مفهوم الإنتظار
اسراء ابراهيم كريم
منذ 14 سنة
الحمد لله الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى، والصلاة والسلام على من اختارهم هداة لعباده لاسيما خاتم النبيين وسيد الرسل ابو القاسم المصطفى محمد وعلى اله الميامين.
التكامل فطرة جبل عليها الانسان والسعادة غايته التي يسعى اليها، وهو دائب السعي وراء ما يحقق له الهدف ويوصله الى غايته القصوى. وأتم السعادة واكملها هي القرب من الله تعالى والوصول اليه - جلت قدرته - لانه الكمال المطلق . (وان الى ربك المنتهى).(1) الا ان الانسان عاجز عن الوصول بنفسه الى الكمال المنشود فهو دائم الحاجه طوال مسيرته الى من ياخذ بيده ليدله على غايته المطلوبة وهدفه الذي يسعى اليه .
ومن هنا نشأت الحاجه الى الدين لانه السبيل الوحيد في وصول الناس الى غايتهم .فمن لطف الله سبحانه وتعالى انه ارسل هداة وادلاء على مرضاته (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).(2) واوضح القران الكريم بنصوصه الصريحه معالم الهدايه الربانيه وافاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بين لنا عللها واسبابها من جهة واسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اخرى.
وقد حمل الانبياء واوصياءهم مشاعل الهدايه الربانيه ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مضئ .بان الارض لا تخلو من حجة الله على خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة فالحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق . ولو لم يبق في الارض الا اثنان، لكان احدهما الحجة.
وكان التخطيط الالهي يحتم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اعداد الصفوة من اهل بيته، والتصريح بأسمائهم وادوارهم لتولي مهمة ادائه الحركة النبوية العظيمه والهداية الربانية الخالصة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرساله الالهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين، وتربية الاجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولوا تبيين معالمها وكشف اسرارها وذخائرها على مر العصور .وحتى يرث الارض ومن عليها .
وتجلى هذا التخطيط الرباني في ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا :كتاب الله وعترتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
ان سيرة الائمة الاثنى عشر عليهم السلام تمثل المسيرة الواقعية للاسلام بعد عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتبلورت في استمرارهم على نهج الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلمفكانوا هم الادلاء على الله لنيل مرضاته، والمستقرين في امر الله والتامين في محبته والذائبين في الشوق اليه، والسابقين الى تسلق قمم الكمال الانساني المنشود.
ان قضية الامام المهدي المنتظر الذي بشر به الاسلام وبشرت به الاديان من قبل، قضيه انسانية قبل ان تكون قضية دينية او اسلامية .
فانها تعبر عن ضرورة تحقق الطموح الانساني بشكله التام.
ومن هنا تاتي هذه الدراسة عن الامام المهدي الغيب الشاهد في نزع لبوس الجهل ولتعريف العالم بمنقذه لا ليستيقن اللذين امنوا ايمانا فحسب بل لتبقى شعلة الايمان متلألئة في ايدي المؤمنين، المجاهدين الصابرين اللذين ينتظرون المهدي الغائب كقائد شاهد ويستعدون للقائه بالايمان والصبر وتهيئة الظروف لقدومه ليقودهم نحو النصر الاعظم .
حيث تتخلص الارض من كل صنوف الفساد وتتطهر البلدان من الطغاة المستبدين فيسود العدل والاحسان ربوع الدنيا من الارض عباد الله الصالحون.
ومن هنا جاء معنى الانتظار لترسيخ تعلق الانسان وارتباطه بربه الكريم وايمانه العملي بان الله عز وجل غالب على امره وبانه القادر على كل شئ والمدير لأمر خلائقه بحكمته الرحيمة بهم .
وهذه من الثمار المهمة التي يكمن فيها صلاح الانسان وطيه لمعارج الكمال وهو الهدف من معظم احكام الشريعة وجميع عباداتها وهو ايضا شرط قبولها فلا قيمة لها اذا لم تستند الى هذا الايمان التوحيدي الخالص الذي يرسخه الانتظار.....
بسم الله الرحمن الرحيم
من المواضيع المهمة التي اوقفتنا عند تصفحنا لمحاور المؤتمر الذي يقام برعاية المرجعية العليا هو الانتظار الذي طالما اردنا ان نعرف حقيقته واهميته وشروطه حيث اكدت الاحاديث الشريفة وباهتمام بالغ على عظمة آثار انتظار الفرج الذي ينطبق على الظهور المهدوي كاحد مصاديقه البارزة وكذلك انتظار ظهور الامام بالخصوص فنحن نترقب حضور الامام وننتظر قدومه وفي واقع الامر علينا اولا ان نعرف قدر الشخص الذي ننتظره ونترقب قدومه وندرك مقامه فأن انتظاره يختلف عمّا لو كان لانعرف عنه شيئا.
