الإمام المهدي بين العقل والنقل
حسن موسى الصفار
منذ 13 سنةالإمام المهدي بين العقل والنقل:
الإسلام دين العقل، وعقائده قائمة على النظر والتفكير، وهو يرفض الأساطير والخرافات، وينهى الإنسان عن الأخذ بشيء قبل التأكد منه ولا تقف (ما ليس لك به علم) أو أن يقلد الآخرين ويتبعهم في آرائهم وأفكارهم دون حجة وبرهان.
ومن هنا قال أكثر علماء الإسلام بوجوب الاجتهاد والنظر في أمور المعتقدات، ولا يصح فيها التقليد والاتباع، وإنما يصح التقليد في المسائل الفقهية الفرعية، لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد والاستنباط، أما العقائد فلا تقليد فيها.
وآيات القرآن الكريم تؤكد على مرجعية العقل للإنسان، ففي عشرات الآيات ورد قوله تعالى: (أفلا تعقلون) و(لعلكم تعقلون) و(لقوم يعقلون) وتبلغ الآيات التي وردت فيها مشتقات هذا اللفظ حوالي خمسون آية.
أما الآيات التي تتحدث عن التفكر وتأمر به، وتحث عليه، فهي حوالي ثمانية عشر آية، كقوله تعالى: (لعلكم تتفكرون)، (أفلا تعقلون)، (لقوم يتفكرون).
إضافة إلى ما ورد في الآيات الكريمة حول التفقه والنظر والعلم، وغير ذلك، مما يظهر بجلاء ووضوح مرجعية العقل ومحوريته في الإسلام، ولذا فلا مجال في المعتقدات الإسلامية للخرافات والأساطير، ولا يتبنى المسلم أي قضية فكرية إلا بعد التعقّل والبرهنة والاستدلال.
نوعان من المعتقدات:
الأول: معتقدات يعتمد فيها على العقل بشكل مباشر، ولا شأن للنقل في تحصيل الإيمان بها، كأصول العقيدة، مثل الإيمان بوجود اللَّه تعالى، وبالنبوة، حيث تقود الإنسان إلى ذلك فطرته النقية، وعقله السليم، وليس النصوص والأحاديث والآيات.
الثاني: معتقدات يعتمد فيها على النقل ولكن ضمن مرجعية العقل، وذلك على أساس الضوابط التالية:
أن تكون الجهة التي صدر عنها النقل مورد اعتماد العقل واطمئنانه، وهي الجهة المعصومة، التي لا يشك العقل في صدقها ونزاهتها، كالقرآن الكريم والنبي المرسل، والإمام المعصوم.
أن يثبت النقل عن تلك الجهة بطريق عقلائي شرعي، وأن تكون الدلالة فيه على المراد صحيحة ظاهرة عند العقلاء.
أن لا تكون مخالفة للأحكام العقلية القطعية، كاجتماع النقيضين، وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين، وقبح الظلم وحسن العدل.
وعلى ضوء ما سبق فإننا كمسلمين نؤمن ببعض المعتقدات التي وردت من مصدر شرعي معتمد، وبسند صحيح ثابت، مادامت لا تخالف الضرورات العقلية، والإيمان بها ضمن هذه الضوابط ليس خارج دائرة العقل، بل في ظل مرجعيته وهديه.
الظواهر الإعجازية:
نعم هناك بعض القضايا الواردة دينياً، قد يبدو لأول وهلة، أن الإيمان بها يخالف العقل، وأنها من سنخ الخرافات والأساطير، وذلك لأنها غير مألوفة الحدوث والحصول، وتعتبر خارقة للمعادلات والقوانين العادية المعروفة.
إلا أننا يجب أن ندقّق ونفّرق بين ما يكون مخالفاً للعادة والمألوف، وما يناقض العقل ويصادمه.
إن كثيراً من التطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، لو حُدِّث بها إنسان القرن الماضي أو ما سبقه من قرون، لرفض التصديق بها، أو احتمال وجودها، إذا كان ينظر إليها من خلال ما اعتاده وألفه، أما إذا قدِّر له أن ينظر إليها من خلال الإمكان العقلي والمنطقي، فسوف لن يجد مانعاً من التصديق بها.
