الموقف من عمّار
صباح علي البيّاتي
منذ 9 سنواتالموقف من عمّار
ذكرنا سابقاً أن النبي صلّى الله عليه وآله قد أنذر أصحابه الفتن التي سوف تُقبل عليهم كقطع الليل المظلم ، وأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قد حدّد مسارات لاُمّته تهتدي بها إلى الطريق المستقيم ، حتّى قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان ـ صاحب سرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وهو يرى الأصحاب يخوضون غمرات الفتن :
والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا ! والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وآله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا ، بلغ من معه ثلثمائة فصاعداً ، إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته !! (1).
وقال أيضاً : قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله قائماً ، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلّا حدّثه ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنّه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه (2).
فأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله قد سمعوا ووعوا ، ولكن بعضهم نسي أو تناسى ، حتّى سارت الاُمور هذا المسار.
وقد أدّى حذيفة بن اليمان رسالته على أكمل وجه ، فقبل أن يتوفّى بأربعين يوماً تقريباً أتاه الناس وقالوا له : « إن أمير المؤمنين عثمان قد قُتل ، فما تأمرنا ؟ قال : آمركم أن تلزموا عمّاراً. قالوا : إنّ عماراً لا يفارق عليّاً ! قال : إن الحسد هو أهلك الجسد ، وإنما ينفّركم من عمّار قربه من علي ؛ فوالله لعليٌّ أفضل من عمّار أبعد ما بين التراب والسحاب ، وإنّ عمّاراً لمن الأحباب ، وهو يعلم أنّهم إن لزموا عمّاراً كانوا مع علي (3) عليه السلام.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « عمّار ما عُرض عليه أمران إلّا اختار الأرشد منهما » (4).
فالنبي صلّى الله عليه وآله قد أخبر بأنّ الفرقة التي فيها عمّار بن ياسر هي الفرقة المحقّة إذا اختلف المسلمون فيما بينهم ، ومن المعلوم أنّ عمّار بن ياسر كان في فئة علي بن أبي طالب ، ولم يفارقه حتّى اللحظة الأخيرة من حياته ، عندما سقط قتيلاً في حرب صفين وهو يقاتل فئة معاوية.
يقول ابن كثير :
وهذا مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، قتله أهل الشام ، وبان وظهر بذلك سرّ ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وآله من أنّه تقتله الفئة الباغية ، وبان بذلك أنّ عليّاً محقّ وأنّ معاوية باغ ، وما في ذلك من دلائل النبوة.
ذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف ، أنّ عماراً قال يومئذ : من يبتغي رضوان ربّه ولا يلوي إلى مال ولا ولد ؟ قال : فأتته عصابة من الناس ، فقال: أيّها الناس ، اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنّه قُتل مظلوماً ، والله ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره ! ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلّوها ، واستمروا الآخرة فقلوها ، وعلموا أنّ الحقّ إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقّون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم ، ولا تمكّنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكّنت من قلبه عن نيل الشهوات ، وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها ، وتحمله على اتباع الحقّ والميل إلى أهله ، فخدعوا أتباعهم بقولهم : إمامنا قتل مظلوماً. ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً ، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون ، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان ، ولكانوا أذلّ وأخسّ وأقلّ ، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين ، فسيروا إلى الله سيراً جميلاً ، واذكروا ذكراً كثيراً.
ثمّ تقدّم فلقيه عمرو بن العاص وعبيدالله بن عمر ، فلامهما وأنّبهما ووعظهما ، وذكروه من كلامه لهما ما فيه غلظة ، فالله أعلم.
ثمّ يستكمل ابن كثير فصول القصّة ، فيروي عن ابن ديزيل ابراهيم بن الحسن ، بسنده إلى الأحنف بن قيس ، قال : ثمّ حمل عمّار بن ياسر عليهم ، فحمل عليه ابن جوى السكسكي وأبو الغادية الفزاري ، فأمّا أبو الغادية فطعنه ، وأمّا ابن جوى فاحتزّ رأسه.
وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعمّار بن ياسر : « تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربة تشربها صاع من لبن » فكان ذو الكلاع يقول لعمرو : ويحك ، ما هذا يا عمرو ؟! فيقول له عمرو : إنّه سيرجع إلينا. قال : فلمّا اُصيب عمّار بعد ذو الكلاع ، قال عمرو لمعاوية : ما أدري بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحاً ، بقتل عمّار أو ذي الكلاع ، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمّار ، لمال بعامة أهل الشام ، ولأفسد علينا جندنا (5).
