إنّه جاء محرّم
الشيخ مهدي المجاهد
منذ سنتينإنّه جاء محرّم
لماذا هذا البكاء والجزع ؟
لماذا هذا التوشيح بالسواد ؟
لماذا تلطمون على صدوركم وتضجّون بالصرخة والبكاء ؟
لماذا تضربون السلاسل على ظهوركم ؟
لماذا تلطم النساء على وجهها ؟
لماذا أنتم حافين القدمين ؟
لماذا تمشون على الأرض الساخنة بدون أي عازل في محرم ؟
ما حلّ بالكون ؟
هذا الحزن والكآبة لأجل أيّ شيء حادث ؟
ما حل بكم ايّها الشيعة ؟ لماذا تغيّرت أحوالكم فجأة ؟
لماذا هذا التغيير في بيوتكم وأزقّتكم وشوارعكم ؟ ما حصل بدور عبادتكم المساجد والحسينيّات توشحت بالسواد والحزن يهيّج منها كالموج وكلّ من يقترب من أماكنكم وأنفسكم يتأثّر بموج الحزن والبكاء ؟ ما هو هذا الإسم الذي عندما نسمعه تجري الدمعة بدون أيّ إختيار ؟ لماذا نشعر ونحسّ بأعماقنا بالمظلوميّة عند ذكر اسم صاحب هذا الشهر الحرام ؟
ما حل بكم أخبرونا ؟
الجواب : إنّه جاء مُحرّم الحسين عليه السلام.
فالسماء تبكي صباحاً بالدّم.
والأرض تبكي صباحاً بالسّواد.
والشمس تبكي صباحاً بالكسوف والحُمرة.
والجبال تقطّعت وانتثرت لهذا المصاب.
والبحار تفجّرت.
والملائكة تبكي على هذه اللوعة.
وأمّا نساء هذا القوم قد تركن الاختضاب والاكتحال لذكرى هذه الفاجعة.
وأمّا الرجال توشّحوا بالسواد وقد تركوا الزينة والتزموا المجالس.
ويزيد الإمام الصادق عليه السلام :
يا زرارة ان السماء بكت على الحسين اربعين صباحاً بالدم ، وان الارض بكت اربعين صباحاً بالسواد ، وان الشمس بكت اربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وان الجبال تقطعت وانتثرت وان البحار تفجرت وان الملائكة بكت اربعين صباحاً على الحسين عليه السلام ، وما اختضبت منا امرأة ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد ، وما زلنا في عبرة بعده ، وكان جدي اذا ذكره بكي حتّى تملأ عيناه لحيته ، وحتّى يبكي لبكائه رحمة له من رآه.
وان الملائكة الذين عند قبره ليبكون ، فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة ، ولقد خرجت نفسه عليه السلام فزفرت جهنم زفرة كادت الارض تنشق لزفرتها ، ولقد خرجت نفس عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية فشهقت جهنم شهقة لولا ان الله حبسها بخزّانها لاحرقت من على ظهر الارض من فورها ، ولو يؤذن لها ما بقي شيء الا ابتلعته ، ولكنها مأمورة مصفودة ، ولقد عتت على الخزان غير مرة حتّى أتاها جبرئيل فضربها بجناحه فسكنت ، وانها لتبكيه وتندبه وانها لتتلظى على قاتله ، ولولا من على الارض من حجج الله لنقضت الارض واكفئت بما عليها ، وما تكثر الزلازل الا عند اقتراب الساعة.
وما من عين أحب الى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ، ومن باك يبكيه الا وقد وصل فاطمة عليها السلام وأسعدها عليه ، ووصل رسول الله وأدى حقنا ، وما من عبد يحشر الا وعيناه باكية الا الباكين على جدي الحسين عليه السلام ، فانه يحشر وعينه قريرة ، والبشارة تلقاه ، والسرور بيّن على وجهه ، والخلق في الفزع وهم آمنون ، والخلق يعرضون وهم حدّاث الحسين عليه السلام تحت العرش وفي ظل العرش لا يخافون سوء الحساب ، يقال لهم : ادخلوا الجنة فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه. (1)
نعم إنّه جاء مُحرّم ، فالبكاء لبكاء النبي والعترة الطاهرة والملائكة وكل ما خلق الله.
