القيامة ومحاسبة الأعمال
الشيخ جعفر السبحاني
منذ سنةالقيامة ومحاسبة الأعمال
إنّ من أسماء القيامة ، يوم الحساب (1) أي اليوم الذي يحاسب سبحانه فيه العباد علىٰ أعمالهم ، وهذا الأمر بمكان من الوضوح ممّا حدا بالإمام علي عليه السلام إلى بيان الفرق بين الدارين بتسمية الدار الأُولى ، دار العمل ، والدار الثانية دار الحساب ، وقال : « واليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ». (2)
وقد وردت حول الحساب آيات وروايات ، يجب على المفسّر دراستها بدقّة وإمعان لما فيها من الحقائق الشامخة ، وفيها إجابة عن بعض الأسئلة المطروحة في هذا المضمار ، وإليك عناوين المسائل :
1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟
2. من المحاسِب ؟
3. ما هي الأعمال التي يُحاسَب عليها ؟
4. هل الحساب يعمُّ الجميع ؟
5. ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟
6. ما هو المقصود من سوء الحساب ؟
7. من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟
8. اختلاف العباد عند الحساب.
9. إتمام الحجة على العباد عند الحساب.
10. الاعتراف بالذنوب ورجاء العفو والمغفرة.
هذه هي العناوين الرئيسية التي سنتناولها في هذا الفصل واحدة تلو الأُخرىٰ.
1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟
لقد اعتاد الإنسان في حياته العملية أن يجري الموازنة بين الدخل والصرف يبغي من وراء ذلك تنظيم حياته علىٰ وفقها.
والله سبحانه عالم بكلّ شيء فلا حاجة له إلىٰ محاسبة الأعمال حتى يقف على خير الأعمال وشرها ونسبة أحدهما إلى الآخر ، يقول سبحانه حاكياً عن لسان لقمان : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (3).
فلا محيص عن كون الداعي إلى المحاسبة شيئاً آخر ، وهو إراءة عدله وجوده وحكمته عند المحاسبة ، فلو عفا فلجوده وكرمه ، وإن عذّب فلعدله وحكمته.
فمحاسبته تبارك وتعالىٰ كابتلاء عباده ، فانّ الهدف من الابتلاء ليس هو الوقوف على ما يَكْمُن في نفوس العباد من الخير والشر ، بل الغاية إكمال العباد وتبديل طاقات الخير إلى فعليته ، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « لا يقولنَّ أحدكم : « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة » لأنّه ليس أحد إلّا وهو مبتل بفتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن ، فانّ الله سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتَظْهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، لأنّ بعضهم يحبُّ الذكور ويكره الإناث ، وبعضهم يحب تثمير المال ، ويكره انثلام الحال ». (4)
2. من المحاسِب ؟
دلّت الأُصول التوحيدية علىٰ أنّ في صحيفة الوجود مدبراً واحداً وهو الله سبحانه ، والمحاسبة نوع تدبير لهم فلابدّ من صلتها به إمّا مباشرة أو مع الواسطة بإذنه سبحانه. غير أنّ ظاهر كثير من الآيات علىٰ أنّ المحاسب هو الله سبحانه.
قال تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ). (5)
قال تعالى : ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ). (6)
وقال عزّ من قائل : ( إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ). (7)
وقال تعالى : ( وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا ). (8)
وهذه الآيات صريحة في أنّه تعالىٰ هو المحاسب.
ولكن بعض الآيات تشير إلى أنّ المحاسب هو نفس الإنسان من خلال قراءة كتابه الّذي ( لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) (9) ، قال سبحانه :
( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ). (10)
إِلّا أنّ هذه الآيات لا تعارض الآيات الآنفة الذكر ، لأنّ حساب العباد أنفسهم في طول محاسبته سبحانه لأعمالهم ، فانّ الكتاب الذي في عنق الإنسان مكتوب بأمره سبحانه ، وهو أيضاً قارئ بأمره ، فلا تكون تلك المحاسبة مغايرة لمحاسبته سبحانه.
وأمّا الروايات فطائفة منها تؤيد الأوّل.
قال أمير المؤمنين في حقّ عائشة : « وأمّا فلانة فأدركها رأي ( رائحة ) النساء ، وَضِغنٌ غلا في صدرها كَمِرْجَلِ القَيْنِ ، ولو دعيت لِتَنالَ من غيري ما أتت إليَّ ، لم تفعل ، ولها بعد حرمتها الأُولى. والحساب على الله تعالى ». (11)
والظاهر من بعض الروايات انّه سبحانه فوض أمر الحساب إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
روى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام ، انّه قال : إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا. (12)
وقد ورد في تفسير قوله سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ) (13) انّ الإمام الصادق عليه السلام قال : « إذا كان يوم القيامة جعل الله حساب شيعتنا إلينا ». (14)
وفي الزيارة الجامعة قوله : « وَإِيابُ الخَلْقِ إِلَيْكُمْ وَحِسابهُ عَلَيْكُمْ ».
