الأدلّة على مشروعيّة زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وآله
السيّد فاروق الموسوي
منذ 5 سنواتزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله
وتدلّ على مشروعيّتها أدلّة الشرع الأربعة :
الأوّل : الكتاب العزيز :
قوله تعالىٰ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (1) ، فإنّ الزيارة هي الحضور الذي هو عبارة عن المجيء إليه صلّى الله عليه وآله ، سواء كان لطلب الاستغفار أو بدونه ، والتسليم لا يدخل في معناها ، وإذا ثبت رجحان ذلك في حال حياته ثبت بعد مماته ؛ لِما دلّ على حياته البرزخيّة وسماعه تسليم من يسلِّم عليه ، وعرض الأعمال عليه ، كما مرّ في المقدّمات.
قال السبكي فيما حكاه عنه السمهودي في وفاء الوفا (2).
والعلماء فهموا من الآية العموم لحالَتَي الموت والحياة ، واستحبّوا لِمن أتىٰ القبر أن يتلوها ، قال : وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمّة عن العتبي ، واسمه محمّد بن عبيد الله بن عمرو ، أدرك ابن عيينة وروي عنه وهي مشهورة حكاها المصنّفنون في المناسك من جميع المذاهب ، واستحسنوها ورأوها من أدب الزائر.
وذكرها ابن عساكر في تاريخه ، وابن الجوزي في « مثير الغرام الساكن » وغيرهما بأسانيدهم إلىٰ محمّد بن حرب الهلالي ، قال : دخلت المدينة فأتيت قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمّ قال : يا خير الرسل ، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) الآية ، إلىٰ آخر ما في فصل التوسّل ، ثمّ ذكر السمهودي هذه القصّة بطريقين آخرين عن عليٍّ عليه السلام لا نطيل بذكرهما ، فليطلبهما من أرادهما.
والدليل الثاني من الكتاب العزيز هو : أنّ الله تعالى ينهى حبيبه محمّداً صلّى الله عليه وآله عن الصلاة على جنازة المنافق والقيام على قبره ، فيقول سبحانه :
( وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) (3)
فالآية تسعى لهدم شخصيّة المنافق ، وهزّ العصا في وجوه حزبه ونظائره ، والنهي عن هذين الأمرين بالنسبة للمنافق وبيان انّ هذين من خصائص المؤمنين وليس للمنافقين.
والآن يجب أن ننظر في قوله تعالىٰ : ( وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ) ما معناه ؟
هل المعنى هو القيام وقت الدفن فقط حيث لا يجوز ذلك للمنافق ويستحبّ للمؤمن ، أو المعنى أعمّ من وقت الدفن و غيره ؟
الجواب : نظر بعض المفسّرين إلىٰ الآية نظرة ضيّقة فقال بالقول الأوّل ، ولكنّ البعض الآخر ـ كالبيضاوي وغيره ـ نظروا إليها نظرة واسعة فقالوا : إنّ النهي في ( وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ) هو عن الدفن والزيارة. والتدقيق وإمعان النظر في الآية الكريمة يسوقنا إلىٰ هذا المعنى الأعمّ ، وذلك لأنّ الآية تتشكّل من جملتين :
الاُولىٰ : ( لَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ).
إنّ لفظة « أحَدٍ » بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم والاستغراق لجميع الأفراد ، ولفظة « أبداً » تفيد الاستغراق الزمني ، فيكون معناها : لا تُصلّ علىٰ أحدٍ من المنافقين في أيّ وقت كان.
فمع الانتباه إلىٰ هذين اللفظين نعرف ـ بوضوح ـ أنّ المراد من النهي عن الصلاة علىٰ الميّت المنافق ليس خصوص الصلاة على الميّت عند الدفن فقط ، لأنّها ليست قابلة للتكرار في أزمنة متعدّدة ، ولو اُريد ذلك لم تكن هناك حاجة إلىٰ لفظة « أبداً » بل المراد من الصلاة في الآية مطلق الدعاء والترحّم سواء أكان عند الدفن أم بعده.
فإنّ قال قائل : إنّ لفظة « أبداً » تأكيد للاستغراق الأفرادي لا الزماني.
فالجواب بوجهين.
