ترجمة الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي
السيّد جواد الشهرستاني
منذ 6 سنواتترجمة الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي
هو المحدّث الكبير والفقيه النحرير ، صاحب التأليفات القيّمة والآثار الحميدة ، شيخ الاسلام وزعيم الشيعة في عصره ، محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد ابن الحسين ، المعروف بالحرّ العاملي ، أحد المحمدين الثلاثة المتأخّرين الجامعين لأحاديث الأئمّة المعصومين.
نسبه :
محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن الحسين بن عبد السلام بن عبد المطلب ابن علي بن عبد الرسول بن جعفر بن عبد ربه بن عبد الله بن مرتضى بن صدر الدين بن نور الدين بن صادق بن حجازي بن عبد الواحد بن الميرزا شمس الدين ابن الميرزا حبيب الله بن علي بن معصوم بن موسى بن جعفر بن الحسن بن فخر الدين بن عبد السلام بن الحسين بن نور الدين بن محمّد بن علي بن يوسف بن مرتضى بن حجازي بن محمّد بن باكير بن الحرّ الرياحي ، المستشهد مع الامام السبط الشهيد يوم الطفّ ، سلام الله عليه وعلى أصحابه.
ولادته :
ولد في قرية مشغرة (1) ـ إحدى قرى جبل عامل (2) ـ ليلة الجمعة ثامن شهر رجب المرجب ، عام ثلاث وثلاثين بعد الألف من الهجرة النبويّة.
اُسرته :
نشأ الحرّ وترعرع في أحضان العلم والمعرفة ، فبيت آل الحرّ من البيوت الكبيرة العريقة الأصيلة ، التي غذت الطائفة بثلة من أعاظم الفقهاء والمجتهدين.
فقد كان والده عالماً ، فاضلاً ، ماهراً ، صالحاً ، أديباً ، فقيهاً ، ثقة ، حافظاً ، عارفاً بفنون العربيّة والفقه والأدب ، مرجوعاً إليه في الفقه وخصوصاً المواريث ، قرأ عليه نجله الحرّ جملة من كتب العربيّة والفقه وغيرها ، دفن في مشهد الرضا عليه السلام ، حيث توفّى وهو في طريقه اليه سنة 1062 ورثاه ابنه بقصيدة طويلة.
يقول عنه ولده الحر العاملي : سمعت خبر وفاته في منى ، وكنت حججت في تلك السنة ، وكانت الحجّة الثانية ، ورثيته بقصيده طويلة.
ومنهم عمّه الفاضل وشيخه الكامل الباذل ، الشيخ محمّد بن علي بن محمّد الحرّ العاملي ، ابن بنت الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ، ذكره الحرّ في « الأمل » بمثل هذا العنوان ثمّ قال : وله كتاب سمّاه « الرحلة » في ذكر ما اتّفق له في أسفاره ، وحواش وتعليقات وفوائد وديوان شعر كبير.
ومنهم ابن عمّه الشيخ حسن بن محمّد بن علي ، وهو من الفضلاء في العربيّة وغيرها.
ومنهم جدّه الشيخ علي بن محمّد الحرّ العاملي ، الذي وصفه ـ أيضاً ـ في « الأمل » بالعلم والفضل والعبادة وحسن الأخلاق ، وجلالة القدر والشأن ، والشعر والأدب والإنشاء. ثمّ قال : قرأ على الشيخ حسن والسيّد محمد وغيرهما ، أروي عن والدي عنه ، وله شعر لا يحضرني الآن منه شيء ، وتوفّي بالنجف مسموماً.
ومنهم جدّ والده الشيخ محمّد بن الحسين الحرّ العاملي ، الذي قال ـ في « الأمل » أيضاً ـ في حقّه : كان أفضل أهل عصره في الشرعيّات ، وكان ولده الشيخ محمّد بن محمّد الحرّ العاملي أفضل أهل عصره في العقليّات ، تزوّج الشهيد الثاني بنته وقرأ عند الشهيد الثاني ، وله منه إجازة.
موطنه « جبل عامل » :
جبل عامل من البلاد العريقة في التشيّع ، فمنذ الكلمة الطيّبة التي غرسها أبا ذر في جبل عامل ـ عندما نفي الى الشام بأمر عثمان ومنها اليها بأمر معاوية ـ والى الآن ما زالت هذه البلده تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها.