ولو صحت تلك الروايات فلا تنافي حصر الحساب في الله سبحانه ، لأنّ محاسبتهم لحسنات شيعتهم أو ذنوبهم بأمر من الله سبحانه ، فكما أنّ الملائكة لو قامت بحساب الأعمال بأمر من الله سبحانه لم يكن مخالفاً لحصر الحساب فيه سبحانه ، وكذا غيرهم ممن لهم مقام شامخ يوم القيامة ولنبينا مقام محمود آتاه الله له فهو يشفع بإذن الله سبحانه لمن ارتضاه.
3. ما هي الأعمال التي يحاسب عليها ؟
الآيات الواردة في هذا الصدد علىٰ صنفين :
أ. ما يدل على أنّه يسأل عن عامّة الأفعال ، قال سبحانه :
( وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). (15)
( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ). (16)
( ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ). (17)
( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ). (18)
ب. ما يدل على أنّه يسأل عن بعض الأُمور ، وهذه الأُمور عبارة عن :
ـ النعم الإلهية : قال سبحانه : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (19) ويمكن عدّ هذه الآية من الصنف الأوّل الذي دل علىٰ أنّ السؤال يتعلّق بجميع النعم ، لأنّ كلّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال حسناً كان أم قبيحاً ، حلالاً أو حراماً ، إنّما هو تصرف في نعمه سبحانه ، فالسؤال عن النعم سؤال عن جميع الأفعال.
ـ القرآن الكريم : قال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ). (20)
وقال أيضاً : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). (21)
ـ الشهادة : قال سبحانه : ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ). (22)
ـ المؤودة : قال سبحانه : ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ). (23)
ـ الكذب والتهمة : قال سبحانه : ( تَاللَّـهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ). (24)
ـ الصدق : قال سبحانه : ( لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ). (25)
غير انّ تخصيص هذه الأُمور بالسؤال عنها لا ينافي تعلّق السؤال بعامّة الأفعال ، فكأنّها من باب ذكر الخاص بعد العام.
وقد نشاهد هذا النوع من التقسيم في الروايات ، حيث ورد فيها تعلّق السؤال بأُمور خاصة.
فصنف يدل على تعلّق السؤال بعامة الأفعال.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ». (26)
وكتب عليه السلام إلى بعض عمّاله الذي خانه واستولى على بيت المال وذهب به إلى الحجاز : « فكأنّك قد بلغت المَدَى ، ودفنت تحت الثرى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحلِّ الذي ينادي الظّالم فيه بالحسرة ، ويتمنّىٰ المضيّع فيه الرجعة ، ولات حين مناص ». (27)
وصنف آخر يخصص السؤال ببعض الأُمور.
ويستفاد من جملة من الأخبار انّ الأُمور التالية يُسأل عنها بعينها :
1. التوحيد ، 2. النبوة ، 3. الولاية ، 4. القرآن الكريم ، 5. محبة أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، 6. الصلاة ، 7. عمر الإنسان ، 8. شبابه ، 9. أعضاؤه ، 10. الثروة ، التي اكتنزها ، وفي أي شيء صرفها.
روى الصدوق في الخصال والأمالي بسنده عن موسى بن جعفر عليهما السلام عن آبائه ، قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وشبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت ». (28)
روى المفيد بسنده عن ابن عيينة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام ، يقول : « ما من عبد إلّا ولله عليه حجّة ، إمّا في ذنب اقترفه ، وإمّا في نعمة قصّر عن شكرها ». (29)
روى الشيخ في التهذيب ، عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل ما سواها ». (30)
روى الصفار في بصائر الدرجات ، عن أبي شعيب الحداد ، عن أبي عبد الله ، قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أنا أوّل قادم على الله ، ثمّ يقدم عليَّ كتاب الله ، ثمّ يقدم عليَّ أهل بيتي ، ثمّ يقدم عليَّ أُمّتي فيقفون فيسألهم في كتابي وأهل بيت نبيكم ». (31)
روى القمي في تفسيره ، عن جميل ، عن أبي عبد الله ، قال : قلت قول الله ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) ، قال : « تسأل هذه الأُمّة عمّا أنعم الله عليهم برسول الله ، ثمّ بأهل بيته ». (32)
روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ، عن الرضا عليه السلام أنّه قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : يا علي ! إنّ أوّل ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، وأنّك وليُّ المؤمنين بما جعله الله وجعلته لك ، فمن أقرَّ بذلك وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له ». (33)
النعم الدنيوية والسؤال عنها
إنّ الروايات الواردة في هذا المقام على أصناف :
1. ما دلّ على أنّ النعم الدنيوية يُسأل عن حلالها وحرامها ، قال أمير المؤمنين : « ما أصف من دار أوّلها عناء ، وآخرها فناء ، في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ». (34)
2. ويُسأل عن كلّ شيء حتى البقاع والبهائم ، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « اتّقوا الله في عباده وبلاده ، فانّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ، أطيعوا الله ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشرّ فأعرضوا عنه ». (35)
3. يُسأل عن كلّ شيء سوى ما صرف في سبيل الله ، قال : « كلّ نعيم مسؤول عنه يوم القيامة إلّا ما كان في سبيل الله ». (36)
4. لا يُسأل عن الطعام الذي أكله ، والثوب الذي لبسه ، والزوجة الصالحة ، قال الصادق عليه السلام : « ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهنَّ ، طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه ». (37)
هذه هي الروايات الواردة في المقام.
