الإحتجاج بحديث الغدير على إمامة علي عليه السلام
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةالإحتجاج بحديث الغدير على إمامة علي عليه السلام
والإحتجاج به على إمامة عليٍّ ـ عليه السَّلام ـ يتحقّق ببيان الأُمور التالية :
الأمر الأول : البلاغ الرسمي للولاية
إنّ النبي الأكرم أشاد بولاية علي ووصايته ، في حديث يوم الدار ، في مجتمع محدود ، لا يربو عددهم الأربعين. كما أشاد بخلافته عند توجّهه إلى تبوك أمام جماعة من الصحابة والمهاجرين ، وكان هذا وذاك ، وغيرهما ممّا صدر منه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، في ظروف مختلفة ، حول ولاية الإمام ، تهيئة للأذهان ، للإعلان الرسمي لهذه الولاية أمام الجموع الهائلة ، ليقف عليها القريب والبعيد ، والحاضر والبادي ، فقام بإبلاغ ذلك في ذلك المحتشد العظيم ، وأخذ منهم الإقرار والإعتراف ، وهنّأ الصحابة عليّاً ـ عليه السَّلام ـ ، بهذه المكرمة الإلهيّة ، فكان هذا إعلاناً رسميّاً ، للأمّة جمعاء ، لا يصحّ لأحد إنكاره ، والتغاضي عنه. وسيوافيك دلالة الحديث بوجه واضح لا يدع لقائل كلمة ، ولا لمجادل شبهة.
* * *
الأمر الثاني : سند الحديث وتواتره
إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة من عصر الرسول الأكرم إلى يومنا هذا ، يقف عليه من سبر كتب الحديث والتاريخ والسّير والكلام التفسير وغيرها. وما ربّما يصدر من كلمات حول الحديث من أنّه من أحاديث الآحاد ، فهو كلام صدر من المغرضين ورماة القول على عواهنه ، من غير تدبّر تثبت.
إنّ كتب الإماميّة في الحديث وغيره ، مفعمة بإثبات قصّة الغدير والإحتجاج بمؤدّاها. فمن مسانيد معنعنة إلى مُنْبَثَقِ أنوار النبوّة ، إلى مراسيل أرسلها المؤلّفون إرسال المسلَّم ، وحذفوا أسانيدها لتسالم الفريقين.
وأمّا المحدّثون وغيرهم من أهل السنّة فلا يتأخّرون عن الإماميّة في نقل الحديث والبخوع لصحّته ، والركون إليه ، والتصحيح له ، والإذعان بتواتره إلّا شُذّاذ تنكبوا عن الطريقة ، وقد ألّف غير واحد من علماء الإسلام كتباً مستقلّة ، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة في الكتب ، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده ، وضبطوا ما صحّ لديهم من طرقه ، كلّ ذلك حرصاً على كلاء متنه من الدثور ، وعن تطرق يد التحريف إليه ، منهم أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين [ ت 224 ـ م 310 هـ ] ، وأبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني المعروف بابن عقدة [ م 333 هـ ] ، أبو بكر محمّد بن عمر محمّد بن سالم التميمي البغدادي [ م 355 هـ ] وغيرهم (1).
ولأجل إيقاف القارئ على اهتمام الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، والعلماء ، والأدباء ، والفقهاء ، بنقل الحديث وضبط أسانيده ، نذكر عدد رواته في كلّ قرن على وجه الإجمال ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدّة لذلك.
1 ـ روى الحديث من الصحابة 110 صحابيّاً ، وطَبْع الحال يستدعي أن يكون رواته أضعاف المذكورين ، لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف ، أو يزيدون.
2 ـ رواه من التابعين 84 تابعيّاً.
وأمّا عدّة الرواة من العلماء والمحدّثين فنذكرها على ترتيب القرون.
3 ـ عدد من رواه في القرن الثاني : 56 عالماً ومحدّثاً.
4 ـ عدد من رواه في القرن الثالث : 92 عالماً ومحدّثاً.
5 ـ عدد من رواه في القرن الرابع : 43 عالماً ومحدّثاً.
6 ـ عدد من رواه في القرن الخامس : 24 عالماً ومحدّثاً.
7 ـ عدد من رواه في القرن السادس : 20 عالماً ومحدّثاً.
8 ـ عدد من رواه في القرن السابع : 20 عالماً ومحدّثاً.
9 ـ عدد من رواه في القرن الثامن : 19 عالماً ومحدّثاً.
