الأسلوب
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 317 ـ 324
( 317 )
دعائم إعجاز القرآن
(4)
الأسلوب: بِداعة المنهج وغرابة السبك
الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن ، كانت تتردد بين
أسلوب المحاورة ، وأسلوب الخطابة ، وأسلوب الشعر ، وأسلوب السجع
المتكلف الموجود في كلام العرّافين والكُهّان.
فالأسلوب المحاوري ، هو الأسلوب المتداول في المكالمات اليومية في رفع
الحوائج ، وتيسير الأمور المعيشية. وهذا الأسلوب دارج في كل لغة ، ولم يكن في
العرب بدعاً منهم ، فلم يكن كلامهم عند البيع والشراء ، والمعاشرة مثل كلامهم
في مقام الخطابة ، وإظهار المناقب والفضائل.
والأسلوب الخطابي ، هو الأسلوب الرائج بين خطَباء العرب وبُلغائهم .
ويكفينا مؤنة بيانه ، التأمل في النموذجين التاليين لأشهر خطباء الجاهلية.
1 ـ وقف قس بن ساعدة في سوق عُكاظ ، وخطب : « أيّها الناس اسمعوا
وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت. ليل داج ، ونهار
ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تَزْخر ، وجبال مُرْساة ، وأرض
مُدْحاة ، وأنهار مُجراة ، إنّ في السماء لخبرا ، وإنّ في الأرض لعبرا ، ما بال الناس
يذهبون ولا يرجعون ، أَرَضوا فأَقاموا ، أم تُرِكوا فناموا؟(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- صبح الأعشى : ج 1 ص 212. وإعجاز القرآن : ص 124. البيان والتبيين : ج 1، =
________________________________________
( 318 )
2 ـ وخطب المأمون الحارثي في قومه ، فقال : « أرعوني أسماعكم ،
وأصغوا إليَّ قلوبكم ، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد ; طمح بالأهواء الأشر ، وران
على القلوب الكدر ، وطخطخ(1) الجهل النظر ، إنّ فيما ترى لَمُعْتَبَراً لمن اعتبر ،
أرض موضوعة ، وسماء مرفوعة ، وشمس تَطْلُعُ وَتَغْرُب ، ونجوم تسرى فَتَعْزُب ،
وقمر تطلعه النور ، وتَمْحَقُه أدبار الشهور(2).
ويرى هذا الأسلوب في خطب النبي وعليّ ـ عليهما السَّلام ـ في مواقف مختلفة.
والأسلوب الشعري ، هو الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في
العَروض.
وأمّا أسلوب السجع المتكلف ، فقد كان يتداوله الكهنة والعرّافون ، كما تراه
في قول ربيع الذئبي الشهير بسطيح لابن اخته عبد المسيح حول علامات ظهور
النبي العربي : « يسيح عبد المسيح ، على جمل مشيح ، أقبل إلى سطيح ، وقد
أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان ، لارتجاج الإيوان ، وخمود النيران ،
ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلا صعابا ، تقود خيلا عراباً ، حتى اقتحمت الواد ،
وانتشرت في البلاد»(3).
ولكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب ،
وخالف بأسلوبه العجيب ، وسبكه الغريب ، جميع الأساليب الدارجة بينهم ،
ومناهج نظمهم ونثرهم.
ولأجل ذلك لم تتعامل معه العرب معاملة شعر أو نثر ، بل أنصف المنصفون
منهم بأنّه وحيد نسجه في أسلوبه وسبكه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
= ص 168. الأغاني : ج 14، ص 40. العَقْد الفريد: ج 2، ص 156. ومجمع الأمثال
للميداني : ج 1، ص 74.
1- أي غلب.
2- الأمالي : لأبي علي القالي ، ج 1 ص 276.
3- تاريخ الطبري : ج 2، ص 132. والعقد الفريد : ج 1، ص 108. والسيرة الحلبية : ج 1،
ص 70. والمختصر في أخبار البشر : لأبي الفداء، ج1، ص 110.
________________________________________
( 319 )
كان العرب يعرفون الأساليب الأربعة السالفة ، ولكنهم لم يعرفوا الأسلوب
القرآني الّذي يأخذ فيه الكلام صورة خاصة ، تأتي فيها الآيات ، وتختم كل واحدة
منها بفاصلة ذات نظم ورنين ، فيجد الصدر لذلك راحة عند الوقوف على
الفاصلة.
