الإمام علي والتضحية في سبيل الله
السيد هادي المدرسي
منذ 9 سنواتالإمام علي والتضحية في سبيل الله
لا يمكن أن تنتصر قضيّة ليس أصحابها مستعدّين للتضحية من أجلها. غير أنّ هنالك فرقاً بين من يبحث عن المجد الشخصي ، وإحراز الإنتصار على أعدائه في حياته ، وبين من يمتلك قضيّة ، ويسعى من أجل انتصارها ، حتّى وإن أدّى ذلك إلى التضحية بنفسه ...
فالأوّل : إذا خسر ، ستكون في خسارته نهايته.
والثاني : إذا خسر ، فقد تكون في خسارته نجاحه.
فالأهداف العليا ، كالمثل والقيم والدّين ، ستجد من ينتصر لها يوماً ، ولذلك فمن يموت دون قضيّة ، يزيدها قوّة ومناعة ... فالتضحية بالنفس للقضايا ... تقوّيها وتحييها.
بينما التضحية للنفس بالقضايا ... تنهيها وتقضي عليها. وعلى أيّة حال فإنّ المغامرة من أجل الأهداف ، وخوض الغمرات في الدفاع عنها ، ضرورة من ضرورات العمل للحقّ ، وواجب من واجبات الإيمان بالقيم.
وأساساً كيف نعرف صدق المدّعين إلّا حينما يُدعون إلى التضحية والفداء ؟
إنّ أدعياء الحقّ كثيرون ، ولكن المستعدين لبذل كلّ شيء له ، هم الصادقون منهم ، وهم الأقلون. « فالناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يدورونها ما درت معائشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون » ، ويبدو أنّ ذلك من سنّة الله في الخلق حتّى يميز المجاهدين منهم عن الكاذبين. ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ).
إنّ الطريق إلى تحقيق المثل العليا ، مليء بالأشواك كما هي الطريق إلى الجنّة ، فقد « حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات ». وإذا كانت لنا برسول الله قدوة حسنة ، فإنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، « خاض إلى رضوان الله كلّ غمرة ، وتجرع فيه كل غصّة وقد تلوّن له الأدنون ، وتألّب عليه الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنتها ، وضربت إلى محاربته بطون رواحلها حتّى أنزلت بساحته عدواتها ، من أبعد الدار وأسحق المزار ». إذن « لا تفرطوا في صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحقّ ». لقد أوصى الإمام ولده الحسن عليه السلام ـ وهو العزيز على قلبه ـ ان يخوض كأبيه ، الغمرات للحقّ قائلاً : « جاهد في الله حقّ جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم ، وخض الغمرات للحقّ حيث كان ».
إنّ التضحية المطلوبة ، لا تعني بالضرورة أن يموت الإنسان من أجل قضيّته ، ولكنّها تعني حتماً الإستعداد للمغامرة من أجلها وعدم وضع حدّ لما تتطلبه من الغالي ، والرخيص. وهكذا كان الإمام علي عليه السلام كان دائماً على استعداد للمغامرة بحياته في سبيل الرسالة ، فما من غزوة إلّا وهو أميرها ، أو بطلها ، وما من دعوة تتطلب التضحية إلّا وهو أوّل من يستجيب لها.
وفيما يلي نموذج واحد من ذلك :
روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله خرج ذات يوم الفجر ، ثمّ قال : « معاشر الناس أيّكم ينهض إلى ثلاثة نفر قد آلبوا باللّات والعزَّى ليقتلوني ، وقد كذبوا وربّ الكعبة » ؟
فأحجم الناس وما تكلّم أحد ، فقال صلّى الله عليه وآله : « ما أحسب عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فيكم ». فقال له عامر بن قتادة : إنّه وعك في هذه الليلة ولم يخرج يصلّي معك ، فتأذن لي أن أخبره ؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله : « شأنك » فمضى إليه فأخبره ، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام كأنّه نشط من عقال ، وعليه إزار قد عقد طرفيه على رقبته ، فقال : يا رسول الله ما هذا الخبر ؟ قال النبي صلّى الله عليه وآله : « هذا رسول ربّي يخبرني عن ثلاثة نفر قد نهضوا لقتلي » ، فقال علي عليه السلام : يا رسول الله أنا لهم سرية وحدي ، هوذا أليس عليَّ ثيابي ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « بل هذه ثيابي وهذا درعي وهذا سيفي » فدرّعه وعمّمه وقلّده وأركبه فرسه. وخرج أمير المؤمنين عليه السلام فمكث النبي ثلاثة أيّام لا يأتيه جبرئيل بخبره ولا خبر من الأرض ، وأقبلت فاطمة بالحسن والحسين على وركيها تقول : أوشك أن يُيَتَّم هذان الغلامان.
فأسبل النبي صلّى الله عليه وآله عينه ، ثمّ قال : « معاشر الناس من يأتيني بخبر عليّ أبشّره بالجنّة » ، وافترق الناس في الطلب لعظيم ما رأوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وخرج العواتق ، فأقبل عامر بن قتادة يبشّر بعلي ، وأقبل عليّ أمير المؤمنين عليه السلام معه أسيران ورأس وثلاثة أبعرة وثلاثة أفراس.
فسأله رسول الله عن قصّته ؟
فقال عليه السلام : يا رسول الله ، لمّا صرت في الوادي رأيت هؤلاء ركباناً على الأباعر فنادوني من أنت ؟
فقلت : أنا علي بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.
فقالوا : ما نعرف لله من رسول سواء علينا : وقعنا عليك أو على محمّد ، وشدَّ عليَّ هذا المقتول ، ودار بيني وبينه ضربات فضربته ، وقطعت رأسه وأخذت هذين أسيرين.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : « قدّم إليّ أحد الرجلين » ، فقدّمه فقال : « قل : لا إله إلا الله وأشهد أنّي رسول الله » ، فقال : لنقل جبل أبي قبيس أحبّ إليّ من أن أقول هذه الكلمة ! فقال : يا عليّ أخره واضرب عنقه ، ثمّ قدّم الآخر فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله له : « قل : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّي رسول الله » ، قال : يا محمّد ألحقني بصاحبي ، فقال صلّى الله عليه وآله : يا علي أخّره واضرب عنقه ، وقام أمير المؤمنين عليه السلام ليضرب عنقه فهبط جبرئيل على النبي صلّى الله عليه وآله فقال : يا محمد إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : لا تقتله فإنّه حسن الخلق سخيٌّ في قومه.
فقال النبي صلّى الله عليه وآله : « يا عليُّ أمسك فإنّ هذا رسول ربّي عزّ وجلّ يخبرني أنّه حسن الخلق سخيّ في قومه ».
فقال المشرك تحت السيف : هذا رسول ربّك يخبرك ؟ قال : نعم. قال : والله ما ملكت درهماً مع أخ لي قطّ ولا قطبت وجهي في الحرب ، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « هذا ممّن جرّه حسن خلقه وسخاؤه إلى جنّات النّعيم ».
التعلیقات