محن وآلام صاحب الزمان عليه السلام
السيد حسين الحكيم
منذ 14 سنة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال الله تعالى في كتابه الحكيم ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ))(1) صدق الله العلي العظيم.
نبارك لكم هذا اليوم الأغر وهذه المناسبة السعيدة التي نحتفل فيها بميلاد إمام زماننا وسيدنا ومولانا الحجة بن الحسن صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
هذه الولادة يمكن أن نقول عنها: ولادة الفرح الكبير، بل ولادة الفرح الأكبر، لأنها ولادة العدل لكشف الظلم، ولأنها ولادة الحق لإزهاق الباطل، ولأنها ولادة سيدنا ومولانا الحجة بن الحسن المعد لتحقيق آمال الأنبياء، وكل الرسالات السماوية التي جاءت وهدفها أن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً. ولا يتحقق هذا الهدف إلاّ على يده صلوات الله عليه.
ولكن هذا الفرح حينما نحتفل به في زمان الغيبة يكون فرحاً مشوباً بالحزن.
لماذا؟ لأننا نحتفل بولادة وليدها غائب. ذكرى ولادة مولود سعيد، مولود عظيم مولود هو الفرح بعينه، ولكن أين هو هذا المولود أين استقرت به النوى؟ هذا الفرح فرح مشوب بالحزن واقعاً.
والقلب الشيعي والقلب العراقي بالخصوص قلب مفعم، يبحث دائماً عن مواطن الأسى ليعبر عما في قلبه من آلام وأحزان قد أحاطت بالعراقيين من كل جانب.
ولنتحدث في هذا اليوم السعيد، وفي هذه المناسبة المباركة العطرة عن أحزاننا وعن شجوننا وعمّا يمر بنا، ارتباطنا وعلاقتنا تحديداً بإمامنا، إمام زماننا، وعن غيبته التي كانت سبباً لهذا الحزن، ففراق الحبيب من أشد ما ابتلى الله به عباده.
ولكن حينما نمر على مكامن الأسى في هذا الحزن لابد أن نتذكر، ولابد أن نستحضر أن إمامنا وحبيب قلوبنا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين هو الذي يسبقنا حتى في حزننا.
فتعالوا لنتأمل ولنتحسس بأحزانه، إذا كنا نحب ولينا وإمامنا وسيدنا صاحب العصر لابد أن نعيش أو نحاول أن نقترب مما يحمله ذلك القلب من حزن.
نحن نعيش حزن الغيبة، وهو عليه السلام مع كونه قائداً إلا أنه يعيش حزن الغيبة أيضاً، ولكن عندما يلتقي حزننا بحزنه، وعندما يكتوي يومنا بجمره، يزداد الجمر اتقاداً وتزداد العواطف التهاباً.
نحن نحزن ونحن نتألم لأن إمامنا وسيدنا غائب عنا ومفارق لنا. ولكن هو أيضاً يحزن لأننا نحن مفارقون له.
وقد يغفل البعض عن هذه السنخية، عندما يكون شخص ما في ظروف معينة تستدعي منه الاختفاء عن بعض الرقباء، بحيث لا يريد لأحد أن يطلع على مكانه، حتى أقرب الناس إليه. ويمر من بعيد أحد أعزائه، أو أحد أولاده، أو أحد أعوانه وهو يراه ولكن لا يتمكن من أن يخاطبه، وأن يحادثه، وأن يكاشفه بما يعتلج في قلبه. هذا ألم قد يكون أشد ألماً من ذلك المفارق وأشد ألماً من ذلك الذي لا يعلم من أمر هذه الحقيقة شيئاً.
والقلب العراقي يفهم الألم، ويدركه أكثر من غيره بلا مبالغة.
