المناقشة السنديّة والدلاليّة للروايات المسحيّة
السيد علي الشهرستاني
منذ 10 سنواتالمناقشة السنديّة والدلاليّة للروايات المسحيّة
لقد اتّفقت الروايات الثنائيّة المسحيّة عن ابن عبّاس على أنّه كان يقول : « الوضوء غسلتان ومسحتان » ، ويقول : « افترض الله غسلتين و مسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين و ترك المسحتين » ، ويقول : « يأبى الناس إلّا الغسل ، و نجد في كتاب الله المسح يعني القدمين » ، أو « ولا أجد في كتاب الله إلّا المسح » ، ويقول : « ما علمنا في كتاب الله إلّا غسلتين ومسحتين » ، وقد روى العامّة ذلك عن ابن عبّاس بأسانيد صحاح بل بعضها على شرط البخاري لكنّه لم يروها في الصحيح !!! وإليك هذه الأسانيد.
الروايات المسحيّة
١ ـ قال عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان (1).
٢ ـ قال عبدالرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن جابر بن يزيد أو عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين. وقال رجل لمطر الورّاق : من كان يقول : المسح على الرجلين ؟ فقال : فقهاء كثير (2).
٣ ـ روى عبدالرزاق ، عن معمر ، عن عبدالله بن محمّد بن عقيل ، عن الرُبَيّع : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله غسل قدميه ثلاثاً ، ثمّ قالت لنا : إنّ ابن عبّاس قد دخل عليّ فسألني عن هذا [ الحديث ـ ظ ] فأخبرته ، فقال : يأبى الناس إلّا الغسل ، ونجد في كتاب لله المسح ـ يعني القدمين (3).
٤ ـ قال ابن أبي شيبة : حدّثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، عن عبدالله بن محمّد بن عقيل ، عن الربيّع بنت المعوذ بن عفراء ، قالت : أتاني ابن عبّاس فسألني عن هذا الحديث تعني حديثها الذي ذكرت أنّها رأت النبيّ توضّأ ، و أنّه غسل رجليه ـ قالت : فقال ابن عبّاس : أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلّا المسح (4).
وروى ابن ماجة مثله ، وفي الزوائد : إسناده حَسَنٌ (5).
٥ ـ قال الحميدي : حدّثنا سفيان ، قال : حدَّثنا عبدالله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني عليّ بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، أسألها عن وضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان يتوضّأ عندها ، فأتيتُها فأخرجت إليّ إناءً يكون مدّاً أو مدّاً وربع [ وفي نسخة منه : مدّاً وربعا ] بمدّ بني هاشم ، فقالت : بهذا كنت أخرج لرسول الله صلّى الله عليه وآله الوضوء فيبدأ فيغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما الإناء ، ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثاً ثلاثاً ، ويغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح برأسه مقبلاً ومدبراً ، ويغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ، قالت : و قد جاءني ابن عمّتك (6) ، فسألني عنه فأخبرته ، فقال : ما علمنا في كتاب الله إلّا غسلتين ومسحتين ، يعني ابن عبّاس.
٦ ـ قال الدارقطني : حدّثنا إبراهيم بن حمّاد ، حدّثنا العبّاس بن يزيد ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، حدّثني عبدالله بن محمّد بن عقيل : أنّ علي بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوّذ يسألها عن وضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقالت : إنّه كان يأتيهنّ وكانت تخرج له الوضوء.
قال : فأتيتها فأخرجَت إليَّ إناءً ، فقالت : في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثاً ، ثمّ يتوضّأ فيغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يمضمض ثلاثاً ، ويستنشق ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ، ثمّ يمسح برأسه مقبلاً ومدبراً ، ثمّ غسل رجليه.
قالت : وقد أتاني ابن عمٍّ لك ـ تعني ابن عبّاس ـ فأخبرتُهُ ، فقال : ما أجدُ في الكتاب إلّا غسلتين ومسحتين. فقلت لها : فبأيّ شيء كان الإناء ؟ قالت : قدر مدٍّ بالهاشمي أو مدّ وربع (7).
