إخراج سورتي الفلق والناس عن حريم القرآن !
صادق العلائي
منذ 4 سنواتإخراج سورتي الفلق والناس عن حريم القرآن !
هذا نوعٌ آخر من التحريف وهو إنكار المسلّم الثابت ضرورة بإجماع المسلمين ، فبعض كبار الصحابة أنكر هذا الضروري وقال بنفي قرآنية المعوذتين ، بل ادعی نزولهما من السماء كعوذتين عوّذ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم بهما الحسنين سيدي شباب أهل الجنة عليهما السلام ، وكان هذا الصحابي متجاهرا بذلك يجادل فيه أهل لا إله إلا الله الذي اجمعوا علی خلافه ، بل ويحكّها من المصحف بدعوی أنها ليست منه ! وهذا ما نصت عليه أصح الروايات عند أهل السنة وكذا ذكرته روايات الشيعة.
من هو ابن مسعود ؟
عبد الله بن مسعود الصحابي غني عن التعريف ، ولنقتصر في الكلام عنه بما جاء في الإصابة لابن حجر : عبد الله بن مسعود . أحد السابقين الأولين ، أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها ولازم النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم وكان صاحب نعليه ، وحدث عن النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بالكثير . وآخی النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بينه وبين الزبير ، وبعد الهجرة بينه وبين سعد بن معاذ ، وقال له في أول الإسلام : إنك لغلام معلَّم.
وأخرج البغوي من طريق القاسم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : قال عبد الله : لقد رأيتني سادس ستة ، وما علی الأرض مسلم غيرنا.
وبسند صحيح عن ابن عباس قال : آخی النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بين أنس وابن مسعود.
وقال أبو نعيم : كان سادس من أسلم ، وكان يقول : أخذت من في رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم سبعين سورة . أخرجه البخاري . وهو أول من جهر بالقرآن بمكة . ذكره ابن إسحاق عن يحيی بن عروة عن أبيه وقال النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم : من سره أن يقرأ القرآن غضا كما نزل فليقرأ علی قراءة بن أم عبد . وكان يلزم رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم ويحمل نعليه ، وقال علقمة : قال لي أبو الدرداء : أليس فيكم صاحب النعلين والسواك والوساد ، يعني عبد الله.
وقال له رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم : أذنتك علی أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي حتی أنهاك . أخرجهما أصحاب الصحيح . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم : تمسكوا بعهد ابن أم عبد. أخرجه الترمذي في أثناء حديث.
وأخرج الترمذي أيضا من طريق الأسود بن يزيد عن أبي موسی قال : قدمت أنا وأخي من اليمن ، وما نری ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم ؛ لما نری من دخوله ودخول أُمّه علی النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم.
وعند البخاري في التاريخ بسند صحيح عن حريث بن ظهير جاء نعي عبد الله بن مسعود إلی أبي الدرداء فقال : ما ترك بعده مثله (1).
وقد قتل علی يد جلاوزة ابن عفان حينما أمر عثمان بحمله ورميه خارج المسجد ، فأخذ وحُمل ودُقّ بالأرض فتكسّرت أضلاعه ، ومن قبلها عزله عثمان عن عمله بعد أن كان خازنا لبيت مال المسلمين في الكوفة ، وحرمه عطاءه ، ودفن ليلا بوصية منه لعمار رضوان الله تعالی عليه بعد أن استشهد بسبب كسره ، وكان مما أوصی به عمار أن لا يشهد عثمان جنازته ، وقد فعل عمار رضوان الله تعالی عليه ذلك.
مكانة ابن مسعود من القرآن عندهم
روايات أهل السنة تصور لنا ابن مسعود القارئ الأوحدي للقرآن ، وقد اعتنی به رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم أيما اعتناء ، حتی أخذ ابن مسعود من فيه صلی الله عليه وآله وسلم سبعين سورة ، وقد ذكرت رواياتهم أن : من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا ، كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن مسعود ، وذكرت أيضا أنه صلی الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة بأن يأخذوا القرآن من أربعة ، وشيخهم المتربع علی عرشهم هو ابن مسعود ، وهذه من تلك الروايات :
أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة باستقراء القرآن من أربعة : أولهم ابن سعود.
قال عبد الله بن عمرو : إن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً. وقال : إن أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقاً. وقال : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولی أبي حذيفة وأُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل (2).
وفي صحيح مسلم أن ابن مسعود رد نصيحة من نصحه بالقراءة علی قراءة زيد قائلا : علی قراءة من تأمروني أن أقرأ ؟! فلقد قرأت علی رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم بضعاً وسبعين سورة ، ولقد عَلِم أصحاب رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم أنّي أعلمهم بكتاب الله ، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه ، قال شقيق : فجلست في حَلَق أصحاب محمد صلی الله عليه [وآله] وسلم فما سمعت أحدا يردُّ ذلك عليه ولا يعيبه (3).
فتدل هذه علی أن ابن مسعود لا يری أحدا أعلم بالقرآن منه ! وهو مفاد رواية أُخری أخرجها مسلم : والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلّا أنا أعلم حيث نزلت ، وما من آية إلّا أنا أعلم فيما أنزلت ، ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغُه الإبل لركبت إليه (4).
والأهم من هذا كله أن ابن مسعود كان آخر الصحابة عهدا بالوحي وعرضة القرآن الأخيرة علی النبي صلی الله عليه وآله وسلم ، ولسان الرواية يقول : إن ابن مسعود علم ـ بزعمهم ـ ما نُسخ وما بُدّل من الآيات ، وعليه فابن مسعود في رواياتهم أعلم الصحابة بالقرآن ، ويحتم علينا الرجوع له في معرفة نصوصه ؛ لأن قراءته هي القراءة التي استقر عليها كتاب الإسلام وهي طبق الأصل من العرضة الأخيرة للقرآن ؛ إذ اختص من دون الصحابة بما نسخ وما بدل بشهادة حبر الأمة ابن عباس.