والتطور العلمي في حياة الإنسان المعاصر، يساعدنا كثيراً، في فهم العديد من الظواهر الخارقة، التي يحدثنا الدين عنها، ونذكر منها بعض النماذج، والتي يؤمن بها المسلمون لثبوتها دينياً، في الوقت الذي لا تصادم حكم العقل.
برداً وسلاماً على إبراهيم:
انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة، إلى الجسم الأقل حرارة، حتى يتساويان، قانون طبيعي معروف، لذا فإن أي جسم يلقى في النار يحترق بلهيبها، لكن نبي اللَّه إبراهيم الخليل عليه السلام وجسمه كسائر أجسام البشر، ألقاه قومه في تلك النار المضطرمة التي أوقدوها لإحراقه، فلم يصب بأي أذى، وخرج منها مبتسماً يقول تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ).(1)
إن المسلم يؤمن بذلك دون أي شك وتردد مادامت القصة مذكورة في القرآن، وليس مقاومة الاحتراق أمراً ممتنعاً ومستحيلاً من الناحية العقلية، ونحن نرى الآن كيف تطورت وسائل تمنع الأجسام ضمن شروط معينة من الاحتراق.
ولد من دون أب:
القانون الطبيعي المألوف، أن إنجاب الإنسان يتم عبر تلاقي الذكر والأنثى معاً وليس مألوفاً أن يحصل التوالد عبر أحدهما فقط، لكن القرآن الكريم يخبرنا عن ولادة نبي اللَّه عيسى بن مريم من دون أب، ولقد استغربت حتى أمه مريم حينما بشرتها الملائكة بذلك، فهي ما مسّها رجل ولم تتزوج فكيف يمكن أن تلد؟
يقول تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ).(2)
وما دام القرآن قد أخبر بهذا فنحن نؤمن به وهو أمر غير طبيعي عادة، وغير مألوف، ولكنه غير مستحيل عقلاً، وما تجارب الاستنساخ التي حصلت في هذه السنوات الأخيرة إلاّ تأكيداً لهذه الإمكانية.
الإسراء والمعراج:
ويعتقد المسلمون بالإسراء والمعراج، حيث أسرى اللَّه بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة، إلى المسجد الأقصى في فلسطين، ثم عرج به إلى السماوات العلا، في رحلة إعجازية في عمق الفضاء والزمن، وعاد إلى فراشه في نفس الليلة قبيل طلوع الفجر.
إن حصول ذلك وخاصة في ذلك العصر، أمر مستنكر، يوجب الرفض والتكذيب، لكن الخبر الصادق الذي جاء به القرآن يفرض علينا القبول والتصديق، يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).(3)
صحيح أنه أمر غريب ومخالف للعادة والمألوف، لكن العقل لا يحكم باستحالته وامتناعه، وتطور وسائل المواصلات الجوية، وارتياد الإنسان للفضاء، وغزوه للكواكب الأخرى، جعل الصورة أوضح أمام إنسان اليوم.
الإمام المهدي عليه السلام:
وضمن هذا السياق يأتي الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر عليه السلام حيث ثبت ذلك بالنقل الذي يقره العقل، إذ أن الأحاديث الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فاقت حدّ التواتر.
قال الشيخ ابن تيمية: (إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم).(4)
وتحت عنوان: (خروج المهدي حقيقة عند العلماء) ذكر المحدث السلفي المعاصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أسماء ستة عشر عالماً من كبار أئمة الحديث قد صححوا أحاديث خروج المهدي.(5)
ونشرت مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء - الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بحثاً للشيخ يوسف البرقاوي تحت عنوان (عقيدة الأمة في المهدي المنتظر) جاء فيه:
(إن موضوع المهدي من علامات الساعة الكبرى وأشراطها العظمى التي أخبر عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأشراط الساعة الكبرى من الأمور الغيبية التي كلف اللَّه عباده بالتصديق بها، والإيمان بمدلولها، وعقيدتنا تملي علينا وجوب الإيمان بذلك) .