وروى البيهقي موضع الحاجة منه فقال : أنبأنا الفقيه أبوبكر أحمد بن محمّد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا علي بن عمر الحافظ ، حدّثنا إبراهيم بن حمّاد ، حدّثنا العبّاس بن يزيد ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، قال : أنبأنا عبدالله بن محمّد بن عقيل : أنّ عليّ بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوّذ ليسألها عن وضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فذكر الحديث في صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وآله ، و فيه : قالت : ثمّ غسل رجليه. قالت : وقد أتاني ابن عمّ لك ـ تعني ابن عبّاس ـ فأخبرتُهُ ، فقال : ما أجد في الكتاب إلّا غسلتين ومسحتين (8).
٧ ـ قال عبدالله بن أحمد بن حنبل : حدّثني أبي ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدّثني عبدالله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، فسألتُها عن وضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأخرجت له يعني إناءً يكون مدّاً أو نحو مدٍّ وربع ـ قال سفيان : كأنّه يذهب إلى الهاشمي ـ قالت : كنت أخرج له الماء في هذا فيصبّ على يديه ثلاثاً ـ وقال مرةً : يغسل يديه قبل أن يدخلهما ـ ويغسل وجهه ثلاثاً ، ويمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً ، ويغسل يده اليمنى ثلاثاً واليسرى ثلاثاً ، ويمسح برأسه ـ وقال مرّة أو مرّتين : مقبلاً ومدبراً ـ ثمّ يغسل رجليه ثلاثاً ؛ قد جاءني ابن عمٍّ لك فسألني ـ وهو ابن عبّاس ـ فأخبرته فقال لي : ما أجد في كتاب الله إلّا مسحتين وغسلتين (9).
المناقشة السنديّة
وهذه الروايات فيها من نقاط القوّة والصحّة ما تترجّح به بمراتب على الروايات المدّعية للوضوء الغسلي عن ابن عبّاس.
أمّا الإسناد الأوّل
فإنّه صحيح على شرط البخاري ـ وأن لم يخرّجه في صحيحه لعلّة لا تخفى على اللبيب ـ إذ ليس في هذا الإسناد إلّا ما قد يقال في عكرمة من أقاويل باطلة ، ولذلك قال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلّا وهو يحتجّ بعكرمة (10) ، و قال البزار : روى عن عكرمة مائة وثلاثون رجلاً من وجوه البلدان كلّهم رضوا به (11).
وعلى كلّ حال فإن لهذا الإسناد لطائف تجعله راجحاً على باقي الأسانيد بمراتب ، وهي :
أ ـ إنّ رواة هذا الطريق أئمّة ثقات ، ضابطون ، عدول ، حفاظ للحديث ، فقهاء في الشريعة ، علماء بالسّنّة.
ب ـ إنّهم هم مقصد البخاري في صحيحه ، لأنّهم بمثابة الطبقة الأولى من الطبقات التي تروي عن الزهري.
جـ ـ إنّ لكلّ من رواة هذا الطريق ملازمة طويلة ـ لا تقل عن عدّة أعوام ـ كلّ عمن يروي عنه ، و هذا ما يجعل هذا الطريق أكثر قوّة وأرجح حجيّة.
د ـ إنّ بعض رواة هذا الطريق كان أعلم من غيره بعلم ابن عبّاس ، فعن ابن عيينة قال : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عبّاس من عمرو بن دينار ؛ سمع من ابن عباس وسمع من أصحابه.
هـ ـ إنّ رواية عكرمة عن ابن عبّاس في هذا الطريق محفوفة بالقرائن التي تورث الاطمئنان ، لأنّ عكرمة كان ملازماً لابن عبّاس ، وقد اطلع على وضوئه عن حسّ لمدّة طويلة ، فيكون إخبار عكرمة عن ابن عبّاس أعلى من محض الرواية بالسماع.
و ـ إنّ الجماعة وطائفة أهل العلم قد احتجّوا برواة هذا الطريق ، وعليه فهذا الطريق حجّة عند الجميع.
ز ـ إنّ في هذا الإسناد توثيق صحابيّ لتابعي ، فقد روي عن عثمان بن حكيم ـ بسند صحيح كما صرّح بذلك ابن حجر ـ قوله : كنت جالساً مع أبي أمامة بن حنيف إذ جاء عكرمة فقال : يا أبا أمامة ، أُذكّرك الله هل سمعتَ ابن عبّاس يقول : ما حدّثكم عنّي عكرمة فصدِّ قوه فإنّه لم يكذب عَلَيَّ ؟ فقال أبو أمامة : نعم (12).