موقف ابن مسعود من المعوّذتين
بلغ موقف ابن مسعود من المعوذتين شهرة أغنتنا عن تكلف ذكر أدلته ، فأمره واضح لا يحتاج إلی بيان ، ومن جاس خلال الديار يعلم أن روايات أهل السنة الصريحة المتظافرة الصحيحة كانت سببا كافيا لجزم كثير من علماء أهل السنة بإنكاره لقرآنية المعوذتين ، كما سيأتي نقل كلماتهم بإذنه تعالی ، وهذه الصراحة ينفر عنها التأويل والتحوير ، وهاك غيضا من فيض نسكن به نفوس البعض :
عن مسند الحميدي ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بهدلة أنهما سمعا زرّ بن حبيش يقول : سألت أُبيّ بن كعب عن المعوذتين ، فقلت : يا أبا المنذز ! إن أخاك ابن مسعود يحكّهما من المصحف ! قال : إني سألت رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم قال : قال لي : قل فقلت : فنحن نقول كما قال رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم (5).
ومن مجمع الزوائد : عن زرّ قال : قلت لأُبيّ : إن أخاك يحكهما من المصحف ! ، قيل لسفيان ابن مسعود فلم ينكر ، قال سألت رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم فقال : فقيل لي ، فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله (6).
وعن عبد الرحمان بن يزيد ( يعني النخعي ) قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالی (7).
وعن عبد الله ، أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ، ويقول : إنما أمر النبي صلی الله عليه وآله وسلم أن يتعوذ بهما ، وكان عبد الله لا يقرأ بهما (8).
وعن المصنّف لابن أبي شيبة : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الرحمان بن يزيد قال : رأيت عبد الله محا المعوذتين من مصاحفه ، وقال : لا تخلطوا فيه ما ليس منه (9).
وعنه أيضا : حدثنا وكيع عن ابن عون ، عن ابن سيرين قال : كان ابن مسعود لا يكتب المعوذتين (10).
وعند الشافعي في الأم : أخبرنا وكيع عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمان بن يزيد قال : رأيت عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا به ما ليس منه (11).
مسند أحمد : حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم ، عن زرّ قال : قلت : لأُبيّ إن أخاك يحكهما من المصحف ! فلم ينكر. قيل لسفيان بن مسعود ، قال : نعم ، وليسا في مصحف ابن مسعود ، كان يری رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين ، ولم يسمعه يقرأهما في شيء من صلاته فظن أنهما عوذتان ، وأصر علی ظنه وتحقق الباقون كونهما من القرآن ، فأودعوهما إياه (12).
وقال ابن جحر العسقلاني في فتح الباري : وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمان بن يزيد النخعي قال : كان ابن مسعود يحك المعوذتين من المصاحف ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله (13).
وقال السيوطي في الإتقان : وفي مصحف ابن مسعود مئة واثنتا عشرة سورة ؛ لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ستة عشرة ؛ لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع . وأخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال : كتب أُبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين و ( اللهم إنّا نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) وتركهن ابن مسعود ، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين (14).
البخاري ذكر إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين في صحيحه !
ويكفينا أن إنكار ابن مسعود للمعوذتين أخرجه البخاري في صحيحه في ( باب تفسير سورة : قل أعوذ برب الناس ) : عن زرّ قال : سألت أُبيّ بن كعب قلت : يا أبا المنذر ! إن أخاك ابن مسعود يقول : كذا وكذا ، فقال أُبيّ : سألت رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم ، فقال لي : قيل لي فقلت. قال : فنحن نقول كما قال رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم (15).
وكما تری فقد حاولت رواية البخاري ستر رائحة التحريف التي تزكم الأنوف ، ولكن دون جدوی لأن ما أبهمته بـ ( كذا وكذا ) قد بيّنه كثير من علماء وحفاظ أهل السنة كما مر ، ونص علی حقيقة ما في صحيح البخاري رواة الأخبار والمحدثين ، فهذا البيهقي يقول بعد ذكر هذه الرواية :
وأنبأ أبو عبد الله الحافظ ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق ، أنبأ بشر بن موسی ثنا الحميدي ، ثنا سفيان ، ثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بهدلة أنهما سمعا زرّ بن حبيش يقول : سألت أُبيّ بن كعب عن المعوذتين فقلت : يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! قال : إني سألت رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم ، قال : فقيل لي فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم. رواه البخاري في الصحيح عن قتيبة وعلي بن عبد الله عن سفيان (16).
وكذا قال الحافظ ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد عندما علق علی الرواية السابقة : هو في الصحيح ـ أي صحيح البخاري ـ خلا ( حكهما من المصحف ) ، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح (17).
وكذلك علق المحدث حيب الرحمان الأعظمي علی الرواية السابقة في تحقيقه لمسند الحميدي بقوله : أخرجه البخاري من طريق قتيبة وعلي بن المديني عن سفيان ( ج 8 ص 524 ) ولم يصرح بما كان يصنع ابن مسعود (18).
وستأتي بإذنه تعالی كلمات شرّاح البخاري كالكرماني والقسطلاني والعيني التي تكشف لنا حقيقة ما حاولت رواية البخاري تدليسه والستر عليه !
وابن حجر العسقلاني اعترف بهذا التدليس والتعمية للفضيحة لكنه حاول إبعاد البخاري عن هذا التدليس والإبهام بقوله :
قوله : ( يقول : كذا وكذا ) هكذا وقع هذا اللفظ مبهما ، وكان بعض الرواة أبهمه استعظاما له ، وأظن ذلك من سفيان ، فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك علی الإبهام ، وكنت أظن أولا أن الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه ( قلت لأبي : إن أخاك يحكهما من المصحف ) وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج ، وكأن سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه (19).
وملخص كلام ابن حجر هو أن البخاري أخرج الرواية ، ولكنه لم يبهمها ، بل الراوي كان يصرح تارة ويبهم أُخری استعظاما لقول ابن مسعود بدليل أن الرواية وردت مبهمة عند غير البخاري أيضا وهو الإسماعيلي ، ولكنه علی أي حال يعترف بأن ما أبهم في صحيح البخاري هو إنكار ابن مسعود للمعوذتين ، وهذا كاف لنا.
