في الفطحيّة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ سنةفي الفطحية
الفطحية : هم القائلون بإمامة الأئمّة الاثني عشر مع عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق عليه السلام يدخلونه بين أبيه الصادق وأخيه الكاظم عليهما السلام وقد كان عبد الله أفطح الرأس.
والأفطح كما في اللسان : عريض الرأس ، ورأس أفطح ومفطّح : عريض. (1)
وقال الطريحي : أفطح الرجلين : عريضهما (2) وربما يفسّر باعوجاج في الرجل.
كان عبد الله بن جعفر الصادق عليه السلام قد ادّعى الإمامة والوصاية ، بعد رحيل أبيه ، وكان هو أكبر أولاد الإمام بعد إسماعيل المتوفىٰ في حياته ، فتمسّك القائلون بإمامته بحديث رووه عن الإمام أنّه قال : « الإمامة في الأكبر من ولد الإمام » ولم يكن حظّه من الدنيا بعد رحيل أبيه إلّا سبعين يوماً ، فقد تُوفي أبوه الصادق عليه السلام في الخامس والعشرين من شهر شوال عام 148 هـ ، فيكون قد توفي في خامس شهر ذي الحجة الحرام من نفس السنة وبرحيله عاد القائلون بإمامته إلى إمامة الإمام موسى الكاظم عليه السلام. ولقد ظهرت منه أشياء لا ينبغي أن تظهر من الإمام لمّا امتحنوه بمسائل من الحلال والحرام ولم يكن عنده جواب ، وإليك ما وقفنا عليه من النصوص :
1. قال الحسن بن موسى النوبختي : قالت الفطحية : الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر الأفطح ، وذلك أنّه كان عند مضيّ جعفر ، أكبرُ وُلْدِه سناً وجلس مجلس أبيه وادّعى الإمامة ووصية أبيه ، واعتلّوا بحديث يروونه عن أبي عبد الله جعفر بن محمد أنّه قال : الإمامة في الأكبر من وُلْد الإمام ، فمالَ إلى عبد الله والقول بإمامته جُلَّ من قال بإمامة أبيه جعفر بن محمد غير نفر يسير عرفوا الحقّ فامْتَحنَوا عبد الله بمسائل في الحلال والحرام من الصلاة والزكاة وغير ذلك فلم يجدوا عنده علماً ، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر هي « الفطحية » وسُمّوا بذلك لأنّ عبد الله كان أفطح الرأس ، وقال بعضهم : كان أفطح الرجلين ، وقال بعض الرواة : نُسِبُوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبد الله بن فطيح ، ومال إلى هذه الفرقة جلّ مشايخ الشيعة وفقهائها ولم يشكّوا في أنّ الإمامة في « عبد الله بن جعفر » وفي وُلْده من بعده ، فمات عبد الله ولم يخلِّف ذكراً ، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته ـ سوى قليل منهم ـ إلى القول بإمامة « موسى بن جعفر » ، وقد كان رجع جماعة منهم في حياة عبد الله إلى موسى بن جعفر عليهما السلام ، ثمّ رجع عامتهم بعد وفاته عن القول به ، وبقى بعضهم على القول بإمامته ثمّ إمامة موسى بن جعفر من بعده ، وعاش عبد الله بن جعفر بعد أبيه سبعين يوماً أو نحوها. (3)
2. وقال الكشي : هم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر بن محمد ، وسُمُّوا بذلك لأنّه قيل إنّه كان أفطح الرأس ، وقال بعضهم : كان أفطح الرجلين ، وقال بعضهم : إنّهم نسبوا إلى رئيس من أهل الكوفة يقال له « عبد الله بن فطيح » والذين قالوا بإمامته عامة مشايخ العصابة وفقهائها ، مالوا إلى هذه المقالة فَدَخلْت عليهم الشبهة لما روي عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا : الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى إمام. ثمّ منهم من رجع عن القول بإمامته لما امتحنه بمسائل من الحلال والحرام لم يكن عنده فيها جواب ، ولِما ظهر منه من الأشياء التي لا ينبغي أن يظهر من الإمام.