أمّا الأُولى والثانية فتدلّان علىٰ سعة المسؤولية حتى يُسأل عن البقاع المتروكة والبهائم المرسلة في البيداء.
وأمّا الثالثة فلأنّ عدم السؤال عمّا صرف في سبيل الله ، فهو أمر مرغوب إليه لا حاجة إلى السؤال. وأمّا عدم السؤال عن المأكل والملبس وغيرهما التي تعد من لوازم الحياة فلكرمه سبحانه علىٰ عباده ، وتكون النتيجة السؤال عن كلّ شيء إلّا ما صرف في سبيل الله أو ما يتوقف عليه ضرورة الحياة.
4. هل الحساب يعمّ الجميع ؟
هل الحساب يعمّ جميع أفراد الإنسان حتى الأنبياء والمرسلين ، وكلّ من وضع عليه قلم التكليف أم لا ؟ فالآيات الواردة في هذا المجال علىٰ أصناف :
أ. ما دلّ على أنّ السؤال يعمّ الجميع حتى العلماء والصديقين ، قال سبحانه : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ). (38)
وهذه الآية أوضح ما في الباب في عموم السؤال ، ويؤيده ما روي عن أمير المؤمنين ، انّه قال : « وذلك يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ». (39)
ب. ما دلّ على أنّ السؤال مرفوع عن الجميع ، قال سبحانه : ( فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ). (40)
وقال : ( وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ). (41)
ج. ما دلّ على سؤال المجرمين ، قال سبحانه : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّـهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ). (42)
د. ما دلّ على أنّ الصابرين يجزون بلا حساب ، قال سبحانه : ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ). (43)
فهل كلمة ( بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قيد للفعل ، بمعنىٰ يوفّى الصابرون بغير حساب ؟ أو قيد لقوله : أجرهم ، أي يوفّى الصابرون أجراً هو بغير حساب ؟
فعلى الأوّل : فالصابرون غير مسؤولين أبداً ، فانّ من يوفّى أجره توفية بغير حساب فهو يلازم عدم المحاسبة إذ لو كان هناك حساب لكانت التوفية بمقداره.
روى العياشي ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ). (44)
الحساب التكويني والتدويني
يُصنّف الحساب إلى تكويني وتدويني ، والمراد من الأوّل أنّ عالم الكون خلق على نظم خاصة لا تتخلف ، فحركة الشمس والقمر ، بزوغ النجوم وأفولها ، مهبّ الرياح وهبوط الأمطار ، واخضرار الأشجار ، إلى غير ذلك من الآيات الكونية ، قد خلقت علىٰ نظام معين ، يقول سبحانه : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (45) ، ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ). (46)
وليس هذا من خصائص الظواهر الطبيعية فحسب ، بل تتعدّاها إلى الحوادث الاجتماعية التي لها ارتباط وثيق بحياة الإنسان والمجتمع.
وهذه هي التي يعبر عنها القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات :
قال سبحانه : ( سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ) (47). (48)
فكلّ ما يصدر من الإنسان من الأعمال الحسنة والسيئة فهو ذو تأثير علىٰ مصير الفرد والمجتمع يسوقهما إلى السعادة والتكامل أو إلى الشقاء والانحطاط ، أو إلى غير ذلك من الآثار.
بل تؤثر في الحياة الأُخروية ومصير الإنسان فيها ، ولذلك قالوا : الدنيا مزرعة الآخرة ، فما يزرعه فيها يحصده في الدار الآخرة.