فكان أبو ذر رضوان الله عليه مصباحاً من مصابيح الهداية ، صنعه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على عينه فجاء على قدر ، وصدّق آمال رسول الله صلّى الله عليه وآله فيه .. فكان .. « ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ».
فحبيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وجد في جبل عامل أرضاً خصبة وعقولاً سليمة وفطراً لم تلوث. فكان لهم سراجاً وهاجاً يحمل لهم ذكرى نديّة من نور النبوّة الكريم فنشر الحديث الصحيح والاسلام الخالص والولاء الحق لآل رسول الله ، كما قرّره النبي صلّى الله عليه وآله بقوله : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ».
وبارك الله في جبل عامل فاستمرّ فيها التشيّع إلى يومنا هذا ، مع ما مرّ به الجبل وساكنوه من ظلم الطواغيت وحكم الجزارين ، فكان الجبل البقعة الملقية قيادها لأهل البيت عليهم السلام ولكن الكلمة الطيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
نعم خرّج الجبل أعاظم الرجال من الهداة إلى الحقّ والمجاهدين دونه ، أمثال الشهيدين العظيمين اللذين لا زالت الحوزات العلميّة تدرس كتابيهما اللمعة الدمشقيّة والروضة البهيّة في مرحلة السطوح.
وخرّج أيضاً قبل الشهيدين وبعدهما المئات من العلماء الذين لم يقتصر جهادهم ـ في سبيل مذهب أهل البيت عليهم السلام ونشر علومهم ـ على بلاد لبنان ، بل تعدّاها إلى البلد الكبير الواسع إيران ، فكانوا علماءه العاملين ، وشيوخ الاسلام فيه المثبتين لدعائم التشيع ، كالمحقّق الكركي والشيخ البهائي وشيخنا الحرّ العاملي. ولو أراد الكاتب أن يجرّد منهم قائمة طويلة الذيل لفعل.
قال الحرّ في كتابه أمل الآمل : سمعت من بعض مشايخنا أنّه اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهداً في عصر الشهيد الثاني رحمه الله (3).
وقال العلّامة صاحب الأعيان : خرج من جبل عامل من علماء الشيعة الاماميّة ما ينيف عن خمس مجموعهم ، مع أن بلادهم بالنسبة إلى باقي البلدان أقلّ من عشر العشير.
ففي مثل هذا البلد العابق بالولاء للاسلام ولنبيّه صلّى الله عليه وآله ولآله الكرام عليهم السلام .. هذا البلد المعروف بالعطاء العلمي الزاخر ، فتح شيخنا الحرّ عينيه ليرى أين سيكون موقعه فيه !
دراسته ومشايخه :
قرأ الشيخ الحر في وطنه « جبل عامل » المقدّمات عند أساتذة كانت لهم اليد الطولى في التدريس ، وقد تركوا الأثر الطيب في نشوئه ونموه إلى أن استوى عوده عالماً مجتهداً.
فقرأ على أبيه ـ المتوفّى 1062 هـ ـ وعمّه الشيخ محمّد بن علي الحرّ ـ المتوفى 1081 هـ ـ وجده لاُمّه الشيخ عبد السلام بن محمّد الحرّ ، وخال أبيه الشيخ علي بن محمود العاملي وغيرهم.
وقرأ في قرية جبع على عمّه ـ أيضاً ـ وعلى الشيخ زين الدين بن محمّد بن الحسن صاحب المعالم ابن زين الدين الشهيد الثاني ، وعلى الشيخ حسين الظهيري وغيرهم.
ويروي الشيخ الحرّ بالاجازة عن أبي عبد الله الحسين بن الحسن بن يونس العاملي ، وعن العلّامة المجلسي ، وهو آخر من أجاز له حين مروره بأصفهان ، وقد أنس أحدهما بالآخر واستجازه ، والاجازة بينهما مدبجة (4) ـ على اصطلاح المحدّثين ـ.
وقال رحمه الله : وهو آخر من أجاز لي وأجزت له. وذكر المجلسي رحمه الله نظير ذلك في مجلّد الاجازات من البحار.
تلامذته والمجازون منه :
كان مجلس درس الشيخ مجلساً عامراً بالطلبة المخلصين المجدين في طلب علوم آل البيت عليهم السلام وقد لقوا اُستاذا ًرفيقاً بهم حانياً عليهم ، وهو أحد حملة هذه العلوم الأوفياء لها ، وكان بحراً من بحار العلوم فاغترفوا من نميره ما وسعته أفكارهم.