ويمكن التأمل فيما أفاده ابن حجر ، لأن ما ذكره لا يبعد البخاري عن مرمی السهام ولا يكفي لرمي غير البخاري بتهمة الإبهام والتعمية ، لأُمور :
1 ـ ورود الرواية مبهمة عند الحافظ أبي بكر الإسماعيلي لا يعني أن الإسماعيلي لم يتّبع بذلك ابهام البخاري ، لأن الإسماعيلي ـ المتأخر زمانا عن البخاري ـ قام بتخريج أحاديث صحيح البخاري ، وكان مفتونا به مقلدا متبعا لما في صحيح البخاري ، حتی اعترض عليه لذلك بعض معاصريه ، فيكون اتباعه وتقليده لما في الصحيح من إبهام للرواية أمرا متوقعا جدا (20) ، فلا تجدي هذه الموافقة ، لرفع البخاري عن تهمة التعمية.
2 ـ المعروف عن البخاري أنه لم يكن يلتزم نقل الرواية كما سمعها من الراوي ، بل كان ينقل بالمعنی (21) ، وهذه المنهجية التي كان يسير عليها البخاري لا تحتم عليه نقل الرواية كما سمعها ، فاحتمال تلاعبه بهذا المقطع ( يحكهما من المصحف ) أمر وارد.
3 ـ إن كان الاستعظام هو السبب لإبهام الراوي لكلام ابن مسعود فلماذا كان يصرح تارة ويبهم أُخری ؟!
وعلی أي حال فإن غرضنا هنا هو إثبات تخريج البخاري لهذه الرواية في صحيحه ، سواء كان هو الذي أبهم كلام ابن مسعود بـ ( كذا وكذا ) أم غيره.
فتمويه رواية البخاري لم ينطل علی أحد ، ولا أدري لماذا انتخب البخاري هذه الرواية بالذات للحديث عن المعوذتين مع أنها لا تثبت قرآنية المعوذتين ، بل تشك في قرآنيتهما أكثر ؟! ، بل إن رواية البخاري تشعر أن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم نفسه لم يكن متيقنا من أن المعوذتين نزلتا كقرآن ! فما علمه صلی الله عليه وآله وسلم عن المعوذتين هو أنه أُمر بقراءتهما ، وكما تعبر الرواية ( قيل لي ، فقلت ) ، أما كونهما مجرد كلمات للدعاء والتعوذ أم سورا قرآنية فهذا ما لا يعلمه رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ! ، وهذا بعينه قول كبار علماء أهل السنة ، مثل ابن حجر العسقلاني حيث قال في فتح الباري :
وليس في جواب أُبي تصريح بالمراد ، إلا أن في الإجماع علی كونهما من القرآن غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الآحاد (22).
وكذا قال الإمام يوسف الحنفي أبو المحاسن : عن زرّ أنه سأل أُبيّ بن كعب عن المعوذتين وقال : إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! فقال أبي : سألت رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم فقال : قيل لي ( قل ) فقلت ـ أي : أبي بن كعب ـ فنحن نقول كما قال الرسول صلی الله عليه [وآله] وسلم. ففي هذا الجواب لا دلالة علی كونهما من القرآن ولا نفيهما عنه (23).
ولا ريب أن اختيار البخاري لهذه الرواية المشينة لمقام الرسالة يعتبر نقطة سوداء مخزية تسجل علی البخاري.
ولنرجع لصلب الموضوع ، اتضح إلی هنا أن الروايات صريحة في إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ، بل إن بعضها يفيد أن موقف ابن مسعود كان معروفا ومشهورا بين الصحابة والتابعين.
موقف علماء أهل السنة :
افترق المساكين إلی فرقتين ، فمنهم من خضع دون مكابرة وأقرّ ما جاء به صحيح البخاري وغيره من المصنفات ، ومنهم من كابر ورفض الفكرة من الأساس وقال بكذب تلك المرويات وعاند بلا دليل وقال ( هذا غير معقول ! ) ولا أری وجها للاستحالة عند هؤلاء ، إلا أن ابن مسعود معصوم عن الخطأ!
ثم انقسم من أقر بما جاء به الأثر الصحيح إلی قسمين : قسم يُؤول ما فعله ابن مسعود ، وسيتضح أن تأويلهم بعيد كل البعد عن الواقع مع صراحة الروايات ، وقسم آخر أقر واستسلم للأمر الواقع وطفق يقلب كفّيه !
التفصيل :
ذهب القاضي الباقلاني والنووي وابن حزم ، وقيل هو رأي الفخر الرازي إلی أن ما ذكر عن ابن مسعود باطل مكذوب لا يلتفت إليه ؛ لأن من أنكر شيئا من القرآن فقد كفر ، ولو صح عن ابن مسعود هذا لكان كافراً وللزم أن بعض القرآن لم يثبت بالتواتر ، وهذا في غاية الإشكال ! لذا أراد هؤلاء نفي تلك النسبة عن ابن مسعود حتی يبعدوه عن الكفر ، فمنهم من رد الروايات بلا تعليل ، وحكم ببطلانها وكذبها شاء الواقع أم أبی ! وتصدی لهم العسقلاني وردّ عليهم القول بعدم إمكان تكذيب الروايات الصحيحة بالمزاج . ومنهم من قال : إن التأويل مقبول والطعن في الروايات مرفوض كابن حجر نفسه ، لكنه لم يأت بتأويل مقبول ! قال :
وأما قول النووي في شرح المهذب ( أجمع المسلمون علی أن المعوّذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منهما شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ) ففيه نظر ، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلی : ( ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنيّة المعوذتين فهو كذب باطل ) وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره ( الأغلب علی الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل ) ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل مقبول ، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش ، وإن أراد استقراره فهو مقبول (24).
وكذا رجّح السيوطي في الإتقان كلام ابن حجر ؛ لأن ما ورد عن ابن مسعود صحيح ولا مجال لإنكاره ، ولم يقبل ما ذهب له الفخر الرازي والقاضي أبو بكر والنووي وابن حزم من تكذيب الروايات ، ويتضح من إشكال الفخر الرازي أن المشكلة لا تكمن في سند الروايات ، وإنما فيما يلزم من قبول تلك الروايات وإن كانت صحيحة ، قال الرازي :
إن قلنا : أن كونهما ـ المعوّذتين ـ من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما ، وان قلنا : إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر ، قال : وهذه عقدة صعبة (25).
إذن ، فالذي أجبرهم علی ردها هو ما يلزم منها من الحكم بالتكفير أو عدم التواتر ، فالروايات من حيث السند والدلالة لا يمكن ردّها أو التغلّب علی صراحتها بالتأويل ، ولو أمكن لما استصعب علی الفخر الرازي حل عقدتها.