ثمّ إنّ عبد الله مات بعد أبيه بسبعين يوماً ، فرجع الباقون إلّا شاذاً منهم عن القول بإمامته إلى القول بإمامة أبي الحسن موسى عليه السلام ورجعوا إلى الخبر الذي روي : أنّ الإمامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام وبقى شذّاذ منهم على القول بإمامته ، وبعد أن مات قال بإمامة أبي الحسن موسى عليه السلام.
وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال لموسى : « يا بني انّ أخاك سيجلس مجلسي ، ويدّعي الإمامة بعدي ، فلا تنازعه بكلمة ، فإنّه أوّل أهلي لحوقاً بي ». (4)
3. ونقل في ترجمة « هشام بن سالم الجواليقي » أنّه قال : كُنّا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله عليه السلام أنا ومؤمن الطاق أبو جعفر ، والناس مجتمعون على أنّ عبد الله صاحب الأمر بعد أبيه ، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق ، والناس مجتمعون عند عبد الله وذلك أنّهم رووا عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة ، فدخلنا نسأله عمّا كنّا نسأل عنه أباه ، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال : في مائتين خمسة. قلنا : ففي مائة ؟ قال : درهمان ونصف درهم. قلنا له : والله ما تقول في المرجئة هذا ؟! ، فرفع يده إلى السماء فقال : لا والله ما أدري ما تقول المرجئة. قال : فخرجنا من عنده ضُلّالاً لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارىٰ لا ندري إلى من نقصد ، وإلى من نتوجه ، نقول : إلى المرجئة ، إلى القدرية ، إلى الزيدية ، إلى المعتزلة ، إلى الخوارج.
قال : فنحن كذلك إذ رأيتُ رجلاً شيخاً لا أعرفه يُومي إليّ بيده ، فخفتُ أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر (5) ، وذلك أنّه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتّفق من شيعة جعفر فيضربون عنقه ، فخفتُ أن يكون منهم ، فقلت لأبي جعفر : تنحّ فإنّي خائف على نفسي وعليك ، وإنّما يريدني ليس يريدك ، فتنحَّ عني لا تُهْلَك وتُعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك انّي ظننت أنّي لا أقدر على التخلّص منه ، فما زلتُ أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى عليه السلام ثمّ خلّاني ومضى ، فإذا خادم بالباب ، فقال لي : أُدخل رحمك الله.
قال : فدخلت فإذا أبو الحسن عليه السلام فقال لي ابتداءً : « لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية ، ولا إلى الزيدية ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إليّ إليّ إليّ ». قال : فقلتُ له : جعلتُ فداك مضى أبوك ؟ قال : « نعم ». قال : قلت : جعلتُ فداك مضى في موتٍ ؟ قال : « نعم ». قلتُ : جعلتُ فداك فمَنْ لنا بعده ؟ فقال : « إن شاء الله أن يهديك ، هداك ». قلت : جعلتُ فداك إنّ عبد الله يزعم أنّه من بعد أبيه ؟ فقال : « يريد عبد الله أن لا يُعبد الله ». قال : قلتُ : جعلتُ فداك فمن لنا بعده ؟ فقال : « إن شاء الله أن يهديك هداك » أيضاً. قلت : جعلت فداك أنت هو ؟ قال : « ما أقول ذلك » ، قلت في نفسي : لم أُصبْ طريقَ المسألة. قال : قلت : جعلتُ فداك عليك إمام ؟ قال : « لا ». قال : فدخلني شيء لا يعلمه إلّا الله إعظاماً له ، وهيبة أكثر ما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلتُ عليه ، قلت : جعلتُ فداك أسألك عمّا كان يسأل أبوك ؟ قال : « سل تُخبر ، ولا تُذِع ، فإن أذعت فهو الذبح ». قال : فسألته فإذا هو بحر.