وكان من المجازين منه ـ كما سبق ـ الشيخ المجلسي صاحب البحار.
والشيخ محمّد فاضل بن محمّد مهدي المشهدي.
والسيد نور الدين بن السيد نعمة الله الجزائري ، وتأريخ إجازته له سنة 1098 هـ.
والشيخ محمود بن عبد السلام البحراني ، كما في مستدرك الوسائل (5).
أسفاره :
أقام الشيخ الحرّ في بلده جبل عامل أربعين سنة ، ثمّ سافر إلى العراق لزيارة المراقد المقدّسة ، ومن ثمّ الى إيران لزيارة مرقد ثامن الحجج الإمام الرضا عليه السلام بطوس ، عام 1073 كما صرح هو ـ قدّس سرّه ـ بذلك ، وطابت له مجاورة الامام الثامن الضامن ، فحط رحله هناك ، وكانت طوس مأنس نفسه ومجلس درسه ، فتجمع حوله طلّاب العلم وعمر بهم مجلسه الشريف ، وخرّج جماعات كانوا رسل هدى في البلدان والقرى ، ينشرون العلم والهدى والخير.
ومرّ في سفره بأصفهان ، والتقى فيها بالعلّامة المجلسي وأجاز أحدهما الآخر.
هذا وقد حجّ الحرّ العاملي إلى بيت الله الحرام مرّتين عامي 1087 و1088 كما في خلاصة الأثر.
وفي حجّته الثانية مرّ باليمن لحادثة سيأتيك نبؤها.
من طرائف ما حدث له :
حياة طويلة عريضة كحياة شيخنا الحرّ ، وأسفار واسعة جال فيها أقطاراً كثيرة من البلاد الاسلاميّة فيها مختلف المذاهب والألسن والقوميّات ... لا يخلوان بطبيعة الحال من طرائف الحوادث.
فقد حكي أنّه ذهب ـ أثناء إقامته باصفهان ـ إلى مجلس الشاه سليمان الصفوي ، فدخل بدون استئذان ، وجلس على ناحية من المسند الذي كان الشاه جالساً عليه ، فسأل عنه الشاه فاُخبر أنه عالم جليل من علماء العرب ، يدّعى محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، فالتفت إليه وقال : « فرق ميان حر وخر چقدر است » أيّ : كم هو الفرق بين حر وخر ؟ وخر بالفارسية معناها الحمار.
فقال له الشيخ على الفور : « يك متكى » أي مخدّة واحدة ، فعجب الشاه من جرأته وسرعة جوابه (6).
وبعد مضي زمان على توطّنه المشهد المقدس اُعطي منصب قاضي القضاة وشيخ الاسلام في تلك الديار ، وصار بالتدريج من أعاظم علمائها (7).
ونقل من غريب ما اتّفق في بعض مجامع قضائه أنّه شهد لديه بعض طلبة العصر في واقعة من الوقائع ، فقيل له : إنّ هذا الرجل يقرأ زبدة شيخنا البهائي في الاُصول ، فرد رحمه الله شهادته من أجل ذلك (8).
وممّا نقل ـ أيضاً ـ من شدّة ذكائه ، ما نقله المحبّي في خلاصة الأثر أنه قال :
قدم مكّة في سنة 1087 أو 1088 ، وفي الثانية منها قتلت الأتراك بمكّة جماعة من الفرس لما اتّهموهم بتلويث البيت الشريف حين وجد ملوّثاً بالعذرة ، وكان صاحب الترجمة قد أنذرهم قبل الواقعة بيومين وأمرهم بلزوم بيوتهم ، فلمّا حصلت المقتلة فيهم خاف على نفسه فالتجأ إلى السيّد موسى بن سليمان أحد أشراف مكّة الحسنيين ، وسأله أن يخرجه من مكّة إلى نواحي اليمن ، فأخرجه مع أحد رجاله إليها فنجا (9).
أقوال العلماء فيه وثناؤهم عليه :
لقد عرفنا ـ من خلال ما مرّ ـ أنّ الشيخ الحرّ أحد الشخصيّات العلميّة الكبيرة ، التي أغدقت على الطائفة الكثير من العطاء. وتركت في سجلّاتها الواسعة آثاراً تستحق الثناء والتقدير.