نعود مرة أخرى لغيبته صلوات الله عليه وعلى آبائه، فنجده أيضاً إماماً لنا في ذلك الألم. عندما نجد هذا الظلم، وعندما نجد هذه القيم التي ضاعت من دنيانا، وعندما نجد الشريعة التي انتهكت حرمتها في دنيانا، نتألم، لأنه هو المعد لإعادة الحق إلى نصابه. ولكن هو يتألم أكثر منا. صحيح قد يخاطبه بلسان حالنا شاعرن(2) الذي ينطق باسمنا يقول له:
الله يا حامي الشريعة أتقرّ وهي كذا مروعة
كم ذا القعود ودينكم هدمت قواعده الرفيعة
تنعى الفروع أصوله وأصوله تنعى فروعه
ولكن حينما نعيش هذا الألم، وحينما نكتوي بهذا الجمر. هو أيضاً صلوات الله عليه يتحسس بهذا الألم أكثر منا أضعافاً مضاعفة، ولكن نحن بحدودنا، بضعفنا، بعجزنا تضيق صدورنا عن تحمل الألم فنبث هذه الشكوى التي يكون هو عليه السلام صاحبها الحقيقي، فهو منشأ الشكوى الحقيقية وليس نحن، يخاطبه شعراؤنا، وحق لهم أن يخاطبوه، فإلى من يشتكي المهموم إلا إلى إمامه؟
أصبراً وكادت تموت السنن لطول انتظارك يا بن الحسن
نحن نتضرر صحيح ونحن نتألم لأن السنن ضاعت، ولأن القيم اندثرت. ولكن هو يعيش هذا الألم أكثر منا.
رفقاً بإمامنا عندما نعاتبه. رفقاً بذلك القلب الممتلئ بالحزن والألم. صحيح نحن نعاتبه. إذ لا ملجأ لنا إلا إليه. صحيح هو إمامنا ولكن لا ننكأ الجراح التي في قلبه صلوات الله عليه.
لنعرف نحن لمن نخاطب. هذا إمامنا وهذا حبيب قلوبنا وهذا المتألم أكثر منا سلام الله عليه.
نحن نتألم مرة أخرى عندما نجد الثأر معطلاً. والذي عنده ثأر لا يقر له قرار حتى يأخذ بثأره، لا يتحمل تأخير الثأر يوماً أو شهراً أو سنة. هذه ثاراتكم يا أئمتنا، وهذه ثارات جدتكم الزهراء. وهذه ثارات الحسين، وآل الحسين. هذه ثارات زينب وأطفال زينب تؤلمنا وتؤرقنا ونحن نتمنى أن نخرج معك وبقيادتك يا سيدي وقد طالت علينا غيبتك.
ولكن بربكم من الذي يعيش ألم تأخير الثأر حقيقة؟ نحن نعيش ألم الثأر أكثر أم هو الذي يعيش ألم الثأر؟ الثأر ثأره ونحن إذا نغضب نغضب من أجله ومن أجل أهل بيته. نحن إذا نغضب نغضب من أجل أجداده من أجل جدته الزهراء، من أجل ضلعها المكسور، ولكن عين الزهراء الحمراء ما زالت لحد الآن شابحة تنتظر الأخذ بثأرها. وأضلاع الإمام الحسين المكسرة المهشمة ما زالت تنتظر وأسر زينب وعبرات زينب تنتظر، وأول ما تنتظر صاحب العصر. هو يعلم بهذا جيداً.
لكن مع ذلك حينما يأتي موسم الحزن، وحينما يهل علينا عاشوراء، نجد أننا نطالبه بأخذ الثأر، البدار يا صاحب الأمر البدار البدار، طال على شيعتك الانتظار. نحن نخاطبه وكأن قلبه فارغ، وكأننا نحن الذين نعيش الألم وهو الخلي من الألم، لقد صدق السيد حيدر الحلي رحمه الله حينما يقول: كأنّ قلبك خالٍ وهو محتدم وإنّ أعجب شيءٍ أن أبثكها يقول له: سيدي أعجب شيء أن هذه الشكوى التي أبثك إياها، والتي أعبر بها لك عما يعتلج في صدري مع كون قلبك محتدماً بالأحزان، ولكن أنا أبثك الشكوى لضيق صدري لضيق قلبي.
ولكن ساعد الله قلبك يا سيدي يا صاحب الزمان، نحن نتألم بسبب طول المدة، وبسبب الثأر المعطل. ولكن هو يتقدمنا في هذا الألم.
إذا كنا نحب صاحب العصر حقيقة لابد أن نفكر ولو سويعة في هذا القلب الكبير، هذا قلب الإمام الذي هو إمام القلوب، هذا القلب ماذا يحمل في داخله من عذاب، ومن أحزان، ومن شجى؟
نتألم حينما نقول له: سيدي أحاطت بنا الأعداء من كل جانب، فحاصرونا وأعادوا لنا تأريخكم، وأعادوا لنا كربلاء كم. ونحن محاصرون من الداخل والخارج، ونحن مهددون في كل مكان. ولكن هل يغيب هذا عنه؟ هل هو بعيد عن هذا الأمر؟ إذا نحن نعيش غربة فهو يعيش غربة أكثر من أي منا. وإذا نحن نعيش حزناً ونعيش وحشة فهو يعيش وحشة أكثر منا، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وإذا نحن نطل من جانب على الانتفاضة الشعبانية وما جرى فيها من مجازر وانتهاك للحرمات، فهو محيط بكل تفاصيلها ودقائقها، ويتحسّس كل أناتها وآهاتها الصغير منها والكبير.