قال : قلت : جعلت فداك شيعتُك وشيعة أبيك ضُلّال فألقي إليهم وأدعهم إليك فقد أخذت عليّ بالكتمان ؟ فقال : « من آنست منهم رشداً فالق عليهم ، وخذ عليهم بالكتمان ، فإن أذاعوا فهو الذبح ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ » قال : فخرجتُ من عنده فلقيتُ أبا جعفر ، فقال لي : ما وراك ؟ قال : قلت : الهدى.
قال : فحدثتُه بالقصة ، ثم لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير. قال : فدخلوا عليه وسلّموا وسمِعوا كلامَه وسألوه. قال : ثمّ قطعوا عليه ، قال : ثمّ لقينا الناس أفواجاً.
قال : وكان كل من دخل عليه قطع عليه إلّا طائفة مثل عمار وأصحابه ، فبقي عبد الله لا يدخل عليه أحد إلّا قليلاً من الناس. قال : فلمّا رأى ذلك وسأل عن حال الناس ؟ قال : فأُخبر أنّ هشام بن سالم صدّ عنه الناس. قال : فقال هشام : فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني. (6)
4. وقال الأشعري ( 260 ـ 324 هـ ) عند عدّ فرق الشيعة : ومنهم من يزعم أنّ الإمام بعد جعفر ابنه « عبد الله بن جعفر » وكان أكبرَ من خلَف من ولده وهي في ولده ، وأصحاب هذه المقالة يدعون العَمّارية ، نُسِبوا إلى رئيس لهم يعرف بـ « عمّار » ، ويدعون الفطحية ، لأنّ عبد الله بن جعفر كان أفطحَ الرجلين ، وأهل هذه المقالة يرجعون إلى عدد كثير.
فأمّا زرارة فإنّ جماعة من العمّارية تدّعي أنّه كان على مقالتها ، وأنّه لم يرجع عنها ، وزعم بعضهم أنّه رجع إلى ذلك حين سأل « عبد الله بن جعفر » عن مسائل لم يجد عنده جوابها ، وصار إلى الائتمام بموسى بن جعفر بن محمد ، وأصحاب زرارة يدعون « الزرارية » ويدعون « التميمية ». (7)
5. وتبعه البغدادي ولخّص كلامه قائلاً : العمارية وهم منسبون إلى زعيم منهم يسمّى عماراً ، وهم يسوقون الإمامة إلى جعفر الصادق ، ثمّ زعموا انّ الإمام بعده ولده عبد الله ، وكان أكبر أولاده ، وكان أفطح الرجلين ، ولهذا قيل لأتباعه « الفطحية ». (8)
وقد خبط الرجلان فاخترعا فرقة باسم العَمّارية نسبة إلى عمار بن موسى الساباطي ، مع أنّه رجل من أتباع « عبد الله » وأكثر ما يمكن أن يقال أنّه كان داعياً ، لا صاحب مذهب.
وأمّا اتّهام الأشعري زرارة بن أعين بأنّه كان من الفطحية مدة ثمّ رجع عنها ، فليس له سند إلّا روايات ضعاف ، كأكثر ما ورد في حقّ زرارة من الروايات الذامّة. (9)
مع أنّ الصحيح في حقّه ما نقله الصدوق في « كمال الدين » عن إبراهيم بن محمد الهمداني ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت للرضا عليه السلام يا بن رسول الله أخبرني عن زرارة ، هل كان يعرف حقّ أبيك ؟ فقال عليه السلام : « نعم » ، فقلتُ له : فلمَ بعث ابنه عبيداً ليتعرف الخبر إلى من أوصى الصادق جعفر بن محمد عليه السلام ؟ فقال : « إنّ زرارة كان يعرف أمر أبي عليه السلام ونصّ أبيه عليه ، وإنّما بعث ابنه ليتعرّف من أبي هلْ يجوز له أن يرفع التقية في إظهار أمره ، ونصّ أبيه عليه ؟ وانّه لمّا أبطأ عنه طُولب بإظهار قوله في أبي عليه السلام ، فلم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره فرفع المصحف ، وقال : اللّهمّ إنّ إمامي من أثبت هذا المصحف إمامتَه من ولد جعفر بن محمد عليه السلام ». (10)
6. وقال الشهرستاني : « الفطحية قالوا بانتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه عبد الله الأفطح ، وهو أخو إسماعيل من أبيه وأُمّه ، وأُمّهما فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي ، وكان أسن أولاد الصادق.