ومن هنا كان من الضروري على المنتظرين لبقية الله الاعظم (ارواحنا وارواح العالمين لتراب مقدمه الفداء) ان نعرف:
1) حقيقة الانتظار
2) شروط الانتظار
3) لماذا الانتظار
4) اهمية الانتظار
1) حقيقة الانتظار:
الانتظار عبارة عن: (كيفية نفسانية ينبعث منها التهيؤ لما تنتظره; وضده اليأس; فكلما كان الانتظار أشد كان التهيؤ آكد; ألا ترى أنّه اذا كان لك مسافر تتوقع قدومه ازداد تهيؤك لقدومه كلما قرب حينه، بل ربما تبدل رقادك بالسهاد لشدة الانتظار. وكما تتفاوت مراتب الانتظار من هذه الجهة، كذلك تتفاوت مراتبه من حيث حبك لمن تنتظره، فكلما اشتد الحب ازداد التهيؤ للحبيب وأوجع فراقه بحيث يغفل المنتظر عن جميع ما يتعلق بحفظ نفسه ولا يشعر بما يصيبه من الالآم الموجعة والشدائد المفظعة. فالمؤمن المنتظر مولاه كلما اشتد انتظاره ازداد جهده في التهيؤ لذلك بالورع والاجتهاد وتهذيب نفسه وتجنّب الأخلاق الرذيلة والتحلّي بالأخلاق الحميدة حتى يفوز بزيارة مولاه ومشاهدة جماله في زمان غيبته كما اتفق ذلك لجمع كثير من الصالحين، ولذلك أمر الأئمة الطاهرون عليهم السلام فيما سمعت من الروايات وغيرها بتهذيب الصفات وملازمة الطاعات. بل رواية أبي بصير مشعرة أو دالة على توقف الفوز بذلك الأجر حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: ((مَن سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل مَن أدركه... ولا ريب أنه كلما اشتد الانتظار ازداد صاحبه مقاماً وثواباً عند الله عز وجل))
والانتظار يعني: ترقب ظهور وقيام الدولة القاهرة والسلطنة الظاهرة لمهدي آل محمد عليهم السلام. وامتلائها قسطاً وعدلاً وانتصار الدين القويم على جميع الأديان كما أخبر به الله تعالى نبيه الأكرم ووعده بذلك، بل بشّر به جميع الأنبياء والأمم; أنه يأتي مثل هذا اليوم الذي لا يعبد فيه غير الله تعالى ولا يبقى من الدين شيء مخفي وراء ستر وحجاب مخافة أحد اذن الانتظار يتضمن حالة قلبية توجدها الأصول العقائدية الثابتة بشأن حتمية ظهور المهدي الموعود وتحقق أهداف الأنبياء ورسالاتهم وآمال البشرية وطموحاتها على يديه عليه السلام; وهذه الحالة القلبية تؤدي الى انبعاث حركة عملية تتمحور حول التهيؤ والاستعداد للظهور المنتظر، ولذلك أكدت الأحاديث الشريفة على لزوم ترسيخ المعرفة الصحيحة المستندة للادلة العقائدية بالإمام المهدي وغيبته وحتمية ظهوره.
وعليه يتضح أن الانتظار لا يكون صادقاً إلاّ اذا توفرت فيه: عناصر ثلاثة مقترنة: عقائدية ونفسية وسلوكية ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح سوى التعسف المبني على المنطق القائل: (فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون...)المنتج لتمني الخير للبشرية من دون أي عمل إيجابي في سبيل ذلك).(3)
ولذلك نلاحظ في الأحاديث الشريفة المتحدثة عن قضية الانتظار تأكيدها على معرفة الإمام المهدي ودوره وترسيخ الارتباط المستمر به عليه السلام في غيبته كمظهر للانتظار والالتزام العملي بموالاته والتمسك بالشريعة الكاملة كما اشرنا لذلك في التكاليف السابقة وإعداد المؤمن نفسه كنصير للإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ يتحلى بجميع الصفات الجهادية والعقائدية والأخلاقية اللازمة للمساهمة في إنجاز مهمته الإصلاحية الكبرى، وإلاّ لن يكون انتظاراً حقيقياً وعلى مستوى ذواتنا أيضاً، وكأسلوب من أساليب تحصينها ضد الانحراف، وتجهيزها للعمل والنشاط, علينا أن نكون في حالة انتظار. في حالة ترقّب دائم مستمر لبزوغ فجر الثورة الكبرى، ثورة القائد المنتظر. يجب أن نعيش حالة توقّع غير يائس، ولا جازع. عيوننا متطلّعة للحدث الأكبر. أسماعنا متلهفة لاستماع خبر النهضة العظمى. أفئدتنا مفعمة بالشوق والشغف لساعة الوعد الإلهي. أن نكون على أهبة الاستعداد. ننتظر المفاجأة ونستشرف لمواجهتها. لا يغيب عن بالنا قضية الإمام المنتظر. ولا ننسى الوعد الإلهي بالنصر الظافر.
