إنّه إذا كانت السيّدة مريم عليها السلام تعيش في ظلّ الكرامة الإلهيّة ، حتّى إنّه : ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ آل عمران : ۳۷ ]. فلماذا حين امتحنت بالحمل بنبي الله عيسى عليه السلام تخلّى الله عنها ، وهي في أمس الحاجة إلى لطفه وعونه ورعايته ، فأصبحت بحاجة إلى أن تهزّ إليها بجذع النخلة لتساقط عليها رطباً جنياً ؟!..
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد ..
فإن عنايات الله سبحانه بالسيّدة مريم عليها السلام كانت ظاهرة في كلّ حالاتها وشؤونها .. ومنها : أنّه تعالى قد ( كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) حين كانت في المحراب ، فكانت تقوم بواجباتها كاملة ، ولم يكن يطلب منها ، أو فقل : لم تكن تشعر بالحاجة إلى السعي في سبيل الرزق ـ لأن النبي زكريّا عليه السلام كان هو المتكفّل لها وبها.
فإذا جاءت الكرامة الإلهيّة في هذه الحال بالذات ، فإن النبي زكريّا عليه السلام سيدرك أنّها كرامة إلهيّة لها ، إذ لا يمكن تفسيرها إلّا بذلك بالنسبة إليه ، وذلك :
أولاً : لأنّه يعرف أن أحداً من البشر لم يأتها برزق ..
وثانياً : لأنّه يعلم أيضاً : أنّها لم تسع للحصول على شيء من ذلك الذي يجده عندها ، لعلمها بأنّه هو الكافل لها ، فهي غير مكلّفة بهذا السعي لتشعر بالحاجة إليه ، حيث إنّها في مسجد مخصّص للعبادة ..
وثالثاً : هو يعلم بأن إعطاء الرزق لها من الله ، لم يكن بسبب حاجة ، اقتضت منها التوسّل والدعاء ، والطلب والابتهال ، حتّى استجاب الله دعاءها وطلبها ، ورفع الشدّة عنها ..
فمعرفة النبي زكريا عليه السلام بذلك كلّه ، تجعله على يقين من أن الله سبحانه قد أراد بإعطائها هذا الرزق أن يظهر كرامتها عنده ، ومحبّته لها ، ولطفه بها ..
كما أنّ السيّدة مريم عليها السلام نفسها ، لا بدّ أن تشعر بذلك كلّه ، فيزيد يقينها بالله ، ويتعمّق حبّه تعالى في قلبها .. وهذا مطلوب أيضاً ، لجهة تهيئتها للحدث الكبير ، والأشدّ حساسيّة في حياتها كلّها. وهو الحمل بنبي الله عيسى عليه السلام.
هذا كلّه عدا عن أن ذلك يزيد من قوّة موقفها ، وتحصينها من التهمة من قبل قومها ، فيما يمكن أن يرموها به.
وأمّا حين أصبحت في الصحراء ، ولم يعد هناك من يتكفّل لها بالرزق ، فإنّها أصبحت تشعر بالحاجة إلى السعي في سبيل تحصيله. فإذا جاءتها الكرامة بإحضاره لها من دون تعب ، فإن من الجائز أن يُفْهَم ذلك على أنّه استجابة لنداء الحاجة لديها ، وبداعي الشفقة عليها .. وإجابة لطلبها ، النابع من الأعماق ، والممتزج بالخوف من أن تلسعها أفاعي الجوع مثلاً ..
وقد يفهم بعض الناس من ذلك أنّه يشير إلى عدم توفّر عنصر التوكّل على الله ، والثقة به لديها بالشكل الكامل والتام في بعض الحالات ..
وفي جميع الأحوال ، فإن الكرامة الإلهيّة إذا جاءت من خارج دائرة التكليف ، أو في مورد يفتقد فيه الإحساس بلزوم السعي الاختياري .. فإن وقعها يكون أشدّ ، ودلالاتها على اللطف والرضا الإلهي تكون أوضح وأصرح ..
وعلى حد تعبير بعض الإخوة : إنّها برغم أن الله سبحانه قد كلّفها بأن تهزّ إليها بجذع النخلة ، فإنّه كان قد عرّفها كرامتها عنده ، حين جعل طفلها ، وهو حديث الولادة ، ينطق ببراءتها ، وأرسل لها ملكاً يخبرها بأن ربّها قد جعل تحتها سرياً ..
كما أن هذا السعي الضئيل منها لم يخل هو الآخر من إظهار الكرامة لها ، حيث لم يكلّفها بالصعود إلى الشجرة. بل اكتفى منها بتحريك جذعها الذي لا يمكن تحريكه لأقوياء الرجال .. فكيف بالمرأة الضعيفة الموهونة بالحمل والولادة ..
وعلى كلّ حال ، فإن الحكمة تقتضي إظهار ما لدى هؤلاء الصفوة الأولياء من ملكات وفضائل .. ومنها فضيلة الصبر والتسليم والرضا ، من أجل أن يقتدي بهم الناس ، وليَظْهَرَ استحقاقهم لما حباهم الله به ، بصورة حيّة ومتجسدة على صفحة الواقع ، سلوكاً وموقفاً وممارسة اختياريّة منهم ولهم .. ومن دون أيّ تدخّل من الغيب ..
فكان ما جرى للسيّدة مريم عليها السلام قد جاء في هذا السبيل ، وفي هذا الاتّجاه ..
ولعلّ ممّا يدخل في هذا السياق أيضاً : أن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، في مبادرة منه غير مسبوقة بطلب من أصحابه ، يطعم الجيش كلّه من كفٍ من تمر ، ومن شاة عجفاء ، وهي مبادرة تهدف إلى حفظ إيمانهم ويقينهم ، وإحساسهم بحبّ الله ، وبرعايته لهم ..
ولكنّه صلّى الله عليه وآله لا يثير لهم المعجزة التي تعفيهم من عناء حفر الخندق .. لأن هذا هو واجبهم وتكليفهم الذي لا بدّ أن يبادروا لإنجازه باختيارهم. وليس لهم أن ينتظروا من ينوب عنهم فيه ..
وفي كربلاء أيضاً ، قد أظهر الله الكثير من الأمور الدالّة على مقام الإمام الحسين عليه السلام عنده. وعلى أن الله سبحانه يعطيه ـ لو أراد عليه السلام ـ النصر على أعدائه ، ويفتح له خزائن رحمته ، وليس أدلّ على عناية ومحبّة الله بالإمام الحسين عليه السالم من أنّ السماء قد مطرت عليه دماً عجب منه الناس كما أخبرت السيّدة زينب عليها السلام : أفعجبتم أن مطرت السماء دماً عبيطاً ...
كما أنّه لم يرفع حجر في بيت المقدس ، وفي بلاد أخرى .. إلّا ووجد تحته دم عبيط ..
وقد أظهرت المعجزات والكرامات المتوالية للإمام الحسين عليه السلام أنه كان قادراً على إيجاد الماء في كربلاء لنفسه ، ولمن معه .. ولعياله وأطفاله ، ولكنّه لم يفعل ذلك ، لأن تكليفه كان هو أن يتعاطى مع أعدائه بالوسائل العادية .. ولم يكن له أن يتعامل معهم بالمعجزة ، وبعلم الإمامة ، وبالقدرات الغيبيّة التي منحه الله إيّاها ..
والحمد لله ربّ العالمين.
التعلیقات