقيّة : « وفي هذه الآية دليل على مشروعيّة التقيّة » ثمّ نقل تعريف التقيّة عند أهل السُنّة ـ كما مرّ في الفصل الأوّل.
٨٣ ـ جمال الدين القاسمي ـ ت / ١٣٣٢ هـ ـ :
قال : « ومن هذه الآية : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) استنبط الأئمّة مشروعيّة التقيّة عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه إيثار الحقّ على الخلق ، فقال ما نصّه :
وزاد الحلف غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلّتهم ـ من علماء السوء ، وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن ، وإجماع أهل الإسلام.
وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال في ذلك العصر الأوّل : حفظت من رسول الله (ص) وعاءين ، فأمّا أحدهما فبثثته في الناس ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ... » (42).
٨٤ ـ المراغي ـ ت / ١٣٦٤ هـ ـ :
عمّم الشيخ محمّد مصطفى المراغي العمل بالتقيّة ـ قولاً وفعلاً ـ ولم يقيّدها بالإكراه على تلفّظ كلمة الكفر ، بل أخرجها ـ إن صحّ التعبير ـ عن دائرة الإكراه الفردي ، وأباحها للدول الإسلاميّة عند تعاملها مع الدول الاُخرى ، كما لم يقيّد التقيّة بحالات الخوف أو الضعف عند الإكراه عليها ، بل أطلق استعمالها في جميع ما يعود بالنفع للدول الإسلاميّة ، ومصالح المسلمين ، وفي كلّ آن وزمان ، وفي الشدّة والرخاء.
قال : « فلا مانع من أن تحالف دولة إسلاميّة دولة غير مسلمة لفائدة تعود على الاُولى ، إمّا بدفع ضرر ، أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضرّ بالمسلمين ، ولا تختصّ هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كلّ وقت ، وقد استنبط العلماء من هذه الآية « ٣ : ٢٨ » جواز التقيّة بأن يقول الإنسان ، أو يفعل ما يخالف الحقّ ، لأجل التوقي من ضرر الأعداء ، يعود إلى النفس ، أو العِرض ، أو المال ...
ويدخل في التقيّة مداراة الكفرة ، والظلمة ، والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكفّ أذاهم ، وصيانة العِرض منهم ، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها ، بل هو مشروع.
فقد أخرج الطبراني قوله (ص) : ما وقى به المؤمن عِرضه فهو صدقه » (43).
٨٥ ـ تقيّة رجال المذهب الوهّابي :
إنّ المذهب الوهّابي هو فرع المذهب الحنبلي ، لأنّ مؤسّسه وهو الشيخ محمّد عبد الوهّاب ـ ت ١٢٠٦ هـ / ١٧٩١ م ـ كان حنبليّاً ، ودعوته وإن اتّسمت باللامذهبيّة ، وذلك بإنشاء مذهب جديد في بعض اُصوله ، إلّا انّ فروع هذا المذهب لم تزل حنبليّة ، ولم يطرأ عليها تبديل أو تعديل.
ورجال المذهب لا ينكرون التقيّة ، بل عملوا بها علناً بمرأى ومسمع جميع المسلمين ، ويدلّ عليه موقفهم المعلن إزاء الأضرحة ، والمشاهد المقدّسة ، وقبور الأولياء والصالحين ، التي تحولّت في أرض الحجاز إلى أطلال « تلُوحُ كباقي الوشمِ في ظاهِرِ اليدِ » !
ولكنّهم تركوا قبر النبيّ (ص) ، وقبري أبي بكر وعمر على حالها ، مداراة منهم لمشاعر الملايين من المسلمين ، واتّقاء من غضبهم ، ولا يوجد تفسير لذلك غير التقيّة.
٨٦ ـ موسى جار الله التركماني ـ ت / ١٣٦٩ هـ ـ :
ونختم هذه المواقف بموقف صاحب الوشيعة الذي نعى على الشيعة الإماميّة قولهم بالتقيّة وسفه عقولهم !!
قال في الوشيعة : « التقيّة في سبيل حفظ حياته ، وشرفه ، وحفظ ماله ، وفي حمايته حقّ من حقوقه واجبة على كلّ أحد ، إماماً كان أو غيره » (44).
وقال أيضاً : « والتقيّة ، هي : وقاية النفس من اللائمة والعقوبة ، وهي بهذا المعنى من الدين، جائزة في كلّ شيء » (45).
وقال أيضاً : « والتقيّة واجبة إن كان في تركها ضرر لنفسه ، أو غيره ، حرام عند أمن الضرر ، مكروهة حيث يخاف الناس الإلتباس على العوام » (46).
قلت : إنّ الشيعة الإماميّة قسّموا التقيّة بموجب الأحكام التكليفيّة الخمسة (47).
وبهذا يتّضح أنّ الشيعة الإماميّة لا تختلف عن سائر المذاهب والفرق الإسلاميّة في شيء من التقيّة ، إلّا ما كان من تعرّض الشيعة الإماميّة في تاريخها الطويل إلى الظلم والإضطهاد والجور والتعسّف أكثر من إخوانهم المسلمين.