وأمّا الإسناد الثاني
فهو يمتاز أيضاً ببعض الميّزات ، منها أنّ عبدالرزاق جالس معمراً سبع أو ثمان سنين (13) ، وكان حديث عبدالرزاق عن معمر أحبّ إلى أحمد لأنّه كان يتعاهد كتبه وينظر فيها (14). ومنها أنّ معمراً جلس إلى قتادة وهو ابن أربع عشرة سنة فما سمع منه حديثاً إلّا كأنّه مُنْقَشٌ في صدره (15). وقد احتجّ الجماعة أصحاب الصحاح برواية قتادة عن جابر وعكرمة (16) ، وما قد يقال من أنّه ربّما دلّس فمدفوع هنا بأنّ عنعنته هنا محمولة على السماع لأنّ له تصريحات معتبرة بالسماع عن جابر بن زيد وعكرمة. على أنّ متن هذا الحديث قويّ من جهة كونه مشفوعاً بالإستدلال على الوضوء الثنائي المسحي ؛ إذ استدلّ ابن عبّاس بأنّ مسح المغسولَيْن وسقوط الممسوحَيْن في التيمّم ليدلّ على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان.
وأمّا الأسانيد الخمسة الباقية
فليس فيها إلّا ما قد يقال من سوء حفظ وقلّة ضبط عبدالله بن محمّد بن عقيل الذي كان بسبب طول عمره ، وأمّا وثاقته فلا كلام فيها (17) ، فهو ممّن يتابع على حديثه ، وأمّا باقي الرواة فثقات ، بل بعضهم أئمّة. وهذه الأسانيد محفوفة بقرائن ترقى بها إلى درجة الحجيّة ، وهي :
أ ـ إنّ ثلاثة من أثبات أهل العلم رووا هذا الحديث بلا زيادة ولا نقيصة عن عبدالله بن محمّد بن عقيل ، وهم : معمر بن راشد الأزدي ، وروح بن القاسم ، وسفيان بن عيينة ، وهذا يدل على أنّه كان حافظاً ضابطاً في هذا الحديث.
ب ـ ظاهر كلام الترمذي هو الاحتجاج بما يرويه عبدالله بن محمّد بن عقيل.
جـ ـ إنّ ما رواه عبدالله بن محمّد بن عقيل مُوافق للروايات المسحية الصحيحة عن ابن عبّاس ، ومعتضد بأقوال العلماء الجازمة بأنّ مذهب ابن عبّاس هو المسح على القدمين لا غير.
فهذه الأسانيد ترتقي إلى درجة الصحّة ، خصوصاً بملاحظة النصوص الأخرى الموجودة في كتب التفاسير :
تصريحات العلماء :
قال الطبري : حدّثنا أبو كريب ، قال : حدّثنا محمّد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (18).
وقال السيوطي : وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عبّاس ، قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله (19).
وقال ابن أبي حاتم : حدّثنا أبي ، حدّثنا أبو معمر المنقري ، حدّثنا عبدالوهاب ، حدّثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : هو المسح (20).
قال ابن حجر : ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك ـ أيّ الغسل ـ إلّا عن علي وابن عبّاس وأنس (21) ...
وقال موفق الدين ابن قدامة : ولم يُعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح غير من ذكرنا (22) ... وكان علي بن أبي طالب وابن عبّاس ممّن ذكرهم.
وقال أبو زرعة في حجّة القراءات : وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبوبكر ( وأرجلِكم ) خفضاً ، عطفاً على الرؤوس ، وحجّتهم في ذلك ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (23).
و قال الجصاص : قرأ ابن عبّاس والحسن و ... ( وأرجلِكم ) بالخفض ، وتأوّلوها على المسح (24).
وقال القاسمي : ولا يخفى أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ واجبها المسح كما قاله ابن عبّاس و غيره (25).
هذا ، وقد نقل كثير من أهل العلم ـ عدا من ذكرنا ـ مذهب المسح عن ابن عبّاس ، كالسرخسي (26) ، و ابن العربي (27) ، والرازي (28) ، والشوكاني (29) ، والقرطبي (30) ، وأبي حيّان الأندلسي (31) ، والقاضي ابن عطية الأندلسي (32) ، والبغوي (33) ، وابن جزي الكلبي (34) ، وغيرهم.