10 ـ عدد من رواه في القرن التاسع : 16 عالماً ومحدّثاً.
11 ـ عدد من رواه في القرن العاشر : 14 عالماً ومحدّثاً.
12 ـ عدد من رواه في القرن الحادي عشر : 12 عالماً ومحدّثاً.
13 ـ عدد من رواه في القرن الثاني عشر : 13 عالماً ومحدثاً.
14 ـ عدد من رواه في القرن الثالث عشر : 12 عالماً ومحدّثاً.
15 ـ عدد من رواه في القرن الرابع عشر : 19 عالماً ومحدّثاً.
و قد أغنانا المؤلّفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمّة كبيرة من أعلام الطائفة :
منهم العلّامة السيّد هاشم البحراني [ م 1107 ] مؤلّف عاية المرام.
ومنهم السير مير حامد حسين الهندي اللكهنوئي [ م 1306 ] ، ذكر حديث الغدير ، وطرقه ، وتواتره ، ومفاده في مجلّدين ضخمين في ألف وثمان مائة صحيفة وهما من مجلّدات كتابه الكبير « العبقات » ، فقد أتمّ الله به الحجّة ، وأوضح المحجّة ، وكتابه العبقات كتاب جليل ، فاح أريجه بين لابتي العالم ، وطبق حديثه المشرق والمغرب.
ومنهم العلّامة المتتبّع المحقّق الفذّ الشيخ عبد الحسين النجفي [ ت 1320 ، م 1390 ] في كتابه الفريد « الغدير » ، وبعين الله ، إنّ كتابه هذا هو المعجز المبين ، ومن حسنات الدهر الخالدة ، جزاه الله خيرا الجزاء (2).
* * *
الأمر الثالث : دلالة الحديث
إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين ، دلالة واضحة لم يشكّ فيها أيّ عربي صميم ، عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون ، ولم يفهموا من لفظة المولى سوى معنى الإمامة ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء إلى أن ولّد الدهر إمام المشكّكين ، فجاء بتشكيكات ، كسائر تشكيكاته ، التي تاب منها عند احتضاره (3).
والدلالة مركزة على أنّ لفظ المولى نصّ فيما نثبته من الإمامة بالوضع اللغوي ، أو بالقرائن المحتفّة به. وعلى كلا التقديرين ، يكون الحديث حجّةً قاطعةً في الإمامة ، ونحن نسلك كلا الطريقين.
الطريق الأول : الدلالة بالوضع اللغوي
إنّ « مفعل » ـ هنا ـ بمعنى « أفعل » ، ولفظ « مولى » أريد منه هنا الأولى ، سواء أقلنا إنّه المعنى الوحيد ـ كما سيوافيك ـ أو أحد معانيه ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (4).
والمفسّرون للآية على فريقين منهم من حصر التفسير بأنّها أولى بكم ، ومنهم من جعله أحد المعاني ، وهؤلاء أئمّة العربيّة ، عرفوا أنّ هذا المعنى من معاني اللفظ اللغويّة ، ولولاه لما صحّ لهم تفسيره به ، يقول الخازن : « هي مولاكم ، أيّ وليّكم ، وقيل أولى بكم ، لما أسلفتم من الذنوب ، والمعنى : هي التي تلي عليكم ، لأنّها ملكت أمركم وأسلمتم إليها ، فهي أولى بكم من كل شيء » (5). وقد نقل كون المولى بمعنى الأوّل ، الرازي في تفسيره عن الكلبي النّسابة [ م 146 ] والفرّاء [ م 207 ] (6) وأبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري [ م 210 ] ، والأخفش الأوسط [ م 218 ] (7) ونهاية العقول (8).
و استشهد أبو عبيدة ببيت لبيد :
فقدت كلا الفَرْجَيْن تَحْسَبُ أنّه |
مولى المخافة خلفها وأمامها |
حتّى أنّ البخاري ، صاحب الصحيح ، في قسم التفسير منه ، فسّره بـ « أولى » (9).
نعم هنا شبهة ذكرها الرازي في تفسيره ، حسب أنّها تصادم دلالة الحديث على الولاية الكبرى للإمام عليٍّ ـ عليه السَّلام ـ ، فقال في تفسير قوله سبحانه : ( هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) ، « لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة ، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر ، فيجب أن يقال : هذا مولى من فلان ، ولمّا بطل ذلك ، عَلِمنا أنّ الذي قالوه معنىً، وليس بتفسير ».