وعلىٰ ضوء ذلك فلو كان المراد من الحساب المحاسبة التكوينية ، فالأعمال كلّها تُحاسب بمعنى انّها تؤثر في مصير الإنسان وحياته الأُخروية حسنها وسيّئها ولا يغادر فعل في ذلك المقام.
ولأجل ذلك يفترق الإنسان إلىٰ أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. لأجل جزاء أعماله ولا يتطرق التخصيص إلى المحاسبة الكونية ، فانّ التكوين لا يقبل التخصيص.
هذا كلّه حول الحساب التكويني ، وأمّا الحساب التدويني فهو أمر راجع إلى الأفراد والحكومات ، فكلّ فرد يوازن بين دخله ومصرفه كما تفعل ذلك كافة الدوائر والمؤسسات الحكومية والمالية وغيرها.
وهل الحساب في الدار الآخرة بهذا النحو الذي يمارسه الإنسان في دار الدنيا فتفتح الدواوين والكتب التي هي اضبارة لأعماله فتجمع الحسنات في قائمة والسيّئات في قائمة أُخرى ثمّ يوازن بينها فإن رجحت حسناته علىٰ سيئاته ، فيعطى كتابه بيمينه ، وإن رجحت سيئاته على حسناته فيعطىٰ كتابه بشماله ، قال سبحانه :
( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ). (49)
( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ). (50)
دراسة الآيات السالفة الذكر
إنّ الاختلاف في شمولية الحساب وعدمها راجع إلى الحساب التدويني ، وأمّا الحساب التكويني فشموليته أمر لا خلاف فيه ، لأنّ مرجع الحساب التكويني يعود إلى الآثار الواقعية للعمل التي لا تنفك عنه ، ولذلك يعم الجميع من دون فرق بين صالح وصالح أو طالح وطالح.
إنّما الكلام في شمولية الحساب التدويني بالمعنى الذي عرفت ، فقد مرّ أنّ بعض الآيات تثبت الشمولية لكافة الناس دون فرق بين الرسول والذين أرسل إليهم. (51)
كما أنّ بعض الآيات تنفي السؤال عن الإنس والجن (52) الذي يلازم نفي الحساب عنهم ، فما هو وجه الجمع بين الطائفتين ؟
وقد اختلفت كلمة المفسرين في الجمع بين الآيات بوجوه :
الأوّل : انّ الآيات النافية للسؤال لا تنفيه بتاتاً ، بل تنفي السؤال على غرار السؤال في المحاكم.
حيث يُسأل الشخص عن الأعمال التي اقترفها ولِمَ فعلها ؟ بيد انّ السؤال في المحكمة الإلهية ليس على هذا الغرار ، بل انّ آثار الجرائم والذنوب تتجلّىٰ في وجوده على وجه لا يمكن التملص منها ، ولذلك نرى أنّه سبحانه أردف قوله :
( فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ) (53) بقوله : ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ). (54)
الثاني : إزاحة الاختلاف بين الطائفتين باختلاف المواقف في يوم القيامة ، حيث يُسأل الإنسان في موقف ولا يُسأل في موقف آخر.
الثالث : حمل الآيات النافية للسؤال ، على السؤال عن طريق اللسان حيث تتكلم الأعضاء مكان الإجابة باللسان ، قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (55)
الرابع : الآيات المثبتة للسؤال ناظرة إلى الأحوال التي يمرّ بها الإنسان في غضون محاكمته ، كما أنّ الآيات النافية ناظرة إلى المواقف التي ختمت فيها محاكمته واتضح مصيره من الجنة والنار. ولعلّ هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني.
وعلى ذلك فتوفية الصابرين أُجورهم بغير حساب استثناء من الآيات المذكورة.
دراسة شمولية الحساب في الروايات
إنّ الروايات الواردة في هذا المضمار علىٰ طوائف :
الأُولى : شمولية الحساب للجميع.
الثانية : شمولية الحساب للجميع عدا المشركين الذين يدخلون الجحيم بلا حساب.
الثالثة : شموليته لهم عدا بعض المؤمنين الذين يدخلون الجنة بلا حساب.
وإليك بعض ما روي في المقام.
