الفراغ وآثاره وكيفية التعاطي معه
موقع الوارث
منذ 7 سنواتعن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء له: "فإن قدّرت لنا فراغاً
من شغل فاجعله فراغ سلامة لا تدركنا فيه تبعة ولا تلحقنا فيه سآمة، حتّى ينصرف عنّا كتاب السيّئات بصحيفة خالية من ذكر سيّئاتنا ويتولّى عنّا كتّاب الحسنات عنّا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا"1.
انتبه لعمرك:
ممّا جاء في وصيّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه أبي ذرّ: "يا أبا ذرّ، نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس: الصحّة والفراغ ..." إلى أن يقول له بعد إيصائه باغتنام الشباب والصحّة والغنى والفراغ والحياة "... يا أبا ذرّ، كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك"2.
إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوجّه إلينا وإلى كلّ مسلم هذه الوصيّة مؤكّداً فيها على الاستفادة من النعم التي خوّلنا الله إيّاها، والتي هي تحت أيدينا قبل أن نفقدها، فالعمر والصحّة والفراغ والشباب وكذلك الغنى هي الحياة وما يعرض فيها الحياة الدنيا والأمر بالاستفادة منها قبل نفاد العمر والانتقال من دار الدنيا إلى عالم الآخرة، ذلك العالم الذي يشكّل بكلّ تفاصيله ثمرة لزرع الدنيا، وجزاء لعملها، ونتيجة ودار الثواب أو دار الجزاء والعقاب.
وقد ذكر الله أحوال المقصّرين في الدنيا فقال مرّة: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾3.
فالدّار حينها ستكون دار حسرة والحسرة على التفريط بالعمر والنعم، ومقابلة الواعظين بالسخرية.
وقال تعالى ذكره مرَّة أخرى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾4.
فالآيتان تشيران إلى أنّ الذين ضيّعوا أعمارهم ولم يستفيدوا منها حقّ الاستفادة، أي بما يضمن لهم الآخرة ونعيمها سوف تعتريهم حالة الندم عندما ينزل الموت بساحتهم فيتمنّون بل يطلبون الرجوع لأجل العمل ولكن هيهات.
قياس العمر:
وليعرف كلّ منّا قيمة عمره تعالوا نحاول ما هي وحدة قياس العمر، على أننا علينا الانتباه إلى أنّ العمر هو رأسمال الإنسان، والعمر حسابه بالزمن، ومن خواصّ الزمن أنّه يمرّ دون استئذان، وما ذهب منه لن يعود ولا يمكن استرداده، ولا يمكن تخزينه، فإنّه يمرّ عملنا فيه أو لم نعمل، أحسنّا فيه أو أسأنا.
وثمّة أمر يجب الالتفات إليه وهو أنّه كلّما كان الشيء أقلّ قيمة وأكثر وجوداً كان ثمنه أقلّ وكانت وحدة قياسه أكبر وكلّما كان أكثر قدرة، وأعلى قيمة والحاجة إليه مع ذلك أمسّ كانت وحدة قياسه أصغر.
فثمّة أمور تقاس بالأطنان وما هو أكبر، وهناك ما يقاس بالكيلوغرامات، ومنها ما يقاس بالغرامات، أو القراريط.
ولتعرف قيمة العمر نسأل: ما هي وحدة قياسه؟ هل هي القرون؟ أو العقود؟ أو غيرها؟ فعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّ﴾5؟ قال: "ما هو عندك؟" قلت: عدد الأيّام، قال: "إنّ الآباء والأمّهات يحصون ذلك، لا، ولكنّه عدد الأنفاس"6.
وهذا ما أكّد عليه أمير المؤمنين عليه السلام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله: "نفس المرء خطاه إلى أجله"7.
الفراغ ضياع للعمر:
فإذا كان العمر على هذا المستوى من الخطورة، وعلى هذا المستوى من القيمة، فهو على هذا نعمة من النّعم، وإذا كان نعمة فنحن سنُسأل عنه، وهذا ما أكّده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل، عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، عن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"8 فالعمر حقيقته هو الوقت وهو مقدّر بالأنفاس كما مرّ، فعندما ينتهي العدد المقدّر من هذه الأنفاس تكون نهاية العمر، ويكون الانتقال من دار العمل بلا حساب إلى دار الحساب حيث لا عمل.
وممّا لا شكّ فيه أنّه ليس من الحكمة بمكان ترك هذا العمر يتفلّت من بين أيدينا بدون استثماره بأفضل أوجه الإستثمار لنكون من المفلحين، والذي لا شكّ فيه أيضاً أنّ من وجوه ضياع العمر عدم استغلال أوقات الفراغ وتركها تذهب بلا فائدة وتتلف بلا نتيجة.