الأوّل : أنّ لفظة « أحدٍ » أفادت الاستغفراق والشمول لجميع المنافقين.
والثاني : أنّ لفظة « أبداً » تُستعمل في اللغة العربيّة للاستغراق الزّماني ، كما في قوله تعالى : ( .. وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا .. ) (4)
فالنتيجة : أنّ المقصود هو النهي عن الترحّم على المنافق وعن الاستغفار له ، سواء كان بالصلاة عليه أو بغيرها ، وسواء كان حين الدفن أم بعده.
الثانية : ( لَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ).
إنّ مفهوم هذه الجملة ـ مع الانتباه إلىٰ أنّها معطوفة على الجملة السابقة ـ هو : لا تقم على قبر أحدٍ منهم أبداً ؛ لأنّ كلّ ما ثبت للمعطوف عليه من القيد ـ أعني « أبداً » ـ يثبّت للمعطوف أيضاً ، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنّ المقصود من القيام علىٰ القبر هو وقت الدفن فقط ؛ لأنّ المفروض عدم إمكان تكرار القيام علىٰ القبر وقت الدفن ، ولفظة « أبداً » المقدَّرة في هذه الجملة الثانية تفيد إمكانيّة تكرار هذا العمل ، فهذا يدلّ علىٰ أنّ القيام علىٰ القبر لا يختصّ بوقت الدفن ، بل يعمّه وغيره ، فهو حرام في حقّ المنافق و جائز في حقّ المؤمن.
فيكون معنى الآية الكريمة : أنّ الله تعالى ينهى نبيّه صلّى الله عليه وآله عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق ، سواء كان بالصلاة أم مطلق الدعاء ، وينهى عن مطلق القيام على القبر ، سواء كان عند الدفن أم بعده.
ومفهوم ذلك هو : أنّ هذين الأمرين يجوزان للمؤمن.
وبهذا ثبت أنّ جواز زيارة قبر المؤمن ، وجواز الصلاة والدعاء على روحه حتّىٰ بعد مئات السنين.
الثاني : السنّة النبويّة :
يستفاد من الأحاديث الشريفة ـ الّتي رواها أصحاب الصحاح والسُّنن ـ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله نهى عن زيارة القبور نهياً مؤقّتاً لأسباب خاصّة ، ثمّ رفع النهي ورغّب في الزيارة.
ولعلّ علّة النهي المؤقّت هي أنّ الأموات كانوا مشركين وعبدة للأصنام ، وقد قطع الإسلام كلّ العلاقات مع الشرك وأهله ، فنهي النبيّ صلّى الله عليه وآله عن زيارة الأموات (5).
ويحتمل أن تكون العلّة شيئاً آخر ، وهو أنّ المسلمين كانوا حديثي العهد بالإسلام ، فكانوا ينوحون عل قبور موتاهم نياحة باطلة تُخرجهم عن نطاق الشريعة ، ولمّا تمركز الإسلام في قلوبهم وأَنِسُوا بالشريعة والأحكام ألغىٰ النبيّ صلّى الله عليه وآله بأمر الله تعالى النهي عن زيارة القبور ، لما فيها من الآثار الحسنة والنتائج الطيّبة ، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة ، نقلها السمهودي في وفاء الوفا (6) ، ونقلها غيره ، ونحن ننقلها منه ، وربّما نترك بعض أسانيدها ، وقد تكلّم هو علىٰ أسانيدها بما فيه كفاية ، ولهذا روىٰ أصحاب الصحاح والسنن عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وإليك منها ما يلي :
1 ـ الدارقطني في السنن وغيرها ، والبيهقي ، وغيرهما بالأسانيد من طريق موسى بن هلال العبدي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :
« من زار قبري وجبت له شفاعتي ».
2 ـ البزّاز من طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله :
« من زار قبري حلّت له شفاعتي ».
3 ـ الطبراني في الكبير والأوسط والدارقطني في أماليه ، وأبوبكر بن المقرئ في معجمه من رواية مسلمة بن سالم الجهني ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن ابن عمر : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :
« من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلّا زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ».
قال : والذي في معجم ابن المقرئ :
« من جاءني زائراً كان له حقّاً على الله عزّ وجلّ (7) أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ».