إنّ الأسلوب القرآني الّذي تفرّد به ، كان أبين وجه وجوه الإعجاز ، في
نظر الباحثين عن إعجازه ، وإن جعلناه أحد الأسس الأربعة الّتي يبنى عليها صرح
الإعجاز القرآني.
ولأجل أهمية الأسلوب في رفع القرآن إلى درجة الإعجاز ركّز القاضي
الباقلاني عليه ، وحصر وجه إعجازه فيه ، وقال : « وجه إعجازه ما فيه من النظم
والتأليف والترصيف(1) ، وأنّه خارج عن وجوه جميع النظم المعتاد في كلام العرب ،
ومبائن لأساليب خطاباتهم ، ولهذا لم يمكنهم معارضته».
وأضاف : « ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع الّتي
أودعوها في الشعر ؛ لأنّه ليس ممّا يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم
والتدريب والتصنع به ، كقول الشعر ، ورصف الخطب ، وصناعة الرسالة ،
والحذق في البلاغة ، وله طريق تسلك. فأمّا شأو نظم القرآن ، فليس له مثال
يحتذى ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصحّ وقوع مثله اتّفاقاً»(2).
وممّن حصر وجه إعجاز القرآن بأُسلوبه الراقي هو الأصفهاني ـ على ما حكاه
السيوطي ـ فإنّه بعدما أشار إلى أقسام الكلام من المحاورة ، والنثر المسجع ،
والشعر ، قال : « ولكل من ذلك نظم مخصوص ، والقرآن جامع لمحاسن
الجميع ، على نظم غير نظم شيء منها ، يدلّ على ذلك أنّه لا يصح أن يقال له :
« رسالة » ، أو «خطابة » ، أو « شعر » ، أو « سجع » . كما يصحّ أن يقال هو
كلام . والبليغ إذا قرع القرآن سمعه ، فصل بينه وبين ما عداه من النظم ، ولهذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مراده من النظم والتأليف والترصيف هو الأسلوب لا النظم الّذي اصطلحنا عليه في الدعامة الثالثة ،
كما يظهر من القرائن.
2- الإتقان في علوم القرآن : ج 4، ص 8.
________________________________________
( 320 )
قال تعالى :(وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ
خَلْفِهِ)(1)، تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر ، فيمكن أن
يغير بالزيادة والنقصان كحال الكتب الأخرى»(2).
وممّا يدلّ على أنّ القرآن ليس كلام النبي الأعظم هو وجود البون الشاسع
بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي ، فمن قارن آية من القرآن الكريم
مع الأحاديث القطعية الصادرة منه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، أحس مدى التفاوت
البعيد بين الأسلوبين ، وآمن بأنّ أسلوب التنزيل يغاير أسلوب الحديث. وهذا
يدلّ على أنّ القرآن ينزل من عالم آخر على ضمير النبي ، بينما الحديث يتكلم به
النبي من إنشاء نفسه.
وعلى الجملة ، جاء القرآن في ثوب غير الأثواب المعروفة للكلام عند
العرب ، وفي صورة غير الصور المألوفة ، جاء نسيج وحده ، وصورة ذاته ، لا
يشبه غيره ، ولا يشبهه غيره ، فلا هو شعر ، ولا هو نثر ، ولا هو من قبيل سجع
الحكماء أو العرّافين والكُهّان.
والّذي يمكن أن يقال : إنّه قرآن فصّلت آياته ، وكل آية لها مقطع تنتهي به ،
وهو الفاصلة ، وهذه هي الظاهرة المحسوسة فيه ، يقف عليها من يتصل بالقرآن
الكريم ، قارئاً كان أو مستمعاً ، مؤمناً كان أو غير مؤمن.
وأنت إذا أردت أن تلمس الأسلوب القرآني عن كثب ، وتقف عليه وقوف
لامس للحقيقة ، ومستكشف لها عن قرب ، فلاحظ موضوعاً واحداً ورد في القرآن
المجيد ، وفي كلام النبي الأعظم أو الوصي ، فكلاهما يهدفان إلى أمر واحد ،
ولكن لكل أُسلوبه الخاص ، لا يختلط أحدهما بالآخر.
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في وصف الغفلة عن الآخرة : « وكأنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة فصلت : الآيتان 41 و42.
