هل الشورى أساس الحكم والخلافة ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةهل الشورى أساس الحكم والخلافة ؟
قد تعرّفت على الكلمات السابقة التي تعرب عمّا تنعقد به الإمامة عند أهل السنّة ، كما تعرّفت على كيفيّة خلافة الخلفاء ، وأنّ الأوّل منهم فاز بخمسة أصوات (1) ، وأنّ الثاني أخذ بزمام الحكم بتعيين الخليفة الأوّل ، وأنّ الثالث استتب له الأمر بشورى سداسيّة عيّنها نفس الخليفة الثاني. هذا هو واقع الأمر ، ولم يكن في انتخاب هؤلاء ما يقتضيه طبع التشاور من عرض الموضوع على أهل المشورة ، ومناقشة الآراء ، وانتخاب واحد في ضوء الموازين العقليّة والإجتماعيّة والشرعيّة. وأحسن كلمة تعبّر عن حقيقة هذا النوع من الانتخاب ما ذكره الخليفة الثاني بقوله : « إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة تمّت ، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكن الله وقّى شرّها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه ، تغرّة أن يقتلا » (2).
وقد حاول المتجدّدون من متكلّمي أهل السنّة ، صبّ صيغة الحكومة الإسلاميّة على أساس المشورة بجعله بمنزلة الإستفتاء الشعبي ، بملاحظة أنّه لم يكن من الممكن بعد وفاة النبي مراجعة كلّ الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلامي ، لقلّة وسائل المواصلات ، وفقدان سبل الإتّصال المتعارفة اليوم.
ولذلك يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب : أنّ الذين بايعوا أوّل خليفة للمسلمين لم يتجاوزوا أهل المدينة ، وربّما كان بعض أهل مكّة ، وأمّا المسلمون ـ جميعاً ـ في الجزيرة العربيّة ، فلم يشاركوا هذه البيعة ، ولم يشهدوها ، ولم يروا رأيهم ، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبي مع الخبر باستخلاف أبي بكر (3).
ثم إنّ من مظاهر الإختلاف الواقع في مسألة الشورى ، أنّ القائلين بها اختلفوا على قولين : فمنهم من قال بأنّ انتخاب أهل الشورى مُلزِم للأُمّة ، وهو خبرة الأكثريّة ، ومنهم من قال إنّه لا يزيد عن ترشيح له لمنصب الأُمّة ، وللأُمّة اختياره أو رفضه (4).
وعلى كلّ تقدير ، فما دليل هذه النظريّة أيّ كون الشورى أساس الحكم ، سواء في الفترة التي تلت رحلة النبي أو في زماننا الحاضر.
إستدلّوا بآيتين :
الآية الأُولى : قوله سبحانه ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ) (5) فالله سبحانه يأمر نبيّه بالمشاورة ، تعليماً للأُمّة ، حتّى يتشاوروا في مهام الأُمور ، ومنها الخلافة.
يلاحظ عليه : أوّلاً ـ إنّ الخطاب في الآية متوجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيّته ، فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية ، هو أنّ من وظائف كلّ الحكّام التشاور مع الأُمّة ، وأمّا أنّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الإستدلال عليه بهذه الآية.
والآية نظير قول علي ـ عليه السَّلام ـ : « من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرجال في أمورها ، شاركها في عقولها » (6).
وثانياً ـ إنّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكماً للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلب وجوه الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وذلك لقوله سبحانه في نفس الآية : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ) ، المعرب عن أنّ العزم والتصميم والإستنتاج من الآراء الأخذ بما هو الأصلح راجع إلى نفس المشير ، وهذا يتحقّق في ظرف يكون هناك مسؤول تام الإختيار في استحصال الأفكار والعمل بالنافع منها ، حتّى يخاطب بقوله : ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) ، وأمّا إذا لم يكن ثمة رئيس ، فلا تنطبق عليه الآية ، إذ ليس في انتخاب الخليفة بين المشيرين من يقوم بدعوة الأفراد للمشورة ، لغاية استعراض آرائهم ، ثمّ تمحيص أفكارهم ، والأخذ بالنافع منها ، ثمّ العزم القاطع عليه.
وكلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة وما شابهها. ولأجل ذلك لم نر أحداً من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.
الآية الثانية : قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (7).
ببيان أنّ المصدر « أمر » أضيف إلى الضمير « هُم » ، وهو يفيد العموم والشمول لكلّ أمر ، ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية أنّ شأن المؤمنين في كلّ مورد ، شورى بينهم.
يلاحظ عليه : إنّ الآية تأمر بالمشورة في الأمر المضافة إلى المؤمنين ، وأمّا أنّ تعيين الخليفة من الأمور المضافة إليهم ، فهو أوّل الكلام ، والتمسّك بالآية في هذا المجال ، تَمَسّك بالحكم في إثبات موضوعه.
وبعبارة أُخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى فيما يمتّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن أمورهم ، أمّا كون تعيين الإمام داخلاً في أمورهم ، فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شؤونهم أو من شؤون الله سبحانه ، ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهيّة تتمّ بنصبه سبحانه تعيينه ، أو إمرة وولاية شعبيّة ، يجوز للناس التدخّل فيها. ومع هذا الترديد لا يصحّ التمسّك بالآية.
إجابة عن سؤال
لو لم تكن الشورى أساس الحكم ، فلماذا استدلّ الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ ، على المخالف ، بمبدأ الشورى ، وقال : ـ مخاطباً معاوية ـ : « إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً ، كان لله رضىً » (8).