فعمرو بن العاص الذي يروي حديث مقتل عمّار بن ياسر بيد الفئة الباغية ، وهو يرى عمّاراً في الجانب الآخر مع علي ، ثمّ لا يكتفي بذلك ، بل يخدع أبا الكلاع الذي استغرب من وجود عمّار في الطرف الآخر من ساحة المعركة ـ بعد أن كانت أكاذيب معاوية قد أضلّته كما أضلّت أهل الشام ـ فيقول له بأنّ عماراً سيعود إلينا ، بل ويعبّر عن سروره بمقتل كلا الرجلين بعد أن تحقّق بأنّ الفئة التي يقاتل تحت لوائها هي الفئة الباغية لأنّها قتلت عمّاراً ، أمّا زعيمه معاوية فلم يكتف بذلك ، بل حاول أن يقلب الاُمور رأساً على عقب ـ كما هي عادة المزيفين ـ ، حيث يروي ابن كثير عن ابن ديزيل ـ مستكملاً قصّ الحوادث ـ قال :
« فبلغني أنّ معاوية قال : إنّما قتله من أخرجه ، يخدع بذلك أهل الشام » !
ولنا هنا وقفة مع الذين يستشهدون بالآية الكريمة حول قتال الطائفتين ، ويدّعون أنّ فئة معاوية لم تخرج من الإيمان ببغيها ، وكأنّهم لا يفقهون قوله تعالى : ( فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ، فهل فاءت فئة معاوية ورجعت عن بغيها بعد أن تبين وجه الحقّ بمقتل عمّار بن ياسر على يديها ؟ ولو أنّنا سلّمنا بأنّ معاوية وفئته كانوا مخطئين متأوّلين ـ كما يدّعي الذين يلتمسون الأعذار لمعاوية ـ فإن هذا الخطأ قد تكشف وظهرت الحقائق جليّة ، فلو أنّ معاوية أوقف الحرب بعد مقتل عمّار ، وذهب إلى علي وبايعه معتذراً عمّا بدر منه واستغفر الله لكان الأمر كما يدعي اُولئك ، ولصدّقنا أنّ معاوية كان مخطئاً متأوّلاً ، أما أن يرى ما يرى ثمّ لا يكتفي بالإصرار على بغيه ، بل يخدع رعيّته من أهل الشام ، حتّى يقول لوزيره في البغي عمرو بن العاص ، حينما أخبره عمرو بحديث النبي صلّى الله عليه وآله حول مقتل عمّار بيد الفئة الباغية : إنّك شيخ أخرق ولا تزال تحدّث بالحديث وأنت تدحض في بولك ، أو نحن قتلنا عمّاراً ؟ إنّما قتل عمّاراً من جاء به !
قال : فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم وهم يقولون : إنّما قتل عماراً من جاء به ، فلا أدري من كان أعجب ، هو أو هم ! (6).
وقد قال علي بن أبي طالب عند سماعه ذلك : فيكون رسول الله صلّى الله عليه وآله قد قتل حمزة لأنّه أخرجه !
فمعاوية لم يكتف بالإصرار على البغي ، بل راح يخدع الناس بأضاليله ، مع تأكيد النبي صلّى الله عليه وآله على حرمة ذلك ، وتوعد فاعله بالعذاب ، فيما أخرج المحدّثون عن معقل بن يسار ، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : « ما من وال يلي رعيةً من المسلمين ، فيموت وهو غاشٌ لهم ، إلّا حرّم الله عليه الجنّة ! » (7).
فهل يبقى بعد ذلك كلام للعاذرين لمعاوية بدعوى التأوّل والاجتهاد ؟
الهوامش
1. سنن أبي داود 4 : 73 كتاب الفتن والملاحم.
2. المصدر السابق.
3. مجمع الزوائد 7 : 223 وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات.
4. المستدرك على الصحيحين 3 : 388 ، جامع الترمذي 5 : 133 ، مسند أحمد 6 : 113 ، سنن ابن ماجة 1 : 63.
5. البداية والنهاية 7 : 267.
6. البداية والنهاية 7 : 267.
7. صحيح البخاري 9 : 80.
مقتبس من كتاب : [ الصحوة ] / الصفحة : 360 ـ 364
التعلیقات