هكذا أراد لنا الأئمّة أنفسهم، وسجّلوه كموقف يجب أن نتخذه, وكحالة نفسية يجب أن نستشعرها ونعيشها باستمرار. استمع معي للإمام علي عليه السلام وهو يقول: " انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله انتظار الفرج.
واستمع لحديث آخر عن أبي الجارود من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام: "قلت لأبي جعفر عليه السلام: يا ابن رسول الله هل تعرف مودّتي لكم وانقطاعي إليكم، وموالاتي إيّاكم؟. فقال: نعم.. والله لأعطينّك ديني ودين آبائي الذي ندين الله عز وجل به: " شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله.. وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع"
2) شروط الانتظار:
1- ترسيخ معرفة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ والإيمان بإمامته والقيام بمهامها في غيبته ومعرفة طبيعة دوره التأريخي وأبعاده والواجبات التي يتضمنها ودور المؤمنين تجاهه، وترسيخ الارتباط به عليه السلام وبدوره التأريخي. وكذلك الإيمان بأن ظهوره محتمل في أي وقت، الأمر الذي يوجب أن يكون المؤمن مستعداً له في كل وقت. بما يؤهله للمشاركة في ثورته.
ولتحقق هذا الاستعداد اللازم لكي يكون الانتظار صادقاً يجب التحلي بالصفات الأخرى التي يذكرها الإمام السجاد عليه السلام والتي تمثل في واقعها الشروط الأخرى لتحقق مفهوم الانتظار على الصعيد العملي، كما نلاحظ في الفقرات اللاحقة.
2 ـ ترسيخ الاخلاص في القيام بمختلف مقتضيات الانتظار وتنقيته من جميع الشوائب والأغراض المادية والنفسية، وجعله خالصاً لله تبارك وتعالى وبنيّة التعبد له والسعي لرضاه، وبذلك يكون الانتظار (أفضل العبادة)، وقد صرّح آية الله السيد محمد تقي الإصفهاني بأنّ توفر هذه النيّة الخالصة شرط في القيام بواجب الانتظار. وعلى أي حال فإنّ توفر هذا الشرط يرتبط بصورة مباشرة بالإعداد النفسي لنصرة الإمام عند ظهوره; لأنّ فقدانه يسلب المنتظر الأهلية اللازمة لتحمل صعاب نصرة الإمام ـ عجل الله فرجه ـ في مهمته الإصلاحية الجهادية الكبرى.
3 - تربية النفس وإعدادها بصورة كاملة لنصرة الإمام من خلال صدق التمسك بالثقلين والتخلق بأخلاقهما ليكون المؤمن بذلك من أتباع الإمام المهدي عليه السلام حقاً: «وشيعتنا صدقاً» وتتوفر فيه شروط الشخصية الإلهية والجهادية القادرة على نصرة الإمام في طريق تحقيق أهدافه الإلهية، وفي ذلك تمهيد لظهوره عليه السلام على الصعيد الشخصي.
4 - التحرك للتمهيد للظهور المهدوي على الصعيد الاجتماعي بدعوة الناس الى دين الله الحق وتربية أنصار الإمام والتبشير بثورته الكبرى، ونلاحظ في حديث الامام السجاد عليه السلام وصفه للمنتظرين بأنهم (الدعاة الى دين الله عز وجل سرّاً وجهراً)، وفي ذلك إشارة بليغة الى ضرورة استمرار تحرك المنتظرين في التمهيد للظهور ورغم كل الصعاب، فإذا كانت الأوضاع موائمة دعوا لدين الله جهراً وإلاّ كان تحركهم سرياً دون أن يسوّغوا لانفسهم التقاعس عن هذا الواجب التمهيدي تذرّعاً بصعوبة الظروف.