هو يعيش هذا الألم، وهو يعيش ألم الزنزانات التي يهزأ بنا أعداؤه مرة أخرى من خلال الهزء به.
صدقوني أيها الاخوة كان أحد مدراء الأمن يستهزئ أمام المعذبين وهم معلقون بالسقف يستهزئ ويردد أمامهم وهو يضحك: (اظهر يالمهدي وصفّيهه وشوف الشيعة اشصاير بيهه) يهزأ بنا، يستهزئ بآلامنا، يسخر من آهاتنا. ولكنه يسخر بإمامنا، ويسخر بنا من خلال سخريته بإمامنا صلوات الله عليه.
هذه الآلام إذا نحن اطلعنا على شيء بسيط ومحدود وضئيل منها، فإنّ إمامنا يحيط بها كلها، ويعلم بدقائقها وتفاصيلها.
فرفقاً به ثم رفقاً حينما نبث شكوانا. هو يعيش آلامنا، يعيش فجائعنا، يعيش أحزان أيتامنا وأراملنا.
نقرأ في بعض الروايات عن الإمام زين العابدين عليه السلام -والأئمة عموماً في محبتهم، ولطفهم، وارتباطهم بشيعتهم على حد سواء- أن أحداً من شيعتهم جاءه يشكو إليه الفقر. الإمام زين العابدين محاصر وما كان يتمكن شيعته من الوصول إليه، ولم يتمكن الإمام أن يعتذر منه. تعلمون ماذا ورد في الرواية؟ إن الإمام زين العابدين بكى حتى سالت دموعه من عينيه، لأن هذا الإنسان من شيعته ويطلب عوناً ولا يملك الإمام ما يدفع به فقره، هناك مصلحة للإعجاز ولإظهار الكرامة، الإمام لم يكن يملك شيئاً وهذا إنسان محتاج جاد له بدموع عينه، هذه الدموع التي كانت تسيل من خشية الله أو تسيل لمصاب أبي عبد الله لأن الإمام لن يجد نفسه قادراً على مواساة هذا الرجل من شيعته بكى حتى أن هذا الإنسان الشيعي المؤمن الموالي تألم كثيراً قال: سيدي لماذا تبكي؟ أخيراً عرف سبب البكاء فزاد ألمه.
الآن لنتصوركم ذرف إمامنا وسيدنا صاحب الأمر من الدموع؟ وكم اختلجت في صدره من الآهات لما يشهده من العذابات التي أحاطت بشيعته من كل مكان. يتحسّس هذه الأمور، يعلم بها وكلها تجعله يشتاق أشد الشوق لذلك اليوم الذي يقف فيه بين الركن والمقام وينادي بأصحابه فيخرجون ويلتحقون به من بقاع الأرض. ولكن ماذا بيده؟
بعض الناس يرون صاحب الأمر في المنام أو يتشرفون به. أغلب الروايات والأخبار توصينا نحن الشيعة بالدعاء له بالفرج، هو في بلاء عظيم، هو في ضيق، هو في غربة، هو في وحشة. يطالبنا بالدعاء له بأن يعجل الله فرجه.
حينما نقول: اللهم عجل فرجه، فلا تحسب أن المعنى: اللهم عجل فرجنا. صحيح اللهم اجعل فرجه فرجنا، ولكن الفرج الحقيقي له. فهو المظلوم الحقيقي.
بعض أساتذتنا من العلماء الموجودين الآن في النجف دفع الله عنهم كل مكروه يقول: الظلامة الكبرى والمصيبة العظمى من مصائب أئمتنا هي مصيبة صاحب الأمر عليه السلام، هذه المدة الطويلة المديدة التي مرّت عليه هو بهذا الحال، عندما تشتد الفتن بنا، وعندما تعصف بساحتنا الخلافات فأول ما نتذكر حاجتنا الماسّة والحقيقية والأساسية لولينا الأول، لولينا الحقيقي، لإمامنا لقائدنا لسيدنا ومولانا.