قال : وأورد الحافظ ابن السكن هذا الحديث في باب ثواب من زار قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله من كتابه السنن الصحاح المأثورة ، ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث ممّا اُجمع على صحّته. انتهى. وهو بإطلاقه شامل للزيارة في الحياة وبعد الموت.
4 ـ الدارقطني والطبراني في الكبير والأوسط وغيرهما من طريق حفص بن داود القاري ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :
« من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي ».
قال ورواه ابن الجوزي في : « مثير الغرام الساكن » بسنده ، وزاد : « وصحبني ».
ورواه ابن عدي في كامله بسنده بهذه الزيادة. ورواه أبو يعلى بسنده بدون الزيادة ، وفي بعض الروايات :
« من حجّ فزارني في حياتي ».
ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق عائشة بنت يونس امرأة الليث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله :
« من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي ».
أقول : ورواه بلفظه الأوّل السيوطي في الجامع الصغير عن أحمد في مسنده وأبي داود والترمذي والنسائي عن الحارث.
5 ـ ابن عدي في الكامل من طريق محمّد بن محمّد بن النعمان ، عن جدّه ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني ».
قال السبكي : وذكر ابن الجوزي له في الموضوعات سرف منه.
6 ـ الدارقطني في السنن من طريق موسى بن هارون ، عن محمّد بن الحسن الجيلي ، عن عبدالرحمن بن المبارك ، عن عون بن موسی ، عن أيّوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من زارني إلى المدينة كنت له شهيداً وشفيعاً ».
7 ـ أبو داود الطيالسي : عن سوار بن ميمون أبي الجرّاح العبدي ، عن رجل من آل عمر ، عن عمر : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : « من زار قبري ـ أو قال : من زارني ـ كنت له شفيعاً أو شهيداً ... » الحديث.
8 ـ أبو جعفر العقيلي من رواية سوار بن ميمون ، عن رجل من آل الخطّاب ، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : « من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة ... » الحديث.
9 ـ الدارقطني وغيره من طريق هارون بن قزعة ، عن رجل من آل حاطب ، عن حاطب : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ... » الحديث.
10 ـ أبو الفتح الأزدي ، من طريق عمّار بن محمّد ، عن خاله سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من حجّ حجّة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلّى في بيت المقدس لم يسأله الله عزّ وجلّ فيما افترض عليه ».
11 ـ أبو الفتوح بسنده من طريق خالد بن يزيد ، عن عبدالله بن عمر العمري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ ، ومن زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ».
12 ـ ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن أبي فديك ، عن سليمان ابن يزيد الكعبي ، عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال :
« من زارني بالمدينة كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة ». وفي رواية :
« كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ».
ورواه البيهقي بهذا الطريق ، ولفظه « من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة ».
13 ـ ابن النجّار في : « أخبار المدينة » بسنده ، عن أنس : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من زارني ميّتاً فكأنّما زارني حيّاً ، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، وما من أحدٍ من اُمّتي له سعة ثمّ لم يزرني فليس له عذر ».
14 ـ أبو جعفر العقيلي بسنده ، عن ابن عبّاس : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً ، أو قال : شفيعاً ».
15 ـ بعض الحفّاظ في زمن ابن مندة بسنده ، عن ابن عبّاس : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من حجّ إلى مكّة ثمّ قصدني في مسجدي كُتِبت له حجّتان مبرورتان ». قال : والحديث في مسند الفردوس.
16 ـ يحيى بن الحسن بن جعفر الحسيني في « أخبار المدينة » بسنده ، عن عليٍّ عليه السلام : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من زار قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن لم يزرني فقد جفاني ».
وروى ابن عساكر بسنده ، عن عليٍّ عليه السلام : « من زار قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله كان في جوار رسول الله صلّى الله عليه وآله ».
17 ـ يحيى أيضاً بسنده ، عن رجل ، عن بكر بن عبدالله ، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : « من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ... ». الحديث.
انتهت الأحاديث التي أوردها السمهودي ، وهي مع كثرتها يعضد بعضها بعضاً ، وتعضدها الأحاديث الآتية في تضاعيف ما يأتي ، مع أنّه لا حاجة لنا إلى الاستدلال بها للسيرة القطعيّة وعمل المسلمين البالغ حدّ الضرورة.