فقد تمكّن شيخنا المترجم ـ بفضل ثقته العالية بنفسه وبعقيدته ، وتبحّره في العلوم ـ أن يخلّف آثاراً عظمى ، فكان حلقة من حلقات مشايخ الاجازات التي تصل الخلف بالسلف ، إلى أن تصل إلى أهل البيت عليهم السلام.
وتمكن ـ أيضاً ـ من تدوين مؤلّفات كانت غرراً في جبين الدهر ، حفظ بها حديث النبي الأكرم وآله الميامين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، منها كتابنا هذا والذي أصبح منذ عهد مؤلّفه إلى الآن مورد اعتماد الفقهاء ، ومرجع استنباطهم للأحكام.
ولذا فقد حظي الشيخ الحرّ بثناء الكثيرين من الأعلام البارعين الذين يعتبر ثناؤهم شهادة علميّة راقية لم ينالها إلّا القليل ، وهذا الأمر ليس بمستغرب لشيخنا الحرّ ، وهو الذي سهر على حفظ آثار المعصومين عليهم السلام ، وضحى بكلّ غال ورخيص في سبيل عقيدته ومبدئه.
فآثاره ماثلة للعيان ، ولأياديه البيضاء مآثر خالدة تذكر ويذكر معها صاحبها ويُتحرم عليه ، وما عند الله خير.
وممّن أثنى عليه معاصره ، السيد علي خان شارح الصحيفة السجادية حيث قال في السلافة :
الشيخ محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد الحرّ الشامي العاملي ، عَلَم عِلم لا تباريه الأعلام ، وهضبة فضل لا يفصح عن وصفها الكلام ، أرَّجت أنفاس فوائده أرجاء الأقطار ، وأحيت كلّ أرض نزلت بها فكأنها لبقاع الأرض أمطار. تصانيفه في جبهات الأيّام غرر ، وكلماته في عقود السطور درر.
وهو الآن قاطن بأرض العجم ، ينشد لسان حاله :
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته |
ولم أخزه لمّا تغيب في الرجم |
ويحيي بفضله مآثر أسلافه ، وينتشي مصطحباً ومغتبقاً برحيق الأدب وسلافه ، وله شعر مستعذب الجنى ، بديع المجتلى والمجتنى (10).
ثمّ ذكر قطعة من شعره التي تلوح فيه آثار التدين والحث على مكارم الأخلاق.
وقال صاحب مقابس الأنوار : العالم الفاضل ، الأديب الفقيه ، المحدّث الكامل ، الأديب الوجيه ، الجامع لشتات الأخبار والآثار ، المرتب لأبواب تلك الأنوار والأسرار ، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي المشغري الطوسي ، عامله الله بفضله القدوسي (11).
وقال العلّامة الأميني في كتابه الغدير بعد كلام طويل في ترجمته :
فشيخنا المترجم له درة على تاج الزمن ، وغرة على جبهة الفضيلة ، متى استكنهته تجد له في كلّ قدر مغرفة ، وبكلّ فنّ معرفة ، ولقد تقاصرت عنه جمل المدح وزمر الثناء ، فكأنّه عاد جثمان العلم وهيكل الأدب وشخصيّة الكمال البارزة ، وإن من آثاره أو من مآثره تدوينه لأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مجلدات كثيرة ، وتأليفه لهم بإثبات إمامتهم ونشر فضائلهم ، والاشادة بذكرهم ، وجمع شتات أحكامهم وحكمهم ، ونظم عقود القريض في إطرائهم ، وإفراغ سبائك المدح في بوتقة الثناء عليهم ، ولقد ابقت له الذكر الخالد كتبه القيمة (12).
وممّن أثنى عليه أيضاً ، ثلّة من أفاضل العلماء من الطائفتين ـ الشيعة والسنّة ـ ومن هؤلاء الأعلام : الأفندي في رياض العلماء (13) ، والأردبيلي في جامع الرواة (14) ، والنوري في خاتمة مستدركه (15) ، والبغدادي في هدية العارفين (16) ، والزركلي في الأعلام (17) ، وكحالة في معجم المؤلّفين (18) ، وغيرهم.