زعموا أنّه قال : الإمامة في أكبر أولاد الإمام. وقال : الإمام من يجلس مجلسي ، وهو الذي جلس مجلسه. والإمام لا يغسّله ، ولا يصلّي عليه ، ولا يأخذ خاتمه ، ولا يواريه إلّا الإمام. وهو الذي تولّى ذلك كلّه. ودفع الصادق وديعة إلى بعض أصحابه وأمره أن يدفعها إلى من يطلبها منه وأن يتخذه إماماً. وما طلبها منه أحد إلّا عبد الله ، ومع ذلك ما عاشَ بعد أبيه إلّا سبعين يوماً ومات ولم يعقب ولداً ذكراً. (11)
لقد غاب عن الشهرستاني مفاد قوله عليه السلام : « الإمام من يجلس مجلسي » ، فلو صدر منه ذلك القول ، فالمراد منه ما يقوم بمثل ما كان الإمام يقوم به في مجال بيان الأُصول والفروع ، وملء الفراغ الحاصل من رحيله ، لا مجرّد جلوسه في مكانه وإن كان جاهلاً بأبسط المسائل.
كما أنّه لم يثبت أنّ عبد الله تولّى غسل الإمام والصلاة عليه.
وقد روىٰ ابن شهر آشوب عن أبي بصير ، عن موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال : « فيما أوصاني به أبي أن قال : يا بنيّ إذا أنا متُّ فلا يغسّلني أحد غيرك ، فإنّ الإمام لا يغسّله إلّا إمام ، واعلم أنّ « عبد الله » أخاك سيدعو الناس إلى نفسه فدعه ، فإنّ عمره قصير. فلمّا أن مضى غسلته ... ». (12)
7. وقال الصدوق : قال الصادق لأصحابه في ابنه عبد الله : « إنّه ليس على شيء فيما أنتم عليه وانّي أبرأ منه ، برئ الله منه ». (13)
8. قال المفيد : وكان عبد الله بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل ، ولم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام ، وكان متهماً بالخلاف على أبيه في الاعتقاد. ويقال أنّه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذاهب المرجئة ، وادّعى بعد أبيه الإمامة ، واحتج بأنّه أكبر إخوته الباقين ، فاتّبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام ، ثمّ رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى عليه السلام ، لمّا تبيّنوا ضعفَ دعواه وقوة أمر أبي الحسن عليه السلام ودلالة حقّه وبراهين إمامته ، وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد الله وهم الطائفة الملقبة بالفطحية ، وإنّما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد الله وكان أفطح الرجلين ، ويقال انّهم لقبوا بذلك لأنّ داعيهم إلى إمامة عبد الله كان يقال له عبد الله بن الأفطح. (14)
