مناظرة الإمام الرضا عليه السلام حول عصمة الأنبياء عليهم السلام
عبّاس الذهبي
منذ 6 سنواتمناظرته عليه السلام حول عصمة الأنبياء عليهم السلام
يعتقد أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الأنبياء صلّى الله عليهم معصومون ، بمعنىٰ عدم اقترافهم جريمة ولا ذنب ولا خطيئة حتّى الغلط والخطأ والسهو والغفلة والنسيان. ومعصومون كذلك عن كلّ ما ينفي الحشمة والكرامة منذ ولادتهم وإلىٰ وفاتهم. والشيعة الإماميّة يقولون بعصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها ، ويستدلّون على وجوب عصمتهم بأدلّة عقليّة عديدة.
ولما كان بعض المسلمين يجوّز صغائر الذنوب على الأنبياء ، كالمعتزلة ، والبعض الآخر كالأشعريّة والحشويّة يُجوز ارتكابهم الكبائر فضلاً عن الصغائر ، إلّا الكفر والكذب ، ويستدلّون على ذلك بظواهر بعض الآيات القرآنيّة.
وجد أئمّة أهل البيت عليهم السلام أن هذا الفهم يتصادم مع العقل ولا يليق بمكانة الأنبياء عليهم السلام ومنزلتهم ، ويترك آثاراً سلبيّة على العقيدة الإسلاميّة ، فقاموا ، وهم تراجم القرآن ، ببيان شافٍ لجميع الآيات التي يظهر منها نسبة الخطأ أو المعصية للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد قام إمامنا الرضا عليه السلام بإماطة الستار عن المعاني القرآنيّة الحقيقيّة التي تتحدّث عن الأنبياء والرُّسل ، وبدّد ضباب الغبش والتشويش وسوء الفهم الذي حجب دلالاتها.
عن أبي الصلت الهروي قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات ، فلم يقم أحد إلّا وقد ألزمه حجّته كأنّه أُلقم حجراً ، قام إليه علي بن محمّد بن الجهم ، فقال له : يابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء ؟
قال : « نعم ».
قال : فما تعمل في قول الله عزّوجلّ : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (1) وفي قوله عزّوجلّ : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (2) وفي قوله عزّوجلّ في يوسف عليه السلام : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (3) وفي قوله عزّوجلّ في داود عليه السلام : ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (4) وقوله تعالىٰ في نبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) ؟ (5).
فقال الرضا عليه السلام : « ويحك يا علي ، اتّقِ الله ولا تنسب إلىٰ أنبياء الله الفواحش ، ولا تتأوّل كتاب الله برأيك ، فإنّ الله عزّوجلّ قال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (6).
وأمّا قوله عزّوجلّ في آدم عليه السلام : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) فإنّ الله عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر الله ، فلمّا أهبط إلىٰ الأرض وجعل حجّة وخليفة عُصم بقوله عزّوجلّ : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (7) » (8).
وعلى هذا السياق أجاب عليه السلام عن التهمة الشنيعة التي نسبت إلى داود عليه السلام من أنّه اطلع في دار قائده « أوريا » فعشق امرأته فقدّمه أمام التابوت في المعركة فقُتِل وتزوّج بامرأته ! فنسبوا داود عليه السلام ـ زوراً وبهتاناً ـ إلى الفاحشة ثمّ القتل.
كما كشف عن سبب إخفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بنفسه من أمر زواجه بزينب بنت جحش فقد أطلعه الله تعالى على أسماء أزواجه فوجد اسم زينب مع أسمائهنّ وكانت تحت زيد بن حارثة فخشي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من المنافقين إن أخبر عن ذلك ، فعاتبه تعالى بقوله : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (9). وليس في هذا ذنب أو ارتكاب معصية.
ومن المناسب التذكير بأن أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام في تنزيه الأنبياء كثيرة مبثوثة في كتب الحديث والتفسير ، ومنها استقى السيد الشريف المرتضىٰ ردوده في كتابه « تنزيه الأنبياء ».
وفي رواية أخرى أجاب الإمام عليه السلام على سؤال علق بذهن المأمون حول طلب موسى عليه السلام من ربّه الرؤية ، مع علمه باستحالة رؤيته تعالى بالأبصار ؟! ، فقال الرِّضا عليه السلام : « إنَّ كليمَ الله موسى بن عمران عليه السلام عَلِمَ أنَّ الله تعالى عن أن يُرى بالأبصار ، ولكنّه لمّا كلَّمه عزَّوجلَّ وقرَّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم أنَّ الله عزَّ وجلَّ كلَّمه وقرَّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى سمع كلامهُ كما سمعت .. فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربِّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى عليه السلام إلى الطُّور وسأل الله تبارك وتعالى أن يُكلّمه ويُسمعهم كلامه ، فكلَّمه الله تعالى ذكره وسمعوا من فوقٍ وأَسفلَ ويمينٍ وشمالٍ ووراءٍ وأمام ، لأنّ الله عزَّوجلَّ أحدثهُ في الشَّجرةِ ، ثمّ جعلهُ منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه.
فقالوا : لن نؤمنَ لكَ بأَنَّ هذا الَّذي سمعناه كلام الله حتّىٰ نرى الله جهرةً !! فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا ، بعث الله عزَّوجلَّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظُلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربِّ ما أقولُ لبني إسرائيلَ إذا رجعتُ إليهم وقالوا : إنَّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنَّكَ لم تكن صادقاً فيما ادَّعيت من مناجاة الله إيّاك ؟ فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يُريك أن تنظرَ إليه لأجابك وكنت تُخبرنا كيف هو فنعرفهُ حقَّ معرفته.
فقال موسى عليه السلام : يا قوم إنَّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفيَّة له ، وإنَّما يُعرفُ بآياته ويُعلم بأعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسألهُ ، فقال موسى عليه السلام : يا ربِّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جلَّ جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخِذكَ بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه السلام : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي ( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآيةٍ من آياته ( جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقولُ : رجعتُ إلىٰ معرفتي بك عن جهلِ قومي ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (10) منهم بأنّك لا تُرى » ، فقال المأمون : لله دَرُّك يا أبا الحسن (11).
الهوامش
1. سورة طه : 20 / 121.
2. سورة الأنبياء : 21 / 87.
3. سورة يوسف : 12 / 24.
4. سورة ص : 38 / 24.
5. سورة الأحزاب : 33 / 37.
6. سورة آل عمران : 3 / 7.
7. سورة آل عمران : 3 / 33.
8. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 191 / 1 باب 14.
9. سورة الأحزاب : 33 / 37.
10. سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.
11. كتاب التوحيد ، الصّدوق : ١٢١ ، ح ٢٤ ، باب ٨.
مقتبس من كتاب : [ الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ ] / الصفحة : 103 ـ 107
التعلیقات