وفي الرسالة الاُولى من رسائل « الهدية السنية » : أنّ الأحاديث التي رواها الدارقطني في زيارة قبره ـ عليه الصلاة والسلام ـ كلّها مكذوبه موضوعة باتّفاق غالب أهل المعرفة ، منهم ابن الصلاح وابن الجوزي وابن عبدالبرّ وأبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي المالكي والشيخ تقي الدين وغيرهم ، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلّا القليل ، وكذلك تفرّد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن ، والأئمّة كلّهم يروون بخلافه. وأجلّ حديثٍ روي في هذا الباب : حديث أبي بكر البزّاز ومحمّد بن عساكر ، حكاه أهل المعرفة بمصطلح الحديث ، كالقشيري والشيخ تقي الدين وغيرهما.
أقول : دعوى أنّ هذه الأحاديث على كثرتها كلّها مكذوبة دعوى كاذبة لا يعضدها دليل ، وابن الجوزي وإن أورد بعضها في الموضوعات فقد أورد البعض الآخر في كتابه « مثير الغرام الساكن » واعتمد عليه ، كما مرّ في الحديث الرابع ، مع أنّ الحديث الخامس الذي جعله موضوعاً تعقّبه الإمام السبكي فيه ، وقال : إنّ ذكره له في الموضوعات سرف منه ، كما مرّ ، كما تعقّبه غيره في جملة من الأحاديث التي عدّها في الموضوعات ، وباقي من نقل عنهم لعلّهم كاأبن لجوزي إن صحّ نقله. وأمّا قدوته الشيخ تقي الدين بن تيميّة فحاله معلوم في التعصّب لآرائه وأهوائه ومصادمته الضرورة في نصرها وتكذيب الأحاديث المشهورة التي يعضدها العقل والنقل تبعاً لشهوة نفسه. وأوضح برهان على ذلك : تكذيبه حديث « ضربة عليٍّ يوم الخندق » بالاستبعادات والدعاوى الباطلة ، حتّى تعقّبه في ذلك صاحب السيرة الحلبية ، كما فصّلناه في بعض حواشي فصل البناء على القبور ، مع أنّه لم يعلم دعواه الوضع في جميعها.
قوله : « ولم يجعلها في درجة الضعيف إلّا القليل » يكذّبه ما عرفت في الحديث الثالث أنّه أورده الحافظ ابن السكن في كتابه السنن الصحاح المأثورة الذي ذكر في خطبته أنّه لا يذكر فيه إلّا ما أجمع على صحّته.
قوله : « تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن » يكذّبه : أنّه روى جملةً منها غير الدارقطني من أهل السنن وغيرهم كالبيهقي والبزّار والطبراني وأبو بكر بن المقرئ والحافظ ابن السكن وابن عدي وأبو يعلى والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجوزي والعقيلي والأزدي وأبو الفتوح وابن أبي الدنيا وابن النجّار ويحيى بن الحسن كما عرفت وابن عساكر باعتراف الوهابيّة.
وإذا كان تفرّد الراوي بالرواية يوجب طرحها فما بال الوهابيّة لم يطرحوا حديث أبي الهياج وقد تفرد به رواية على ما عرفته في فصل البناء على القبور ؟
ولكنّ الحديث المؤدّي إلى استحلال دماء المسلمين وأموالهم لا يطرح ولو تفرّد به رواية. أمّا الأحاديث الكثيرة الدالّة على تعظيم النبيّ صلّى الله عليه وآله واستحباب زيارته الثابتة بالعقل والنقل وإجماع المسلمين البالغ حدّ الضرورة فتستحقّ الطرح ! بدعوى تفرّد الدارقطني بها ، ويلتمس لها الوجوه والتأويلات لطرحها عند الوهابيّة ؛ لأنّهم يعظم عليهم تعظيم من عظّمه الله ، ومخالفة قول قدوتهم ابن تيميّة وابن عبدالوهّاب.