2- الإتقان : ج 4، ص 11. وهو يشير إلى أنّ التغيير في القرآن يوجب التغيير في تأليفه أوّلاً،
وأُسلوبه ثانياً.
________________________________________
( 321 )
الموت فيها على غيرنا كُتِب ، وكأنّ الحق فيها على غيرنا وَجَب ، وكأنّ الّذي نُشَيّع
من الأموات سَفَر ، عمّا قليل إلينا يرجعون».
وأنت إذا قارنته بما ورد في الذكر الحكيم في هذا المضمار ترى التفاوت بينهما
بينا.
يقول سبحانه : (وَ مَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(1).
فهما قد اتّفقا على وصف معنى واحد ، وهو الموت والعود إلى الآخرة ،
وتصرّم الدنيا وانقضاء أحوالها ، وطيّها ، والورود إلى الآخرة ، ولكن القرآن
متميز في تحصيل هذا المعنى وتأديته بأسلوب خاص ، تمييزاً لا يدرك بقياس ، ولا
يعتوره التباس.
وهكذا ، لاحظ قول علي ـ عليه السَّلام ـ : «أَمْ هذا الّذي أنشأه في ظُلُمات
الأرحام ، وشُغُف الأستار ، نطفة دهاقاً ، وعلقة محاقاً ، وجنيناً ، ووليداً ،
ويافعاً»(2).
ثمّ قارنه إلى قوله تعالى: ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ
عَلَقَة ثُمَّ مِنْ مُضْغَة مُخَلَّقَة وَ غَيْرِ مُخَلَّقَة لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ
إِلَى أَجَل مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ)(3).
فإنك ترى الأسلوبين يتغايران جوهراً ، ولا يجتمعان في شيء.
نوع آخر من المقارنة
وهناك نوع آخر من المقانة يتجلى فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين ،
وهو ملاحظة خطَب الرسول الأعظم وأمير المؤمنين ـ عليهما السَّلام ـ ، عندما يخطبان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة العنكبوت : الآية 64.
2- نهج البلاغة : الخطبة 83.
3- سورة الحج : الآية 5.
________________________________________
( 322 )
ويعظان الناس بأفصح وأبلغها ، ثمّ يستشهدان في ثنايا كلامهما بآي من
الذكر الحكيم ، فعندها يُلمس البون الشاسع بين الأسلوبين ، من دون مداخلة
شك وريب.
خطَب النبي الأكرم يوم فتح مكة في المسجد الحرام ، فقال : « يا معشر
قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ،
وآدم خلق من تراب: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَ أُنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)»(1).
وقال أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ ، في خطبته المعروفة بالشقشقية : « فما راعني
إلاّ والناس كعُرْف الضبع إِليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطئ
الحسنان ، وشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . فلما نهضت بالأمر ،
نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث
يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَ لاَ
فَسَادًا وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال ـ عليه السَّلام ـ في كلام له لأصحابه في بعض أيام صفين : « وطيبوا عن
أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشياً سُجحاً ، وعليكم بهذا السواد الأعظم ،
والرِّواق المُطَنَّب ، فاضربوا ثَبَجَه ؛ فإنّ الشيطان كامن في كِسْرِه ، قد قدّم للوثبة
يداً ، وأخر للنكوص رِجلاً ، فصَمْداً صَمْدا ، حتى ينجلي لكم عمود الحق :
(وأنتم الأعلون ، والله معكم ، ولن يتركم أعمالكم)(2).
وقال ـ عليه السَّلام ـ في خطبة له عند ذكر المشبهة : « لم يعقد غَيْبَ ضَميرِهِ على
معرفَتِك ، ولم يُباشِر قَلْبِهُ اليقينُ بأنّه لا نِدَّ لك ، وكأنّه لم يسمع تَبَرُّؤ التابعين من
المتبوعين ؛ إذ يقولون: ( تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- السيرة النبوية: لابن هشام : ج 3، ص 273. تاريخ الطبري، ج 3 ص 120.
2- نهج البلاغة : بتعليق محمّد عبده ، ص 115.
3- نهج البلاغة : بتعليق محمّد عبده ، ص 164.
________________________________________
( 323 )
وقال ـ عليه السَّلام ـ في خطبة له عند ذكر أهل القبور : « وكأن صرتم إلى ما
صاروا إليه ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو
تناهت بكم الأمور ، وبعثرت القبور: ( هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ
وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)(1).
