إجلاء بني النضير
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 3 سنواتإجلاء بني النضير
قدم أبو براء ، عامر بن مالك على رسول الله المدينة فعرض عليه رسول الله الإسلام ودعاه إليه ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام ، وقال : يا محمّد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى نجد ، فادعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول الله : إنّي أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول الله المنذر بن عمرو في أربعين رجلا (1) من خيار المسلمين فساروا حتّى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر ، وحرّة بني سليم ، كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرّة بني سليم أقرب.
فلمّا نزلوها بعثوا ابن ملحام بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه حتّى عدى على الرجل فقتله ، ثمّ استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن نحفر (2) أبا براء لقد عقد لهم عقداً وجواراً ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتّى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ثمّ قاتلوهم حتّى قتلوا من عند آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنّهم تركوه وبه رمق ، فرفع من بين القتلى فقدم المدينة.
وكان في مسير القوم عمرو بن اُميّة الضمري ورجل من الأنصار فلمّا اطّلعا على قتل إخوانهم ، قال عمرو بن اُميّة : نخبر رسول الله ، فقال الأنصاري : ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، فقاتل القوم حتّى قتل واُسر عمرو ابن اُميّة ، وأطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته ، فأقبل عمرو بن اُميّة إلى المدينة ولقى في مسيره رجلين من بني عامر وقد سألهما ممّن أنتما ؟ فقالا : من بني عامر فأمهلهما حتّى إذا ناما ، عدى عليهما فقتلهما وهو يرى أنّه أصاب بهما الثأر من بني عامر ، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله ، فلمّا قدم عمرو بن اُميّة على رسول الله فأخبره الخبر ، قال رسول الله : لقد قتلت قتيلين لاُدِينهما (3).
خرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في ديّة ذينك القتيلين من « بني عامر » اللذين قتلهما عمرو بن اُميّة الضمري ، فكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف ، فلمّا أتاهم رسول الله يستعينهم في أداء الديّة ، قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أجبت ممّا استعنت بنا عليه ، ثمّ خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، ورسول الله إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيرحنا منه ؟ فانتبذ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله في نفر من أصحابه.
فأتى الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج إلى المدينة « وكأنّه يريد أن يقضي حاجة وترك أصحابه في مجلسهم » (4) فلمّا استلبث النبيّ أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلاً المدينة ، فأقبل أصحاب رسول الله حتّى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أراد اليهود من الغدر إليه ، وأمر رسول الله بالتهيّؤ لحربهم ، والسير إليهم ، واستعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم فتحصّنوا في الحصون.
وقد بعث عبد الله بن اُبي بعض أصحابه إلى بني النضير ، فقال لهم : إثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلّمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن اُخرجتم خرجنا معكم ، فتربّصوا ذلك من نصرهم ، ولم يكن وعده إلّا خداعاً ، وفي ذلك نزل الوحي :
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ * لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّـهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الحشر / 11 ـ 15 ) ففي هذه الآيات ملاحم وتنبّؤات غيبية كشف عنها الوحي. وإليك الإشارة إليها :
1 ـ إنّ اليهود لعلاقتهم الشديدة بالحياة لا يجرأون على مقاتلتكم خارج حصونهم ، وإنّما يقاتلونكم متمنّعين بحصونهم ، ويكتفون في ذلك برشقهم بالحجارة ونحوها ، كما أشار إليه قوله : ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ).
2 ـ يستأسدون عند الإجتماع ببعضهم البعض ولكنّهم عند لقاء المسلمين ينتابهم الخوف والرعب والهلع ، ويستفاد ذلك من ضم الآيتين أعني قوله : ( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) إلى قوله : ( لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّـهِ ).
3 ـ إنّهم يتظاهرون بوحدة الكلمة ، ولكنّها وحدة شكلية صورية وقلوبهم شتّى ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ).
ثمّ إنّ الذكر الحكيم يصفهم بأنّهم قوم لا يعقلون ولا يتّخذون العبرة ممّا لاقاه بنو قينقاع ، وإليه يشير قوله : ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ).
ثمّ إنّ الملاحم الواردة فيما سبق من الآيات لا تنحصر بذلك بل تنبّأت بأنّ وعد النصر من جانب المنافقين وعد خاوٍ و مكذوب لا يفون به ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ).
وقد تنبّأ القرآن بكل ما ذكرنا قبل وقوع النصر وغلبة المسلمين عليهم.
روى البيهقي : إنّ النبيّ مضى لأمر الله تعالى فأمر أصحابه فأخذوا السلاح ، ثمّ مضى إليهم وتحصّنت اليهود في دورهم وحصونهم ، فلمّا إنتهى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى أزقّتهم وحصونهم فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم ، وبالنخل أن تحرق وتقطع ، وكفّ الله تعالى أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصرونهم ، وألقى الله عزّ وجلّ في قلوب الفريقين الرعب (5).