وقال في نهاية العقول : « لو كان المولى يجيء بمعنى الأولى ، لصحّ أن يقرن بأحدهما ، كلّما يصحُّ قَرْنُه بالآخر ، لكنه ليس كذلك ، فامْتَنَع كون المولى بمعنى الأولى ، مع أنّه لا يقال : هو مولى من فلان ، ولا يصحّ أن يقال : « هو أولى » بدون من ».
يلاحظ عليه : قد فات الرازي أنّ اتّحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ ، إنّما يقع في جوهريّات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب ، تصاريف الألفاظ ، وصيغها. مثلاً : الإختلاف الحاصل بين المولى والأولى ، بلزوم مصاحبة الثاني بالباء « أولى به » ، وتجرّد الأوّل منه ، إنّما حصل من ناحية صيغة إفعل من هذه المادّة ، كما أنّ مصاحبة « من » ، هي مقتضى تلك الصيغة مطلقاً ، إذن مفاد « فلان أولى بفلان » ، و « فلان مولى فلان » ، واحد ، حيث يراد به « الأولى به من غيره » ، ويشهد لذلك أنّ « افعل » بنفسه ، يستعمل مضافاً إلى المثنّى والجمع ، أو ضميرهما بغير أداة ، فيقال : زيد أفضل الرجلين ، أو أفضلهما ، وأفضل القوم وأفضلهم ، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفرداً ، فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، وإنّما يقال هو أفضل منه ، ولا يرتاب عاقل في اتّحاد المعنى في الجميع.
قال الأزهري في باب التفضيل : « إنّ صحة وقوع المرادف موقع مرادفه ، إنّما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وها هنا منع ما منع ، وهو الإستعمال ، فإنّ إسم التفضيل ، لا يصاحب من حروف الجر إلّا « من » خاصّة ، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) (10). » (11)
ثمّ إنّ الرازي اختار أنّ المولى في الحديث بمعنى « الناصر » ، مع أنّ ما أورده على القول بأنّه بمعنى « الأولى » ، وارد عليه ، فلا يقال في اللغة العربيّة ، « هو مولى دين الله » ، مكان « ناصر » ، ولا يصحّ تبديل قوله : ( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ) (12). إلى « من مواليّ الله » ، أو تبديل الحواريين : ( نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ ) (13) إلى « نحن موالي الله ».
هذه الحالة مطّردة في كثير من المترادفات التي جمعها الرّماني [ م 384 ] في تأليف مفرد ، مع أنّ اختلاف الكيفيّة حاكم عليها أيضاً ، مثلاً يقال : عندي درهم غير جيّد ، ولا يصحّ أن يقال : عندي درهم إلّا جيّد ، كما هو السائد في كلمة « هل » و « همزة الإستفهام » ، فإنّهما بمعنى واحد ، ولكن يفترقان بفروق ثلاثة ، أو خمسة ، أو ستّة.
ولما كان الإشكال ضئيلاً ، قال النيسابوري ، في تفسيره ـ بعد نقل كلام الرازي ، إلى قوله : وحينئذ يسقط الإستدلال به ـ : « قلت : وفي هذا الإسقاط بَحْثٌ لا يخفى » (14).
ولما وقف التفتازاني على تماميّة دلالة الحديث على الإمامة ، حاول رمي الحديث بعدم التواتر ، قال ـ في دلالة الحديث ـ : « المولى » قد يراد به المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العمّ ، والناصر ، والأولى بالتصرّف ، قال الله تعالى : ( مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ ) ، أيّ أولى بكم ، ذكره أبو عبيدة ،قال النبي : « أيّما إمرأة أنكحت نفسها بغير إذن مولاها » ، أيّ الأولى بها ، والمالك لتدبير أمرها ، ومثله في الشعر كثير. وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولّي ، والمالك للأمر ، والأولى بالتصرّف ، شائع في كلام العرب ، منقول عن كثير من أئمّة اللغة ، والمراد أنّه اسم لهذا المعنى ، لا صفة بمنزلة الأولى ليعترّض بأنّه ليس من صيغة اسم التفضيل ، وأنّه لا يستعمل استعماله ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ، ليطابق صدر الحديث ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأوّل ، وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره ، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله ». إلى أن قال : « و لا خفاء في أنّ الولاية بالناس ، والتولّي ، والمالكية لتدبير أمرهم ، والتصرّف فيهم ، بمنزلة النبي ، وهو معنى الإمامة » (15).