وأخيراً ، يجب التنبيه على أنّ الأسلوب وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق
كلام البشر ، ما لم ينضم إليه الدعائم الثلاث الأخر ، خصوصاً سمو المعاني ، وعلو
المضامين ؛ فإنّ له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازاً ، تمتدّ إليه الأعناق ، وإلاّ
فمحاكاة الأسلوب القرآني ملموس في كلام المدّعين للمعارضة مثل مسيلمة
وغيره ، كما سيوافيك ، ولكنه يفقد المضمون الصحيح ، والمعنى المتزن ، وقد
عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلاباً للعقول ، ومبهراً للنفوس رهن أمور
أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان ، فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلاّ
السكوت والسكون.
وهناك من خفي عليه دور الأسلوب في رفع شأن القرآن ، وزَعَم أنّ إعجاز
القرآن ينحصر في الدعائم الثلاثة الأُول قال : « إنّ الأسلوب لا يمنع من الإتيان
بأسلوب مثله ؛ لأنّ الإتيان بأسلوب يماثله ، سهل ويسير على كل واحد ، بشهادة
أن ما يحكى عن مسيلمة الكذاب من قوله : « إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربِّك
وجاهر » ، يشبه أسلوب القرآن»(2).
ولكنه غفل عن أنّ الأسلوب أحد الدعائم لا الدعامة المنحصرة ، حتى أنّ
ما ادعاه من أن إعجاز القرآن لأجل الفصاحة ، والبلاغة، وجودة النظم ، وحسن
السياق ، ليست دعائم كافية لإثبات الإعجاز ؛ إذ في وسع البشر صياغة كلام في
غاية الفصاحة والبلاغة مع حسن السياق وجودته ، ومع ذلك لا يكون معجزاً ؛
لإمكان منافحته ومقابلته والإتيان بمثله ، فيلزم على ذلك عدم كون القرآن من تلك
الجهة معجزاً . والّذي يقلع الإشكال أنّ الإعجاز رهن هذه القيود الأربعة ، وأنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصدر السابق : ص 164.
2- الطراز : ص 396.
________________________________________
( 324 )
الإتيان بكلام فصيح غايتها ، وبليغ نهايتها ، منضماً إلى روعة النظم ، في هذا
الأسلوب الخاص المعهود من القرآن ، أمر معجز . ولذلك لم تجد طيلة هذه
القرون حتى يومنا هذا كلام يناضل القرآن في آياته وسوره .
ونضيف، أنّه ليس هنا مقياس ملموس كالأوزان الشعرية لتبيين حقيقة
أسلوب القرآن ، وإنّما هو أمر وجداني يدركه كل من له إلمام بالعربية.
ولأجل تقريب المطلب نذكر آية ، ثمّ نذكر مضمونها بعبارة أخرى ، فترى
أنّ العبارة الثانية بشرية ، والأولى قرآنية.
قال سبحانه: ( وَ مِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِكُلِّ صَبَّار شَكُور * أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِير)(1).
هذا هو الكلام الإلهي.
فلو أراد إنسان أن يصب هذا المعنى بصورة أُخرى ، يتغير الأُسلوب ، مهما
بلغ في الفصاحة والبلاغة من العظمة ، فيقال مثلاً:
« ومن أعظم علاماته الباهرة ، جري السُفُن على الماء ، كالأبنية العظيمة ،
إن يرد هبوب الريح تجري بها ، وإن يرد سكون الريح فتركد على ظهره ، أو يرد
إهلاكها بالإغراق بالماء فيهلكهم بسيئات أعمالهم . وفي ذلك آيات للمؤمنين».
فانظر الفرق بين الأُسلوبين ، والاختلاف في السبكين ، مضافاً إلى افتقاد
الثانية بعض النكات الموجودة في الآية.
إلى هنا تمّ الكلام حول الدعائم الأربع الّتي بني عليها صرح الإعجاز ،
وشيدت أركانه . غير أنّه بقي هنا أمور لا غنى عن الإشارة إليها والتنبيه عليها ؛
لأنّها تقع في طريق تكميل مباحث إعجاز القرآن البياني ، وفيما يلي بيانها.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الشورى : الآيات 32 ـ 34.
التعلیقات