3) لماذا الانتظار:
الانتظار من التنظّر، وهو توقّع الشيء. والانتظار المأمور به في المقام هو توقّع دولة الحقّ على يَدي الموعود والمؤمّل من لدن آدم وإلى زماننا هذا. والمستفاد من الروايات أنّ دولة الحقّ موعودة وعد بها الله سبحانه عبادَه الصالحين، وأنّه يأتي يوم يحكم فيه الحقّ تحت راية السلطان العادل البسيطة كلّها؛ قال الله سبحانه (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ). والذي ينبغي أن يُلتفت إليه في هذا الشأن ـ ضمن العجالة ـ أمور، منها
الأمر الأوّل: أنّ الانتظار واجب بحكم العقل والشرع؛ أمّا العقل فلما نعلم من طبيعة البشر أنّه لا يندفع إلى البغية يدفعه إلى العمل، فالتوقّع والانتظار لدولة الحقّ علـى يد الإمام المنتظر مقدّمة أساسيّة ومنطلق فكري وعملي نحو بذل الطاقة والجهد في سبيل الوصول إلى تلك البغية. وأمّا الشرع فقد ورد الأمر بالانتظار في كثير من الروايات فبلغ حدّ التواتر، بل في بعضها أنّ الانتظار مـن أفضل الأعمال في عصر غاب عنه الحق عن البسيطة وأصبحت الأرض بيد الطغاة يلعبون بالصالحين وبمقدّراتهم، بل بمقدّرات الشعوب كلّها حسب ما تشتهي نفوسهم وتدفع إليه أهواؤهم؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضمن حديث: (انتظار الفرج عبادة).
وعن أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ وقد سأله رجل عن أحبّ الأعمال إلى الله سبحانه ـ: قال: (انتظار الفرج)؛ وعن علي بن الحسين عليهما السلام: إنّ أهل زمان غيبته (الإمام المنتظر) القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كلّ زمان، لأنّ الله تعالى ذِكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يَدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً. وقال عليه السلام: انتظار الفرج من أعظم الفرج؛ وفي رواية عن الإمام سلام الله عليه: وانتظروا أمــرنا؛ وعنه عليه الســلام عن جدّه رسول الله أنّه قــال: (اللهم لقِّني إخواني) مرّتين، فقال .
من حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنّكم أصحابي، وإخواني قوم في آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني، لقد عرّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم. وعنه عليه السلام عن جدّه رسول الله: أفضل العبادة انتظار الفرج، وعن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال (من مات على هذا الأمر منتظراً له هو بمنزلة من كان مع الإمام القائم في فسطاطه، ثمّ سكت هنيئة، ثم قال: هو كمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الإمام موسى الكاظم سلام الله عليه عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عزّوجل)؛ وعن الإمام الرضا سلام الله عليه وقد سُئل عن شيء من الفرج فقال: (أليس انتظار الفرج من الفرج)، فقد روي في أكثر من سبعين رواية تدلّ على وجوب الانتظار.
الأمر الثاني: أنّ الانتظار لشيء مهمّ كما يدفع الإنسان للتهيّؤ والإعداد والاستعداد لما يتوقّعه وينتظره، كذلك يقضّ مضجع العدوّ المعادي للحقّ، وقد سطر في التاريخ كيف كان الطغاة يخافون وجود الإمام المنتظر وولادته على غرار خوف فرعون من ولادة موسى، حتّى ذبح ما لا يُعلم عدده من الاطفال ليحول دون ولادة موسى، ولكنّ الله بالغ أمره. وقد سعى بنو العبّاس، ومن قبلهم بنو أميّة لقطع نسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذرّيّة علي طمعاً في الدنيا وحذراً من مجيء دولة الحقّ، وكانت أيّام الغيبة الصغرى وما تلتها من الأيام موحشةً ومربكة لبني العبّاس، فكانوا يبحثون عن الإمام المنتظر وعن وكلائه وعمّن يدلّ عليه بحث الخِرْزة، فكانوا يقتلون كلّ من يسمعون منه كلمة تدلّ على إيمانه بالغائب، فبقاء العدو في قلق واضطراب وفقد الطمأنينة وتخبّطه عشواءً من الفوائد المهمّة المترتّبة على الانتظار.