شعره :
امتلك شيخنا الحرّ عدّة الشاعر وسلاحه ، فمن خلفية فكريّة استوعبت القرآن الكريم والحديث الشريف إلى مشاعر قلب نابض وفياض تركّز بحبّ النبي وآله عليهم السلام إلى لسان اتقن لغة الضاد ، فانطلق شاعراً مبرزاً يجول في ميادين الشعر المختلفة فتجمعت لديه ما يقارب عشرين ألف بيت ضمّها ديوانه وأكثرها في مدح أو رثاء النبي والأئمّة عليهم السلام. ويحتوي ديوانه أيضاً منظومة في المواريث والزكاة والهندسة ، وتواريخ النبي والأئمّة عليهم السلام . ويتميّز شعره بطول النفس في النظم بحيث تجد له قصائد كثيرة في مدح النبي وآله عليهم السلام جاوزت كلّ منها مائة بيت ، ومنها همزيّته التي نيفت على الأربعمائة بيت ، ومنها قوله :
كيف تحظى بمجدك الاوصياء |
وبه قد توسل الأنبياء | |
ما لخلق سوى النبي وسبطيه |
السعيدين هذه العلياء | |
فبكم آدم استغاث وقد مسّـ |
ـته بعد المسرة الضراء | |
يوم أمسى في الأرض فرداً غريباً |
ونأت عنه عرسه حواء | |
وبكى نادماً على ما بدا منـ |
ـه وجهد الصب الكئيب البكاء | |
فتلقّى من ربّه كلمات |
شرفتها من ذكركم أسماء |
وقد حوت هذه الهمزيّة معاجز جمة من معاجز النبي صلّى الله عليه وآله ، وجملة وافرة من فضائل أهل البيت عليهم السلام التي نطق بها القرآن الكريم أو جاء ذكرها في الحديث الشريف.
وكذا طرق فنوناً من الشعر صعبة المرتقى قل أن يبرز فيها غير الشاعر المجيد ، فمن ذلك تسع وعشرون قصيدة محبوكة الطرفين على ترتيب حروف المعجم في مدح الآل عليهم السلام ، فمن أحداها وهي في قافية الهمزة.
أغير أمير المؤمنين الذي به |
تجمع شمل الدين بعد ثناء | |
أبانت به الأيّام كلّ عجيبة |
فنيران بأس في بحور عطاء |
ومن اُخرى محبوكة الأطراف الأربعة يقول :
فإن تخف في لوصف من اسراف |
فلذ بمدح السادة الأشراف | |
فخر لهاشمي أو منافي |
فضل سما مراتب الآلاف | |
فعلمهم للجهل شافٍ كافي |
فضلهم على الأنام وافي | |
فاقوا الورى منتعلاً وحافي |
فضل به العدو ذو اعتراف | |
فهاكها محبوكة الأطراف |
فن غريب ما قفاه قاف |
وله من قصيدة « ثمانين بيتاً » خالية من الألف في مدحهم عليهم السلام :
وليي عليٌّ حيث كنت وليّه |
ومخلصه بل عبد عبد لعبده | |
لعمرك قلبي مغرم بمحبّتي |
له طول عمري ثمّ بعد لولده | |
وهم مهجتي هم منيّتي هم ذخيرتي |
وقلبي بحبّهم مصيب لرشده | |
وكلّ كبير منهم شمس منير |
وكلّ صغير منهم شمس مهده | |
وكلّ كمي منهم ليث حربه |
وكلّ كريم منهم غيث وهده | |
بذلت له جهدي بمدح مهذب |
بليغ ـ ومثلي ـ حسبه ـ بذل ـ جهده |
ويدلك على شدّة تعلقه بأهل البيت عليهم السلام قوله :
أنا حرٌّ عبدٌ لهم فإذا ما |
شرفوني بالعتق عدت رقيقا | |
إنّا عبدٌ لهم فلو اعتقوني |
ألف عتق ما صرت يوماً عتيقا |
ومن لطيف شعره مزجه المدح بالغزل حيث يقول :
لئن طاب لي ذكر الحبائب إنّني |
أرى مدح أهل البيت أحلى وأطيبا | |
فهنّ سلبن العلم والحـلم في الصبا |
وهم وهبونا العلم والحلم في الصبا | |
هواهن لي داء هواهم دواؤه |
ومن يك ذا داء يرد متطبّبا | |
لئن كان ذاك الحسن يعجب ناظراً |
فإنّا رأينا ذلك الفضل أعجبا |
وله يصوّر صدق التوكّل على الله تعالى :
كم حازم ليس له مطمع |
إلّا من الله كما قد يجب | |
لأجل هذا قد غدا رزقه |
جميعه من حيث لا يحتسب |
وهو يشير بهذا إلى قوله تعالى : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (19) وهو ـ كما ترى ـ تضمين بديع.
