ظاهرة البكاء عند الإمام زين العابدين عليه السلام
مختار الأسدي
منذ 6 سنواتظاهرة البكاء عند الإمام زين العابدين عليه السلام
بين البكاء والتباكي :
بين البكاء والتباكي الهادفين خيط رفيع لا يمكن تجليته واكتناه فلسفته إلّا بفهم الهدف من البكاء أوّلاً ، والتباكي ثانياً.
فإذا كان الهدف من البكاء هو تربية النفوس وتجلية الصدأ الذي يرين عليها جرّاء زحمة الحياة وقساوة العيش ، ومن ثمّ توجيه البكاء إعلامياً للتأثير علىٰ الناس كشكل من أشكال العمل السياسي أو الرسالي الهادف النبيل ، يأتي هنا ممدوحاً ومندوباً ، وهو غير الجزع والضعف والنفاق والرياء الذي له أهداف هابطة اُخرىٰ.
أيّ أنّه في الدائرة الاُولىٰ عاطفة نبيلة يمكن أن تنتزع من الإنسان دواعي قسوة القلب وغلظته وشدّته ، وتحيله أكثر شفافيّة وسماحة ورقّة من جهة ، وهو عمل تربوي لتوجيه النفوس وتربيتها وتهذيب مشاعرها وأحاسيسها من جهة اُخرىٰ.
وهكذا التباكي هو الآخر ، إمّا أن يكون تمثيلاً أجوف لا هدف وراءه ولا جدوىٰ منه ولا طائل ، وإمّا أن يكون مواساةً للباكي في صدق بكائه وتصديق انفعاله وتفاعله مع حدث ما أو مصيبة ما ، أو يكون مشاركةً إنسانيّة ووجدانيّة تواسي المبكى عليه في عظمة تضحيته ونبل إقدامه وهيبة موقفه ، وبالتالي فإنّ الدائرة الاُولىٰ غير الثانية بالتأكيد ..
ومن هنا نلمس الفرق بين الندبة المعروفة :
ويصيح واذلّاه أين عشيرتي |
وسراة قومي أين أهل ودادي |
وبين الاُخرىٰ التي تفجّر الدموع دماً
لا تطلبوا قبر الحسين بشرق أرضٍ أو بغربِ |
فدعوا الجميع وعرجّوا فمشهده بقلبي |
تفسير ظاهرة البكاء عند الإمام عليه السلام :
وكما ارتبك بعض المؤرّخين في تفسير دور الإمام السجاد عليه السلام في ريادة مشروع المعارضة للسلطة الأمويّة ، وأخفقوا في تفسير مواقفه الدقيقة لبلورة الاتّجاه المناهض لها ، ارتبك بعضهم الآخر في تفسير ظاهرة البكاء المعروفة لديه ، وراحوا يشرّقون حولها ويغرّبون أيضاً ..
نعم ، اتّجه بعضهم إلىٰ تحليل الظاهرة علىٰ أنّها فجيعة ولدٍ بأبيه وأخوته فقط ، وبالتالي فانها لا تعدو كونها عاطفةً جياشةً لا يمكن التحكّم بانفجارها وتدفّقها في لحظات الانفعال الوجداني الذي لا يُكبح .. فيما اعتبرها آخرون أُسلوباً سياسيّاً ذكياً لاستنهاض الناس وتذكيرهم بالظلامة الكبيرة التي لحقت بأهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وبين هذا التفسير وذاك ، راح المؤرّخون يحلّلون ويكتبون ويبحثون ، وكلّ من زاويته أو فهمه للبكاء والتباكي ، فمن حزين مفجوع ينفّس ببكائه عن غصّة وألم دفينين لا يستطيع منهما فكاكاً ، إلىٰ بكّاءٍ متباكٍ ينوي ببكائه وتباكيه إذكاء نار الغضب المقدّس ضدّ الظالمين الذين تجرأوا علىٰ ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه والصفوة من خيرة خلق الله بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ..
ومن هنا فلا يستطيع المؤرّخ أو المحلّل السياسي تفسير ظاهرة البكاء لدىٰ الإمام السجّاد تفسيراً علميّاً رصيناً إلّا من خلال دراسة الظروف التي عاشها عليه السلام والفضاء الإعلامي والسياسي الذي كان يتنفّس فيه ، وإلّا شطّ به التحليل بين أقصىٰ اليمين وأقصىٰ اليسار ، وجنح في تفسير هذه الظاهرة وفق ظروف اُخرىٰ ، ربّما نفسية أو اجتماعيّة ، أو سياسيّة ، هي في الحقيقة ، غير تلك التي يجب أن تفسّر من خلالها أو علىٰ ضوئها ...