هذا من غير فرق بين تفسير مَفّعَلْ بأَفْعَل ، أيّ المولى بمعنى أَوْلى ، أو تفسيره بفَعيل ، أيّ الولي ، وقد نصّ على ذلك أئمّة العربيّة منهم الفراء في تفسيره ، وأبو العباس المُبَرّد ، قالا : « الولي والمولى ، بمعنى في لغة العرب واحد » (16).
قال في الصحاح : والولي كل من ولي أمر واحد ، فهو وليّه ، وقول الشاعر :
هُمُ المَوْلى وإن جَنَفوا علينا |
و إنّا من لقائهم لزورُ (17) |
وقال في النهاية : « وكُلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه » (18).
وقال الفيروزآبادي ، في قاموسه : « المَوْلى : المالِك ، والعبد ، والمعتق ، والولي ، والربّ » (19).
ليس للمولى إلّا معنى واحد
إنّ السابر في كتب اللغة يرى أنّهم يذكرون في تفسير « المولى » أموراً ، يبدو أنّها معان مختلفة له ، مثلاً يقول صاحب القاموس : « المولى : المالك ،العبد ، والمعتق ، والمعتَق ، والصاحب ، والقريب كابن العمّ ونحوه ، والجار ، والحليف ، والإبن ، والعمّ ، والنّزيل ، والشّريك ، وابن الأُخت ، والوَليّ ، الربّ ، والناصر ، والمُنْعِم ، والمنعَم عليه ، والمحبّ ، والتابع ، والصِّهر » (20).
والحقّ أنّه ليس للمولى إلّا معنى واحد وهو الأولى بالشيء ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الإستعمال في كلّ مورد من موارده ، والإشتراك معنوي ، وهو الأولى من الإشتراك اللفظي المستدعي لألفاظ كثيرة غير معلومة بنصّ ثابت والمنفيّة بالأصل المحكّم ، وهذه النظريّة أبدعها ابن البطريق الحلّي [ ت 533 ـ م 600 ] (21).
وهذا المعنى الواحد ، وهو الأولى بالشيء جامع لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلّا بمناسبة لهذا المعنى :
1 ـ فالمالك أولى بكلاءة مماليكه ، وأمرهم ، والتصرف فيهم.
2 ـ والعبد أولى بالإنقياد لمولاه من غيره.
3 ـ والمعتق « بالكسر » أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.
4 ـ والمعتق « بالفتح » أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره.
5 ـ والصاحب ، أولى بأن يؤدّي حقوق الصحبة من غيره.
6 ـ والقريب ، هو أولى بأمر القريبين منه ، والدفاع عنهم ، والسعي وراء صالحهم.
7 ـ والجار ، أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلّها من البعداء.
8 ـ والحليف ، أولى بالنهوض بحفظ مَنْ حالفه ، ودفع عادية الجور عنه.
9 ـ والإبن أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له.
10 ـ والعم ّ، أولى بكلاءة إبن أخيه ، والحنان عليه ، وهو القائم مقام والده.
11 ـ والنّزيل ، أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم ، وأمن في جوارهم.
12 ـ والشريك أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الأضرار.
13 ـ وابن الأُخت ، أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أُمّه.
14 ـ والولي ، أولى بأن يراعي مصالح المُوَلّى عليه.
15 ـ والناصر ، أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.
16 ـ والربّ ، أولى بخلقه من أيّ قاهر عليهم.
17 ـ والمنعم « بالكسر » أولى بالفضل على من أنعم عليه ، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.
18 ـ والمنعم عليه ، أولى بشكر منعمه من غيره.
19 ـ والمحبّ ، أولى بالدفاع عمّن أحبّه.
20 ـ والتابع ، أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.
21 ـ والصهر ، أولى بأن يرعى حقوق من صاهره ، فشدّ بهم أزره ، وقوي أمره.
إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الإستعمال. والأولويّة مأخوذة فيها بنوع من العناية.
إلى هنا قد ظهر أنّ المولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى ، أو بمعنى الولي ، وأنّ ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة ، فليس من قبيل المعاني المختلفة ، حتّى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة ، بل من قبيل المصاديق.
هذا كلّه في الطريق الأوّل.
الطريق الثاني : الدلالة بالقرائن
إنّ القرائن الحافة بالحديث تدلّ على أنّ المراد من المولى هو الأولى أو الولي ، وهي على قسمين : قرائن حالية وقرائن مقالية :
والمراد من الأولى ، ما احتفّ به الكلام الصادر من النبي الأكرم ، من ظروف زمانيّة ومكانيّة. والمراد من الثانية ما يتّصل بالكلام نفسه من الجمل العبارات.