الأمر الثالث: لا شكّ في أنّ إقامة دولة الحقّ على أنقاض نظم الفساد والجور وإقامة صرح العدل على أنقاض قصور الجور والطغيان يتوقّف على الإعداد النفسي، فلو حصلت تلك الدولة بدون الاعداد النفسيّ الكامل وإصلاح العقول التي شُوّشت وانحرفت عن نهج التفكير السليم وأصبحت ترى في كثير من الاحيان الباطل حقّاً، والحقّ باطلاً، وكذلك الاجسام التي تعوّدت على حبّ الدنيا، والعيون التي تأثّرت وتغوّشت بمباهج الحياة الدنية الخلاّبة، يكون مصير تلك الدولة مصير سلطة عليّ بن أبي طالب والإمام الحسن عليهما السلام، فإنّ الأسباب الطبيعية لم تكم مؤاتبة، والنــــفوس لم تكن مستعدّة لدولة الحقّ، والظُّلمة التي سيطرت عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانمحت جلّ القلوب الطيبة في تلك المدّة التي جاوزت ثلاثة وعشرين سنة، والظروف التي نعيشها تشبه تلك، فلا بدّ من إصلاح الأنفس بزرع حبّ الدين وحبّ العدل والانصاف وكره الظلم والفساد إعداداً للنفوس لتقبّل الحقّ.
الأمر الرابع: يجب اعداد الظروف الخارجيّة بنشر الحقّ وإعداد الأنصار للدين، ونشر الوعي بين المسلمين أوّلاً، وبين غيرهم جلباً للنفوس الصالحة للهداية ثانياً، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الواجبات الشرعية والعقلية والاجتماعية، فما لم يكن هناك انصار بعدد واف لنصرة الحقّ، وما لم يكن هناك وعي كافٍ لاحتواء الحقّ، وما لم يكن هناك ما ينبغي تهيئتُه لاستقبال دولة الحقّ، لم يكن وجه لبدء إقامة تلك الدولة، والاستعجال في مثل هذا الأمر بالتأكيد يأتي بنتائج وخيمة ويفوت من ذلك أعظم المقاصد.
الأمر الخامس: يجب إتمام الحجّة على كلّ مُناوئ للحقّ ومعاند له، لأنّ دولة الحقّ سوف تحاسبهم، فلا ينفع الانصياع للحقّ حين إقامة العدل ووقت المحاسبة وإنزال العقوبة على كلّ ظالم غاشم وغاصب ومفسد، وإلى هذا المعنى أُشير في عدّة آيات قرآنية؛ ففي سورة الأنعام: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ... ) آية 185.
إنّ الانتظار يعني في جملته حالة الأمل، وعدم القنوط. الأمل الذي هو شرط لكل حركة، نحن مدعوّون إلى تمثله دائماً. واليأس الذي هو مدعاة للانحراف، المطلوب منّا رفضه واقتلاع جذوره من أعماق وجداننا. الانتظار يعني أنّنا ما زلنا على أمل بالنصر. لا مجرّد أمل، وإنما ثقة مطلقة بتحقق هذا النصر. فالذين يأملون في شيء قد لا يملكون قناعة بأنّهم سينالوه، وهم ينتظرون لكن على وجل وفي ريبة.
كل الناس يأملون بانتصار الحق، ومحق الباطل، مسلمين وغير مسلمين، لكن من يملك اليقين الذي نملكه؟ والذي كان يملكه الأنبياء والأوصياء، ويغرسونه في نفوس أشياعهم. إنّنا لا نأمل بالنصر، وإنّما نرى أنفسنا ونحن نقترب منه. لا يمضي يوم إلاّ وتكون المسافة قد تقلّصت، وأصبحنا على المشارف. هذا هو معنى الانتظار المطلوب. أن لا يخامرنا شك، أدنى شك في أنّنا سننتصر. أن نرى بعين البصيرة رايات الحق تتقدّم، وها نحن ننتظرها كيما تصل إلينا أو نصل إليها. والذين يصابون باليأس يفقدون السلاح وهم وسط المعركة.