فحين نفهم مثلاً أنّ طائفةً كبيرةً من الناس كانت تجهل الدواعي والأسباب التي دفعت الإمام الحسين عليه السلام لخوض تلك المعركة غير المتكافئة ، يمكن أن نمسك بخيط واحد من خيوط التفسير العلمي لبكاء الإمام السجاد عليه السلام.
وحين ندرك أن الإعلام الأموي كان يفسّر خروج الإمام الحسين عليه السلام ضدّ الطاغية يزيد بأنّه صراع علىٰ السلطة ، وأنّه بخروجه إنّما شقّ عصا الطاعة وفرّق الجماعة ، وأن الصراع بين الحسين ويزيد إنّما هو صراع شخصي تفجّر بين عائلتين أو بيتين يعتدُّ كلّ منهما بتأريخه وأمجاده ، وهما البيت الاُموي والبيت الهاشمي ، ويعتقد كلّ منهما بوراثته لتراث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تكون الكارثة أكبر والرزيّة أدهىٰ علىٰ الإمام السجّاد عليه السلام ، لأنّه سيواجه صعوبة بالغة في توضيح هذا المشتبك المؤلم ، ولو عِبر الدموع الغزيرة والنحيب المتواصل الذي أصبح إحدىٰ خصال نفسه الزكيّة ، وطابعاً لروحه الطاهرة.
ولما كان إعلام السلطة آنذاك هو الحاكم والمهيمن علىٰ عقول الناس وأفكارهم ، وللحدِّ الذي يواجه به أحدهم الإمام الحسين عليه السلام قائلاً : « ياحسين ألا تتّقي الله : تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الاُمّة » (1).
وأكثر من ذلك حين يواجه المرء نداءات تخرج من هنا وهناك في أرض المعركة ، تقول : « الزموا طاعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرَقَ من الدين وخالف إمام المسلمين » وفي رواية اُخرىٰ « أمير المؤمنين » (2).
وحين يسمع عفوية ذلك الشيخ الكبير الذي لا يعرف من الأمور شيئاً ، فراح يواجه السبايا عند دخولهم الشام بقوله : « الحمدُ لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكنَ منكم أمير المؤمنين يزيد » (3).
تكون الرزية أكبر علىٰ الإمام السجاد عليه السلام ، ويكون نشيجه هو المتنفّس الوحيد للتعبير عن الألم والمرارة ، وهو تحت مخالب اللئام وصليل سيوفهم وقعقعة رماحهم.
المواجهة أو الصبر :
في هذا الجوّ الإعلامي الماكر ، ومن هذا الفضاء الملبّد بكلّ تهويمات التضليل ، والتكتم والتعتيم علىٰ أعظم ثائر وأعظم ثورة أرادت أن تعيد الحقّ إلىٰ نصابه ، وتستنهض الضمائر الميّتة وبتضحية قلّ نظيرها في التاريخ البشري انتصاراً للدين المضيّع والحدود المستباحة ، كان علىٰ الإمام السجّاد أن ينتهج أحد خيارين :
الأول : هو المواجهة العلنية الصريحة ، والتنديد المباشر باجراءات السلطة الحاكمة وفضحها ، أيّ إقدامه عليه السلام علىٰ عملية استشهاديّة اُخرىٰ تلحقه بأبيه وإخوته ، لا تكلّف خصومه أكثر من ضربة سيفٍ واحدة لا يتردّد عن القيام بها جلواز واحد من جلاوزة السلطة يتقرّب بها إلىٰ الأمير ، دون أن يرفّ له جفن أو يحاكمه ضمير ، وفي أُمّة ميتة لم يبقَ فيها للدم حرمة ولا للتضحية معنىٰ أو صدىٰ .. وبالتالي إيقاف أو إنهاء الدور الرسالي المهمّ الذي يسعىٰ الإمام السجاد عليه السلام إلىٰ تحقيقه من خلال كشف تلك الغيوم وتبديدها ...
