مخالفة عثمان للسيرة العمريّة
السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان
منذ 11 شهرمخالفته للسيرة العمرية
قال طه حسين في الفتنة الكبرى : « وأنكر المسلمون على عثمان موقفه من ناقديه ومعارضيه فهو قد انحرف عن سيرة عمر في ذلك انحرافاً عظيماً ، فعمر لم يَنهَ عمّاله عن شيء كما نهاهم عن أن يستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ، ولم يحذّرهم من شيء كما حذّرهم من العنف بالرعية ، والاعتداء على أبشارها وأشعارها ، فلم يكن عمر إذن يبيح ضرب الناس إلّا في الحدود ، ولم يكن يعفي عمّاله من القصاص إن تعدّوا على الرعية بالضرب في غير حدّ ، او في غير حقّ من الحقوق ، فأمّا عثمان فمهما يكن اعتذار أهل السنّة والمعتزلة عنه ، فإّنه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العنف بالرعية ضرباً ، ونفياً ، وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ : ضرب عمّار بن ياسر حتى اصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً حتى كسر بعض أضلاعه ... » (1).
وقال أيضاً : « فهذه السياسة العنيفة الّتي تسلّط الخليفة وعمّاله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ، ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ... اهـ » (2).
والآن إلى شيء من سيرة عمر الّتي خالفها عثمان عملاً واحتج بها قولاً كما مرّ في قوله لطلحة : « ولسنا بمغيّري ما أقره عمر » ، فقال طلحة : « وما الّذي أنت عليه من أمر عمر ». فقد كان لعمر عمالاً على البلاد جلّهم ممّن رضي المسلمون هديه وسمته مثل سلمان وابن مسعود وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص ، وغيرهم آخرون فإن هم لم يبلغوا صلاح هؤلاء ولكنهم لرقابة عمر وتطلّع أخبارهم ، كانوا أطوع له من يرفأ غلامه ، كما انّه كان يسمع من الناس شكايتهم من عماله فيحاسبهم ، وما حديث مقاسمته لعماله إلّا نتيجة رسالة أبي المختار يزيد بن قيس بن يزيد إليه ، فقد أرسل إليه شعراً يقول فيه شاكياً عمال عمر على كور الأهواز :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة |
فأنت أمين في النهي والأمر |
|
وأنت أمين الله فينا ومن يكن |
أميناً لرب العرش يسلم له صدري |
|
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى |
يسيغون مال الله في الأدم والوفر |
|
فأرسل إلى الحجاج (3) فأعرف حسابه |
وأرسل الى جزء (4) وأرسل الى بشر (5) |
|
ولا تنسين النافعين (6) كليهما |
وَلا ابن غلاب (7) من سراة بني نصر |
|
وما عاصم (8) منها بصفر عيابه |
وذاك الّذي في السوق مولى بني بدر (9) |
|
وأرسل إلى النعمان (10) اعرف حسابه |
وصهر بني غزوان (11) إنّي لذو خُبر |
|
وشبل (12) فسله المال وابن محرّش (13) |
فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر |
|
فقاسمهم أهلي فداؤك إنّهم |
سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر |
|
ولا تدعوني للشهادة إنني |
أغيب ولكني أرى عجب الدهر |
|
نؤوب إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا |
فأنّى لهم وفرٌ ولسنا أولي وفر |
|
إذا التاجر الداريّ جاء بفارة |
من المسك راحت في مفارقهم تجري |
ولمّا وصلت إليه الرسالة ، أرسل عليهم وحاققهم محاسبة شديدة ثمّ شاطرهم حتى روى البلاذري أنّه أخذ نعلاً وترك نعلاً (14).
وروى عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : « كان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتاباً وأشهد عليه رهطاً من الأنصار : أن لا يركب برذوناً ، ولا يأكل نقيّاً ، ولا يلبس رقيقاً ، ولا يغلق باباً دون حاجات المسلمين ، ثمّ يقول : اللّهمّ اشهد » (15).
وكان يخطب ويقول : « أيّها الناس انّي والله ما أرسل إليكم عمّالاً ليضربوا أبشاركم ، ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم ، فمن فُعِل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليّ ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه » (16).
ألم يغلظ في حسابه مع عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وخالد بن الوليد وغيرهم من عمّاله ؟.
ألم يعزل عامله الّذي أنفق عشرة دراهم لاتخاذ بيت لقضاء الحاجة أخذها من بيت المال وقال : « أما وجدت موضعاً تقضي فيه الحاجة حتى أخذت عشرة دراهم من بيت المال اتخذت بها خلاءً لقضاء حاجتك » (17).
ألم يبعث محمّد بن سلمة الأنصاري من المدينة إلى الكوفة ليحرق باب قصر سعد والخص من قصب الّذي حوله (18).
أليس هو القائل : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسّمتها على فقراء المهاجرين ؟ » (19).
ثمّ هو القائل : « لئن عشت ـ إن شاء الله ـ لأسيرنّ في الرعية حولاً ، فإنّي أعلم أنّ للناس حوائج تقطع دوني ، أمّا عمالهم فلا يرفعونها إليّ ، وأمّا هم فلا يصلون إليَّ. فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين ، ثمّ أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ، ثمّ أسير إلى مصر فاُقيم بها شهرين ، ثمّ أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين ، ثمّ أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين ، ثمّ أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين. والله لنعم الحول هذا » (20).
هذه نبذه مقتطفة من سيرة عمر مع عماله ومراقبتهم في الشؤون المالية والإدارية. وعلى هذه السيرة كان شرط ابن عوف على عثمان. ولمّا تخلف عن شرطه أدى ذلك إلى قتله. حكى الجاحظ في رسالته العثمانية قول القائل : « ما قتل عثمان غير عمر » (21).
الهوامش
1. الفتنة الكبرى ١ / ١٩٨.
2. نفس المصدر ١ / ١٩٩.
3. الحجاج بن عتيك وكان على الفرات.
4. جزء بن معاوية عم الأحنف كان على سرّق.
5. بشر بن المحتفز كان على جندي سابور.
6. هما نافع ونفيع ابني الحرث بن كلدة الثقفي.
7. خالد بن الحرث من دهمان كان على بيت المال باصبهان.
8. عاصم بن قيس بن الصلت السلمي كان على مناذر.
9. سمرة بن جندب كان على سوق الأهواز.
10. النعمان بن عدي بن نضلة الكعبي كان على كور دجلة.
11. مجاشع بن مسعود السلمي صهر بني غزوان كان على البصرة وصدقاتها.
12. شبل بن معبد البجلي ثمّ الأحمسي كان على قبض المغانم.
13. أبو مريم ابن محرّش الحنفي كان على رامهرمز.
14. أنظر فتوح البلدان / ٣٩١ ـ ٣٩٢ ط مصر سنة ١٣١٩.
15. تاريخ عمر لابن الجوزي / ٨٥ ، وقارن تاريخ الطبري ٤ / ٢٠٧.
16. تاريخ الطبري ٤ / ٢٠٤.
17. الفتوحات الاسلامية زيني دحلان ٢ / ٣٠١.
18. فتوح البلدان / ٢٨٦.
19. تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٦ ط دار المعارف.
20. سيرة عمر لابن الجوزي / ٩٠ ، وقارن تاريخ الطبري ٤ / ٢٠١.
21. الرسالة العثمانية / ١٨٤.
مقتبس من كتاب : موسوعة عبد الله بن عبّاس / المجلّد : 2 / الصفحة : 174 ـ 177
التعلیقات