وقال أيضاً : وأمّا الفطحية فإنّ أمرها أيضاً واضح ، وفساد قولها غير خاف ولا مستور عمّن تأمله ، وذلك أنّهم لم يدّعوا نصاً من أبي عبد الله عليه السلام على عبد الله ، وانّما عملوا على ما رووه من أنّ الإمامة تكون في الأكبر ، وهذا حديث لم يُرو قط إلّا مشروطاً ، وهو أنّه قد ورد أنّ الإمامة تكون في الأكبر ما لم تكن به عاهة ، وأهل الإمامة القائلون بإمامة موسى بن جعفر عليه السلام متواترون بأنّ عبد الله كان به عاهة بالدين ، لأنّه كان يذهب إلى مذاهب المرجئة الذين يقعون في علي عليه السلام وعثمان ، وانّ أبا عبد الله عليه السلام قال وقد خرج من عنده : « عبد الله هذا مرجئ كبير » وانّه دخل عليه عبد الله يوماً وهو يحدث أصحابه ، فلمّا رآه سكت حتى خرج ، فسئل عن ذلك ؟ فقال : « أو ما علمتم أنّه من المرجئة » هذا مع أنّه لم يكن له من العلم بما يتخصص به من العامة ، ولا رُوي عنه شيء من الحلال والحرام ، ولا كان بمنزلة من يستفتى في الأحكام ، وقد ادّعى الإمامة بعد أبيه ، فامتحن بمسائل صغار فلم يجب عنها وما أتى بالجواب ، فأيّ علّة ممّا ذكرناه تمنع من إمامة هذا الرجل ، مع أنّه لو لم تكن علّة تمنع من إمامته ، لما جاز من أبيه صرف النص عنه ، ولو لم يكن صرفه عنه لأظهره فيه ، ولو أظهره لنقل وكان معروفاً في أصحابه ، وفي عجز القوم عن التعلّق بالنص عليه دليل على بطلان ما ذهبوا إليه. (15)
بقيت هنا أُمور :
الأوّل : الظاهر ممّا ذكرنا أنّ أكثر القائلين بإمامة عبد الله بن جعفر عدلوا عن رأيهم ، وقالوا بإمامة أخيه موسى بن جعفر بعد إمامة أبيه جعفر الصادق ، وأمّا القليل منهم فقال بإمامة موسى بن جعفر بعد الأفطح ، فصار عبد الله الإمام السابع ، وأخوه موسى الإمام الثامن ، وبذلك يتجاوز عدد الأئمّة عن الاثني عشر ، ولا أظن أنّهم وقفوا على عبد الله من دون الاعتقاد بإمامة الآخرين ، وإلّا كانوا واقفة لا فطحية ، وسيوافيك الكلام في المذهب الواقفي عن قريب إن شاء الله.
الثاني : الظاهر ممّا نقله الصدوق عن بعضهم أنّ القائلين بإمامة عبد الله كانوا معروفين بالشمطية كما أنّ بعض الفطحية قال بإمامة إسماعيل بن جعفر بعد رحيل عبد الله ، وإليك نص الصدوق ناقلاً عن بعضهم :
قال : قال صاحب الكتاب : وهذه الشمطية تدّعي إمامة عبد الله بن جعفر بن محمد من أبيه بالوراثة والوصية ، وهذه الفطحية تدّعي إمامة إسماعيل ابن جعفر عن أبيه بالوراثة والوصية وقبل ذلك إنّما قالوا بإمامة عبد الله بن جعفر ويسمّون اليوم إسماعيلية. لأنّه لم يبق للقائلين بإمامة عبد الله بن جعفر خلف ولا بقية ، وفرقة من الفطحية يقال لهم القرامطة ، قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر بالوراثة والوصية ، وهذه الواقفة على موسى بن جعفر تدّعي الإمامة لموسى وترتقب لرجعته. (16)
الثالث : بما أنّ أكثر القائلين بإمامة الأفطح رجعوا عن رأيهم بعد ظهور الحقّ ، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لجرحهم ، نعم من بقى منهم على عقيدته ، وآمن بإمامة موسى بن جعفر أو إسماعيل بن جعفر حكمهم حكم سائر فرق الشيعة إذا كانوا متثبتين في القول ، فيؤخذ برواياتهم ، وإلّا فلا.