والثاني : هو الصبر علىٰ ذلك الضيم أو الحيف الذي شمله مع عمّته العقيلة زينب عليها السلام وتمرير المرحلة بالعضّ علىٰ الجرح بنيّة مواصلة مراحل الكشف المطلوبة في كلّ عمليّة تغييريّة يُراد لها أن تعيد الاُمّة المضللة إلىٰ وعيها ، أو تعيد الوعي إلىٰ الاُمّة المغلوبة علىٰ أمرها ، المسلوبة إرادتها المغيّب ضميرها ، وفي ذلك الهوس الإعلامي الصاخب ، والمناخ السياسي الملوّث.
من هنا كان علىٰ الإمام أن يختار طريقاً أو منهجاً يحقّق له هذا الهدف الكبير دون المساومة علىٰ مبادئه أو التفريط بها ، أو القفز عليها ، فاختار طريق البكاء أولاً ، ثم طريق الدعاء الذي سنأتي علىٰ ذكره في الفصل اللاحق إن شاء الله.
ماذا حقّق البكاء ؟
وعن طريق البكاء هذا المشفوع بالدعاء طبعاً ، استطاع الإمام عليه السلام أن يحقّق الأغراض التالية :
1 ـ تقريع أو استنهاض الضمير النابض في الاُمّة والذي لم يمت بعد ، أيّ مخاطبة الفطرة السليمة ، من خلال دموع ساخنة ونشيج صادق لا يمكن تفسيره ببساطة علىٰ أنّه مجرّد عواطف فائرة علىٰ فجيعةٍ مرّت وكارثة حلّت ، لا سيّما وانه من إمام يعرف أكثر من غيره القضاء والقدر وحتميّة الموت وطوارق السُنن ...
2 ـ استثمار جميع المواقف والمناسبات التي تُذكّر الناس بالجريمة الكبرىٰ التي ارتكبت بحقّ سبط النبي وسيّد شباب أهل الجنّة ، وعبر بكاء حارّ صادق يتفجّر أمام قصاب مثلاً يذبح شاته فيسقيها ماءً قبل ذبحها ـ كما مرَّ ـ أو أمام ضيف فقد عزيزاً فغسّله وكفّنه ـ كما ذكرنا ـ أو علىٰ مائدة إفطار يُقدّم فيها الماء للعطاشىٰ والضامئين ويكون شعارها مثلاً :
« شيعتي ما إن شربتم عذب ماءٍ فاذكروني |
أو سمعتم بذبيح أو قتيل فاندبوني » ! |
وغير ذلك ممّا كان يذكّر بتجاوز الحدود ، وقساوة القلوب ، أيّ قلوب القتلة التي كانت كالحجارة أو أشدُّ قسوة ، وهذا يعني تركيز الشعور بالإثم الكبير الذي ارتكب في طفوف كربلاء والذي صار عنوانه : « اللهمَّ العن أُمّة قتلتك ، والعن أُمّة ظلمتك ، والعن أُمّة شايعت وبايعت علىٰ قتلك ، والعن أُمّة سمعت بذلك فرضيت به » !!
3 ـ إيهام السلطة الحاكمة وعيونها وأزلامها ومرتزقتها أنّ المفجوع ليس لديه إلّا البكاء ، وأنّه ليس عملاً جُرمياً يبرّر للسلطة اتّخاذ إجراءٍ قمعي لمواجهته ، فكيف إذا كان المفجوع باكياً فعلاً وليس متباكياً ، كما هو حال الإمام عليه السلام !!
4 ـ وحين تختلط دموع البكاء مع تراب قبر المتوفّىٰ ، وهو ما كان يفعله الإمام حين كان يُطيل سجوده وبكاءه علىٰ التراب الذي احتفظ به من ثرىٰ قبر والده ومسحه بخاتمه الذي أصرّ علىٰ لبسه والمحافظة عليه مع الشعار المنقوش عليه والذي كان يردّده عليه السلام : « خزي وشقي قاتل الحسين بن علي » (4) ، تكون رسالة البكاء أكثر تعبيراً وأمضىٰ أثراً في إذكاء الوجدان المعذّب والضمير الحي وتفجيرهما ضدّ الظلم والظالمين.
5 ـ أمّا حين يمتزج البكاء مع الدعاء ، الذي سنأتي علىٰ ذكره ، وتتكامل لوحة الرفض المقدّس عبر العاطفة والفكر ، وعبر العقل والقلب ، يكون الهدف من البكاء أكثر تجليّاً وسطوعاً ، وهذا ما كان يُلاحظ عند الإمام عليه السلام وهو يخرُّ ساجداً علىٰ حجارة خشنة في الصحراء يوماً ويشهق شهيقاً مرّاً مردّداً : « لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً .. لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً .. لا إله إلّا الله إيماناً وصدقاً .. » ثمّ يرفع رأسه وإذا بلحيته ووجهه مخضبان بدموع عينيه ، فيقول له أحد أصحابه : أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقلّ ؟! ويأتيه الجواب المارّ الذكر ، ليكون دالّة معبّرة عن حزنٍ ليس كمثله حزن ، وبكاء ليس كمثله بكاء ...