فما أيسر أن يقعوا في أسر الضلال والانحراف، وتلك هي الفتنة, وقد قال الإمام عليه السلام: " إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلاّ بعد يأس" ومن هنا تأتي قيمة الانتظار. على أنّ الانتظار له مدلول آخر، ومعنىً عميق غاية العمق. هذا المدلول هو الذي يفسّر لنا لماذا كان الانتظار مطلوباً، وواحداً من مسؤولياتنا مع ذواتنا؟
فالانتظار تعبير عن قناعتنا بجدارة الحل الإسلامي. واستعدادنا لتقبّله، والمشي في ركبه. من يعيش حالة الانتظار لنهضة القائد المنتظر، لا يستطيع إلاّ الثقة بحيوية الإسلام، وقابليته الأزلية على حلّ مشاكل البشرية، وسكب السعادة في قلوبها الحرّى. أنت حينما تنتظر من رجل القانون أن يرسم لك حلّ المشكلة، أو يختار لك الصيغة المفضّلة، فإنّك لا محالة واثق بقدرته، وجدارته ولو لا ذاك فإنّك لم تكن مستعداً للتفاهم معه في حل المشكلة.
وأنت حين تزور طبيباً تطلب الدواء، لا تفعل ذلك عبثاً، وإلاّ كان من الأيسر لك أن تذهب إلى جيرانك وتعرض له مرضك، وإنّما أنت على قناعة كافية بأنّ الطبيب هو الجدير والمؤهّل لإعطاء العلاج، وتشخيص الداء، ولذا فأنت تؤثر زيارته، وتنتظر منه. فالانتظار إذن هو القناعة بالجدارة والأهلية. ونحن حينما ننتظر الحل الإسلامي الذي يسود العالم كله تحت راية القائد المنتظر، لا بد أن نكون على أعمق الثقة بهذا الحل. فالتقدّم الحضاري، والتطوّر الذي شهدته الأرض.
والتقلب الذي عمّ كل شيء، في التركيب الاجتماعي، والوضع الاقتصادي، وطبيعة الحالة النفسية العامة. إنّ كل ذلك لا يغير من واقعية الإسلام، وقدرته على النجاح، سواء على مستوى النظرية، أو على مستوى التطبيق. فسيبقى الإسلام هو الحلّ الحتمي أزلاً وأبداً. ومهما انحرفت البشرية عنه، فإنّها ستؤوب إليه، وستجده حينذاك مصدر كل السعادة، ومقتلع جذور الشقاء في الأرض. ما هي طبيعة الانتظار؟ إذا كان علينا أن ننتظر, فما هي طبيعة الانتظار المطلوب؟
هناك نوعان من الانتظار: الانتظار الجامد، والانتظار المتحرّك. انتظار أشبه بالموت، أو هو الموت. وانتظار أشبه بالحياة، أو هو الحياة. الأسير المقيّد بالأغلال، والمدفوع نحو المقصلة، ينتظر. والبطل الذي يخوض غمار الحرب، وهو شاكي السلاح، شديد العزم، ينتظر أيضاً. كل من هذين ينتظر الموت والقتل.. لكن هناك فرق كبير بين نوعي الانتظار. فالأوّل مستسلم، لا يستطيع حراكاً، ولا يفكّر حتى في الفرار. والثاني متحرّك، مقدام، ينتظر الشهادة بكل بطولة, بل هو يسعى إليها، ويرحّب بها. فكيف علينا أن ننتظر القائد المنتظر؟ الإجابة على هذا السؤال نأخذها من القرآن، ومن محمّد صلى الله عليه وآله، ومن أهل البيت عليهم السلام. من هذه المدرسة الواحدة نأخذ الإجابة الصحيحة.
لقد كان محمّد صلى الله عليه وآله ينتظر. كيف كان ينتظر؟ كان القرآن يأمره بالانتظار، أيّ انتظار ؟ (وَقُلْ للّذينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُم إنّا عامِلُونَ، وانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ). لقد انتظر النصر والفتح، لكن هو الذي كان يمهّد للنصر وللفتح لا غيره. لم يكن يطلب أن يأتيه النصر منحة خالصة من السماء ومن دون ثمن.
لقد هاجر، ولقد قاتل، ولقد دعا، ولقد عمل كل شيء في سبيل النصر، ثم كان ينتظر النصر.
الانتظار في القرآن، وعند محمّد صلى الله عليه وآله رديف العمل (اعمَلُوا على مَكانَتِكُمْ، إنّا عامِلُونَ). (وَانْتَظُرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ). فهناك عمل ثم انتظار. الانتظار في مفهوم القرآن لا يعني الجمود والتوقّع البارد الزائف الميت. إنما يعني التربّص، المداورة مع العدو، التحرّك في شتّى الطرق، استغلال لحظات الضعف، عدم تضييع الفرص، هذا هو التربّص وهو الانتظار القرآني. (قُلْ كُلٌ مُتَرَبّصٌ، فَتَرَبّصُوُا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصْحابُ الصّراطِ السَّوي، وَمَنِ اهتَدى).