ومن حكمياته اللطيفة قوله :
يا صاحب الجاه كن على حذر |
لا تك ممّن يغتر بالجاه | |
فان عزّ الدنيا كذلّتها |
لا عزّ إلّا بطاعة الله |
ونكتفي بهذا المقدار من أشعاره ، ومن شاء الزيادة فليراجع ديوانه الذي سيطبع قريباً إن شاء الله تعالى.
مؤلّفاته :
كان الشيخ الحرّ قدّس سرّه عالماً عاملاً دأب طول عمره الشريف على خدمة الشريعة الغراء ، فمع المشاغل التي تتطلبها منه مشيخته للإسلام ، ومع انشغاله بالتدريس وتربية العلماء ، فقد أثرى المكتبة الاسلاميّة بكتب كثيرة يكفيك أن أحدها ، وسائل الشيعة الذي أصبح بعد تأليفه إلى الآن مورد استنباط الأحكام عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام.
ولنذكر كتبه كما ذكرها هو رحمه الله في أمل الآمل ، وكما ذكرها المترجمون له :
1 ـ تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : وهو كتابنا الذي نقدم له وسيأتي الكلام حوله مفصلاً.
2 ـ فهرست وسائل الشيعة : يشتمل على عناوين الأبواب ، وعدد أحاديث كلّ باب ، ومضمون الأحاديث ، ولاشتماله على جميع ما روي من فتاواهم عليهم السلام سمّاه كتاب من لا يحضره الامام.
3 ـ هداية الاُمّة إلى أحكام الأئمّة عليهم السلام : منتخب من وسائل الشيعة الكبير مع حذف الأسانيد والمكرّرات.
4 ـ الفوائد الطوسيّة : مجموع فوائد بلغت المائة فائدة في مطالب متفرّقة.
5 ـ إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات : ويبحث في الدلائل على النبوّة الخاصّة والإمامة لكلّ إمام إمام حتّى الامام الثاني عشر عجّل الله فرجه ، بلغت مصادره من كتب الشيعة والسنّة أكثر من أربعمائة وتسعة وثلاثين مصدراً.
6 ـ أمل الآمل في علماء جبل عامل : قسّمه إلى قسمين : الأوّل خاصّ بعلماء جبل عامل ، والثاني عام لعلماء الشيعة في سائر الأقطار.
7 ـ الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة عليهم السلام : يشتمل على القواعد الكليّة المنصوصة في اُصول الدين واُصول الفقه وفروع الفقه ...
8 ـ العربيّة العلويّة واللغة المرويّة.
9 ـ « الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة » : فيها أكثر من ستمائة حديث وأربع وستّين آية ...
10 ـ رسالة الاثنى عشرية في الردّ على الصوفية : فيها نحو ألف حديث في الردّ عليهم عموماً وخصوصاً في كل ما اختصّ بهم.
11 ـ رسالة في خلق الكافر وما يناسبه.
12 ـ « كشف التعمية في حكم التسمية ». وهي رسالة في تسمية المهدي عليه السلام.
13 ـ رسالة الجمعة : وهي جواب من ردّ أدلّة الشهيد الثاني في رسالته في الجمعة.
14 ـ رسالة « نزهة الأسماع في حكم الإجماع ».
15 ـ رسالة تواتر القرآن.
16 ـ رسالة الرجال.
17 ـ رسالة أحوال الصحابة.
18 ـ تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان.
19 ـ رسالة بداية الهداية في الواجبات والمحرّمات المنصوصة من أوّل الفقه إلى آخره ، وهي في غاية الإختصار ، انتهى فيها إلى أن الواجبات « 1535 » والمحرّمات « 1448 ».
20 ـ الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة ، وهو أوّل من جمع هذه الأحاديث كما يقول صاحب الأعيان (21).
21 ـ الصحيفة السجاديّة الثانية ، جمع فيها الأدعية المنسوبة إلى الامام السجاد عليه السلام ، والتي لا توجد في الصحيفة الكاملة.
22 ـ ديوان شعر يقارب عشرين ألف بيت ، أكثره في النبي صلى الله عليه وآله والأئمّة المعصومين عليهم السلام . ويتضمّن كذلك بالاضافة إلى الشعر النظم التعليمي ، ففيه :
منظومة في المواريث ،
منظومة في الزكاة.