وهنا وجه آخر لرد هذه النسبة لابن مسعود ، وهو كلام ابن حزم الذي أكثر ترديده بعض الوهابية ، ومفاده أن بعض شيوخ القراءة قرأوا علی ابن مسعود ، وهؤلاء أثبتوا المعوذتين في مصاحفهم ، فلو كان ابن مسعود ينكر المعوذتين لاقتفوا أثره في ذلك ، قال في المحلی :
وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح ، وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود ، وفيها أم القرآن والمعوذتان (26).
غاية هذا الكلام أن ابن مسعود ما أنكر المعوذتين ! ، وهذا الكلام تافه للغاية ويرده رواياتهم الصريحة الصحيحة ، وعلی أي حال فلا بأس بالتعقيب علی هذا الكلام المتهالك الباطل صغرويا وكبرويا ، بأمور :
1 ـ إن وظيفة القارئ هي اقتفاء أثر الشيخ في نحو القراءة وكيفية إخراج الحروف لا أن يحذف ويزيد سورا !!
2 ـ سلمنا ، ولكن من قال إن القارئ يجب عليه اقتفاء أثر شيخه فيما علم خطأه به ؟!
3 ـ سلمنا ، ولكن من قال : إن الذين قرأوا علی ابن مسعود لم يعترضوا علی إنكاره للمعوذتين ؟! فهاهي الروايات صريحة في اعتراض زر بن حبيش عليه وابن مسعود شيخه في القراءة !
فدفاع ابن حزم فاسد من رأسه إلی أخمص قدميه ، الوهابية لغرقی يلقون السمع لأي قائل ويتمسكون به ، والغريق يتمسك بقشه !
ابتدأت معمعة التأويل !
ولدفع إشكال الرازي ذكر ابن حجر جوابا عنه ، قال : وأجيب باحتمال أنه كان متواترا في عصر ابن مسعود ، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلت العقدة بعون الله (27).
ولأسف ، فإن العقدة مازالت عالقة ، بل تعقدت أكثر ! ، لأمور :
1 ـ ما ذكره ابن حجر ليس إلا احتمال لم يقم الدليل عليه وقد نص ابن حجر علی كونه احتمالا.
2 ـ من قال إن وجوه الصحابة الذين سمعوا آيات القرآن وعلموا بها وجدانا يحتاجون لتواتر النقل لتثبت الآيات عندهم ؟! هذا خلاف المنطق ، لأن التواتر طريق إلی اليقين والحس المباشر هو عين اليقين ، ناهيك عما يتضمنه هذا الكلام من تعذر اليقين بالقرآن لابتلائه بالدور ، حيث يحتاج كل صحابي للتواتر.
3 ـ سلمنا ، ولكن من غير المعقول أن تتواتر سورتان بين الصحابة بعددهم الهائل الذي يصل قرابة مئة ألف صحابي ، وفي نفس الوقت يقصر التواتر عن ابن مسعود الذي بقي علی قيد الحياة بينهم بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم مدة أكثر من ثلاث عشرة سنة !! ، هذا أمرٌ لا يمكن تصوّره فضلا عن قبوله ، فابن مسعود لم يكن يسكن الوديان وكهوف الجبال حتی يتحقق التواتر عند الصحابة ولا يتحقق عنده !
4 ـ ثم إن موقف ابن مسعود وكلامه ليس موقف من لم يثبت عنده قرآنية السورتين ، الذي من شأنه أن يتوقف في حكم المسألة ويكل أمرها إلی الله عز وجل ، لأن موقفه هو موقف الرافض المعارض للفكرة والمتشبث برأيه فقد قام بحكها من المصحف ودعا الناس لعدم خلطها بالقرآن ؛ لأن المعوذتين من غيره ، وأنهما نزلتا كعوذتين وليستا كقرآن ، فأين هذا من ذاك ؟!!
وعليه ، فمازالت الروايات سليمة وبعيدة عن الطعن والخدش في السند والدلالة ، وهذا يعني أن ما ذهب له الفخر الرازي وجماعته من تكذيب الروايات ليس بصحيح ، وما أشكله الفخر الرازي علی بني جلدته ما زال قائما لم يدفعه تهالك ابن حجر . ولتفاهة توجيه ابن حجر لم يقبله بعض الأساتذة ، فقال معرضا به :
وقد أبى ابن حجر إلا تصحيح تلك الرواية (28) ، فقال في شرح البخاري : ( فقول من قال إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل ). ثم لم يستطع تأويلا مقبولا ، والله يغفر لنا وله (29).
والذين ركبوا صعب بن حجر كثيرون ، فقبلوا الروايات والتمسوا لها الوجوه والتخريجات ، نحو هذا التأويل الذي شاع وذاع ، مع أنه أكثر تفاهة من السابق ، وقد ذكره القرطبي في تفسيره ، ثم رده في وجه صاحبه :
وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوِّذتين ؛ لأنّه أمن عليهما من النسيان ، فأسقطهما وهو يحفظهما ، كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه ، وما يُشكّ في حفظه وإتقانه لها . فرُدّ هذا القول علی قائله وأقبح عليه بأنّه قد كتب : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ ) و ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) وهنّ يجرين مجری المعوذتين في أنهن غير طوال ، والحفظ إليهن أسرع ونسيانهن مأمون ، وكلّهن يخالف فاتحة الكتاب إذ الصلاة لا تتم إلّا بقراءتها ، وسبيل كل ركعة أن تكون المقدّمة فيها قبل أن يقرأ من بعدها فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف علی معنی الثقة ببقاء حفظها والأمن من نسيانها صحيح ، وليس من السور ما يجري في هذا المعنی مجراها ، ولا يسلك به طريقها ، وقد مضی هذا المعنی في سورة الفاتحة والحمد لله (30).
ثم ذكر القرطبي في موضع آخر من تفسيره تأويلاً يتخلص به من إشكال الكفر الذي ذكره الفخر الرازي ، فعن يزيد بن هارون أنه قال :
المعوّذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ، من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله (31).