أ. روى الإمام الباقر عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : « يا معاشر قرّاء القرآن ، اتّقوا الله عزّ وجلّ فيما حملكم من كتابه فانّي مسؤول وانّكم مسؤولون ، انّي مسؤول عن تبليغي ، وأمّا أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب ربّي وسنتي ». (56)
ويصف الإمام علي عليه السلام يوم القيامة في بعض خطبه ، ويقول : « وذلك يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب ». (57)
ب. وقال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام : « اعلموا عباد الله انّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما تنشر الدواوين لأهل الإسلام ». (58)
روى الصدوق عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : « إنّ الله عزّ وجلّ يحاسب كلّ خلق إلّا من أشرك بالله عزّ وجلّ فانّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار ». (59)
ج. روى المفيد في أماليه بسنده ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر محمد ابن علي الباقر ، عن آبائه ، عن رسول الله : « إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ونادى مناد من عند الله يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، يقول : أين أهل الصبر ؟ قال : فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ما كان صبركم هذا الذي صبرتم ؟ فيقولون : صبرنا أنفسنا علىٰ طاعة الله ، وصبرناها عن معصيته ، قال : فينادي مناد من عند الله : صدق عبادي خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب ؛ قال : ثمّ ينادي مناد آخر يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، فيقول : أين أهل الفضل ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم الملائكة ، فيقولون : ما فضلكم هذا الذي ترديتم به ؟ فيقولون : كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل ، ويساء إلينا فنعفو ، قال : فينادي مناد من عند الله تعالى صدق عبادي ، خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب ؛ قال : ثمّ ينادي مناد من الله عزّ وجلّ يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، فيقول : أين جيران الله جلّ جلاله في داره ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة ، فيقولون لهم : ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله تعالى في داره ؟ فيقولون : كنّا نتحاب في الله عزّ وجلّ ، ونتباذل في الله ، ونتوازر في الله ، قال : فينادي مناد من عند الله تعالى : صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلىٰ جوار الله في الجنة بغير حساب ، قال : فينطلقون إلى الجنة بغير حساب ». ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام : « فهؤلاء جيران الله في داره يخاف الناس ولا يخافون ، ويحاسب الناس ولا يحاسبون ». (60)
إنّ الطائفة الأُولى من الروايات تتفق مع الطائفة الأُولىٰ من الآيات في شمولية الحساب ، كما أنّ الطائفة الثالثة من الروايات تتفق مع ما جاء في الطائفة الثالثة من الآيات في استثناء الصابرين من الحساب ، وإن كانت الروايات أوسع شمولاً من الآيات حيث عطف على الصابرين المخلصين والعافين عن الناس.
ثمّ إنّ عدم سؤال المؤمنين نوع تكريم لهم ، ولكن عدم سؤال المشركين نوع إهانة لهم ، ولا غروة في أن يكون عملٌ واحدٌ تكريماً لقوم واهانة لقومٍ آخرين.
وعلى أيّة حال فالسؤال ونفيه يرجعان إلى السؤال التدويني لا التكويني فانّها عامة قطعاً.
5. ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟
إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بأنّه سريع الحساب ، يقول : ( الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (61) وقد ورد ذلك الوصف في غير واحد من السور. (62)
وفي الدعاء المعروف بالجوشن الكبير : « يا من هو سريع الحساب ».
وحينها يطرح هذا السؤال وهو ما معنىٰ وصفه سبحانه بأنّه سريع الحساب ؟
وقد ذكر المفسرون في تفسير ذلك الوصف وجوهاً :
الوجه الأوّل : انّه سبحانه سيجزي المؤمنين والكافرين.
والوصف كناية عن اقتراب الساعة ، قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ). (63)
وربما يطلق الحساب ويراد منه الجزاء.
الوجه الثاني : انّ سريع الحساب كناية عن أنّ العباد سيحاسبون في أسرع وقت دون أن يظلم أحد منهم.
روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : « إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة ». (64)
الوجه الثالث : انّ الحساب لا يختص بالآخرة بل يشمل الدنيا أيضاً ، سواء أكان العمل حسناً أم قبيحاً ، فيحاسب كلّ إنسان حسب عمله ويجزى علىٰ وفقه.
ويجزى المحسن بتوفيقه للطاعة والإحسان ويجزى المجرم بخذلانه وحرمانه من الخير.
فكلّ عمل أعمّ من الخير والشر يعقبه الجزاء ، بيد انّ الإنسان العادي لا يدرك الجزاء ، ولكن العارف الواعي الذي يحاسب نفسه كلّ يوم يقف علىٰ جزاء عمله ، ولذلك ورد في الحديث : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ». (65)
هذه هي الوجوه المذكورة في تفسير ذلك الوصف ، والوجهان الأوّلان ناظران إلى أنّ ظرف الحساب هو النشأة الآخرة ، والوجه الأخير ناظر إلى أنّ ظرفه هو النشأة الدنيوية ، ولكلّ دليل يدعمه.
أمّا الوجهان الأوّلان ، فيدل عليهما الآيات التالية التي تنص على أنّ ظرف الحساب هو النشأة الآخرة.
1. ( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ... لِيَجْزِيَ اللَّـهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ). (66)
2. ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ). (67)
3. ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّـهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ). (68)
غير انّ بعض الآيات يستظهر منها الإطلاق والشمولية للدنيا والآخرة ، يقول سبحانه :
( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّـهِ فَإِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ). (69)
والدليل على إطلاقه وشموليته الآية التالية بعدها ، يقول :
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ). (70)
وجه دلالته : انّه سبحانه يحكم في هذه الدنيا بحبط أعمالهم في النشأتين ، ولا يحكم بالحبط إلّا بعد الحساب.
وممّا يؤيد الشمول قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّـهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ). (71)
وظاهر الآية انّه سبحانه تبارك وتعالى يوصي في الصيد بالتقوىٰ والإعراض عن اللهو والهوىٰ وأن يكون الصيد لأجل سدّ العيلة ، وما ذلك إلّا لأنّه سبحانه بالمرصاد لهم وهو سريع الحساب.
فتحصل ممّا ذكرنا انّ الآيات علىٰ طائفتين :
الأُولى : ما هي صريحة أو ظاهرة في أنّ ظرف الحساب هي النشأة الأُخرى.
الثانية : ما هي ظاهرة في أنّ ظرفه هي النشأة الدنيوية ، أو مطلقة تعم النشأتين.
وعلى ضوء هذا التقسيم يكون المعنى الثاني والثالث أوفق بتفسير « سريع الحساب ».
وأمّا المعنى الأوّل الذي يفسر الحساب بالجزاء فهو أبعد من ظاهر الآية فانّه يجعل الوصف كناية عن اقتراب الساعة وهو في غاية البعد.
ولا غرو في أن يكون سبحانه سريع الحساب ، فكما هو يسمع دعاء الجميع في آن واحد ويرزقهم مجتمعين يحاسبهم كذلك.
سئل علي عليه السلام كيف يحاسب الله الخلق علىٰ كثرتهم ؟ فقال عليه السلام : « كما يرزقهم علىٰ كثرتهم » فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ فقال عليه السلام : « كما يرزقهم ولا يرونه ». (72)
6. ما هو المقصود من سوء الحساب ؟
إنّ الذكر الحكيم يصف الحساب في موارد بالسوء ، ويقول : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ). (73) وفي آية أُخرى : ( أُولَـٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ). (74)
وعندئذٍ يطرح السؤال التالي نفسه :
إذا كان الموكلون للحساب أُمناء صادقين فما هو الوجه في وصف الحساب بالسوء ؟
الجواب : انّ المراد من سوء الحساب هو الحساب الصادق الذي يسيء صاحبه ، لأنّه يرى كلّ صغير وكبير من أعماله فيه مستتراً وعند ذلك تثور ثورته ويناله ذلك الحساب الصادق.
روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في تفسير قوله تعالىٰ : ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) ، انّه قال : « الاستقصاء والمداقة » وقال : « يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات ». (75)
روى حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال لرجل : « يا فلان مالك ولأخيك ؟! » قال : جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي ، قال أبو عبد الله عليه السلام : « أخبرني عن قول الله : ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم ؟ لا والله خافوا الاستقصاء والمداقة ». (76)
وروى محمد بن عيسى (77) عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه السلام انّه قال
لرجل شكاه بعض إخوانه : « ما لأخيك فلان يشكوك » فقال : أيشكوني ان استقصيت حقي ؟! قال : فجلس مغضباً ، ثمّ قال : « كأنّك إذا استقصيت لم تسئ ، أرأيت ما حكى الله تبارك وتعالى : ( وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) أخافوا أن يجور عليهم ؟ لا والله ما خافوا إلّا الاستقصاء. فسمّاه الله سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساء ». (77)
7. من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟
انّه كما يذكر سبحانه سوء الحساب يذكر يسر الحساب أيضاً ، يقول سبحانه : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) (78) غير أنّ المهم هو الوقوف على من يحاسب بهذا النوع من الحساب.
ويستفاد من الآية التالية : أنّ صلة الرحم توجب يسر الحساب ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ). (79) وهذا يوحي إلى أنّ قطع الرحم يوجب سوء الحساب ووصلها يوجب يسره ، وقد ورد في بعض الروايات أنّ صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة ، ثمّ قرأ : ( يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ).
8. اختلاف العباد عند الحساب
انّه سبحانه كما يحاسب بعض العباد بالدقة والاستقصاء ، يحاسب بعضهم بالعفو والإغماض ، فمن بلغ في العقل والوعي مرتبة سامية يحاسب حساباً دقيقاً ، بخلاف من لم يبلغ تلك المرتبة من العقل والوعي فانّه يحاسب دون ذلك.