قوله : « والأئمّة كلّهم يروون بخلافه » هذه دعوى كاذبة كالاُولى ، فمن هم الأئمة الذين رووا أنّ زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله لا تستحبّ ، أو لا يستحبّ شدّ الرحال إليها ، غير ما توهّمه الوهّابية من أحاديث شدّ الرحال التي ستعرف في هذا الفصل سخافة توهّمهم فيها ، وقد عرفت أنّ الأئمّة رووا هذه الأحاديث كما رواها الدارقطني ولم يرووا بخلافه ، وفيهم أجلّاء أئمّة الحديث : كابن حنبل وأبي داود والترمذي والنسائي والطبراني والبيهقي وغيرهم ، وقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة تكاد تبلغ حدّ التواتر عن أئمة أهل البيت الطاهر ، رواها عنهم أصحابهم وثقاتهم بالأسانيد المتّصلة الصحيحة موجودة في مظانّها.
وتدلّ عليه أيضاً الأحاديث الدالّة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله يردّ سلام من يسلّم عليه ، التي اعترف بها الوهابيّة وقدوتهم ابن تيميّة ، ومرّ طرف منها في المقدّمات في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد موته.
قال السبكي فيما حكاه عنه السمهودي في وفاء الوفا (8) بعد ذكر ما يدلّ على أنّه صلّى الله عليه وآله يسمع من يسلّم عليه عند قبر ويردّ عليه عالماً بحضوره عند قبره : وكفى بهذا فضلاً حقيقاً بأن ينفق فيه ملك الدنيا حتّى يتوصّل إليه من أقطار الأرض. انتهى. ومنه يعلم صحّة الاستدلال به على شدّ الرحال.
الثالث : الإجماع :
من المسلمين خلفاً عن سلفٍ من عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله والصحابة إلى يومنا هذا ـ عدا الوهابيّة ـ قولاً وعملاً ، بل إنّ استحباب زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام والصالحين بل وسائر المؤمنين ومشروعيّتها ملحق بالضروريّات عند المسلمين ، فضلاً عن الإجماع ، وسيرتهم مستمرّة عليها من عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله والصحابة والتابي عن وتابعيهم وجميع المسلمين في كلّ عصر ، وفي كلّ صقع ، عالمهم وجاهلهم ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهُم واُنثاهم ، وإنكار ذلك مصادمة للبديهة ، وإنكار للضروري.
قال السمهودي في وفاء الوفا (9) نقلاً عن السبكي : قال عياض : زيارة قبره صلّى الله عليه وآله سنّة بين المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغوب فيها. انتهى.
قال السبكي : وأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال ، كما حكاه النووي ، بل قال بعض الظاهريّة بوجوبها ، واختلفوا في النساء ، وامتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصّة به.
ولهذا أقول : إنّه لا فرق بين الرجال والنساء. وقال الجمّال الريمي : يستثني ـ أي من محلّ الخلاف ـ قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وصاحبيه ، فإنّ زيارتهم مستحبّة للنساء بلا نزاع ، كما اقتضاه قولهم في الحجّ : يستحبّ لمن حجّ أن يزور قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وقد ذكر ذلك بعض المتأخّرين ، وهو الدمنهوري الكبير ، وأضاف إليه قبور الأنبياء عليهم السلام والصالحين والشهداء. انتهى.
وفي وفاء الوفا (10) : كيف يتخيّل في أحدٍ من السلف المنع من زيارة المصطفى صلّى الله عليه وآله وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى فضلاً عن زيارته صلّى الله عليه وآله. انتهى.
وصنّف قاضي القضاة الشيخ تقي الدين أبو الحسن السبكي ـ الذي تشهد مؤلفاته بغزارة علمه في القرن الثامن ـ كتاباً في فضل الزيارة وشدّ الرحال إليها ، رداً على ابن تيميّة ، سمّاه « شفاء السقام في زيارة خير الأنام ».
ونقل عنه السمهودي في « وفاء الوفا » شيئاً كثيراً ، ونقل عنه غيره ، ونقلها عنه بواسطة السمهودي وغيره.