وهذه أوهن من بيت العنكبوت ، لمناقضتها للأحاديث التي لا كلام عندهم في صحّتها من أن ابن مسعود كانت قراءته آخر قراءة ، والرسول صلی الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة باستقرائه القرآن ، بالإضافة إلی أن هذا القول لا يرفع شبهة الكفر ، إذ ليس من اللازم كي يحكم بكفر المنكر لآيات القرآن أن يكون حافظاً لها عن ظهر قلب ! فقد ينكر المرء سورة البقرة فيحكم بكفره وإن لم يكن حافظاً لها ! ، ثم هل من المعقول ألا يحفظ ابن مسعود المعوذتين ؟!!
الغريق والقشة !
وبقيت آخر ورقة عند القوم ، وهي أن ابن مسعود رجع عن إنكاره لقرآنية المعوذتين ، وقد ذهب له بعضهم كابن كثير في تفسير سورة الفلق والفخر الرازي في مقدمة تفسيره ، وقال : إن هذا من باب حسن الظن بابن مسعود !
وكلام هؤلاء يتضمن اعترافا صريحا بتحريف ابن مسعود للقرآن ، وأنه أنكر قرآنية المعوذتين ، ولكنهم من باب حسن الظن به قالوا برجوعه عن تحريفه ، ونحن نقبل ما قامت عليه الأدلة ، وهو ثبوت التحريف وقد اعترفوا به ، أما رجوعه عن التحريف فهذا لا دليل عليه إلا حسن الظن ! ، فنأخذ منهم ما قام عليه الدليل ونترك لهم حسن الظن ، ولو كان حسن الظن يجدي نفعاً في المقام لقال الشيعة إنّ العلماء الشيعة الذين قالوا بتحريف القرآن تراجعوا عن أقوالهم وبنفس الدليل ، وتنتهي القضية !.
وشهِد شاهدٌ من أهلها :
وبعد أن ذكرنا قول مَن قبل الروايات وحاول بتكلف تأويلها ، نذكر هنا بعض من اعترف بدلالتها الواضحة ، فصرح أن ابن مسعود أخطأ ، ولا يمكن القول بأن الصحابة كلهم أخطأوا وابن مسعود أصاب بمفرده ، وما شذ به ابن مسعود من القول بتحريف القرآن يلزمه وحده ، ومن هؤلاء العلماء ابن قتيبة الدينوري في تأويل مشكل القرآن والقرطبي في تفسيره ، والعلامة البزار في مسنده ، وغيرهم الكثير من علماء أهل السنة الآتية أسماؤهم وكلماتهم في مقام آخر بإذنه تعالی.
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن : وأما نقصان مصحف عبد الله بحذفه أُمّ الكتاب والمعوذتين وزيادة أُبيّ سورتي القنوت ، فإنا لا نقول : إن عبد الله وأُبيًّا أصابا وأخطأ المهاجرون والأنصار ، ولكن عبد الله ذهب فيما يری أهل النظر إلی أنَّ المعوذتين كانتا كالعُوذَةِ والرُّقية وغيرها ، وكان يری رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم يُعَوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما كما كان يُعوّذ بكلمات الله التامة ، وغير ذلك ، فظن أنهما ليستا من القرآن وأقام علی ظنّه ومخالفته الصحابة (32).
واعترف القرطبي في تفسيره بالطامة التي جاء ابن مسعود بها خارقاً إجماع الصحابة وأهل البيت عليهم السلام ، فقال :
وزعم ابن مسعود أنّهما دعاء تعوّذ به وليستا من القرآن ، خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت (33).
وكذا اعترف علامتهم البزّار في مسنده : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف (34).
وبقية اعترافات علمائهم تأتي بإذنه تعالی في محل آخر.
وكما تری فإن رفض ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ليس مجرد نقل محدّثين يروون الرواية كما يسمعونها ، بل هو معتقد علمائهم.
فذلكة البحث :
يمكننا القول علی ضوء ما تمليه علينا روايات أهل السنة ، أن التساهل في مدعی ابن مسعود والتغاضي عنه أمر غير صحيح ولا يمكن قبوله البتة وذلك لأمور :
1 ـ ادعی أهل السنة أن ابن مسعود هو الوحيد الذي علم العرضة الأخيرة للقرآن وهي التي عرضها أمين الوحي علی الرسول الأعظم صلی الله عليه وآله وسلم في آخر حياته الشريفة.
فهذا ما صح عن ابن عباس : قال : أي القراءتين ترون كان آخر قراءة ؟ قالوا : قراءة زيد ، قال : لا ! إنّ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم كان يعرض القرآن كل سنة علی جبريل فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن (35).
والمقصود من آخر قراءة هو القرآن الذي استقر عليه الإسلام ، فتكون قراءة ابن مسعود التي التزم بها طيلة حياته هي القراءة التي نسخ منها ما نسخ ، وبُدّل منها ما بُدل من الآيات والسور ـ بزعمهم ـ ولا أحد يعلم بها إلّا ابن مسعود كما نص عليه ابن عباس سابقاً ، ومثلها هذه الرواية :
قال : أيّ القراءتين تعدّون أوَّل ؟ قالوا : قراءة عبد الله. قال : لا ! بل هي الآخرة ، كان يعرض القرآن علی رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم في كل عام مرّة ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرّتين فشهد عبد الله فعلم ما نسخ وما بُدِّل (36).
وقال ابن حزم : حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ، ثنا وهب بن مسرة ، ثنا ابن وضاح ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : أي القراءتين تعدون أول ؟ قلنا : قراءة عبد الله ! قال : إن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه فإنه عرض عليه مرتين فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل (37).
وقال ابن حجر العسقلاني : ومن طريق مجاهد عن ابن عباس قال : أي القراءتين ترون كان آخر القراءة ؟ قال : قراءة زيد بن ثابت. فقال : لا ! إن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم كان يعرض القرآن كل سنة علی جبريل ، فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين ، وكانت قراءة بن مسعود آخرهما. وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه.
وقال : وعند مسدد في مسنده من طريق إبراهيم النخعي أن ابن عباس سمع رجلا يقول : الحرف الأول. فقال : ما الحرف الأول ؟ قال : إن عمر بعث ابن مسعود إلی الكوفة معلما ، فأخذوا بقراءته ، فغير عثمان القراءة فهم يدعون قراءة ابن مسعود الحرف الأول. فقال ابن عباس : إنه لآخر حرف عرض به النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم علی جبريل. وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال : قال لي ابن عباس : أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأُولی قراءة ابن أم عبد ، يعني عبد الله بن مسعود قال : بل هي الأخيرة ! إن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم كان يعرض علی جبريل ، الحديث ، وفي آخره فحضر ذلك ابن مسعود فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل ، وإسناده صحيح (38).