ومن كلّ هذا يُعلم أن صريح مذهب ابن عبّاس هو المسح لا غير ، وأنّ ما روي عنه من الوضوء الغسلي لا يمكنه أن يعارض ما ثبت عنه من المسح ، فيكون المرويّ الغسلي عنه إمّا شاذّاً وأمّا منكراً ، والرواية الشاذّة والمنكرة لا يمكنها أن تقاوم الصحيح المحفوظ.
المناقشة الدلاليّة
بعد أن فرغنا من إثبات صحّة الأسانيد المسحيّة لابن عبّاس ورجحانها على المنسوب الغسلي إليه ، نأتي إلى البحث الدلالي للروايات المسحيّة عن ابن عبّاس : فنجمل القول فيها بعدّة نقاط :
الأولى : اتّفاق النصوص المسحيّة في صراحة المسح عن ابن عبّاس ـ بخلاف الغسليّة ـ إذ المسحيّة كلّها تشير إلى حقيقة واحدة ، وهي أنّ الوضوء ما هو إلّا غسلتان ومسحتان ، وأن كان في بعضها زيادة « ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين » (35).
وفي نقل هذه الزيادة عن ابن عبّاس إشارة إلى أنّ مخالفيه كانوا من أصحاب الرأي والإستحسان ، ولأجله قرّب لهم الأمر طبقاً للرأي الّذي يتبنّونه ويعتقدون به ، ومثله الحال بالنسبة إلى إستدلاله بالقرآن واعتراضه على الربيع بما نسبت من وضوءٍ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، أيّ أنّ ابن عبّاس استدلَّ على صحّة كلامه بثلاثة أدلّة :
١ ـ القرآن الكريم ، لكونه الأصل الأوّل في التشريع الإسلامي ، وهو ما أراد الخلفاءُ حصر الإستدلال به ، فقال للربيّع ـ وفقاً لما دَعَوا له من الإستدلال ـ : لا أجد في كتاب الله إلّا مسحتين وغسلتين.
٢ ـ السنّة النّبويّة ، فإنّ رفضه لنقل الربيع يرشدنا إلى أنّ ابن عبّاس لا يقبل نسبة هذا المنقول إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، لكونه هو قد عاصره صلّى الله عليه وآله وبات في بيته ورأى وضوءه وصلّى معه وشمله دعاؤه و ...
٣ ـ إلزامهم بما يعتقدون به من وجوه التأويل والتفسير والرأي ، مع تأكيدنا على أنّ ابن عبّاس كان لا يرتضي الرأي بل يتعبّد بالنصوص القرآنيّة والحديثيّة ، وأن تمسّكه بهذه الجملة جاء من باب إلزام الآخرين بما يعتقدونه ويقولونه.
الثانية : كثرة الرواة الّذين رووا عن ابن عبّاس المسح ، فقد روى ذلك عنه الربيّع بنت المعوذ (36) وعكرمة (37) وجابر (38) ويوسف بن مهران (39).
وأغلب هؤلاء من تلامذة ابن عبّاس ، وبينهم من دوّن عنه أحاديثه ، بعكس رواة الغسل عنه ، فهم أقلّ عدداً وليسوا ممّن اختصّ بابن عبّاس ؛ إذ عرفت انحصار رواية الغسل عنه بعطاء بن يسار وسعيد بن جبير ، وسعيد وأن كان من المدوّنين لحديث ابن عبّاس لكنّا بيّنا ضعف الطريق إليه بوجود عبّاد بن منصور فيه ، وهو المضعَّف عند الجميع ، وحينما سقطت رواية سعيد بن جبير بقي طريق عطاء بن يسار ، وهذا ـ أيّ عطاء ـ لم يختص بابن عبّاس ولم يدوِّن عنه ، بعكس رواة المسح حسبما ستعرف.
الثالثة : سعى أهل الإجتهاد والرأي ـ من خلال رسم أصول الجرح والتعديل ـ لتضعيف رواة الوضوء المسحي ؛ لا لكونهم قد رووا الوضوء المسحيّ حسب ، بل لروايتهم أحاديث غريبة منكرة بنظرهم لم يألفوها في كتبهم وصحاحهم !!