ونقل عن السفاريني الحنبلي قوله:
(من أشراط الساعة التي وردت فيها الأخبار وتواترت في مضمونها الآثار من العلامات العظمى وهي أولها أن يظهر الإمام المهدي المقتدى بأقواله وأفعاله الخاتم للأئمة فلا إمام بعده، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الخاتم للنبوة والرسالة فلا نبي ولا رسول بعده).(6)
وقد جمع الشيخ لطف اللَّه الصافي في كتابه (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر) الأحاديث الواردة حول الإمام المهدي من كتب الفريقين السنة والشيعة فبلغت (6277) حديثاً.(7)
فخروج المهدي المنتظر آخر الزمان مسألة ثابتة عند المسلمين على اختلاف مذاهبهم إلا من شذ منهم، لورود خبرها من جهة يؤمن العقل بصدقها، ولأنها جاءت بطرق صحيحة مقبولة شرعاً وعقلاً.
كما يتفق علماء المسلمين على أن المهدي من عترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولد فاطمة الزهراء عليها السلام لكن هناك اختلافاً في تفاصيل هذه العقيدة، كسائر العقائد الإسلامية التي تتعدد المدارس والمذاهب الكلامية في بعض جوانبها وتفاصيلها كالتوحيد والنبوة والمعاد. ويأخذ كل فريق بما يصح ويثبت لديه.
ويعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام المهدي الذي بشّر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه، قد ولد في الخامس عشر من شهر شعبان سنة 255هـ، وأبوه الإمام الحسن العسكري، من نسل الإمام الحسين بن علي وفاطمة، وأنه لا زال ينتظر أمر الله تعالى لممارسة دوره العالمي، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
لأن النص قد ثبت لديهم من جهة معصومة بذلك، فه ملزمون بقبوله والإيمان به، هناك أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث فيها عن اثني عشر إماماً وأميراً أو خليفة لهذا الدين، ولهذه الأمة، وقد ورد ذلك في صحيح البخاري، وأخرجه الترمذي وأحمد ابن حنبل وأبو داود وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم (1075).(8)
ولا ينطبق هذا العدد إلا على الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام.
تبقى مسألة إمكانية العيش والحياة طوال هذه الفترة وكيف يمكن تعقلها؟
فإن العقل لا يرى استحالة ذلك، بل إن العلم جاد في البحث والسعي، لكي يستطيع الإنسان تجاوز أعراض الشيخوخة والهرم، وليتمتع بعمر أطول في هذه الحياة.
وإذا ما ثبت النص الشرعي على وجود الإمام المهدي، فإننا نقبله كظاهرة إعجازية، كما نقبل عدم احتراق نبي الله إبراهيم في النار، وولاة عيسى بن مريم من دون أب، والإسراء والمعراج وأشباه ذلك، فكل هذه القضايا ليست ممتنعة عقلاً، وإنما هي خارقة للعادة ومخالفة للمألوف فقط.
إن القرآن الكريم يحدثنا عن حياة نبي الله نوح عليه السلام عمراً طويلاً، حيث استغرقت فترة نبوته إلى وقت الطوفان 950 سنة يقول تعالى: (ولقد أرسلناك نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)(9)، هذا عداً سنوات حياته قبل النبوة وبعد الطوفان.
وسواء كان ذلك خاصاً بالنبي نوح أو أن أعمار البشر في ذلك الوقت كانت على هذا المستوى، فهو يدل على إمكانية الحياة لفترة تتجاوز المتعارف والمألوف.
لا للتهريج والتشنج:
عاشت أمتنا الإسلامية عصوراً من التخلف، سادت فيها حالة التعصب المذهبي، والنزاعات بين الطوائف والفرق، ولم تحصد الأمة من كل ذلك إلا التمزق والضياع، والانشغال عن بناء قوتها، ومواجهة التحديات الخارجية، ومؤكد أن أعداء الإسلام يشمتون باحتراب المسلمين، ويصبون الزيت فوق نار الفرقة والنزاع.