وقال السبكي في مقدّمته على ما حكي عنه : إنّ من أعظم القُرَبِ إلى ربّ العالمين : زيارة سيّد المرسلين والسفر إليها من أقطار الأرضين ، كما هو معروف بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على ممرّ السنين. وإنّ ممّا ألقى الشيطان في هذا الزمان على لسان بعض المخذولين التشكيك في ذلك ، وهيهات أن يدخل ذلك في قلوب الموحّدين ! وإنّما هي نزغة من مخذول لا يرجع وبالها إلّا عليه ، ولا يترتّب عليها إلّا ما ألقى بيده إليه شريعة الله محكمة ظاهرة ، وشبه الباطل على شفا جرفٍ هائرة. انتهى.
ومرّ في الباب الأوّل ما يدلّ على أنّ مراده : ابن تيميّة.
وعن « منتهى المقال في شرح حديث لا تشدّ الرحال » للمفتي صدر الدين أنّه قال فيه : قال الشيخ الإمام الحبر الهمام سند المحدّثين الشيخ محمّد البرلسي في كتابه « إتحاف أهل العرفان برؤية الأنبياء والملائكة والجان » : وقد تجاسر ابن تيميّة الحنبلي ـ عامله الله بعدله ـ وادّعى أنّ السفر لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله حرام ، وأنّ الصلاة لا تقصر فيه ؛ لعصيان المسافر به ، وأطال في ذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع ، وقد عاد شؤم كلامه عليه ... إلى أن قال : وخالف الأئمة المجتهدين في مسائل كثيرة ، واستدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة فسقط من أعين علماء الاُمّة ، وصار مُثلةً بين العوامّ ، فضلاً عن الأئمّة وتعقّب العلماء كلماته الفاسدة. وزيّفوا حججه الداحضة الكاسدة ، وأظهروا عوار سقطاته ، وبيّنوا قبائح أوهامه وغلطاته. انتهى. ومرّ بعض كلامه في حقّه في الباب الأوّل.
وعن شهاب الدين أحمج الخفاجي المصري في « نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض » أنّه قال بعد ذكر حديث : « لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ». اعلم أنّ هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيميّة ومن تبعه كابن القيّم إلى مقالته الشنيعة التي كفّروه بها ، وصنّف فيها السبكي مصنَّفاً مستقلّاً ، وهي منعه زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وشدّ الرحال إليه ، وهو كما قيل :
لمهبط الوحي حقّاً تَرحَل النُجُبُ |
وعند ذاك المرجّى ينتهي الطلبُ |
فتوهّم أنّه حمى جانب التوحيد بخرافاتٍ لا ينبغي ذكرها ، فإنّها لا تصدر عن عاقلٍ فضلاً عن فاضل. انتهى.
وعن الملّا عليّ القاري في المجلّد الثاني من شرح الشفا أنّه قال : قد فرّط ابن تيميّة من الحنابلة ، حيث حرّم السفر لزيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله ، كما أفرط غيره ، حيث قال : كون الزيارة قربة معلوم من الدين وجاحده محكوم عليه بالكفر ، ولعلّ الثاني أقرب إلى الصواب ، لأنّ تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفراً لأنّه فوق تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب. انتهى.
وقال أحمد بن حجر الهيتمي المكّي الشافعي صاحب « الصواعق » في كتابه « الجوهر المنظّم في زيارة القبر المكرّم » على ما حكي عنه ، وقد ذكره صاحب كشف الظنون قال فيه بعدما استدلّ على مشروعيّة زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله بعدّة أدلّة منها الإجماع ما لفظه (11) :
فإن قلت : كيف تحكي الإجماع على مشروعيّة الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيميّة من متأخّري الحنابلة منكر لمشروعيّة ذلك كلّه ، كما رآه السبكيّ في خطّه ، وقد أطال ابن تيميّة في الاستدلال لذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع ، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً ، وأنّه لا تقصر فيه الصلاة ، وأنّ جميع الأحاديث الواردة فيه موضوعة ، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه.
قلت : من هو ابن تيمية حتى يُنظَر إليه أو يُعوَّل في شيء من اُمور الدين عليه ؟! وهل هو إلّا كما قال جماعة من الأئمّة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتّى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعزّ بن جماعة ، عبد أظلّه الله تعالى وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه ، وبوّأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان.