نعم ، إنّهم قد ضعفوا أئمّة حفاظاً كانت الجماعة ـ أصحاب الصحاح والسنن ـ قد روت لهم في موارد أخرى ، واعتبروا روايتهم لهذه الأحاديث جرحاً لهم لكونها منكرة وغريبة بنظرهم !! فمثلاً لو لحظت الإسناد الأوّل من الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس ، لرأيت رواته أئمّة حفاظاً ؛ قد روى لهم أئمّة الصحاح والسنن ، والطريق هو « عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عبّاس ... ».
فعبدالرزاق قد احتجّ به الجماعة (40) ، وهكذا ابن جريج (41) ، ومثله عمرو بن دينار (42) وعكرمة (43).
وبما أنّ الجماعة قد رووا لهؤلاء وثبت لكلّ واحد منهم ملازمة طويلة لمن يروي عنه ـ مع أنّ بينهم من هو أعلم بعلم ابن عبّاس من غيره ـ فلماذا لم تُروَ هذه الرواية وأمثالها في صحاح القوم ؟!
ألم يقع هؤلاء البخاري عن سليمان بن بلال ـ الّذي تحتاج روايته إلى تابع ـ ولا يخرّج خبر ابن عبّاس « لا أجد في كتاب الله إلّا مسحتين وغسلتين » بالإسناد الصحيح المتقدّم ، مع أنّ رواته أئمّة حفّاظ وقد أخرج لهم في مواطن أخرى ؟!! واحتجّ بهم بشكل ليس معه ريب ؟!!
الرابعة : إنّ الباحث في النصوص المسحيّة عن ابن عبّاس يعرف أنّها نصوص استنكاريّة فيها إشارة إلى موقف ابن عبّاس الإعتراضي على ثقل الاتّجاه المقابل ، ومثله الحال بالنسبة إلى خبر ابن عقيل ، فإنّ عليّ بن الحسين حينما أرسله إلى الربيّع لم يكن لأخذ الحكم عنها ، بل جاء ليسألها عن ادّعائها لوضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وكيف بهم ـ وهم أهل بيت النّبوة ـ لا يعرفون ما تحكيه عنه صلّى الله عليه وآله ؟!
نعم ، جاءها كي يثبت لها مخالفة ما تدّعيه للثابت المقطوع عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، حيث تواترت الأخبار عنه صلّى الله عليه وآله أنّه كان يتوضّأ بالمدّ (44) ويغتسل بالصاع ، وهذا لا يتطابق مع ما ترويه عنه صلّى الله عليه وآله.
وقد فهمتَ الرُبيِّعُ غرضَ ابن عقيل الإستنكاري فقالت له : « وقد جاءني ابن عمّ لك » تعني به ابن عبّاس ، فلمّحت بقولها إلى أنّ الطالبيين لا يرتضون نقلها لمخالفته ما عرفوه من سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله والقرآن الحكيم.
فابن عقيل أكّد إشكاله وسؤاله بصورة أخرى فقال ، « فقلت لها : فبأي شيء كان الإناء ؟
قالت : قدر مدٍّ أو مدٍّ وربع ».
فجملة « فبأيّ شيءٍ كان الإناء » أراد بها ابن عقيل بيان أمرين :
أوّلهما : إرشادها إلى سقم رؤيتها ، لأنّه صلّى الله عليه وآله لو كان يمسح رأسه مقبلاً ومدبراً ، ويغسل رجليه ثلاثاً لاحتاج إلى أكثر من مدّ ؛ لعدم كفاية المُدّ لغسل تمام أعضاء الوضوء ، وهذا التشكيك من ابن عقيل هو الّذي حدا بالربيع أن تزيد في قدر المدّ !! فقالت : قدر مدّ بالهاشمي أو مدّ وربع.
فإنّها انتبهت إلى عدم إمكان إيفاء المدّ من الماء بمسح الرأس كلّه مقبلاً ومدبراً مع غسل الرجلين وبقيّة الأعضاء ثلاثاً ، فأتت بتلك الزيادة كي تعذر نفسها !!
وثانيهما : إنّ ابن عقيل أراد أن يرى الإناء الّذي ادَّعت أنَّها كانت تصبّ فيه الماء لرسول صلّى الله عليه وآله كي يوضّح لها على ضوئه بأنّ ما تقوله لا يلائم ما تفرضه من حجم الماء الّذي فيه ؛ لأنّ الماء الموجود في هذا الظرف الصغير لا يمكنه غسل الرجلين ثلاثاً !! أيّ أنّ ابنَ عقيل أراد أن يوضّح لها كذب كلامها على وجه الدّقة والتحقيق لا الحدس والتخمين !!