الرابع : انّ عدّ الفطحية مذهباً ونحلة ، أمر غير صحيح لوجهين :
أحدهما : أنّ القول بإمامة عبد الله نشأ عن شبهة ، دخلت في أذهانهم ، ثمّ زالت الشبهة ، ولم يبق إلّا القليل.
وثانيهما : أنّ النحلة عبارة عن آراء في الأُصول والعقائد أو في الفروع والأحكام تكون سبباً لتمييز طائفة عن أُخرى ، وأمّا الاتّفاق في عامة الأُصول مع اختلاف في أمر واحد ، كالاعتقاد بإمامة عبد الله ، فهذا ما لا يبرر عدّ القول به نحلة ، والقائلون به فرقة.
نعم ، من يريد تكثير النحل ، وزيادة عدد الفرق ، يصحّ له ذكرهم فرقة من الفرق.
الخامس : انّ الفطحية وإن اشتركت مع الواقفية في مسألة عدم الاعتراف بالإمام الحقيقي ، ولكن الطائفة الأُولى كانت أقل تعصباً من الأُخرى بدليل أنّهم اعترفوا بإمامة موسى الكاظم عليه السلام بعد رحيل إمامهم الأفطح ، لكن بين مُخطِّئ نفسه في الاعتقاد بإمامة الأفطح ، وبين مصوِّب إمامته مع إمامة الكاظم عليه السلام إلّا أنّ الواقفية كانت متعصبة جدّاً حيث وقفت على إمامة موسى الكاظم عليه السلام ولم تتجاوزه ، وجرت مناظرات بينهم وبين القطعية الذين قطعوا بإمامة ابن الكاظم ، علي بن موسى الرضا عليهما السلام.
يقول المجلسي الأوّل : واعلم أنّ الفطحية كانوا أقربَ إلى الحقّ من الواقفية ، أو هم أبعد عن الحقّ من الفطحية ، لأنّ الفطحية لا ينكرون بقية الأئمّة عليهم السلام وكانوا يقولون بإمامتهم ، ولهذا شُبهُوا بالحمير ، بخلاف الواقفة ، فإنّهم شُبهوا بالكلاب الممطورة ، والشيخ ذكر الواقفية في كتاب الغيبة وأبطل مذهبهم بالأخبار التي نقلوها. (17)
وقال العلّامة المامقاني : لا يخفى عليك أنّ القول بالفطحية أقرب مذاهب الشيعة إلى الحقّ من وجهين :
أحدهما : انّ كلّ مذهب من المذاهب الفاسدة يتضمّن إنكار بعض الأئمّة عليهم السلام ، ومن المعلوم بالنصوص القطعية ، أنّ من أنكر واحداً منهم كان كمن أنكر جميعهم ، والفطحي يقول بإمامة الاثني عشر جميعاً ويضيف عبد الله بين الصادق والكاظم عليهما السلام ، فهو يقول بإمامة ثلاثة عشر ، ويحمل أخبار الاثني عشر إماماً على الاثني عشر مِنْ ولد أمير المؤمنين عليهم السلام ، فلا يموت الفطحي إلّا عارفاً بإمام زمانه بخلاف من ماتَ من أهل سائر المذاهب فإنّه يموت جاهلاً بإمام زمانه.
نعم من مات من الفطحية في السبعين يوماً زمان حياة عبد الله بعد أبيه مات غير عارف لإمام زمانه فمات ميتة جاهلية بخلاف من مات بعد وفاة عبد الله.