والجواب : إنّ ابن أبي الحديد المعتزلي هو أوّل من احتجّ بهذه الخطبة على أنّ صيغة الحكومة بعد وفاة النبي مستندة إلى الإختيار ونظام الشورى ، وتبعه من تبعه ، ولكنّه غفل عن صدر الرسالة التي تعرب عن أنّ الإستدلال بالشورى من باب الجدل خضوعاً لقوله سبحانه : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (9) ، فإنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ بدأ رسالته بقوله : « أمّا بعد ، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر ... » : ثمّ ختمها بقوله : « وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون » (10).
فالإبتداء بالكلام بخلافة الشيخين يعرب عن أنّه في مقام إسكات معاوية الذي يعتبر البيعة وجهاً شرعيّاً للخلافة ، ولولا هذا لما كان وجه لذكر خلافة الشيخين ، بل لاستدلّ بنفس الشورى.
ولأجل ذلك يتمّ كلامه بقوله : « فإن اجتمعوا على رجل ... » ، احتجاجاً بمعتقد معاوية ، عليه.
أسئلة حول مبدئيّة الشورى
من خلال التحليل المتقدّم يمكن استخلاص أسئلة حول مبدئيّة الشورى للحكم ، تزعزع كونها مبدء له ، وهي :
1 ـ لو كان أساس الحكم هو الشورى ، لوجب على الرسول الأكرم التصريح به ،
أوّلاً ، وبيان حدوده وخصوصياته ،
ثانياً. بأن يبيّن من هم الذين يشتركون في الشورى ، هل هم القراء وحدهم ، أو السياسيّون ، أو القادة العسكريّون ، أو الجميع ، وما هي شرائط المنتخب ، وأنّه لو حصل هناك اختلاف في الشورى ، فما هو المرجّح ، هل هو كميّة الآراء وكثرتها ، أو الرجحان بالكيفيّة ، وخصوصيّات المرشّحين وملكاتهم النفسيّة والمعنويّة.
فهل يصحّ سكوت النبي عن الإجابة على هذه الأسئلة التي تتّصل بجوهر مسألة الشورى ، وقد جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟!.
2 ـ إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى ، بأهل الحلّ والعقد ، ولا يفسّرونه بما يرفع إجماله ، فمن هم أهل الحلّ والعقد ؟ وماذا يحلّون وماذا يعقدون ؟ أهم اصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم ؟ وهل يشترط حينئذ درجة معيّنة من الفقه والعلم ؟ وما هي تلك الدرجة ؟بأيّ ميزان توزن ؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها ؟ أم غيرهم ؟. فمن هم ؟.
وربّما تجد من يبدّل كلمة أهل الحلّ والعقد ، بـ « الأفراد المسؤولين » ، وما هو إلّا وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها.
3 ـ وعلى فرض كون الشورى أساس الحكم ، فهل يكون انتخاب أعضاء الشورى ملزماً للأمّة ، ليس لهم التخلّف عنه ؟ أو يكون بمنزلة الترشيح ، حتّى تعطي الأمّة رأيها فيه ؟ وما هو دليل كلّ منهما ؟.
هذه الأسئلة كلّها ، لا تجد لها جواباً في الكتاب والسنّة ولا في كتب المتكلّمين ، ولو كانت مبدءً للحكم لما كان السكوت عنها سائغاً ، بل لكان على عاتق التشريع الإسلامي الإجابة عليها ، وإضاءة طرقها (11).
الهوامش
1. لاحظ ما نقلناه من كلام الماوردي.
2. صحيح البخاري ، ج 8 ، رجم الحبلى من الزنا إذا احصنت ، ص 168 ، وطالع بقية كلامه. ولاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 1 ، ص 123. وج 2 ، ص 19.
3. الإمامة والخلافة ، ص 241.
4. الشخصيّة والدوليّة ، لمحمد كامل ياقوت ، ص 463.
5. سورة آل عمران : الآية 159.
6. نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم 161.
7. سورة الشورى : الآية 38.
8. نهج البلاغة : قسم الكتب ، الرقم 6.
9. سورة النحل : الآية 125.
10. لاحظ وقعة صفين لنصر بن مزاحم [ م 212 هـ ] ، ص 29 ، ص مصر. وقد حذف الرضي في نهج البلاغة من الرسالة ما لا يهمّه ، فإنّ عنايته كانت بالبلاغة فحسب.
11. يقول طه حسين : « ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب « نظام الشورى » لعرف المسلمون في أيّام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون ، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف » [ الخلافة والإمامة : ص 271 ].
ويقول الشيخ عبد الكريم الخطيب : « ينظر البعض إليه على أنّ تعيين الإمام بالشورى نواة صالحة لأول تجربة ، وأنّ الأيّام كفيلة بأن تنميها ، وتستكمل ما يبدو فيها من نقص ، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث.
وينظر بعض آخر إلى هذا الأسلوب بأنّه اسلوب بدائي عالج أهمّ مشكلة في الحياة ، وقد كان لهذا الأسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن أسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الأمم ». [ الخلافة والإمامة : ص 272 ].
ومعنى ما ذكره الخطيب ، أنّ قضية الشورى كانت مجرّد تجربة ، ولم تكن قانوناً إسلاميّاً أخذ به ، وكانت في هذه القضيّة نقائص وعيوب ، تركت آثاراً سيّئة على الفكر الإسلامي.
وفي المقام شبهة ، يتشدق بها بعض المتعصّبين ، نذكرها ونجيب عليها في ملحق خاصّ آخر الكتاب ، لاحظ الملحق رقم 1.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 56 ـ 61
التعلیقات