ولقد انتظر أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله. كيف انتظروا؟ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) كنه لا ينتظر أن يأتيه الموت، وهو في قعر داره. وإنّما يتقدّم ليكسب الموت، أو يكسب الفتح، فما هو إلاّ إحدى الحسنيين. لقد كان أئمّتنا ينتظرون الفرج، ويوصون أصحابهم بالانتظار. وكما ننتظر اليوم قائم آل محمّد، لقد كانوا مثلنا ينتظرون. لكن هل تركوا العمل والتضحية، والنشاط الدائب من أجل الحق.
هل وقفوا أسارى الصدف؟ إنّ انتظارهم لم يكن يعني إلاّ الاستعداد الدائم والعمل المتواصل، في السرّ أو في العلن، والتمهيد للنتيجة المطلوبة. هذا هو الانتظار في مفهوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام. بث الدعوة، وتوجيه الناس. تحصين قواعد الشيعة، وتوسيع دائرتها. ألم يبارك الأئمّة ثورات العلويين. ثورة زيد، والنفس الزكية، وحركات الحسنيين المتصلة. لقد مدّوا لها جميعاً يد العون في السر، بينما كانوا يحافظون على الخطوط الخلفية، ويحصنون قواعد الشيعة في ذات الوقت. ألم تكن أموالاً طائلة تصب في دورهم ليلاً، وتجمع لهم سرّاً؟ أين كانت تصرف؟ وما معنى هذا العمل؟ لو عرف الأئمّة من الانتظار معنى الجمود فلماذا طاردهم العدو، واضطهدهم ورماهم في غياهب السجون؟!
فالانتظار عمل وليس سكوناً. ومن هنا كان " أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج " كما عبّر الإمام فإذا كنا مدعوّين إلى الانتظار، فإنما نحن مدعوون إلى العمل إلى الانتظار المتحرّك الحي، لا إلى الانتظار الجامد الميت. في الحديث عن علي بن الحسين عليه السلام: يا أبا خالد: إنّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان... أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً" . إنّ مثلنا في عصر الغيبة مثل الطليعة التي تنتظر كتائب الجيش. بعد أن تكون قد مسحت لها الأرض، وكشفت لها الساحة.
4) اهمية الانتظار:
تؤكد الأحاديث الشريفة وباهتمام بالغ على عظمة آثار انتظار الفرج; ; . فبعضها تصفه بأنه أفضل عبادة المؤمن كما هو المروي عن الإمام علي عليه السلام: (أفضل عبادة المؤمن انتظار فرج الله)، وعبادة المؤمن أفضل بلا شك من عبادة مطلق المسلم، فيكون الانتظار أفضل العبادات الفضلى إذا كان القيام به بنية التعبد لله وليس رغبة في شيء من الدنيا; ويكون بذلك من أفضل وسائل التقرب الى الله تبارك وتعالى كما يشير الى ذلك الإمام الصادق(عليه السلام) في خصوص انتظار الفرج المهدوي حيث يقول: (طوبى لشيعة قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . ولذلك فإن انتظار الفرج هو (أعظم الفرج) كما يقول الإمام السجاد عليه السلام، فهو يدخل المنتظر في زمرةِ أولياء الله.
وتعتبر الأحاديث الشريفة أنّ صدق انتظار المؤمن لظهور إمام زمانه الغائب يعزز إخلاصه ونقاء إيمانه من الشك، يقول الإمام الجواد عليه السلام: (...له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون..) وحيث إن الانتظار يعزز الإيمان والإخلاص لله عز وجل والثقة بحكمته ورعايته لعباده، فهو علامة حسن الظن بالله، لذا فلاغرابة أن تصفه الأحاديث الشريفة بأنه: (أحب الأعمال الى الله)، وبالتالي فهو (أفضل أعمال أمتي)كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله.