عندما نختلف فيما بيننا ونتألم من اختلافنا ومن شدة اختلافنا، ومن تحارب بعضنا مع بعض من كيد بعضنا لبعض، ومن اعتداء بعضنا على بعض، ومن تهجم بعضنا على بعض، نتألم كثيراً ولكن إمامنا يتألم أكثر. قد نتألم لأن هذا التحارب يمسنا، ويمس مشاعرنا بحدود معينة. ولكن هو يتألم لنا جميعاً، وهو يتألم لاختلافنا جميعاً، يتألم لكل فردٍ فرد منا.
يتألم إذا رأى أحداً منا يظلم أخاه، لماذا هذا من شيعتي. أو يتمنى أن يكون من أنصاره، لماذا يتجاوز، لماذا لا يتمكن أن يقدر للاختلافات قدرها؟ لماذا لا يتمكن أن يهضم أن الاختلافات في الرؤى فقط أو بالقناعات أو أن الاختلافات بالفتاوى أو بالتشخيص، أو بالتحليل السياسي أو غير السياسي؟
حينما نجد أننا نؤمن أو نقلد أو نتبع أو نقتنع بأحد من العلماء فنحن في ذلك لابد أن نلتزم الحجة الشرعية دائماً. ولا يعني هذا أن كل من يختلف مع هذا الإنسان الذي نعيش الاقتناع به ويكون خارج دائرتنا فنتعامل معه كما نتعامل مع غير المؤمن بأهل البيت، ليبقى الثابت الأول والأساس الذي لا محيص عنه هو الإيمان بأئمتنا، وما عداهم فلا يشكل إلا حكماً ظاهرياً لطريقه إليهم، هم الواقع الصحيح الصافي الخالص وكل ما عداه اجتهادات.
حينما نختلف في الاجتهادات، أو نختلف بالتحليل، أو نختلف بالقناعات، فإن ذلك لا يعني أن نختلف فيما بيننا في الشخصيات، أو فيما بيننا من جماعات فهذا الأمر كله بنظره صلوات الله عليه، وبمعرفته وباطلاعه وهو يتألم أكثر منا.
وقد يكون هدفنا حينما نختلف في أمر جزئي قد نقول ونتكلم ونرفع الشعارات، نحن نتألم من أجل أصل الاختلاف ولكننا في كثير من الأحيان نتألم لما يصيبنا من هذا الجانب أو ذلك، لما يمسنا من هذا الكلام أو ذلك، لما نتعرض له من هذا الظلم أو ذلك. أما الإمام صلوات الله عليه فهو يتألم لنا جميعاً، ويعيش آلامنا جميعاً، ويعيش معاناتنا جميعاً.
فلنلتق عنده، ولنجدد العهد معه مرة أخرى في أخوّتنا، في صفاء قلوبنا، في حسن ظنوننا بالآخرين، وعدم التسرع بإلقاء التهم وتوزيعها في كل مكان، وعلى أنفسنا.
إذا أردنا أن نعيش الارتباط بإمام زماننا حقيقة فلابد أن نفهم هذه الحقيقة لابد أن نعيش هذا الأمر. أنا لا أتمكن أن أقول بأن المختلفين دائماً أحدهما على باطل، بل نحاول أن نحمل حتى من يخالفنا على حسن الظن، على المحمل الحسن (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(3) وإن لم نعمل على ذلك فنحن نقطع أنفسنا بأنفسنا، ونحن نقتل أنفسنا بأنفسنا، ونحن نسقط أنفسنا بأنفسنا، ونحن نضعف مرجعيتنا وعلماءنا وكل هذا يكون تحت شعار الإسلام، أو تحت شعار الأمر بالمعروف، وتحت شعار النهي عن المنكر، وتحت شعار نصرة العرب، وتحت شعار نصرة المظلومين.
إذا كان هذا الشعار بهذه السعة فلماذا لا يكون واسعاً حتى يجمعنا؟ لماذا يكون واسعاً فقط للتمزيق والتفريق فيما بيننا؟ وإذا بنا مع كل الأسف نجد أن بعض الناس مشغول بمقارعة الظالمين والتصدي لهم، والبعض الآخر مشغول بالتصدي لمقارعة من يقارع الظالمين، وبالتهجم على أولئك الذين يحملون لواء التشيع، ويحملون لواء العراق، ويحملون لواء الحق، الذي نتمنى كلنا من أعماقنا أن يرتفع.
فالساحة ليست ملك أحد، والعراق ليس ملك أحد، والتصدي واجب على الجميع، ولا يعني هذا أني إذا أردت أن أتصدى لابد أن أزيح كل المتصدين، بل بالعكس لابد أن أتعاون معهم.
