الصلاة لم تسلم من التحريف
الشيخ علي آل محسن
منذ 5 سنواتالصلاة لم تسلم من التحريف
لقد مرَّ بنا بعض ما ابتُدع في الصلاة ، كإحداث صلاة التراويح ، والصلاة في منى تماماً ، والتثويب في الأذان ، والأذان لصلاة العيدين ، والأذان الثالث يوم الجمعة ، وجعل خطبة العيدين قبل الصلاة وغير ذلك.
وأمّا ما ابتُدع في الصلاة نفسها فسيأتي ذِكر بعضه قريباً ، وحسبك ما تجده من الإختلافات الكثيرة بين المذاهب الأربعة وغيرها من مذاهبهم في كلّ أحكام الصلاة تقريباً : من التكبير إلى التسليم ، فراجع الكتب المعدّة لذلك ككتاب الفقه على المذاهب الأربعة ، وكتاب بداية المجتهد ، وكتاب رحمة الأمّة في اختلاف الأئمّة وغيرها لتدرك صحّة ما قلناه.
وللدلالة على كثرة تلكم الإختلافات انظر الفرق بين الصلاة الصحيحة عند أبي حنيفة والصلاة الصحيحة عند غيره ، وسنذكرها فيما يأتي من الكلام.
ولا بأس أن ننقل بعض فقرات ممّا قاله ابن رشد في اختلافهم في الصلاة ، ليتبيّن للقارئ العزيز صحّة ما قلناه :
قال ابن رشد في بيان إختلافهم في أقوال الصلاة فقط دون أفعالها :
اختلف العلماء في التكبير على ثلاثة مذاهب : فقوم قالوا : إن التكبير كلّه واجب في الصلاة ، وقوم قالوا : إنّه كلّه ليس بواجب. وهو شاذّ ، وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام فقط.
وقال مالك : لا يجزئ من لفظ التكبير إلّا : الله أكبر. وقال الشافعي : « الله أكبر » و « الله الأكبر » اللفظان كلاهما يجزئ. وقال أبو حنيفة : يجزئ من لفظ التكبير كلّ لفظ في معناه ، مثل : الله الأعظم والله الأجل.
وذهب قوم إلى أن التوجيه في الصلاة واجب ، وهو أن يقول بعد التكبير : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، وهو مذهب الشافعي ، وإمّا أن يسبِّح ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وإمّا أن يجمع بينهما ، وهو مذهب أبي يوسف وصاحبه. وقال مالك : ليس التوجيه بواجب ولا سُنَّة.
وقد ذهب قوم إلى استحسان سكتات كثيرة في الصلاة ، منها حين يكبّر ، ومنها حين يفرغ من قراءة أم القرآن ، وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع ، وممّن قال بهذا الشافعي وأبو ثور والأوزاعي ، وأنكر ذلك مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه.
واختلفوا في قراءة ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ) في افتتاح القراءة في الصلاة ، فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة ، جهراً كانت أو سرّاً ، لا في استفتاح أم القرآن ولا في غيرها من السور ، وأجاز ذلك في النافلة. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد : يقرؤها مع أم القرآن في كلّ ركعة سرّاً. وقال الشافعي : يقرؤها ، ولا بدّ في الجهر جهراً ، وفي السرّ سرّاً ، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب ، وبه قال أحمد وأبو ثور وأبو عبيد. واختلف قول الشافعي ، هل هي آية من كلّ سورة ، أم إنّما هي آية من سورة النمل فقط ، ومن فاتحة الكتاب ؟ فرُوي عنه القولان جميعاً.
واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة ، فرأى بعضهم أن الواجب مِن ذلك أم الكتاب لمَن حفظها ، وأن ما عداها ليس فيه توقيت ، ومِن هؤلاء مَن أوجبها في كلّ ركعة ، ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة ، ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة ، ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة. وبالأوّل قال الشافعي ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وقد روي عنه أنّه مَن قرأها في ركعتين من الرباعيّة أجزأتْه. وأمّا من رأى أنّها تجزئ في ركعة ، فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة. وأمّا أبو حنيفة فالواجب عنده إنّما هو قراءة أيّ آية اتّفقت أن تقرأ ، وحَدَّ أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدَّيْن. وهذا في الركعتين الأوليين ، وأمّا في الأخيرتين فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة ، وبه قال الكوفيّون ، والجمهور يستحبّون القراءة فيها كلّها.
واتّفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود .. وبه أخذ فقهاء الأمصار ، وصار قوم من التابعين إلى جواز ذلك ، وهو مذهب البخاري.
واختلفوا هل الركوع والسجود قول محدود يقوله المصلّي أم لا ؟ فقال مالك : ليس في ذلك قول محدود. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة غيرهم إلى أن المصلّي يقول في ركوعه : « سبحان ربّي العظيم » ثلاثاً ، وفي السجود : « سبحان ربّي الأعلى » ثلاثاً.
وكذلك اختلفوا في الدعاء في الركوع بعد اتّفاقهم على جواز الثناء على الله ، فكره ذلك مالك .. وقالت طائفة : يجوز الدعاء في الركوع .. وأبو حنيفة لا يجيز الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن ، ومالك والشافعي يجيزان ذلك.
واختلفوا في التشهّد وفي المختار منه ، فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التشهّد ليس بواجب ، وذهبت طائفة إلى وجوبه ، وبه قال الشافعي وأحمد وداود.
وأمّا المختار من التشهد فإن مالكاً رحمه الله اختار تشهد عمر رضي الله عنه .. الذي كان يعلمه الناس على المنبر .. واختار أهل الكوفة وأبو حنيفة وغيره تشهّد عبد الله بن مسعود .. وبه قال أحمد وأكثر أهل الحديث .. واختار الشافعي وأصحابه تشهّد عبد الله بن عبّاس
وقد اشترط الشافعي الصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التشهّد ، وقال : إنّها فرض .. وذهب قوم من أهل الظاهر إلى أنّه واجب أن يتعوذ المتشهد من الأربع التي جاءت في الحديث من عذاب القبر ، ومن عذاب جهنّم ، ومن فتنة المسيح الدجال ، ومن فتنة المحيا والممات.
واختلفوا في التسليم من الصلاة ، فقال الجمهور بوجوبه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : ليس بواجب ، والذين أوجبوه منهم من قال الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة ، ومنهم من قال : اثنتان.
واختلفوا في القنوت ، فذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب. وذهب الشافعي إلى أنّه سنّة. وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يجوز القنوت في صلاة الصبح ، وأن القنوت إنّما موضعه الوتر ، وقال قوم : بل يقنت في كلّ صلاة. وقال قوم : لا قنوت إلّا في رمضان. وقال قوم : بل في النصف الأخير منه. وقال قوم : بل في النصف الأوّل منه (1).
هذا شيء ممّا ذكره في اختلافاتهم في أقوال الصلاة ، والاختلاف في أفعال الصلاة أكثر ، وما ذكرناه كاف في الدلالة على ما قلناه.
ومنه يتّضح مدى ما وقع على الصلاة من جور التحريف والتبديل ، حتّى ضاعت معالمها ، وتهدّمت أركانها ، وتغيّرت هيئتها. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
الهوامش
1. نقلنا مقتطفات من كلام ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ، ص ١٢١ ـ ١٣٣.
مقتبس من كتاب : [ مسائل خلافيّة حار فيها أهل السنّة ] / الصفحة : 178 ـ 181
التعلیقات