منظومة في الهندسة.
منظومة في تواريخ النبي صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام.
23 ـ إجازات كثيرة لتلامذته.
24 ـ كان عازماً على أن يشرح وسائل الشيعة بكتاب اسمه تحرير وسائل الشيعة وتحبير مسائل الشريعة (22) ، ولكن الأجل لم يمهله لتنفيذ ما عزم عليه فلم يصدر منه إلّا جزء واحد.
وفاته :
قال أخوه الشيخ أحمد الحرّ في كتابه الدر المسلوك :
في اليوم الحادي والعشرين ، من شهر رمضان ، سنة 1104 هـ كان مغرب شمس الفضيلة والافاضة والافادة ، ومحاق بدر العلم والعمل والعبادة ، شيخ الاسلام والمسلمين ، وبقيّة الفقهاء والمحدّثين ، الناطق بهداية الاُمّة وبداية الشريعة ، الصادق في النصوص والمعجزات ووسائل الشيعة ، الامام الخطيب الشاعر الأديب ، عبد ربه العظيم العلي ، الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، المنتقل الى رحمة باريه عند ثامن مواليه :
في ليلة القدر الوسطى وكان بها |
وفاة حيدر الكرّار ذي الغيرِ | |
يا من له جَنّة المأوى غدت نزلاً |
ارقد هناك فقلبي منك في سعرِ | |
طويت عنّا بساط العلم معتلياً |
فاهنأ بمقعدِ صدق عند مقتدرِ | |
تاريخ رحلته عاماً فجعت به |
أسرى لنعمة باريه على قدرِ |
وهو أخي الأكبر ، صلّيت عليه في المسجد تحت القبّة جنب المنبر ، ودفن في إيوان حجرة في صحن الروضة الملاصق لمدرسة ميرزا جعفر ، وكان قد بلغ عمره اثنين وسبعين ، وهو أكبر منّي بثلاث سنين إلّا ثلاثة أشهر (23).
الهوامش
1. مشغرة : قرية من قرى دمشق من ناحية البقاع. معجم البلدان 5 : 134.
2. جبل عامل وفي الأصل يقال : جبال عاملة ، ثمّ لكثرة الاستعمال قيل : جبل عامل : نسبة إلى عاملة بن سبأ ، وسبأ هو الذي تفرق أولاده بعد سبيل العرم حتّى ضرب بهم المثل ، فقيل : تفرقوا أيدي سبأ ، كانوا عشرة تيامن منهم ستّة : الأزد ، وكندة ، ومذحج ، والأشعرون ، وأنمار ، وحمير. وتشاءم أربعة : عاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان. فسكن عاملة بتلك الجبال ، وبقي فيها بنوه ، ونسبت إليهم.
وفي أعيان الشيعة ، عن تاريخ المغربي ، ان جبل عامل واقع على الطرف الجنوبي من بلدة دمشق الشام ، في سعة ثمانية عشر فرسخاً من الطول ، في تسعة فراسخ من العرض. والصواب أنه في الجانب الغربي من دمشق لا الجنوبي.
3. أمل الآمل 1 : 15.
4. الاجازة المدبجة : هي أن يجيز كل من العالمين للأخر مرويّاته ، وتقع غالباً بين أكابر العلماء.
5. خاتمة مستدرك الوسائل 3 : 390.
6 و 7. أعيان الشيعة 9 : 167.
8. روضات الجنات 7 : 104.
9. خلاصة الأثر : 3 : 234.
10. سلافة العصر : 359.
11. مقابس الأنوار : 17.
12. الغدير : 11 / 336.
13. رياض العلماء 5 : 67.
14. جامع الرواة 2 : 90.
15. مستدرك الوسائل 3 : 390.
16. هدية العارفين 6 : 304.
17. الأعلام للزركلي 6 : 90.
18. معجم المؤلفين 9 : 204.
19. أمل الآمل 1 : 145.
20. الطلاق 65 : 2.
21. أعيان الشيعة 9 : 168.
22. أمل الآمل 1 : 145.
23. الفوائد الرضويّة : 476.
مقتبس من كتاب : [ وسائل الشيعة ] / المجلّد : 1 ـ مقدّمة التحقيق / الصفحة : 73 ـ 87
التعلیقات