لابد لنا حينما نأمر بحسن الظن، وندعو إلى حسن الظن، لابد أن نكون أول المبادرين لحسن الظن، وحتى لو تجاوز علينا الآخرون، واعتدى علينا الآخرون، لابد أن تكون عندنا سعة قلب، ولابد أن نتأسى بإمام زماننا في استيعاب هذا الاعتداء ومقابلته بالصفح والتجاوز عمّا قد يحدث هنا أو هناك من قصور أو تقصير.
ولكن نجد أننا نشترك مع إمامنا ونواسيه في هذه الآلام التي مررنا عليها واحداً واحداً.
هو غائب الآن عنا ونحن غائبون عنه، هو يعيش الهم لشريعة جدّه، ونحن نعيش الهم شيئاً ما لشريعة جدّه. هو يتألم لما يصيبنا، ونحن نتألم أيضاً. هو يتألم للظلم والبلاء الذي يعصف بنا، هو يتألم لنا حينما نختلف، هو يشاركنا الألم، بل هو دائماً يتقدّمنا في الألم. إمامنا في آلامنا كما هو إمام آمالنا صلوات الله عليه، كعبة آمالنا.
ولكن يبقى ألم واحد في قلب صاحب الأمر، وهذا لا نشترك نحن معه فيه، وهذا الألم وهذا العذاب الذي يتعذب به ويتألم به إمامنا صاحب الأمر قد نكون نحن سبباً في زيادته، ما هو هذا الألم؟ حينما تعرض أعمالنا عليه.
ونحن نقرأ في روايات أهل البيت أن الأعمال تعرض على إمام الزمان، في بعض الروايات في كل ليلة جمعة.(4)
إنّ الإمام عجل الله فرجه يفرح لله. والإمام يغضب لله. والإمام يحزن لله، والإمام يحب في الله ويبغض في الله. فإذا وجد في صحيفة أحدنا سيئة أو ذنباً ارتكبه فكيف به وهو يعيش تلك الأكداس والجبال من الآلام. هذا الألم يأتي إضافياً، ولسان حاله يقول: أنتم لماذا؟! فهمنا أن أعداء الزهراء يحقدون على الزهراء ويزيد وابن سعد يحقدون على الحسين، والظالمون لكم والمعادون لي ولكم يكونون سبباً في آلامي وأحزاني. أنتم شيعتي أنا أريد أن أفرح بكم، لماذا أنتم تزيدون ألمي ألماً آخر؟
هذا ألم ذوي القربى، هذا ألم المقربين الأحبة الأعزة، لماذا هذه الذنوب؟ لماذا هذه الجرأة على المعاصي؟ لماذا لم نرأف لذلك القلب الذي أفعمته الآلام وملأته الجراح؟
لماذا لا نكون السبب في إدخال السرور عليه؟ لماذا لا نكون سبباً حينما يطّلع على بعض الأعمال لأن يقول: الحمد لله شيعتي شيعة حقيقيون، هؤلاء الذين يدعون أني أنا إمامهم ويقولون: رضيت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً وبعلي إماماً ثم يذكرونني ويعتبرونني أنا آخر أئمتهم وإمام زمانهم، هؤلاء أفعالهم متطابقة مع شعارهم وعقيدتهم وكلامهم ودعائهم وخطابهم لله سبحانه وتعالى، حينما يقولون: رضيت بهم أئمة، هؤلاء حقيقة أتباع لي.
لعل أشد ما يؤلم، بل يمكن أن نقول: إن أشد ما يؤلم أولياء الله، ما يجترح وينتهك من حرمات الله سبحانه وتعالى، لأنهم يعرفون عظمة الله. نحن حينما نعرف عظمة الله شيئاً ما ونجد أن حرمة من حرمات الله تنتهك نتألم ونغضب أكثر مما نكون نعرف الله بهذا المقدار من المعرفة. أما أهل البيت صلوات الله عليهم، الذين ما عرف الله أحد من العباد كما عرفوه سبحانه وتعالى، يغضبون لحرمات الله أكثر منا، يتألمون أكثر منا.