لم يكن عمل النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في هذا المجال إلّا إيجاداً للرعب في قلوب الكافرين والتعجيل في استسلامهم ، فإنّ اليهود ما زالوا ولن يزالوا عالقين بالمال والثروة ، ويحبّونهما كحب الأنفس والأولاد ، فلم يكن للنبيّ إلّا الإضرار ببعض أموالهم وثرواتهم لتلك الغاية ، والشاهد على ذلك أنّ النبيّ لم يقطع إلّا بعض النخيل ، قوله تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّـهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) ( الحشر / 5 ) ، وأمّا الدور التي هدمها النبي فكانت عبارة عن الدور الواقعة خارج الحصن بشهادة أنّهم هدموا دورهم بأيديهم عند مغادرة المدينة ، يقول سبحانه : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) ( الحشر / 2 ).
فهذا العمل العسكري من النبي وأصحابه كان عملاً تكتيكيّاً لغاية قصوى ، وهو الاستيلاء عليهم بلا إراقة الدم من الجانبين ، ولولا ذلك ربّما طال الحصار وكان من المتوقّع تحقّق الاشتباك الدموي بين الطرفين. فلما رأوا أنّ النبيّ مصمّم على الاستيلاء عليهم ، سألوه أن يجليهم ويكف عن دماءهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا السلاح ، فقبل النبيّ ، فاحتملوا من أموالهم ما استقالت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (6) بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، فخرجوا من المدينة إلى خيبر وبعضهم صار إلى الشام.
ومن الذين صاروا إلى خيبر سلَّام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحُيي بن الأخطب.
والعجب انّهم خرجوا بنسائهم وأبنائهم وأموالهم ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم ، وما هذا إلّا لأجل إلقاء الستار على خذلانهم فكأنّهم أرادوا بالخروج بهذه الكيفية أنّهم ليسوا بمغلوبين ولا محزونين ، و إنّما يخرجون مع النشاط والسرور لأنّهم ينتقلون إلى أمكنة خصبة بالعطف والحنان (7).
وأمّا الأراضي التي تركوها فجعلها سبحانه نفلاً لرسول الله ولم يجعل فيها سهماً لأحد غيره ، قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُم (8) عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر / 6 ـ 8 ).
فالآيات الكريمة تحدّد مواضع صرف الأموال التي أفاء الله على رسوله ، فذكر مصارفها المتعدّدة فيها ، ولكنّ النبيّ حسب ما ورد في السيرة قسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلّا سهل بن حنيف وأبا دجانة الأنصاري ـ سماك بن حرشة ـ ذَكرا فَقْراً فأعطاهما رسول الله ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ).
ولم يسلم من بني النضير إلّا رجلان. أسلما على أموالهما فأحرزاها.
وقد نزلت سورة الحشر في هذه القصة والله سبحانه يمنّ على المؤمنين ، بأنّه سبحانه سلّطهم على الكافرين عن طريق إيجاد الرعب في قلوبهم ، كما يبيّن بأنّهم جوزوا بسوء أعمالهم ، قال سبحانه :
( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّـهِ فَأَتَاهُمُ اللَّـهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّـهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ و رَسُولَهُ و مَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / 2 ـ 4 ).
وبإجلائهم لم تبق في المدينة طائفة من اليهود ، إلّا قبيلة بني قريظة ، وكان النبي يحترم عهودهم ما داموا حافظين عليها. ولمّا ظهرت منهم بادرة النقض ، أخذهم النبيّ أخذ عزيز مقتدر ، كما سيبيّن في الفصل القادم.
الهوامش
1. أو سبعين رجلاً على ما في صحيح البخاري ومسلم.
2. أي لاننقض عهده.
3. أي لأدفع ديّتهما ، و وجهه : إنّ القتل وقع بقبيلة بني سليم لاببني عامر ، فإنّهم وإن لم يدافعوا عن المسلمين وخذلوهم ، ولكنّهم لم يشتركوا في مقاتلتهم ، فكان قتل هذين الرجلين بلا ظلامة اقترفاها ، و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الرسول كان يقوم بالعدل ولايأخذه في ذلك شيء من الأهواء.
4. ما بين القوسين ممّا رواه الواقدي.
5. دلائل النبوّة ج 3 ص 181 ، و المغازي للواقدي ، ج 1 ص 374 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 191.
6. نجاف ـ على وزن كتاب ـ : العتبة التي على الباب.
7. قال الواقدي : ومرّوا يضربون بالدفوف ، ويزمّرون بالمزامير ... مظهرين ذلك تجلّداً ، المغازي للواقدي ج 1 ص 375.
8. فما أوجفتم : أي ما حرّكتم و أتعبتم في السير ، قال سبحانه : ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ).
مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 294 ـ 299
التعلیقات