أمّا القرائن الحالية ، فبيانها بكلمة جامعة أنا لو فرضنا أنّ لفظ المولى مشترك بين المعاني التي تلوناها عليك ، إلّا أنَّه لا يمكن إرادة غيره في المقام ، إمّا لاستلزامه الكفر ، كما إذا أريد منه الرب.
أو الكذب ، كما إذا أُريد منه العم ، والإبن ، وابن الأُخت ، والمعتِق ، والمعتق ، والعبد ، والمالك ، والتابع ، والمُنْعَم عليه ، والشَريك ، والحليف ، وهو واضح لمن تدبر فيه.
وأمّا الصاحب ، والجار ، والنزيل ، والصّهر ، والقريب ، فلا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني ، لسخافته ، لا سيّما في هذا المحتشد الرهيب ، وفي أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، وقد أمر ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بحبس المتقدّم في السير ، ومنع التالي منه ، في محلّ ليس صالحاً للنزول ، غير أنّ الوحي الإلهي ، حبسه هناك ، فيكون ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قد عقد هذا المحتفل ، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر ، وحرّ الهجير ، وحراجة الموقف ، حتى أنّ أحدهم ليضع طرفاً من ردائه تحت قدميه، وطرفاً فوق رأسه، فيرقى هنالك منبر الأهداج، ويُعْلِمُهم عن الله تعالى بأنّه من كان هو ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مصاحباً أو جاراً أو نزيلاً عنده ، أو صحراً أو قريباً له ، فعليّ كذلك !!.
وأمّا المنعم ، فلا ملازمة بين أن يكون كلّ من أنعم عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فعليّ منعم عليه.
وأمّا الناصر والمحبّ ، فسواء كان كلامه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، إخباراً أو إنشاء ، فاحتمالان ساقطان ، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم ، لم يسبقه التبليغ حتّى يأمر به في تلك الساعة ، ويحبس له الجماهير ، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب ، في موقف حرج ، لا قرار فيه.
فلم يبق من المعاني إلّا الولي ، والأولى به ، والمراد منه المتصرف في الأمر ومتوليه. ذكر الرازي في تفسير قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ) (22) ، قال : قال القفال : « هو مولاكم ، سيّدكم والمتصرّف فيكم » (23).
فتعيّن أنّ المراد بالمولى : المتصرّف ، الذي قيّضه الله سبحانه لان يُتَّبع ، ويكون إماماً ، فيهدي البشر إلى سنن النجاة فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف في المجتمع الإنساني ، فليس هو إلّا نبي مبعوث أو إمام مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى ، بأمر إلهي ، لا يبارحه في أقواله وأفعاله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (24).
وأمّا القرائن المقالية : فمتعدّدة تثبت أيضاً أنّ المولى بمعنى الأولى بالشيء أو بمعنى الولي ، إذا تنازلنا إلى أنّه أحد معانيه ، وأنَّه من المشترك اللفظي ، وأمّا على القول بأنّه ليس للمولى إلّا معنى واحد ، كما أوضحناه ، فلا حاجة لذكر القرائن إلّا تأكيداً.
القرينة الأولى : صدر الحديث ، وهو قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « ألست أَوْلى بِكُمِ من أَنفسكم » ، أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ثم فرّع على ذلك قوله : « فَمَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مولاه ». وقد روى هذا الصدر من حفاظ أهل السنّة ، ما يربو على أربع وستين عالماً (25).
فإنّ هذا الصدر يعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى ، ولا وجه للتفكيك المخل.
القرينة الثانية : ذيل الحديث ، وهو قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » ، وفي جملة من طرق الحديث قوله : وانصر من نصره ، اخذل من خذله ، أو ما يؤدّي مؤدّاه ، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف ، فما معنى هذا التطويل ، فإنّه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلّا بتنصيب علي مقاماً شامخاً ، يؤهله لهذا الدعاء.
القرينة الثالثة : أخذ الشهادة من الناس ، حيث قال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ حجّته حقّ الخ ». فإنّ وقوع قوله : « من كنت مولاه » ، في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة ، يحقّق كون المراد ، الإمامة ، الملازمة للأولويّة على الناس.
القرينة الرابعة : التكبير على إكمال الدين ، حيث لم يتفرّقوا بعد كلامه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، حتّى نزل أمين وحي الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) « الآية » ، فقال رسول الله : « الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي » ، فأيّ معنى يكمل به الدين ، وتتمّ به النعم ، ويرضى به الربّ في عداد الرسالة ، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة ، وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.