يقول الإمام الباقر عليه السلام : « إنّ ما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا ». (80)
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال : « إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان ، للحساب كلاهما من أهل الجنة ، فقير في الدنيا ، وغني في الدنيا ، فيقول الفقير : يا ربّ علىٰ ما أوقف ؟ فوعزتك إنّك لتعلم أنّك لم تولّني ولاية فأعدل فيها أو أجور ، ولم ترزقني مالاً فأُؤدّي منه حقاً أو أمنع ، ولا كان رزقي يأتيني منها إلّا كفافاً علىٰ ما علمت وقدّرت لي ، فيقول الله جلّ جلاله : صدق عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة. ويبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها ، ثمّ يدخل الجنة ، فيقول له الفقير ، ما حبسك ؟ فيقول : طول الحساب ، ما زال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي ، ثمّ اسأل عن شيء آخر حتى تغمّدني الله عزّ وجلّ منه برحمة وألحقني بالتائبين ، فمن أنت ؟ فيقول : أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً ، فيقول : لقد غيّرك النعيم بعدي ». (81)
9. إتمام الحجّة على العباد عند الحساب
إنّ الحساب علىٰ أصناف :
أ. إذا كان جاهلاً وكان جهله عن قصور ، فترك الواجب أو اقترف الحرام من دون أن يحتمل كون المتروك واجب الفعل ، والمأتي واجب الترك ، فهذا هو الجاهل القاصر الذي يكون معذوراً سواء أكان بين العلماء ولم يحتمل كون المتروك واجباً أو المفعول حراماً ، أو لم يكن بينهم بل كان يقطن في بيئة نائية عن العلم.
ب. إذا اقترف المحرمات أو ارتكب الواجبات عن تقصير ، بأن كان جاهلاً ولم يتعلّم ، وهذا نظير القسم الثالث أي العالم بالأحكام.
فربما يعتذر ذلك الجاهل بجهله ويتترّس به ، فيخاطب لماذا لم تتعلم ؟
روى هارون ، عن ابن زياد ، قال : سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام يقول وقد سئل عن قوله تعالى : ( قُلْ فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) ؟ فقال : « إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ؟ وإن قال كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلَّمت حتى تعمل ؟ فيخصم ، فتلك الحجّة لله عزّ وجلّ علىٰ خلقه » (82).
روى عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : سمعت أبا عبد الله ، يقول : « يؤتىٰ بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها ، فتقول : يا ربِّ حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت ، فيجاء بمريم عليها السلام ، فيقال : أنت أحسن أو هذه ؟ قد حسّنّاها فلم تُفتتن ، ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه ، فيقول : يا ربّ حسّنتَ خلقي حتى لقيتُ من النساء ما لقيتُ ، فيجاء بيوسف عليه السلام ، فيقال : أنت أحسن أو هذا ؟ قد حسنّاه فلم يفتتن ، ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابته الفتنة في بلائه ، فيقول : يا ربّ شددت عليّ البلاء حتى افتتنت ، فيجاء بأيوب عليه السلام ، فيقال : أبليّتك أشد أو بلية هذا ؟ فقد ابتلي فلم يفتتن ». (83)
10. الاعتراف بالذنوب ورجاء العفو والمغفرة
يظهر من غير واحد من الروايات أنّ كثيراً من الناس يعترفون بذنوبهم مع حسن الظن بربّهم ويكون ذلك سبباً لمغفرتهم ، وقد ورد في ذلك روايات نذكرها تباعاً لتكون حسن ختام لهذا الفصل.
روى علي بن رئاب قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « يؤتىٰ بعبد يوم القيامة ظالم لنفسه ، فيقول الله له : ألم آمرك بطاعتي ؟ ألم أنهك عن معصيتي ؟ فيقول : بلىٰ يا ربِّ ، ولكن غلبت عليَّ شهوتي ، فان تعذّبني فبذنبي لم تظلمني ، فيأمر الله به إلى النار ، فيقول : ما كان هذا ظني بك ، فيقول : ما كان ظنك بي ؟ قال : كان ظنّي بك أحسن الظن ، فيأمر الله به إلى الجنة ، فيقول الله تبارك وتعالى : لقد نفعك حسن ظنك بي الساعة ». (84)
وروى سليمان بن خالد ، قال : قرأت على أبي عبد الله عليه السلام هذه الآية : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (85) ، فقال : هذه فيكم ، انّه يؤتىٰ بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عزّ وجلّ ، فيكون هو الذي يلي حسابه فيوقفه على سيئاته شيئاً شيئاً ، فيقول : عملتَ كذا في يوم كذا في ساعة كذا ، فيقول : اعرف يا رب ، قال : حتى يوقفه على سيئاته كلّها ، كلّ ذلك يقول : أعرف ، فيقول : سترتها عليك في الدنيا ، وأغفرها لك اليوم ، أبدلوها لعبدي حسنات ، قال : فترفع صحيفته للناس ، فيقولون : سبحان الله ، أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة ؟ وهو قول الله عزّ وجلّ : ( فَأُولَـٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ). (86)
الهوامش
1. انظر : سورة إبراهيم : 41 ؛ ص : 16 ، 26 ، 53 ؛ غافر : 27.