إنّه بوضوحٍ كاملٍ حزنٌ علىٰ رمزٍ مقدّس بكت عليه أهل الأرض وملائكة السماء ، وليس حزن ولدٍ علىٰ أبيه قطّ ، وإنّه حزنٌ علىٰ فجيعةٍ بدين ، أيّ أنّه حزن علىٰ دين مضيّع صيّره الصبيان لعبةً يعبث بها غلمان بني أميّة ، ودمية تتلاقفها أكفُّ أحفاد أبناء الطلقاء ...
إنّه باختصار شديد ، رسالة صامتة شديدة اللهجة ، ودموع حرّىٰ ناطقة ، وبيان صارخ مشحون بعواطف البكاء النبيلة ممزوجة بثرىٰ تراب طاهر ، مشفوعاً بتأوّهات خالصة أرادت وتريد أن تواجه الظالم بأفصح ما يكون التعبير عن الرفض والغضب المقدّس وأقدس ما يكون الإفصاح عن الثورة والتمرّد.
إنّه سلاح ماضٍ لكشف الجرم الكبير وفضحه والدعوة لقطع اليد التي نفّذته ، وأمام من ؟ وبدموع من ؟
بدموع الثائر المفجوع الذي لم يستطع الاستشهاد في اليوم العظيم ، لمرضٍ أقعده ، وعلَّة ما كان يستطيع الوقوف علىٰ قدميه بسببها ، فشاءت إرادة الله أن تحتفظ به ليكشف خيوط الجريمة الكبرىٰ وهو يبكي وينشج ويقول :
وهنّ المنايا أي وادٍ سلكته |
عليها طريقي أو عليّ طريقها | |
وكلاً ألاقي نكبةً وفيجعةً |
وكأس مرارّات ذعافاً أذوقها (5) |
ثمّ يختتمها بدعاء دامع حزين : « يا نفس حتّامَ إلىٰ الدنيا سكونك ؟ وإلىٰ عمارتها ركونك ؟ أما اعتبرت بمن مضىٰ من أسلافك ؟ ومن وارته الأرض من أُلّافك ؟ ومن فجعتِ به من إخوانك ؟ ونُقل إلىٰ الثرىٰ من أقرانك ؟ فحتّامَ إلىٰ الدنيا إقبالك ، وبشهواتها اشتغالك وقد رأيتِ انقلاب أهل الشهوات ، وعاينتِ ما حلَّ بها من المصيبات ... » (6).
نعم ، إنّه البكاء الهادف ، والنشيج المدوّي ، والدموع الناطقة ، إنّه رسالة صامتة شديدة اللهجة صارخة الاحتجاج ، محبوكة المتن ، متينة السند .. إنّه بكاء أفقه أهل زمانه وأعلمهم وأورعهم وأتقاهم ، حفيد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وابن سبطه ، المفجوع بقتله ، الشاهد علىٰ دمه ، حامل رسالته ومبلّغ أمانته ووصيّه ووريثه والداعي إلىٰ حقّه .. إنّه بكاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
الهوامش
1. راجع : تاريخ الطبري 4 : 289 ، والقول هذا منسوب إلىٰ يحيىٰ بن سعيد الذي أرسله أمير مكةّ لإرجاع الحسين وثنيه عن التوجه إلىٰ العراق.
2. تاريخ الطبري 4 : 331.
3. الإمام السجّاد / حسين باقر : 102.
4. الكافي 6 : 474 / 6 ، عيون اخبار الرضا 2 : 56.
5. من ندبة طويلة له عليه السلام انظر الصحيفة الخامسة السجاديّة للسيّد محسن الأمين دعاء 109.
والبحار / المجلسي 78 : 154. وينابيع المودّة / الحافظ القندوزي الحنفي : 273. وكشف الغمة / الاربلي 2 : 309.
6. البلد الأمين / الكفعمي : 320. والصحيفة 4 : 29.
مقتبس من كتاب : [ الإمام علي بن الحسين عليه السلام .. دراسة تحليلية ] / الصفحة : 41 ـ 49
التعلیقات