ويفترض الآن أن يتجاوز المسلمون تلك الحالة المزرية، مع تطور مستوى الوعي، وتوفر وسائل التواصل والانفتاح، وإذا كانت كل فرقة ترى أن الحق والصواب معها، فإنها تتحمل مسؤولية معتقداتها وآرائها أمام الله تعالى، وليكن البحث عن الحقيقة هدفاً للجميع، وذلك عبر الدراسة الموضوعية لموارد الخلاف، والحوار البناء بعيداً عن التهريج والتشنج، إن القرآن الكريم ينهى المسلمين أن يتجادلوا مع اليهود والنصارى بأسلوب غير مؤدب، ويقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(10) ، فهل يرضى القرآن بما يمارسه بعض المسلمين تجاه بعضهم من تهريج وشتم واستهزاء، كما يظهر أحياناً على بعض مواقع ساحات النقاش في الإنترنت، أو برامج القنوات الفضائية؟ وهل يدل هذا الأسلوب إلا على سوء الخلق، أو ضعف الحجة أو خدمة مصالح الأعداء؟.
بشائر الأمل:
قضية الإمام المهدي وخروجه في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هي من الحقائق الجامعة، التي يتفق عليها المسلمون بمختلف مذاهبهم، والتي تشير إلى وحدة الأصول والمنابع المعتمدة لدى المسلمين، مع تعدد مدارسهم وتوجهاتهم.
فلا يكاد يخلو مصدر من كتب الحديث والسنة النبوية الشريفة مع ذكر موضوع المهدي، ولا تجد مذهباً من المذاهب الإسلامية إلا وتناول أحد من علمائه وباحثيه هذه المسألة بالإثبات والتأييد.
وإذا كان هناك من ينكر هذه الحقيقة أو يتنكر لها، فمرد ذلك إلى أسباب أخرى، كما يقول الشيخ عبد المحسن العباد المدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: mإن بعض الكتاب في هذا العصر أقدم على الطعن في الأحاديث الواردة في الإمام المهدي بغير علم بل بجهل، أو بالتقليد لأحد لم يكن من أهل العناية بالحديث.(11)
ويشير المحدث الألباني إلى سبب آخر هو: mأن عقيدة المهدي قد استغلت عبر التاريخ الإسلامي استغلالاً سيئاً، فادعاها كثير من المغرضين، أو المهبولين، وجرت من جراء ذلك فتن مظلمة، كان من آخرها فتنة (جهيمان) السعودي في الحرم المكي، فرأوا أن قطع دابر هذه الفتن، إنما يكون بإنكار هذه العقيدة الصحيحة! وما مثل هؤلاء المنكرين جميعاً عندي إلا كما لو أنكر رجل ألوهية الله عز وجل بدعوى أنه ادعاها بعض الفراعنة!.(12)
وفي حديث لمفتي المملكة الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز حول المهدي المنتظر جاء ما يلي: فأمر المهدي أمر معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم: تواترها وهي متواترة تواتراً معنوياً لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت، وخروجه حق.. وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان، يخرج فيقيم العدل والحق، ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلاً وهدايةً وتوفيقاً وإرشاداً للناس.. والحق أن جمهور أهل العلم بل هو الاتفاق على ثبوت أمر المهدي، وإنه حق، إنه سيخرج في آخر الزمان، أما من شذ عن أهل العلم في هذا الباب، فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك.. والواجب تلقي ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبول والإيمان به والتسليم، فمتى صح الخبر عن رسول الله فلا يجوز لأحد أن يعارضه برأيه واجتهاده، بل يجب التسليم كما قال الله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر عن الدجال وعن المهدي وعن عيسى المسيح بن مريم ووجب تلقي ما قاله بالقبول والإيمان بذلك، والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الأعمى الذي يضر صاحبه ولا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة.(13)
إحياء قضية المهدي عليه السلام:
موضوع خروج الإمام المهدي المنتظر له موقعيته الهامة في النصوص الدينية فقد روى أحاديثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ستة وعشرين صحابياً، وخرج تلك الأحاديث جماعة كثيرون من الأئمة في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد وغيرها يزيدون على ثمانية وثلاثين عالماً ومحدثاً، كما أفرد عدد من العلماء ينوفون على العشرة كتباً ومصنفات خاصة حول الموضوع، وهذا كله ضمن مذاهب أهل السنة والجماعة، حسبما ذكره الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي إطار مذهب الشيعة هناك أضعاف مضاعفة من الجهود التي تصب في هذا الاتجاه.