ولقد تصدّى شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكيّ ـ قدس الله روحه ونور ضريحهِ للردّ عليه في تصنيف مستقلّ أفاد فيه وأجاد وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب.
ثمّ قال : هذا وما وقع من ابن تيميّة ممّا ذكر وإن كان عثرة لا تقال أبداً ومصيبةً يستمرّ شؤمها سرمداً ليس بعجيب ، فإنّه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أنّه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ، وما درى المحروم أنّه أتى بأقبح المعائب ؛ إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة ، وتدارك على أئمّتهم ـ سيّما الخلفاء الراشدين ـ باعتراضات سخيفة شهيرة حتّى تجاوز إلى الجناب الأقدس المنزّه سبحانه عن كلّ نقص والمستحقّ لكلّ كمال أنفس ، فنسب إليه الكبائر والعظائم ، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدّمين والمتأخّرين ، حتّى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره ، فحبسه إلى أن مات ، وخمدت تلك البدع ، وزالت تلك الضلالات ، ثمّ انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساً ، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً ، بل ضربت عليهم الذلّة المسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. انتهى.
أمّا المنقول من فعل الصحابة فسيأتي في المبحث الثاني : أنّ عمر لمّا قدم المدينة من فتوح الشام كان أوّل ما بدأ بالمسجد ، وسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وفي وفاء الوفا للسمهودي (12) : روى عبدالرزاق بإسناد صحيح : أنّ ابن عمر كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه.
قال : وفي الموطّأ من روايه يحيى بن يحيى : أنَّ ابن عمر كان يقف على قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله فيصلّي ـ فيسلّم ظ ـ على النبيّ صلّى الله عليه وآله وعلى أبي بكر وعمر.
وعن ابن عون : سأل رجل نافعاً : هل كان ابن عمر يسلّم على القبر ؟ قال : نعم ، لقد رأيته مائة مرّةٍ أو أكثر من مائةٍ كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول : السلام على النبيّ ، السلام عليك أبي بكر ، السلام على أبي.
وفي مسند أبي حنيفة : عن ابن عمر : من السنّة أن تأتي قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله في قِبَل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ، ثم تقول : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته. أخرجه الحافظ طلحة بن محمّد في مسنده ، عن صالح بن أحمد ، عن عثمان بن سعيد ، عن أبي عبدالرحمن المقري ، عن أبي حنيفة ، عن نافع ، عن ابن عمر. انتهى.
أمّا المنقول من فعل سائر المسلمين : ففي وفاء الوفا (13) : ذكر المؤرّخون والمحدّثون منهم ابن عبدالبرّ والبلاذري وابن عبد ربّه : أنّ زياد ابن أبيه أراد الحجّ ، فأتاه أبو بكرة أخوه وهو لا يكلّمه ، فأخذ ابنه فأجلسه في حجره ليخاطبه ويسمع زياداً ، فقال : إنّ أباك فعل وفعل ، وإنّه يريد الحجّ ، واُمّ حبيبة زوج النبيّ صلّى الله عليه وآله هناك ، فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، وإن حجبته فأعظم بها حجّة عليه ، فقال زياد : ما تدع النصيحة لأخيك وترك الحجّ فيما قاله البلاذري. وقيل : حجّ ولم يزر من أجل قول أبي بكرة. وقيل : أراد الدخول عليها فذكر قول أبي بكرة فانصرف. وقيل : إنّها حجبته.
قال السبكيّ : والقصة على كلّ تقدير تشهد لأنّ زيارة الحاجّ كانت معهودةً من ذلك الوقت ، وإلّا فكان يمكنه الحجّ من غير طريق المدينة ، بل هي أقرب إليه ؛ لأنّه كان بالعراق ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمراً لا يترك. انتهى.
لا يقال : نحن نسلِّم بأنّ إتيان المدينة أمر راجح مستحبّ ، ولكن بقصد الصلاة في المسجد والزيارة تبع ، والذي نمنعه إتيانها بقصد الزيارة.