أقول : فعلی هذا ما المانع أن تكون المعوذتان قد نُسختا بالعرضة الأخيرة للقرآن ، وأن ابن مسعود علم ذلك وحده لاستئثاره بالقراءة الأخيرة فكان يمحوها من المصحف ويقول : لا تخلطوا فيه ما ليس منه لعلمه بما نسخ وما بُدّل ؟! ، بل هو الصحيح علی مذهب أهل السنة.
2 ـ اتفق البخاري ومسلم علی أن الرسول صلی الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة أن يستقرئوا القرآن من ابن مسعود وأن يتلقوه منه :
قال صلی الله عليه [وآله] وسلم : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولی أبي حذيفة ، وأُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل.
وكذا : عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن عمرو ، فذكرنا حديثا عن عبد الله بن مسعود ، فقال إن ذاك الرجل لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم يقوله : سمعته يقول : إقرؤا القرآن من أربعة نفر ، من ابن أم عبد ، فبدأ به ، ومن أُبيّ بن كعب ، ومن سالم مولی أبي حذيفة ، ومن معاذ بن جبل (39).
بالإضافة للروايات التي تجعل قراءة ابن مسعود طبق الأصل من الكتاب الذي أنزله الله عز وجل : من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه من أم عبد. (40)
فكل هذه النصوص تأخذ بأعناق أهل السنة بوجوب التمسك بقراءة ابن مسعود ، وعليه فيجب عليهم اتّباعه في إنكار المعوذتين.
3 ـ لو وقفت الروايات عند هذا الحد لهان الأمر ، لكن رواياتهم ذهبت إلی أبعد من ذلك ، مما يجعل مخالفة ابن مسعود مساوية لسخط الرسول صلی الله عليه وآله وسلم ؛ لأننا مأمورون بقبول ما حدثنا به ابن مسعود ومن باب أولی يجب علينا عدم مخالفته في القرآن الذي كان مرجعا فيه دون غيره وبز فيه الجميع.
فقد جاء في مجمع الزوائد : قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم : « رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد ، وكرهت لأُمتي ما كره لها ابن أم عبد » (41).
وجاء في صحيح الجامع الصغير للألباني : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار ، وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه. (42)
فيجب علی أهل السنة أن يقبلوا حديث ابن مسعود وما ادعاه من تحريف المصحف وزيادة عوذتين ليستا من القرآن.
النتيجة :
طبقا لما ألزموا به أنفسهم ، فإن أمامهم خيارين لا ثالث لهما ، فإما أن يقولوا أن المعوذتين ليستا من القرآن ، وإنهما مجرد عوذتين عوّذ بهما رسول الله صلی الله عليه وآله الحسن والحسين عليهما السلام ، وإما أنهما من القرآن وابن مسعود أنكر سورتين من القرآن فهو كافر مرتد.
ومقتضی أدلتهم الصحيحة المبينة قدر ومنزلة ابن مسعود عندهم وعلمه بالعرضة الأخيرة للقرآن التي لا علم للصحابة بها يلزمهم الأخذ بالشق الأول فيكون المسلمون كلهم من السلف إلی الخلف يتعبّدون بقرآن محرّف ؛ لأنهم أدخلوا فيه عُوذتين.
وبإختصار إما أن ابن مسعود قال بتحريف القرآن ؛ لأنه أسقط منه سورتين فهو كافر (43) ، وإما أن ابن مسعود مصيب لاختصاصه بالعرضة الأخيرة ، فالقرآن محرّف بزيادة عوذتين.
الهوامش
1. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 4 : 233 ، ت 4957.
2. صحيح البخاري ( كتاب فضائل الصحابة ) باب مناقب عبد الله بن مسعود 4 : 199.
3. صحيح مسلم 7 : 148 ، لعل شقيقا هذا لم يجلس عند معلم الكل بعد رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وهو الإمام علي عليه السلام.
4. نفس المصدر.
أقول : مما لا ريب فيه أن هذا الكلام باطل ، ويكاد يغلب علی ظني أنها من نسج بني أمية الذين عمدوا لفضائل وأقوال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فنسبوها لغيره من الصحابة ، والقول السابق مشهور عنه عليه السلام ، قال العلامة الأميني رضوان الله تعالی عليه في الغدير 6 : 193 ـ 195 : ... ويرفع عقيرته علی صهوات المنابر بقوله سلام الله عليه : « سلوني قبل أن لاتسألوني ولن تسألوا بعدي مثلي ». (أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 466 وصححه هو ، والذهبي في تلخيصه).
وقوله عليه السلام : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالی ولا سنة عن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم إلا أنبأتكم بذلك ( أخرجه ابن كثير في تفسيره 4 : 231 من طريقين وقال : ثبت أيضا من غير وجه ) وقوله عليه السلام : سلوني والله لا تسألوني عن شيء يكون إلی يوم القيامة إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل . ( أخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم 1 : 114 ، والمحب الطبري في الرياض 2 : 198 ، ويوجد في تاريخ الخلفاء للسيوطي : 124 ، والإتقان 2 : 319 تهذيب التهذيب 7 : 338 ، فتح الباري 8 : 485 ، عمدة القاري 9 : 167 ، مفتاح السعادة 1 : 400 ).
وقوله عليه السلام : ألا رجل يسأل فينتفع وينفع جلساءه. ( أخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم 1 : 114 ، وفي مختصره : 57 ).
وقوله عليه السلام : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أُنزلت ، وأين أُنزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ، ولسانا سؤولا. ( أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1 : 68 ، وذكره صاحب مفتاح السعادة 1 : 400 ).
وقوله عليه السلام : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، وما من آية إلا وأنا أعلم حيث أنزلت بحضيض جبل أو سهل أرض ، وسلوني عن الفتن ، فما من فتنة إلا وقد علمت من كسبها ومن يقتل فيها. ( أخرجه إمام الحنابلة أحمد وقال : روي عنه نحو هذا كثيرا (ينابيع المودة ص 274 ).