الفراغ المدمّر:
فضلاً عن أنّنا كمؤمنين لدينا إيمان بجدّيّة هذه الحياة التي نعيشها، وما يترتّب عليها حيث سنلقى بعدها الله تعالى لنرى حصيلة وجودنا وعملنا في دار الدنيا حيث ربّما يكون مصير البعض كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابً﴾9.
فمن أهمّ أخطار الفراغ أنّه يؤدّي إلى أمور منها:
1- الفراغ يفقد الإحساس بقيمة الوقت:
حيث نتيجة تعوّده على مرور الوقت بلا ثمرة ولا عمل، وإهداره بما يفيد ولا يفيد يصبح خارج دائرة الفعل بالوقت وإنّما في دائرة المنفعل، وفي أحيان كثيرة يصبح على هامش الحياة.
فليس الفارغ هو القائد لحياته بل هو منقاد للظروف ليس إلّا.
2- الفارغ لا يحسن ترتيب أولويّاته:
فالفارغ يعيش همّ كيفيّة قضاء الوقت، أو ما يسمّيه كثيرون قتل الوقت، ولذا فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام يلفتنا إلى ضرورة الاختيار في قضاء الوقت، بل أكثر ضرورة تقديم الأولى والأفضل على غيره فيقول عليه السلام في دعاء مكارم الأخلاق: "اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيّامي في ما خلقتني له"10.
3- الفراغ منبت الأمراض والانحراف:
فهو يجعل الإنسان ذا اهتمامات حقيرة، وغالباً ما يترافق الفراغ مع استحضار حوادث العمر الماضية ما يفرح منها وما يحزن، ومعها تحضر الانفعالات وهذا ما يؤدّي إلى حالات اكتئاب وغيرها من أمراض النّفوس فضلاً عن الشعور بالملل والسأم. ومن جهة أخرى فإنّ ما يعزّز الوقوع في الأمراض النفسيّة، هو انخفاض تقدير الإنسان لنفسه عند نفسه، إذ يشعره الفراغ بعدم قيمته اجتماعيّاً وأنّه غير نافع، ويصبح حائراً يفقد الهدفيّة ويفقد معنى حياته، وهذا ما يدفع البعض ليسقطوا ضحايا الإدمان على المسكرات والمخدّرات يطلبون بها الهرب من واقعهم.
كيف نعالج مشكلة الفراغ؟
1- معرفة قيمة العمر، ومعرفة أخطار ومشاكل وتبعات الفراغ دنيويّاً وأخرويّاً.
2- السعي إلى ملء الوقت بأمور جادّة ونافعة منها:
1- المواظبة على تلاوة القرآن الكريم والتعرّف على معانيه ومضامينه، ومن ذلك إعطاء وقت للاستماع لتلاوته ومن الأصوات الجميلة بما يساعدنا على الخشوع وتدبّر الآيات. وقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام في القرآن قوله: "ما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى أو نقصان من عمى..."11.
2- ملء الوقت بالعلم النافع، ومراودة أماكن تحصيل العلم ومجالس العلماء، وكذلك بناء العلاقة الحسنة مع القراءة من خلال الاعتياد على قراءة الكتب المفيدة ومطالعة المجلّات والصحف العلميّة وكذلك الإسلاميّة.
3- معاشرة الصالحين واتخاذهم أصدقاء: عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليه السلام قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث، ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام مثل أخ يستفيده في الله"12.
4- تعزيز الجدّيّة في ممارسة الحياة من خلال التخطيط الجدّي لها والالتزام بالبرامج التي يتبنّاها الإنسان على أن لا تكون مخالفة للدّين وللشرع الحنيف وذلك باعتماد محاسبة النّفس وعدم إهمالها لأنّه من حاسب نفسه غنم.
خاتمة:
من مظاهر الفراغ المنتشرة في مجتمعاتنا مظهران: الأوّل هذا الإقبال على اقتناء الهواتف الذكيّة والعكوف عليها ساعات وساعات، والثاني انتشار عادة تدخين النرجيلة وعقد المجالس والسهرات على شرفها. بل إنّ البعض يكاد يمضي نصف نهاره متقلّباً بين نَفَس وآخر، بما يقلّل من القدرة الانتاجيّة وانتشار الكسل والكسالى، أو ما يسمّى بالعاميّة التنابل.
1- الصحيفة السجّادية، الدعاء 11.
2- بحار الأنوار، ج74، ص75.
3- سورة الزمر، الآية 56.
4- سورة المؤمنون، الآيتان 99 - 100.
5- سورة مريم، الآية 84.
6- الكافي، الكليني، ج3، ص259.
7- بحار الأنوار، ج70، ص128.
8- بحار الأنوار، ج70، ص258.
9- سورة النبأ، الآية 40.
10- الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 20.
11- نهج البلاغة، ج3، ص91.
12- وسائل الشيعة، ج4، ص117
التعلیقات