لأنّا نقول : المعروف بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم اتيان المدينة بقصد الزيارة ، هذا الذي جرت عليه سيرتهم وعملهم ، لا يخطر ببالهم غيره ، ولا يدور في خلدهم سواه. وأمّا قصد المسجد وكون الزيارة تبعاً فشيء لم يكن يعرفه أحد قبل الوهابيّة ، ولو كان لحرمة قصد الزيارة بالسفر أصل في الشرع لشاعت وذاعت وعرفها جميع المسلمين ، ووصلت إلى حدّ الضرورة ؛ لاحتياج الجميع إلى معرفتها ، ولكانت قامت بها الخطباء والوعّاظ وبيّتتها العلماء وحذّروا الناس منها ؛ لئلّا يقصدوا بسفرهم الزيارة فيقعوا في الحرام الموجب للعقاب من حيث قصدوا الثواب ، ولكان بينها أصحاب كتب المناسك الذين لم يهملوا شيئاً يتعلّق بالحجّ والزيارة من المستحبات فضلاً عن هذا الأمر المهمّ الموقع في الحرام.
أمّا المنقول عن أئمّة المذاهب الأربعة ففي وفاء الوفا (14) بعدما ذكر اختلاف السلف في أنّ الأفضل البدأة بالمدينة أو بمكّة : حكى عن الإمام أبي حنيفة : أنّ الأحسن البدأة بمكّة ، وإن بدأ بالمدينة جاز ، فيأتي قريباً من قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقوم بين القبر والقبلة. انتهى.
وأمّا ما يحكى عن مالك : أنّه كره أن يقال : زرنا قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فهو على فرض صحّته محمول علی كراهة التلفظ بهذا اللفظ لبعض الوجوه التي ذكروها ممّا لا نطيل بنقله ، لا لكراهة أصل الزيارة ، مع أنّ العلماء ناقشوه في كراهة هذا اللفظ ، كالسبكيّ وابن رشد على ما في « وفاء الوفا ».
وذكر السمهودي في وفاء الوفا (15) أقوال الشافعية في استحباب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله ، ثمّ قال : والحنفيّة قالوا : إنّ زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله من أفضل المندوبات والمستحبّات ، بل تقرب من درجة الواجبات ، قال : وكذلك نصّ عليه المالكية والحنابلة. وأوضح السبكي نقلهم في كتابه في الزيارة. انتهى.
الرابع : دليل العقل :
فإنّه يحكم بحسن تعظيم من عظّمه الله تعالى ، والزيارة نوع من التعظيم ، وفي تعظيمه صلّى الله عليه وآله بالزيارة وغيرها تعظيم لشعائر الإسلام وإرغام لمنكريه. وقد ثبت رجحان زيارته صلّى الله عليه وآله في حياته والوصول إلى خدمته ، فكذلك بعد مماته ، خصوصاً بعد الالتفات إلى ما ورد من حياته البرزخيّة ، وقد مضى في فصل التوسّل قول مالك أمام دار الهجرة للمنصور : إنّ حرمة النبيّ صلّى الله عليه وآله ميتاً كحرمته حيّاً. وليس في العقل شيء يمنع من الزيارة أو يوجب قبحهاء ، بل فيه ما يحسنها من تعظيم من عظّمه الله واحترام من هدى الناس إلى سبيل الرشاد ، وكان سبب سعادتهم في الدارين.
الهوامش
1. سورة النساء : آية 64.
2. وفاء الوفاء : 2 / 411.
3. التوبة : 84.
4. الأحزاب : 53.
5. ويؤيّد هذا الإحتمال : ما كان يقول صلّى الله عليه وآله عند زيارته لأهل القبور : « دار قوم مؤمنين » ، كما سيأتي تفصيله.
6. وفاء الوفاء : 2 / 394 ـ 402.
7. فيه ثبوت الحق للعبد على الله عزّ وجلّ الذي أنكره الوهابيّة.
8. وفاء الوفا : 2 / 404.
9. وفاء الوفا : 2 / 412.
10. المصدر السابق : 417.
11. الصواعق المحرقة : 13.
12. وفاء الوفا : 2 / 409.
13. وفاء الوفا : 2 / 410.
14. وفاء الوفا : 2 / 411.
15. المصدر السابق : 415.
مقتبس من كتاب : [ نافذة على زيارة القبور ] / الصفحة : 51 ـ 73
التعلیقات