ثانيهما : انّ كلّ ذي مذهب من المذاهب الفاسدة قد تلقّى ممّن يعتقده إماماً من غير الاثني عشر فروعاً مخالفة لفروعنا بخلاف الفطحية فإنّ عبد الله لم يبق إلّا سبعين ولم يتلقّوا منه حكماً فرعياً وإنّما يعملون في الفروع بما تلقّوه من الأئمة الاثني عشر ، فالفطحية قائلون بالاثني عشر ، عاملون بما تلقّوه من الاثني عشر ، فليس خطأهم إلّا زيادة عبد الله سبعين يوماً بين الصادق والكاظم عليهما السلام ، وإيراث ذلك الفسقَ محلّ تأمّل. (18)
يلاحظ على الثاني : بأنّ الواقفية أيضاً مثل الفطحية لم يتلقّوا فروعاً من غير الأئمّة ، نعم انّ الفطحية أخذوا منهم جميعاً والواقفية اقتصرت على الأئمّة السبعة ، فما ذكره من الوجه الثاني لا يعد فرقاً بين الطائفتين.
مشاهير الفطحية
انّ هناك لفيفاً من رواة الشيعة وُصفوا بالفطحية ، وهم بين من ثبت على القول بإمامة الأفطح ومن رجع عنه ، وإليك أسماءهم المستخرجة من كتب الرجال :
1. أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن فضّال بن عمر بن أيمن.
2. إسحاق بن عمّار بن حيّان ، مولىٰ بني تغلب ، أبو يعقوب الصيرفي الساباطي.
3. الحسن بن علي بن فضال.
4. عبد الله بن بكير بن أعين بن سنسن الشيباني الأصبحي المدني.
5. عبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
6. علي بن أسباط بن سالم بياع الزطّي المقري.
7. الأزدي الساباطي ( كوفي ).
8. علي بن الحسن بن علي بن فضّال.
9. عمار بن موسى الساباطي.
10. محمد بن الحسن بن علي بن فضّال.
11. محمد بن سالم بن عبد الحميد.
12. مصدق بن صدقة المدائني.
الهوامش
1. ابن منظور : لسان العرب : 2 / 545 ، مادة « فطح ».
2. الطريحي : مجمع البحرين : 2 / 400 ، مادة « فطح ».
3. الحسن بن موسى النوبختي : فرق الشيعة : 77 ـ 78.
4. الكشي : الرجال : 219.
5. المراد أبو جعفر المنصور العباسي.
6. الكشي : الرجال : 239 ـ 241.
7. الأشعري : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين : 1 / 27 ، تصحيح هلموت ريز.
8. الفرق بين الفرق : 62 برقم 59.
9. نقل الكشي الروايات الحاكية عن أنّ زرارة كان شاكاً في إمامة الكاظم عليه السلام وانّه لما توفي الصادق عليه السلام بعث ابنه « عبيد » للتحقيق عن أمر الإمامة وانّه لعبد الله أو للكاظم عليهما السلام ، ثمّ إنّ زرارة مات قبل أن يرجع إليه عبيد ، ونقلها السيد الخوئي قدّس سرّه في معجمه ، معجم رجال الحديث : 7 / 230 ـ 234 ، وناقش في اسنادها وأثبت أنّها ، ضعاف ، ونحن نجلّ زرارة بن أعين الذي عاش مع الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الصادق عليهما السلام قرابة نصف قرن ، عن هذه الوصمة.
10. الصدوق : كمال الدين : 75 ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
11. الشهرستاني : الملل والنحل : 1 / 167. ولاحظ التبصير للإسفراييني : 38.
12. ابن شهر آشوب : المناقب : 4 / 224.
13. اعتقادات الصدوق ، المطبوع ضمن مصنفات المفيد : 113.
14. المفيد : الإرشاد : 285 ـ 286.
15. العيون والمحاسن : 253.
16. الصدوق : كمال الدين : 101 ـ 102.
17. المجلسي الأوّل ( محمد تقي ) : روضة المتقين : 14 / 395.
18. عبد الله المامقاني : تنقيح المقال : 1 / 193 ، الفائدة السابعة.
مقتبس من كتاب : بحوث في الملل والنحل / المجلّد : 8 / الصفحة : 363 ـ 376
التعلیقات