على أنّ هذا لا يعني أنّ الشيعة قد لازمت التقيّة في طيلة تلك العهود الظالم أهلها ، بل على العكس من ذلك حيث كانت تنتفض بين حين وآخر معبرة عن رفضها للظلم والإضطهاد ، مقدّمة في ذلك آلاف الشهداء كما تشهد بذلك.
الهوامش
1. تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١٤ : ٢٤٢ ـ ٢٤٥ / ٧٥٥٨.
2. عيون الأخبار / ابن قتيبة ١ : ٢٠ ـ باب صحبة السلطان.
3. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان / ابن نجيم : ٤٣٢.
4. تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٩١.
5. م. ن : ٢٩١.
6. تاريخ بغداد ١٤ : ٢٥٢.
7. تاريخ بغداد ١٤ : ٢٥٠.
8. راجع ما قاله ابن السمّاك في تاريخ بغداد ١٤ : ٢٤٥.
9. عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢ : ٢٢.
10. الإتحاف بحب الأشراف / الشبراوي : ٢٤٦.
11. مناقب الشافعي / البيهقي ١ : ١١٢.
12. م. ن : ١١٢.
13. حلية الأولياء / أبو نعيم ٩ : ٨٢ ـ ٨٤.
14. تاريخ الطبري ٥ : ١٩٣ ـ في حوادث سنة ٢١٨ هـ ، وانظر : تبيين كذب المفتري / ابن عساكر : ٣٤٩.
15. تاريخ الطبري ٥ : ١٩٢ ـ في حوادث سنة ٢١٨ هـ.
16. موقف الخلفاء العباسيّين من أئمّة أهل السُنّة الأربعة : ٣٥١ ـ نقله عن جلاء العينين للآلوسي : ١٨٥.
17. موقف الخلفاء العبّاسيين من أئمّة أهل السُنّة الأربعة : ٣٥١.
18. تاريخ الطبري ٥ : ١٩٠ ـ في حوادث سنة ـ ٢١٨ هـ ـ.
19. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢ ـ في حياة المعتصم.
20. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / العلّامة أسد حيدر ٢ : ٤٥٩.
21. تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٣٤٦.
22. طبقات الحنابلة ١ : ٢٩ ـ نقلاً عن بحوث مع أهل السُنّة والسلفيّة / الروحاني : ١٨٣.
23. الردّ على الجهميّة لابن حنبل في كتاب الدومي : ٢٨ ـ نقلاً عن بحوث مع أهل السُنّة والسلفيّة : ١٨٤.
24. التقيّة في إطارها الفقهي / الشملاوي : ١٩٠.
25. النحل ١٦ : ١٠٦.
26. آل عمران : ٣ / ٢٨.
27. النساء : ٤ / ٩٧.
28. صحيح البخاري ٩ : ٣٤ ـ ٣٥ ـ كتاب الإكراه.
29. النحل : ١٦ / ١٠٦.
30. تبيين كذب المفتري / ابن عساكر : ٣٥٢ ـ ٣٥٣.
31. المحرّر الوجيز / ابن عطيّة الأندلسي ١٤ : ١٣٢.
32. المبسوط / السرخسي ٢٤ : ٢٥.
33. م. ن : ٢٤ ـ ٤٥.
34. إحياء علوم الدين / الغزالي ٣ : ١٣٧.
35. م. ن ٣ : ١٣٨.
36. إحياء علوم الدين / الغزالي ٣ : ١٣٨.
37. المغني / ابن قدامة ٢ : ١٨٦ و ١٩٢.
38. شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٢٣ رقم ١٩٣.
39. شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٢٧.
40. صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ : ٥٩ ـ باب ذكر الدجّال.
41. فتح القدير / الشوكاني ٣ : ١٩٧.
42. تفسير القاسمي « محاسن التأويل » ٤ : ٨٢.
43. تفسير المراغي ٣ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، وحديث الطبراني أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ : ٥٠ ، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠ : ٢٤٢ وشعب الإيمان ٣ : ٢٦٤ / ٣٤٩٥ ، والبغوي في معالم التنزيل ٥ : ٢٩٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣ : ١٣٦ ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ١٠ : ٤٤٧ ، والسيوطي في الدرّ المنثور ٥ : ٢٣٩ ، وإسماعيل بن محمّد العجلوني في كشف الخفاء ١ : ٤١٨.
44. الوشيعة في نقد عقائد الشيعة / موسى جار الله : ٣٧.
45. م. ن : ٧٢.
46. م. ن : ٨٥.
47. التقية / الشيخ مرتضى الأنصاري : ٣٩ ـ ٤٠.
ثوراتهم وانتفاضاتهم عبر التاريخ.
مقتبس من كتاب : [ واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية ] / الصفحة : 164 ـ 186
التعلیقات