تَشيُّع المقداد ودعوته الناس لعليّ
الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
منذ سنةتَشيُّع المقداد ودعوته الناس لعليّ
في قبال هذه المواجهة الصريحة ، كان للمقداد مع الخليفة مواجهة مبطنة ـ إذا صح التعبير ـ إعتمد فيها اسلوب الدعوة لعلي بكل صراحة ووضوح ، وهو الأسلوب الأشد تأثيراً في تهييج مشاعر المسلمين وإثارة عواطفهم ، فقد كان يرى أن الخلافة حق مشروع لعليٍّ عليه السلام وثابت له دون غيره وعلى هذا الأساس إنطلق في دعوته له ، وكان جريئاً في ذلك غير متكتم ولا مبالٍ بالنتائج مهما كانت ؛ وكان يتخذ من مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله في المدينة مقراً لبَثِّ دعوته تلك ، مبتدأً بعرض ظلامة الإِمام علي ( عليه السلام ) حول هذا الأمر ثم يطرح أمام الجمهور فضائله وكراماته وسابقته منتهياً ببيان أحقيته في الخلافة بأسلوب فريد وكأنه محام بارع أسند إليه القيام بهذا الدور .
روى بعضهم ، فقال : دخلت مسجد رسول الله ( ص ) فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهّفُ تلهُّفَ من كأن الدنيا كانت له فسُلبها ، وهو يقول :
واعجباً لقريش ! ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين وابن عم رسول الله ، أعلم الناس وافقههم في دين الله وأعظمهم فناءً في الإِسلام وأبصرهم بالطريق وأهداهم للصراط المستقيم !
والله لقد زوُوها عن الهادي المهتدي ، الطاهر النقي ، وما أرادوا إصلاحاً للأمة ، ولا صواباً في المذهب ، ولكن آثروا الدنيا على الآخرة فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين .
قال : فدنوت منه وقلت : من أنت يرحمك الله ، ومن هذا الرجل ؟
فقال : أنا المقداد بن عمرو ، وهذا الرجل علي بن أبي طالب !
قال : فقلت : آلا تقوم بهذا الأمر ، فاعينك عليه ؟!
فقال : يا بن أخي ، إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل والرجلان !!
وكان يشاركه في هذا الرأي جماعة ، منهم : أبو ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وغيرهم .
قال : ثم خرجت فلقيتُ أبا ذر فذكرتُ له ذلك ، فقال : صدق أخي المقداد ! ثم أتيتُ عبد الله بن مسعود ، فذكرت ذلك له ، فقال : لقد أُخبرنا ، فلم نألُ . (1)
وكان هذا الموقف يتكرر منه أكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة بلهجةٍ تختلف ليناً وشدةً باختلاف الظروف .
روى أحمد بن عبد العزيز الجواهري . . عن المعروف بن سويد ، قال :
كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلاً في المسجد جالساً وهو يصفق باحدى يديه على الأخرى والناس حوله ، ويقول :
واعجباً من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الأرض ، ونور البلاد ! والله إن فيهم لرجلاً ما رأيت رجلاً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر !
فسألت عنه ، فقيل : هذا المقداد . فتقدمت إليه وقلت : أصلحك الله ؛ من الرجل الذي تذكر !؟
فقال : ابن عم نبيك رسول الله صلّى الله عليه وآله علي بن أبي طالب .
قال : فلبثت ما شاء الله ، ثم لقيت أبا ذر رحمه الله فحدثته بما قال المقداد . فقال : صدق ؛ قلت : فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم ؟!
قال : أبى ذلك قومهم :
قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم ؟!
قال : مَهْ (2) ؟ لا تقل هذا ، إياكم والفرقة والإِختلاف (3) !!
ومرةً ثالثةً نراه ينهج نهجاً أشد لا يخلو من القسوة ؛ والصراحة الزائدة في التعبير عما يجول في نفسه ، أزاء هذا الأمر ، واضعاً خصمه أمام الأمر الواقع غير متحرج ولا مداهن كما حدث ذلك بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ـ على ما جاء في شرح النهج ـ .
قال جندب * بن عبد الله الأزدي : كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان فجئت ، فجلست الى المقداد بن عمرو فسمعته يقول : والله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت ! ـ وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً ـ فقال : وما أنت وذاك يا مقداد ؟!
قال المقداد : والله إني أحبهم لحب رسول الله صلّى الله عليه وآله واني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ثم انتزاعهم من أهله !
قال عبد الرحمن : أما والله ، لقد أجهدتُ نفسي لكم .
قال المقداد : أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ؛ أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدرٍ وأُحد !!
فقال عبد الرحمن : ثكلتك أُمك ! لا يسمعن هذا الكلام الناسُ ؛ فإني أخاف أن تكون صاحب فتنةٍ وفرقةٍ .
قال المقداد : إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون
صاحب فتنةٍ ، ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة ! ـ يعرّض بعبد الرحمن ـ
قال : فتربّدَ وجه عبد الرحمن ، ثم قال : لو أعلم أنك إياي تعني ، لكان لي ولك شأن ! .
قال : المقداد إياي تهدد ، يا بن أم عبد الرحمن ؟ ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف .
قال جندب : فاتبعته ، وقلت له : يا عبد الله ، أنا من أعوانك !
فقال : رحمك الله ؛ إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة ! . . (4)
هذه هي بعض مواقف المقداد ، وتلك هي آراؤه !! انها لا تدع مجالاً للشك في أنه كان أحد المبرزين الذين لم يكونوا شيعة فقط ، بل نهضوا بالدعوة الى التشيع أو بالدعوة لعليّ ( عليه السلام ) ـ ما شئت فعبّر ـ على أوسع نطاق وبأصرح عبارة ، ولم تكن مواقفه وآراؤه تلك مرهونةً بعهد معين كما ربما يتصور البعض ، بل كان هذا رأيه في علي منذ وفاة النبي ( ص ) لم يتغير ولم يتبدل قَط . فقد ورد في ذلك قول الشيخ المفيد رحمه الله تعالى :
« فاختلفت الأمة في امامته يوم وفاة النبي ( ص ) فقالت شيعته وهم : بنو هاشم كافة . . وسلمان وعمار . . والمقداد . . (5) .
وفي تاريخ اليعقوبي : في ذكر الذين مالوا مع علي بن أبي طالب ، عدّ منهم : « المقداد بن عمرو . . » (6) بل كان أحد الذين أطلق عليهم لفظ شيعة في عهد النبي صلّى الله عليه وآله كما يقول السجستاني وغيره (7) ولا أرى موجباً للإِطالة في هذا الموضوع لأنه أصبح معروفاً لا يخفى على من « كان له قلب » !
الهوامش
1. اليعقوبي 2 / 163.
2. مَهْ : اكفف .
3. شرح النهج 9 / 21 .
* جندب : بن عبد الله بن الأرقم الأزدي الغامدي . . يقال له جندب الخير ( الاصابة / 248 ) وكان جندب بعد لقائه هذا قد ذهب الى العراق واقام فيها وكان ينشر فضائل علي عليه السلام ، يقول « فكنت أذكر فضل علي فلا أعدم رجلاً يقول لي ما اكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ ما ينفعك ؟ فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ؟ فيقوم عني ويدعني الخ . . راجع النهج 9 / 58 .
4. شرح النهج 9 / 56 وما بعدها .
5. الارشاد / 10 .
6. اليعقوبي 2 / 124 .
7. للتفصيل راجع كتاب ( أبو ذر ) للمؤلف / 54 وما بعدها .
مقتبس من كتاب : المقداد بن الأسود / الصفحة : 173 ـ 177
التعلیقات