فلا تلوموننا على ما نفعله فنحن نواسي إمامنا الذي قتلوه عطشاناً وحيداً غريباً وسحقوه بالخيول ، وقطّعوه بالسيوف ، وذبحوه من القفا ، ورموه بالنبال والحجارة ، حيث يقول الإمام زين العابدين عليه السلام :
ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السّلام ) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يَزْعُمون أنّهم من هذه الاُمّة كلّ يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ، وهو بالله يذكِّرهم فلا يتّعظون ، حتّى قتلوه بغياً وظُلماً وعُدواناً. (2)
ويشوّق الإمام الصادق عليه السلام الناس على البكاء بالصرخة حيث يقول :
وَارْحَمْ تِلْكَ الْأَعْيُنَ الَّتِي جَرَتْ دُمُوعُهَا رَحْمَةً لَنَا ، وَارْحَمْ تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي جَزَعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا ، وَارْحَمْ تِلْكَ الصَّرْخَةَ الَّتِي كَانَتْ لَنَا. (3)
عن جابر ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) وعليه جبّة خزّ دكناء فوجدوا فيها ثلاثة وستين من بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم. (4)
انظروا ما فعلوا بإمامنا الغريب فكيف لا نبلس السواد حداداً على مصيبته وعلى ما صنعوا بجثّته الطاهرة.
وهذا التاريخ يحدّثنا بأن الرادع الأكبر والأخطر في إخماد كثير من الثورات المناهضة والقضاء عليها ، هو مبدأ إشاعة الرعب والخوف وسفك الدماء وترويع الأطفال والنساء. وانطلاقاً من هذا المبدأ والهدف مارس المجرمون في معركة كربلاء شتّى أشكال الجريمة وصورها ، ابتداءاً بالعطش وقطع الماء ، ومروراً بالقتل والتنكيل وتقطيع الأجساد ، وانتهاءاً بقطع الرؤوس وحملها والتمثيل بها وإهدائها وسلب النساء وسبيها وشتمها.
إنّ سبايا أهل البيت قد تعرّضوا للضّرب في عدّة مواطن ، وقد نقل المؤرّخون شيئاً من ذلك في كتبهم ، وأرّخها الشعراء في قصائدهم ، وممّن نُقل أنّهنّ تعرّضن للضرب فاطمة الصّغرى ، ومولاتنا أمّ كلثوم سلام الله عليها وبناتُ الرسالة ، حيث نقلت فاطمة الصّغرى أنّ نساء أهل البيت عليهم السلام قد تعرّضن للضّرب في يوم عاشوراء عند سلبهنّ بالضّرب بكعب الرّمح ، وأنّ أحدهم ضربها بكعب الرّمح بين كتفيها فسقطت مغشيّاً عليها ، وأخبرت عن عمّتها أمّ كلثوم عليها السلام أنّها قد تعرّضت للضرب حتّى اسودَ متنها من الضّرب. (5)
وعند الهجوم على الخيام وسلب بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله حصل تدافع بينهم ، ومن الطبيعي تعرضهنّ للضرب أثناءه.
روى الصدوق بسنده عن عبد الله بن الحسن المثنّى ، عن أمّه فاطمة بنت الحسين عليها السلام ، قالت :
دخلت الغاغة علينا الفُسطاط ، وأنا جارية صغيرة ، وفي رِجليّ خَلْخَالان من ذهب ، فجعل رجل يَفُضّ الخَلْخَالين من رِجليّ وهو يبكي ، فقلتُ : ما يُبكيك ، يا عدوّ الله ؟! فقال : كيف لا أبكي وأنا أسلُبُ ابنة رسول الله ! فقلتُ : لا تَسْلُبني. قال : أخافُ أن يجيء غيري فيأخُذه. قالت : وانْتَهَبُوا ما في الأبنية حتّى كانوا يَنْزِعونَ الملاحف عن ظُهورنا. (6)
قال الشيخ المفيد في الإرشاد :
وانتهبوا رَحْلَه وإبلَه وأَثقالَه وسلبوا نِساءَه.