كان هذا مجمل القول في الروايات المسحيّة عن ابن عبّاس ، وقد عرفت أنّها تُرَجَّحُ على الغسليّة ، بكثرة الطرق ، ووحدة النّص وعدم الاضطراب فيها و ... بعكس الطرق الغسليّة.
والّذي يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ جمعاً من تلامذة ابن عبّاس كانوا قد دوّنوا أحاديثه ، منهم : ابن أبي مليكة (45) والحكم بن مقسم (46) وسعيد بن جبير (47) وعلي بن عبدالله بن عبّاس (48) وعكرمة (49) وكريب (50)و مجاهد (51) ونجدة الحروري (52) وعمرو بن دينار (53) ولم نَرَ بين هؤلاء اسم عطاء بن يسار ـ راوي الغسل عن ابن عبّاس ـ و لم يصحّ طريق سعيد بن جبير إلى ابن عبّاس لوجود عباد بن منصور فيه ، بعكس الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس فقد ثبت ذهاب عكرمة إلى المسح ، و نقل عمرو بن دينار : أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عبّاس : « الوضوء غسلتان ومسحتان » ، وهما ممّن اختصّوا بابن عبّاس ورووا أحاديثه في المدوّنات.
قال سفيان : قال لي عمرو بن دينار : ما كنت أجلس عند ابن عبّاس ، ما كتبت عنه إلّا قائماً.
ونقل ابن عيينة عن سفيان قوله : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عبّاس رضي الله عنه من عمرو بن دينار ، سمع ابن عبّاس وسمع أصحابه.
فاستبان إذن أنّ خبر المسح هو الأرجح نسبةً إلى ابن عبّاس بخلاف الغسل ، ويؤكّده جردنا لرواة أسانيد الغسل والمسح عنه ـ في نسبة الخبر إليه ـ إذ ترى غالب الّذين رووا عن ابن عبّاس المسح ـ وفي جميع الطبقات ـ كانوا من أصحاب المدوّنات ، بعكس رواة الغسل فلم يكن فيهم إلّا سعيد بن جبير ـ الّذي لم يثبت الطريق إليه ، لوجود عبّاد بن منصور المضعّف عند الجميع في خبره ـ وسليمان بن بلال ، ومحمّد بن عجلان وعبدالله بن إدريس ، وهؤلاء كانوا من المدوِّنين إلّا أنّهم من المدوِّنين في عصر التدوين الحكومي ـ أيّ بعد عمر بن عبدالعزيز ـ فلا أهميّة لمدوّناتهم ، بعكس رواة المسح ؛ فإنّهم أئمّة متقدّمون ، كعلي بن الحسين « زين العابدين » ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، وعبدالله بن محمّد بن عقيل ، وجابر بن زيد وغيرهم ، فهؤلاء قد دوّنوا الحديث قبل عصر التدوين الحكومي ، ولذلك تكون لمدوّناتهم قيمة أكثر ومنزلة أعظم.
وبهذا اتّضح أنّ الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس هي أقوى سنداً ودلالة ، وقد رويت بطرق متعدّدة وفي جميع الطبقات عن المدوِّنين ، وهذا يؤكّد أنّ استقرار الوضوء المسحي ثبت بجهود المدوِّنين القدماء على مرّ الأجيال.
الهوامش
1. مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٥ وعنه في كنز العمال : رقم ٢٢١١.
2. مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٤.
3. مصنف عبدالرزاق ١ : ٢٢ / ح ٦٥ وعنه في كنز العمال.
4. مصنف بن أبي شيبة ١ : ٣٧ / ح ٩٩.
5. سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / ح ٤٥٨.
6. كذا في الأصل ، والصواب « ابن عمّ لك » كما في السنن الكبرى للبيهقي ومسند أحمد من طريق سفيان.
7. سنن الدارقطني ١ : ٩٦ / ح ٥.
8. السنن الكبرى ، للبيهقي ١ : ٧٢ ، باب « إنَّ فرض الرجلين الغسل وأن مسحهما لا يجزي ».
9. مسند أحمد ٦ : ٣٥٨.
10. تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٩ ، تاريخه الكبير ٧ : الترجمة ٢١٨ وانظر جواب ابن حجر عن جميع التهم الموجهة لعكرمة في مقدمة فتح الباري : ٤٢٤.
11. مقدّمة فتح الباري : ٤٢٨.
12. مقدّمة فتح الباري : ٤٢٧ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧١.
13. تهذيب الكمال ١٨ : ٥٦.
14. تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧ عن الاثرم عن أحمد ، و في ٥٨ عن أبي زرعة قريب منه.
15. تهذيب الكمال ٢٨ : ٣٠٦.
16. انظر تهذيب الكمال ٢٣ : ٤٩٩ ، ٥٠١.
17. انظر ترجمته في تهذيب الكمال ١٦ : ٧٨ ، وسير اعلام النبلاء ٦ : ٢٠٤.
18. تفسير الطبري ٦ : ٨٢.
19. الدر المنثور ٢ : ٢٦٢.
20. تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، شرح معاني الآثار ١ : ٤٠.
21. فتح الباري ١ : ٢١٣ ، ونحوه عن الشوكاني في نيل الأوطار ١ : ٢٠٩.
22. انظر المحلى ١ ـ ٢ : ٥٦ المسألة ٣٠٠.
23. المغني ١ : ١٥١ المسألة ١٧٥.
24. أحكام القرآن ، للجصاص ٢ : ٣٤٥.
25. تفسير القاسمي ٦ : ١١١.
26. المبسوط ، للسرخسي ١ : ٨.
27. أحكام القرآن ، لابن العربي ٢ : ٥٧٧.
28. التفسير الكبير ، للرازي ١١ : ٤٥٢.
29. فتح القدير ، للشوكاني ٢ : ١٨.
30. الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢.
31. البحر المحيط ٣ : ٤٥٢.
32. المحرر الوجيز ٢ : ١٦٢.
33. تفسير البغوي « معالم التنزيل » ٢ : ١٦.
34. التسهيل لعلوم التنزيل ، لابن جزي الكلبي ١ : ١٧٠.
35. مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٤.
36. كما مرّ عليك في الأسانيد المسحيّة عن ابن عبّاس و شهادة الربيّع بأنّ مذهب ابن عبّاس هو المسح.
37 ـ 38. الماران قبل قليل.
39. تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤.
40. اُنظر تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧.
41. اُنظر تهذيب الكمال ١٨ : ٣٣٨.
42. اُنظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤.
43. فقد روى له مسلم مقروناً بغيره ثمّ رجع واحتجّ به كما احتجّ به الباقون « اُنظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤ ».
44. وهو قُرابة ٧٥٠ غراماً. وقيل : المدّ هو مِلْءُ كفَّي المعتدل إذا ملاُهما ومَدَّ يَدهُ بهما ؛ وبه سُمِّيَ مُدّا. أقرب الموارد ٢ : ١١٩٢ نقلاً عن الفيروزآبادي.
45. مقدّمة صحيح مسلم : ١٣ ، صحيح البخاري الرهن ٦ ، الشهادات ٢٠ ، مسند أحمد ١ : ٢٤٣ ، ٣٥١ ، السنن الكبرى ٦ : ٨٣.
46. فتح المغيث ٢ : ١٣٨.
47. العلل ١ : ٥٠ ، الطبقات لابن سعد ٦ : ١٧٩ ، تقييد العلم : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، تاريخ أبي زرعة : ١١٩ ـ أ.
48. الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ٢١٦.
49. الفهرست ، لابن النديم : ٣٤.
50. الطبقات الكبرى ٥ : ٢١٦.
51. الفهرست : ٣٣.
52. مسند أحمد ١ : ٢٢٤ ، ٢٤٨ ، ٢٩٤ ، ٣٠٨ ، مسند الحميدي ١ : ٢٤٤ ، صحيح مسلم ، الجهاد ١٣٧ ـ ١٤١ ، الاصابة ٢ : ٢٣٤.
53. تاريخ الفسوي ٣ : ٥ ، تاريخ أبي زرعة ٧٨ ب كما في الدّراسات للاعظمي ١ : ١١٨.
مقتبس من كتاب : [ وضوء عبد الله بن عبّاس ] / الصفحة : 23 ـ 39
التعلیقات