القرينة الخامسة : نعيُ النبي وفاته إلى الناس ، حيث قال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « كأنّي دُعيت فأجبت ». وفي نقل : « إنّه يوشك أن أدعى » ، أو ما يقرّر ذلك ، وهذا يعطي أنّ النبي قد بقيت من تبلغيه مهمّة ، يحذر أن يدرِكَهُ الأجلُ قبل الإشادة بها ، وهي تعرب عن كون ما أشار به في هذا المحتشد ، تبليغ أمر مهم ، يخاف فوته ، وليس هو إلّا الإمامة.
أضف إليه أنَّه يعرب بذلك عن أنَّه سوف يرحل من بين أظهرهم ، فيحصل بعده فراغ هائل ، وأنّه يُسَدُّ بتنصيب عليٍّ في المقام الولاية.
القرينة السادسة : التهنئة ، جاء في ذيل الحديث ، وأخرجه الطبري في كتاب « الولاية » عن زيد بن أرقم ، أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، قال : « معاشر الناس ، قولوا : أعطيناك على ذلك عهداً عن أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهالينا ، لا نبغي بذلك بدلاً ، وأنت شهيد علينا ، وكفى بالله شهيداً قولوا ما قلت لكم ، وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ، وقولوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، فإنّ الله يعلم كلّ صوت ، خائنة كلّ نفس ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ( وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) قولوا ما يرضي الله عنكم ، فإن تكفروا ، فإنّ الله غنيّ عنكم ».
القرينة السابعة : الأمر بإبلاغ الغائبين : وقد أمر ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب ، فما معنى هذا التأكيد ، إذا لم يكن هناك مهمّة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين ، وما هي إلّا الإمامة.
و غير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا المتتبع في غديره (26).
الهوامش
1. ذكر شيخنا الحجّة العلّامة الأميني ، أسماء المؤلّفين وخصوصيّات كتبهم ، في الجزء الأوّل ، من غديره ، ص 152 ـ 157.
2. ومن أراد التبسط فعليه الرجوع إلى ما ذكرنا من المصادر ، وإلى كتاب « المراجعات » لمصلح الدين ، السيّد شرف الدين العاملي ـ رحمه الله ـ.
3. لاحظ دائرة المعارف ، لفريد وجدي ، ج 4 ، ص 149 ، وفيها أنّه قال : « وأمّا ما استكثرت من إيراد السؤالات ، فإنّي ما أردت إلّا تكثيرالبحث وتشحيذ الخاطر ، والإعتماد في الكلّ على الله تعالى ».
4. سورة الحديد : الآية 15.
5. تفسير الخازن ، نقلاً عن الغدير ، ج 1 ، ص 341.
6. معاني القرآن ، للفراء ، ج 3 ص 134.
7. لاحظ جميع ذلك في تفسير الرازي ، ج 8 ، ص 93.
8. نهاية العقول ، للرازي ، أيضاً.
9. صحيح البخاري ، ج 7 ، ص 240.
10. سورة الأعلى : الآية 17.
11. التصريح ، لخالد بن عبد الله الأزهري ، باب أفعل التفضيل.
12. سورة آل عمران : الآية 52.
13. الآية السابقة نفسها.
14. تفسير النيسابوري ، تفسير سورة الحديد.
15. شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 290.
16. لاحظ معاني القرآن للفراء ، ج 3 ، ص 124 ، والغدير ج 1 ، ص 361.
17. الصحاح ، ج 6 ، مادة « ولى » ، ص 2529.
18. النهاية لإبن الأثير ، ج 5 ، ص 228.
19. القاموس المحيط ، مادة « ولى » ، ج 4 ، ص 401.
20. تاج العروس ، ج 10 ، ص 399.
21. عُمّدة عيون صحاح الأخبار ، لابن البطريق ، ص 114 ـ 115.
22. سورة الحج : الآية 78.
23. تفسير الرازي ، ج 6 ، ص 21.
24. سورة النجم : الآيتان 3 و 4.
25. لاحظ نقولهم ، في كتاب الغدير ، ج 1 ، موزعين حسب قرونهم.
26. لاحظ الغدير ، ج 1 ، ص 370 ـ 383.
27. من أراد الوقوف على أشعارهم ، فليرجع إلى الغدير بأجزائه.
28. لقد استندنا في هذا البحث الضافي إلى كتاب الغدير ، فنقدر جهود شيخنا العلامة الأميني ، المغفور له.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 85 ـ 98
التعلیقات