2. نهج البلاغة : الخطبة 42.
3. لقمان : 16.
4. نهج البلاغة : من كلماته القصار ، برقم 93.
5. الغاشية : 25 ـ 26.
6. الرعد : 40.
7. الشعراء : 113.
8. النساء : 6 والأحزاب : 38.
9. الكهف : 49.
10. الأسراء : 13 ـ 14.
11. نهج البلاغة : الخطبة 156 ، ط صبحي الصالح.
12. البحار : 7 / 264.
13. الغاشية : 26.
14. البحار : 7 / 274.
15. النحل : 93.
16. الأنبياء : 23.
17. الزمر : 7.
18. الزلزلة : 6.
19. التكاثر : 8.
20. الزخرف : 44.
21. الحجر : 91 ـ 93.
22. الزخرف : 19.
23. التكوير : 8 ـ 9.
24. النحل : 56.
25. الأحزاب : 8.
26. نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 6.
27. نهج البلاغة : قسم الرسائل ، برقم 41.
28. البحار : 7 / 58 ، باب محاسبة الأعمال ، حديث 1.
29. البحار : 7 / 262 ، باب محاسبة الأعمال ، حديث 13.
30. المصدر نفسه ، حديث 33.
31. المصدر نفسه ، حديث 22.
32. المصدر نفسه ، حديث 39.
33. المصدر نفسه ، حديث 41.
34. نهج البلاغة : الخطبة 82.
35. نهج البلاغة : الخطبة 167.
36. البحار : 7 / 261 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 10.
37. المصدر نفسه : حديث 23.
38. الأعراف : 6.
39. نهج البلاغة : الخطبة 102.
40. الرحمن : 39.
41. القصص : 78.
42. الصافات : 22 ـ 24.
43. الزمر : 10.
44. مجمع البيان : 4 / 492.
45. الرحمن : 5.
46. يس : 38.
47. الأحزاب : 62.
48. ولاحظ فاطر : 43 ؛ غافر : 85 ؛ الفتح : 23 ؛ الإسراء : 77.
49. الانشقاق : 7 ـ 8.
50. الحاقة : 25.
51. لاحظ الأعراف : 6.
52. لاحظ الرحمن : 39.
53. الرحمن : 39.
54. الرحمن : 41.
55. يس : 65.
56. أُصول الكافي : 2 / 606.
57. نهج البلاغة : الخطبة 102.
58. بحار الأنوار : 7 / 258 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 2.
59. المصدر السابق : حديث 7.
60. بحار الأنوار : 7 / 171 ـ 172 ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1.
61. غافر : 17.
62. لاحظ البقرة : 202 ؛ آل عمران : 19 ، 199 ؛ المائدة : 4 ؛ الأنعام : 62 ؛ الرعد : 41 ؛ إبراهيم : 51 ؛ النور : 39.
63. النحل : 77.
64. مجمع البيان : 1 / 298 ؛ الكشاف : 1 / 248.
65. تفسير الصافي : للفيض الكاشاني.
66. إبراهيم : 49 ـ 51.
67. الأنعام : 62.
68. النور : 39.
69. آل عمران : 19.
70. آل عمران : 22.
71. المائدة : 4.
72. نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 300.
73. الرعد : 21. 3. الرعد : 18.
74. بحار الأنوار : 7 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 27 و 28.
75. بحار الأنوار : 7 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 27 و 28.
76. المراد محمد بن عيسى العُبيد.
77. المصدر السابق برقم 29.
78. الانشقاق : 7 ـ 8.
79. الرعد : 21.
80. بحار الأنوار : 7 / 267 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 32.
81. بحار الأنوار : 7 / 259 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 4.
82. بحار الأنوار : 7 / 285 ، الباب 13 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1.
83. بحار الأنوار : 7 / 285 ، الباب 13 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 3.
84. بحار الأنوار : 7 / 288 ، الباب 14 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 4.
85. الفرقان : 70.
86. بحار الأنوار : 7 / 288 ، باب 14 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 5.
مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 8 / الصفحة : 218 ـ 242
التعلیقات