لماذا..لماذا نشارك في هذه الكربلاء التي في قلبه، وهي كربلاء كبيرة؟ لماذا نشترك في زيادة ألمه صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين؟
فلنجدد في هذه الليلة العهد معه، ولنتب على يديه حباً له، ونعقد العزم من هذا المكان المبارك، وهو مرقد هذا العبد الصالح المقرب من صاحب الأمر (ابن بابويه)(5) الرجل العظيم الذي ورد كثير من الروايات الدالة على أنه ممن حظي برؤية إمام زمانه، فطوبى له ثم طوبى له. لنجدد العهد، لنعقد العزم على أن نقاطع ونهجر كل الذنوب، ونتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا ببركة إمام زماننا من كل ذنب، حباً وشفقة وحناناً لسيدنا صاحب الأمر ومحبة له.
التوبة لا تكون دائماً خوفاً من النار، وإن كان الخوف حقيقياً، والنار حقيقة فلابد أن نخشاها، والجنة حقيقة من الحقائق فلابد أن نطمع فيها. ولكن شفعاءنا إلى الجنة، ومنقذينا من النارهم أهل البيت عليهم السلام، فلنؤكد ارتباطنا وانتماءنا وتلاحمنا واهتمامنا بأئمتنا صلوات الله عليهم في طاعتنا لله حباً لهم، من أجل أن يفرح مهدي هذا العصر.
نحن نعمل بعض الأعمال من أجل إدخال السرور على أحبتنا. أنت تأتي بالهدية الصغيرة لأولادك حتى تدخل السرور على قلوبهم. أنت ألا تفعل بعض المستحبات، وتأتي ببعض الأمور من أجل إدخال السرور على قلب المؤمن؟ ورد في روايات تكاد تكون متواترة، لعل عشرات الروايات ترجع إلى هذا المضمون: أن العبد في القبر في اللحظة الأولى في أول ما يطل على عالم الآخرة ويفارق هذه الدنيا، في تلك الساعة العصيبة يرى مثالاً كأجمل ما خلق الله يهدئ من روعه ويسكن روعاته، ثم عند الحساب يجد أن هذا المثال معه عند الصراط، يجد أن هذا المثال معه عند تطاير الكتب، في كل مراحل الخوف والفزع، يجد أن هذا المثال معه يهدئ من روعه، فيسأله المؤمن يقول له: من أنت جزاك الله عني خير الجزاء، فإني لم أمر بمحنة، ولم أمر في خطر، ومرحلة من مراحل الآخرة إلا وأنت تهدئ من روعي؟
يقول له: أنا السرور الذي أدخلته على قلب المؤمن في اليوم الفلاني، في الساعة الفلانية.(6)
إدخال السرور على قلب مؤمن -إنسان عادي- له هذا الأثر.
إذا نتوب ونعيش في هذه اللحظة التوبة الحقيقية ونجدد التوبة، فإنّ التوبة مراتب وهي يمكن تجديدها، ويمكن تأكيدها، ويمكن الإسراع إليها، ويمكن تجديد عهد التوبة مع الله سبحانه وتعالى.
وأهم ما يفرح إمام زماننا أن نعترف له بالتقصير لتشرق قلوبنا بنور التوبة، قبل أن تشرق أزقتنا من أنوار المصابيح التي نعبر بها عن احتفاليتنا بالنصف من شعبان.
لنجدد هذه التوبة حباً له، إخلاصاً له، من أجل إدخال السرور على قلبه الشريف صلوات الله عليه وعلى آبائه.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤكد هذه التوبة في قلوبنا، لنطل على شهره الكريم ونكون أهلاً لضيافته سبحانه وتعالى، ونكون ممن يستجيب الله دعاءهم في كشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وتعجيل الفرج، ودفع البلاء وجمع الشمل، تحت تلك القباب الشاهقات العليات في مراقد أئمتنا في عراق أهل البيت صلوات الله عليهم.
واستغفر الله لي ولكم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
(1) سورة القصص، الآية 5.
(2) هو الشاعر المرحوم السيد حيدر الحلي قدس سره.
(3) الحجرات: الآية 12.
(4) راجع مستدرك الوسائل للنوري ج 12 ص 165، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 387.
(5) أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، كان شيخ القميين في عصره وفقيههم وثقتهم، وكفى في فضله ما في التوقيع الشريف المنقول عن
الإمام العسكري عليه السلام: (أوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي يا أبا الحسن...إلخ).
توفي سنة 329 ودفن في قم، وقبره الآن يزار ويتبرك به. راجع: الكنى والألقاب: 1/ 222.
(6) لاحظ: الكافي: 2 / 188 باب إدخال السرور على المؤمنين / الأحاديث 8 و10 و12.
التعلیقات