وقوله عليه السلام وهو علی منبر الكوفة ، وعليه مدرعة رسول الله صلی الله عليه واله وسلم ، وهو متقلد بسيفه ومتعمم بعمامته صلی الله عليه واله وسلم ، فجلس علی المنبر وكشف عن بطنه فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنما بين الجوانح مني علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلی الله عليه واله وسلم ، هذا ما زقني رسول الله صلی الله عليه واله وسلم زقا زقا ، فو الله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتی ينطق الله التوراة والإنجيل فيقولان : صدق عليٌّ قد أفتاكم بما اُنزل فيَّ وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون . ( أخرجه شيخ الإسلام الحمويني في فرائد السمطين عن أبي سعيد ).
وقال سعيد بن المسيب : لم يكن أحد من الصحابة يقول : سلوني . إلا علي بن أبي طالب وكان إذا سئل عن مسألة يكون فيها كالسكة المحماة ويقول :
إذا المشكلات تصدين لي |
كشفت حقائقها بالنظر |
|
فإن برقت في مخيل الصواب |
عمياء لا يجتليها البصر |
|
مقنعة بغيوب الأُمور |
وضعت عليها صحيح الفكر |
|
لسانا كشقشقة الأرحبي |
أو كالحسام اليماني الذكر |
|
وقلبا إذا استنطقته الفنون |
أبر عليها بواه درر |
|
ولست بإمعة في الرجال |
يسائل هذا وذاما الخبر ? |
|
ولكنني مذرب الأصغرين |
أبين مع ما مضی ما غبر |
( أخرجها أبو عمر في العلم 2 ص 113 ، وفي مختصره : 170 ، والحافظ العاصمي في زين الفتی شرح سورة هل أتی ، والقالي في أماليه ، والحصري القيرواني في زهر الآداب 1 : 38 والسيوطي في جمع الجوامع كما ترتيبه 5 : 242 ، والزبيدي الحنفي في تاج العروس 5 : 268 نقلا عن الأمالي. وذكر منها البيتين الاخيرين الميداني في مجمع الأمثال 2 : 358 اه ، وهو في تفسير القرطبي 1 : 35 ، فتح الباري 8 : 599 ، تهذيب التهذيب 7 : 297 ، تهذيب الكمال 20 : 487 ، الطبقات الكبری 2 : 339 ).
5. المسند للحميدي 1 : 185 ، ح 374.
6. مجمع الزوائد ، 7 : 149 ( باب ما جاء في المعوذتين ) ، وعلق عليه ( قلت : هو في الصحيح خلا يحكهما من المصحف ، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح ).
7. نفس المصدر ، وعلق عليه ابن حجر ( رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ، ورجال عبد الله رجال الصحيح ورجال الطبراني ثقات ).
8. نفس المصدر ، وعلق عليه ابن حجر ( رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات ).
9. المصنّف لابن أبي شيبة 10 : 538 ، ح 10254.
10. مصنف ابن أبي شيبة 6 : 147 ، ح 30212.
11. الأم 7 : 189.
12. مسند أحمد 5 : 130 ، ح 21227.
13. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 743 ، ومجمع الزوائد 7 : 149 وعلق عليه : ( رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ، ورجال عبد الله رجال الصحيح ، ورجال الطبراني ثقات ) ، راجع : مشكل الآثار 1 : 33 و 34 ، التفسير الكبير للرازي 1 : 213 ، فواتح الرحموت بهامش المستصفی 2 : 9 ، الجامع لأحكام القرآن 20 : 251 ، شرح الشفا للقاري 2 : 315 ، مناهل العرفان 1 : 268 ، صحيح البخاري 3 : 144 ، مسند أحمد 5 : 129 ـ 130 بأسانيد متعددة الفقه علی المذاهب الأربعة 4 : 258 ، روح المعاني 1 : 24 ، كنز العمال 2 : 356 ـ 373 إرشاد الساري 7 : 242 وغيرها من المصادر.
14. الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1 : 65.
15. صحيح البخاري 4 : 1904 ، ح 4692 ، وح 4693.
16. سنن البيهقي الكبری 2 : 394 ، ح 3851.
17. مجمع الزوائد للهيثمي 7 : 149.
18. المسند للحميدي 1 : 185 ، ح 374.
19. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 742 ، ح 4693.
20. قال الذهبي في تذكرة 3 : 948 ـ 949 : ( قال حمزة بن يوسف وسمعت أبا محمد الحسن بن علي الحافظ بالبصرة يقول : كان الواجب للشيخ أبي بكر أن يصنف لنفسه سننا ويختار ويجتهد فإنه كان يقدر عليه لكثرة ما كان كتب ولغزارة علمه وفهمه وجلالته وما كان ينبغي له أن يتقيد بكتاب محمد بن إسماعيل فإنه كان أجل من أن يتبع غيره ) ، ونقل أيضا : ( فكنت أخبره بما صنف ـ الإسماعيلي ـ من الكتب وجمع من المسانيد والمقلين وتخريجه علی كتاب البخاري وجميع سيرته فيعجب من ذلك ).
21. سير أعلام النبلاء للذهبي 12 : 411 : ( وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخاری : قال محمد بن إسماعيل يوما : رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له : يا أبا عبد الله بكماله ؟! قال : فسكت ) ، وهو في مقدمة فتح الباري 1 : 487 ، تغليق التعليق 5 : 417 ، تدريب الراوي 1 : 95 وصححه.
22. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 743.
23. معتصر المختصر 2 : 201.
24. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 743 ، ط. دار المعرفة.
25. نفس المصدر.
26. المحلی 1 : 13.
27. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 743 ، ط . دار المعرفة.
28. كلامه يوهم أن تصحيح الروايات نبع من ابن حجر ! مع أن صحة السند هو القول الفصل في المسألة ، لا رأي فلان وفلان ! وليس ابن حجر هو الوحيد الذي صحح الروايات ، فقد صححها كثير غيره ، وصححها كل من التمس للروايات تأويلا ، وصححها كل من حكم بصحة كل ما أخرجه البخاري في صحيحه ، وكذا من أخذ بالروايات واعترف بأن ابن مسعود أنكر المعوذتين ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالی.
29. هامش إعجاز القرآن للباقلاني : 442 تحقيق أحمد صقر ، ط. دار المعارف بمصر.
30. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20 : 251.
31. الجامع لأحكام القرآن 1 : 53.
32. تأويل مشكل القرآن : 33 . لابن قتيبة تحقيق سيد أحمد صقر ، ط. الحلبي.
33. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20 : 251.
34. الدر المنثور 4 : 416 ، ط . دار المعرفة.
35. المستدرك علی الصحيحين 2 : 230 وقال الحاكم (صحيح الإسناد علی شرط الشيخين) ووافقه الذهبي.
36. مسند أحمد بن حنبل 5 : 141 ـ 142 ، ح 3422 ، والمصنّف لابن أبي شيبة 10 : 559 ح 10337 ، ط . دار المعارف ، وعُلّق عليه بالهامش ( إسناده صحيح ). وراجع مسند أحمد 1 : 275 ، ح 2494 و : 362 ح 3422 ، قال في مجمع الزوائد 9 : 288 : ( في الصحيح بعضه رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح ).
37. الإحكام لابن حزم 6 : 266.
38. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 : 46 ، بهذا تعلم قيمة ما ذكره ابن تيمية في مجموع فتاواه 13 : 395 : ( فإنه ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين ، والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ) !!
وابن تيمية وجد في كلمة ( وغيره ) مندوحة ، أو قل : مهرباً من المؤاخذة ، لأن ابن مسعود والصحابة وأنا وأنت ندخل في قوله ( وغيره ) !! وأضف إلی ذلك أن عثمان كان يأمر كتبة المصحف حال اختلافهم مع زيد أن يذروا قراءة زيد ويكتبوه بلسان قريش ، فكيف يكون زيد هذا آخر الناس عهدا بعرض القرآن علی النبي صلی الله عليه وآله وسلم ؟! ، قال ابن حجر في الفتح 9 : 20 : ( قال ابن شهاب : فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه. فقال القرشيون التابوت وقال زيد التابوه فرفعوا اختلافهم إلی عثمان فقال : اكتبوه التابوت فانه نزل بلسان قريش ) ، فالظاهر أن ابن تيمية يری مخيلته كافية للحكم والبت بأي شيء يعترضه !
39. صحيح البخاري ( كتاب فضائل الصحابة ) باب مناقب عبد الله بن مسعود 4 : 199 ، وباب مناقب سالم مولی أبي حذيفة ، وكذا مناقب معاذ بن جبل ، ومناقب أُبيّ بن كعب ، وصحيح مسلم 4 : 913. أقول : لم تعان المعوذتان من ابن مسعود فقط ، بل إن أُبيّ بن كعب ، وهو الرجل الثاني الذي أمر الرسول صلی الله عليه وآله وسلم الصحابة باستقرائه القرآن يشك ـ بحسب رواياتهم ـ في أن المعوذتين نزلت من السماء قرآنا أم لا ! ، حيث قال عندما سئل عن المعوذتين ( فقلت : يا أبا المنذر! إن أخاك ابن مسعود يحكّها من المصحف ، قال : إني سألت رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم قال : قال لي : « قل » ، فقلت . فنحن نقول كما قال رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم ). وكلام أُبيّ بن كعب يعني أن النبي صلی الله عليه وآله لم يصرح بقرآنية المعوذتين ! بل إنه صلی الله عليه وآله وسلم قال : ( قال لي جبرئيل : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ... ) ، ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... !! ) فلم يبين لهم صلی الله عليه وآله وسلم أنهما منه ! ، والمتيقن عند أُبيّ بن كعب أنهما أنزلتا من السماء ، ولكنه يشك في نوع هذا التنزيل ، أقرآن هو أم عوذتان ! ، ويؤيد ذلك ما قاله ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان 3 : 81 : ( واختلف علی أُبيّ بن كعب في إثبات المعوذتين ) وكل هذا يدعم ويؤيد ما ذهب له ابن مسعود من عدم وجود نص صادر من النبي صلی الله عليه وآله وسلم يدل علی قرآنيتهما ! ، بل إن المتأمل في ما حكته الرواية من قول رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم يشعر أن النبي صلی الله عليه وآله وسلم نفسه لم يكن يعلم ماهية المعوذتين هل هما قرآن أم عوذتان !!
40. مسند أحمد 1 : 7 ، 26 ، 38 ، 454 ، و 2 : 446 ، و 4 : 279 ، سنن ابن ماجة 1 : 49 ، السنن الكبری 1 : 452 ، مجمع الزوائد 9 : 287 ، المصنف 7 : 184 ، صحيح ابن حبان 15 : 542 المعجم الوسيط 3 : 337.
41. مجمع الزوائد 9 : 290 وعلق عليه ( رواه الطبراني في الأوسط باختصار الكارهة ، ورواه في الكبير منقطع الإسناد ، وفي إسناد البزار محمد بن حميد الرازي وهو ثقة ، وفيه خلاف وبقية رجاله وثقوا ).
42. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني 1 : 254 ، ح 1144 ، ط. المكتب الإسلامي. أقول : هذه الرواية وما يماثلها لا شك في كذبها علی رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ، فإن أول الرواية يناقص آخرها ، إذ كيف نهتدي بهدي عمار فنعتصم في بيت فاطمة عليها السلام ولا نبايع ابن أبي قحافة ، ومع ذلك نقتدي بابن أبي قحافة ، ثم لماذا لم يحتج بها ابن أبي قحافة وابن الخطاب عندما صارت المشادة في سقيفة بني ساعدة ، وصار كل منهم يدلي بدلوه ويفتخر بما عنده ويذكر بقرابته من رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ؟! ولو فرضنا أنهما نسيا أو لم يسمعا بها فما بال الأنصار نسيت ولم تسمع به ؟! ، والحق إن هذين الرجلين لو قدر لهما وخرجا من قبريهما وقرآ هذه الروايات لما علما من المقصود من أبي بكر وعمر !
43. لا وجود لهذه اللغة في مذهب أهل البيت عليهم السلام ، لما مر من أن الحكم بالكفر لإنكار الضروري لا يصح مع الشبهة والالتباس ـ إن سلمنا أن سلامة القرآن من التحريف ضروري من الدين لما مرّ في محله ـ فما المانع أن يلتبس الأمر علی ابن مسعود بعد أن سمع الرسول صلی الله عليه وآله وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين عليهما السلام ، فظن أنهما أنزلتا من السماء كعوذتين لا كقرآن ؟ ، ولكنا نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.
مقتبس من كتاب : [ إعلام الخلف ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 294 ـ 325
التعلیقات
١