وذلك يدل على أهمية القضية في الفكر الإسلامي، فلا بد وأن تطرح في أوساط الأمة بمستوى يتناسب مع أهميتها الدينية، لتكون حاضرة في أذهان الجيل المسلم المعاصر، وغير محصورة في نطاق أهل العلم والحديث، أو مصبوغة بصبغة مذهب معين فقط.
فمن الملاحظ أن أتباع أهل البيت عليهم السلام يتميزون بإحياء هذه القضية والاحتفاء بها على المستوى الشعبي، بينما هي شبه مغيبة في أوساط بقية جماهير الأمة، حتى كاد بعضهم أن يتصورها قضية خاصة بمذهب الشيعة، في حال أنها محل إجماع ووفاق بين جميع المذاهب الإسلامية.
وليس مطلوباً أن يتوافق أسلوب الإحياء والاهتمام بهذه القضية بين المذاهب، فلكل طريقته التي يراها مناسبة لمرئياته الشرعية وظروفه الاجتماعية، لكن المطلوب هو حضور هذه القضية وطرحها علمياً وفكرياً وإعلامياً في أوساط جماهير الأمة بمختلف مذاهبها.
ولأنها قضية متفق عليها في أصلها فإن انتشارها يؤكد حالة التوافق والاشتراك، بغض النظر عن اختلاف التفاصيل والجزئيات، كالإختلاف في أنه من نسل الحسن عليه السلام كما يقول بعض علماء السنة؟ أو من نسل الحسين عليه السلام كما يجمع علماء الشيعة وبعض أهل السنة؟ وكذلك الاختلاف في اسم أبيه هل هو الحسن أو عبد اللَّه؟ والاختلاف في ولادته هل ولد أم يولد في آخر الزمان؟
إن الاختلاف حول بعض التفاصيل موجود بين علماء المسلمين في أغلب القضايا الدينية، بدءاً من صفات الخالق جلا وعلا إلى أحكام الصلاة والوضوء، ولا يضر ذلك مع الاتفاق على أصل الموضوع، وعسى أن تتوفر الأجواء المناسبة لحوارات علمية موضوعية معمقة بين علماء الأمة حول، موارد الاختلاف في الفكر والفقه الإسلامي.
وهناك داع مهم لإحياء قضية الإمام المهدي في أوساط الأمة، وخاصة في هذا العصر، لما توفره هذه القضية من زخم روحي، في نفوس المسلمين، حيث تلهمهم الأمل و تشيع في قلوبهم الثقة بالنصر، وتحفزهم للتطلع لاستعادة مجد الإسلام، وقيام حضارته العالمية، حيث تؤكد الأحاديث المتواترة ذلك، كقولـه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج رجل من عترتي، أو من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً) أخرجه أحمد (3/36) وابن حبان (1880) والحاكم (4/557)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/101) وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وأشار إلى تصحيحه أبو نعيم.(14)
الهوامش
(1) سورة الأنبياء الآية 68-70. (2) سورة آل عمران الآية47. (3) سورة الاسراء الآية1. (4) ابن تيمية الحراني: شيخ الإسلام أحمد، منهاج السنة ج4 ص211 الطبعة الأولى، المطبعة الكبرى الأميرية - مصر 1322هـ. (5) الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج4 ص38 حديث رقم1529 الطبعة الأولى: الدار السلفية- الكويت، المكتبة الإسلامية - الأردن 1983م. (6) البرقاوي: يوسف بن عبد الرحمن، عقيدة الامة في المهدي المنتظر، مجلة البحوث الإسلامية عدد49 ص304-305. (7) الصافي: لطف اللَّه، منتخب الاثر، الطبعة الثانية 1385هـ مركز الكتاب، طهران – ايران. (8) الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج3 ص63، الطبعة الثانية 1987م مكتبة المعارف - الرياض. (9) سورة العنكبوت: الآية14. (10) سورة العنكبوت: الآية46. (11) العباد: الشيخ عبد المحسن، عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص127 العدد الثالث، السنة الأولى 1388هـ. (12) الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4 ص43. (13) مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة ص161 - 164، العدد الثالث - السنة الأولى ذو القعدة 1388هـ. (14) الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج4 ص39.
(( ضمن كتاب الإمام المهدي عليه السلام وبشائر الأمل))
التعلیقات