الانتظار يرسخ تعلق الإنسان وارتباطه بربه الكريم وإيمانه العملي بأن الله عز وجل غالب على أمره وبأنه القادر على كل شيء والمدبر لأمر خلائقه بحكمته الرحيم بهم، وهذا من الثمار المهمة التي يكمن فيها صلاح الإنسان وطيّه لمعارج الكمال، وهو الهدف من معظم أحكام الشريعة وجميع عباداتها وهو أيضاً شرط قبولها فلا قيمة لها إذا لم تستند الى هذا الايمان التوحيدي الخالص الذي يرسخه الانتظار، وهذا أثر مهم من آثاره الذي تذكره الأحاديث الشريفة نظير قول الإمام الصادق عليه السلام: ألا أخبركم بما لا يقبل الله عز وجل من العبادة عملاً إلاّ به... شهادة أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً عبدُه ورسوله والاقرار بما أمر الله والولاية لنا والبراءة من أعدائنا ـ يعني الأئمة خاصة ـ والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم عليه السلام
وتصريح الأحاديث الشريفة بأن التحلي بالانتظار الحقيقي يؤهل المنتظر ـ وبالآثار المترتبة عليه المشار اليها آنفاً ـ للفوز بمقام صحبة الإمام المهدي كما يشير الى ذلك الإمام الصادق في تتمة الحديث المتقدم حيث يقول: مَن سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وكذلك يجعله يفوز بأجر هذه الصحبة الجهادية وهذا ما يصرح به الصادق عليه السلام حيث يقول: مَن مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم عليه السلام، ويفوز أيضاً بأجر الشهيد كما يقول الإمام علي عليه السلام: (الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله)، بل ويفوز بأعلى مراتب الشهداء المجاهدين، يقول الصادق عليه السلام: مَن مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن كان مع القائم في فسطاطه; قال الراوي: ثم مكث هنيئة، ثم قال: لا بل كمن قارع معه بسيفه، ثم قال: لا والله إلاّ كمن استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
والأحاديث المتحدثة عن آثار الانتظار كثيرة ويُفهم منها أن تباين هذه الآثار في مراتبها يكشف عن تباين عمل المؤمنين بمقتضيات الانتظار الحقيقي، فكلما سمت مرتبة الانتظار تزايدت آثارها المباركة وبالطبع فإن الأمر يرتبط بتجسيد حقيقة ومقتضيات الانتظار وان للأنتظار خصوصيات يمكن ان نوضحها في الفقرات اللاحقة.
منهجية البناء الحضاري لجماعة الانتظار
إذا كانت الحضارة هي مجموع ثقافات الأفراد للمجتمع الواحد ومن ثم هي حصيلة ثقافات ذلك المجتمع، وإذا كانت الثقافة بمعناها الأعم هي السلوك "الراقي" الذي يتحقق بطاعته لله تعالى وذلك من خلال انتهاج التعاليم الشرعية المأمور بها الفرد، وهذه بمجموعها تسمى التقوى التي من خلالها تتحقق سمة الالتزام الشرعي لذلك الفرد، ومعلوم أن هذه التقوى التي حث عليها الأئمة الأطهار عليهم السلام إحدى أهم آليات الانتظار.
ففي الكافي بسنده عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر يا بن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي أياكم؟ قال فقال: نعم، قال: فقلت: فأني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين، قال : هات حاجتك، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله تعالى به أنت وأهل بيتك لأدين الله تعالى به، قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله تعالى به، شهادة أن لا اله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لأمرنا، وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع.
على أن أئمة أهل البيت عليهم السلام حددوا تكليف أتباعهم وما يجب أن يعملوه إبان غيبة إمامهم، وما هي حدود مسؤولية كل واحدٍ منهم اتجاه نفسه واتجاه الآخرين، أي تحديد التكافل الاجتماعي الذي من خلاله يتاح للمكلف أن يتكامل وللمجتمع الإسلامي أن يرقى إلى درجة الكمال والبناء.
روى المجلسي بسندٍ صحيح عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ونحن جماعة بعدما قضينا نسكنا فودعناه وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله، فقال: ليعين قلوبكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، ومن أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً.
والرواية بذلك تحدد المعالم العامة للسلوكية الشيعية إبان الغيبة ووظيفة المكلف عند الانتظار، فقد حدد الإمام عليه السلام سلوكية المكلف على المستوى العملي وعلى المستوى العلمي ـ الفكري كذلك.
الاستقرار النفسي لجماعة الانتظار:
لعل أهم ما يميز أتباع أهل البيت عليهم السلام المتطلعون لانتظار اليوم الموعود هو حالة الاستقرار النفسي الذي يميزهم عن غيرهم.
وهذا الاستقرار ناشئ من حالة الاطمئنان المنبعثة من التطلع إلى مستقبل مشرق ترتسم صورته في ذهنية المنتظِر ـ بالكسرـ م
التعلیقات