قال حُمَيدُ بنُ مسلمٍ : فوالله لقد كنتُ أَرى المرأَةَ من نسائه وبناته وأَهلِه تُنَازعُ ثوبها عن ظهرِها حتّى تُغلَبَ عليه فيُذهَب به منها. (7)
قال السيّد المقرّم :
وبعد الزوال ارتحل الى الكوفة ومعه نساء الحسين وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب وكنَّ عشرين امرأة ...
فقلن النسوة : بالله عليكم إلا ما مررتم بنا على القتلى ، ولما نظرن اليهم مقطعي الاوصال قد طعمتهم سمر الرماح ونهلت من دمائهم بيض الصفاح وطحنتهم الخيل بسنابكها صحن ولطمن الوجوه ...
واعتنقت سكينة جسد ابيها الحسين « ع » ...
وأتاهن زجر بن قيس وصاح بهن فلم يقمن ، فأخذ يضربهن بالسوط واجتمع عليهن الناس حتى اركبوهن على الجمال. (8)
وما جاء في مجال الشعر وعلى لسان الشعراء قال الخليعي ـ ت 650 هـ ـ :
لهفي على فاطم الصغرى مقرحة |
بالدمع أجفانها مسلوبة الوسن |
|
تدعو إلى زينب : يا عمتا سلب العلج |
القناع ليسبيني ويهتكني |
|
فرُمْتُ أستر وجهي عند رؤيته |
فظلّ يشتمني عمداً ويضربني (9) |
قال الشيخ مفلح الصيمري ـ القرن التاسع الهجري ـ :
تُقبّل جثمان الحسين سكينة |
وشمر لها بالسوط ضرباً يقنع |
|
فيؤلمها ضرب السياط فتلتجي |
لعمتها من حيث بالضرب توجع |
|
تقول له : يا شمر ويحك خلها |
إذا كان بالتقبيل ترضى وتقنع |
|
وترفع صوتاً أم كلثوم بالبكاء |
وتشكوا إلى الله العلي وتضرع |
|
وتندب من عظم الرزية جدها |
فلو جدنا ينظر إلينا ويسمع |
إلى أن يقول :
أيا جدنا شمر يبزُّ قناعنا |
ويضربنا ضرب الإماء ويوجع (10) |
فلهذا تلطم الشيعة على صدرها ورأسها وتضرب بالسلاسل على أكتافها مواساةً لبنات الرسالة لما تحمّلن من الأسر والضرب بالسياط والشتم وهتك حرّمتهن.
الهوامش
1. كامل الزيارات « لابن قولويه » / المجلّد : 3 / الصفحة : 167 ـ 168 / الناشر : نشر الفقاهة / الطبعة : 1.
2. الأمالي « للشيخ الصدوق » / الصفحة : 547 / الناشر : مؤسسة البعثة / الطبعة : 1.
3. كامل الزيارات « لابن قولويه » / المجلّد : 3 / الصفحة : 229 / الناشر : نشر الفقاهة / الطبعة : 1.
4. وسائل الشيعة « للشيخ الحرّ العاملي » / المجلّد : 4 / الصفحة : 364 ـ 365 / الناشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث / الطبعة : 2.
5. راجع :
الفخري المنتخب « للشيخ فخر الدين الطريحي » / الصفحة : 173 ـ 174 / الناشر : مؤسسة التاريخ العربي / الطبعة : 1.
بحار الأنوار « للشيخ المجلسي » / المجلّد : 45 / الصفحة : 58 ـ 61 / الناشر : مؤسسة الوفاء / الطبعة : 2.
6. الأمالي « للشيخ الصدوق » / الصفحة : 228 ـ 229 / الناشر : مؤسسة البعثة / الطبعة : 1.
7. الإرشاد « للشيخ المفيد » / المجلّد : 2 / الصفحة : 112 / الناشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث / الطبعة : 2.
8. راجع :
مقتل الحسين « للمقرم » / الصفحة : 305 ـ 309 / الناشر : المكتبة الحيدرية.
9. الفخري المنتخب للطريحي « للشيخ فخر الدين الطريحي » / الصفحة : 146 / الناشر : مؤسسة التاريخ العربي / الطبعة : 1.
10. الفخري المنتخب للطريحي « للشيخ فخر الدين الطريحي » / الصفحة : 135 / الناشر : مؤسسة التاريخ العربي / الطبعة : 1.
التعلیقات