مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنَّة
القضاء والقدر
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 171 ـ 177
(171)
مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنَّة
الاعتقاد بالقضاء والقَدَر من صميم العقائد الإسلامية الّتي جاءت في
الكتاب والسنة ، وليس لمسلم واعٍ إنكار وجودهما ، إنّما الكلام في تفسيرهما
وتحليلهما . وقبل أن نذكر ما ورد في المصدرين نأتي بمقدمة يسهل معها
تصنيف الآيات والروايات:
إنَّ « التقدير » ـ كما سيوافيك بيانه مفصلاً ـ هو التحديد ، و « القضاء » هو
الحكم والإبرام ، وكلاهما ينقسم إلى علمي وعيني.
« فالتقدير العلمي » عبارة عن تحديد كل شيء بخصوصياته في علمه
الأزلي سبحانه قبل أن يخلق العالم ، أو قبل أن يخلق الأشياء الحادثة . فالله
سبحانه يعلم حد كل شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية والمعنوية . كما
أنَّ المراد من « القضاء العلمي » هو علمه بضرورة وجود الأشياء وإبرامها ،
وأنّ أي شيء يتحقق بالضرورة ، وما لا يتحقق كذلك . فعلمه السابق بحدود
الأشياء وضرورة وجودها ، تقدير وقضاء علميان.
وأمَّا « التقدير العيني » فهو عبارة عن الخصوصيات الّتي يكتسبها الشيء من
علله عند تحققه وتَلَبُّسه بالوجود الخارجي . كما أنّ المراد من « القضاء العيني » هو
ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامة ضرورة عينية خارجية.
فلو كان القدر والقضاء العلميان ناظرين إلى التقدير والضرورة في علم
________________________________________
(172)
الله سبحانه ، فالتقدير والقضاء العينيان ناظران إلى التقدير والضرورة
الخارجيين اللَّذين يحتفان بالشيء الخارجي.
والتقدير والقضاء هناك مقدَّمان على وجود الشيء ، وها هنا مقارنان بل
متحدان مع وجوده.
والآيات الواردة في الكتاب على صنفين : صنف ينصّ على العلمي
منهما ، وصنف على العيني منهما ، ولأجل ذلك نفسّر الآيات ونُصَنّفُها حتى
يكون الباحث في المسألة على بصيرة.
التقدير والقضاء العلميان في الكتاب
1 ـ قال سبحانه : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلاً }(1).
وهذا كاشف عن أنَّ مقدار حياة الإنسان مُقَدّر من قبلُ ، لا يتخلف.
والآية تعريض بما نقله تعالى عن بعض المنافقين في الآية التالية:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا ِلأَخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا }(2). فردّ
عليهم سبحانه بما عرفتَ في الآية .
2 ـ قال سبحانه : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(3).
والآية تهدف إلى أنَّ ولاية أمرنا لله سبحانه ، كما يدّل عليه قوله:
{ هُوَ مَوْلاَنَا } ، وقد كتب كتابة حتم ما يصيبنا من حياة وشهادة. فلو أصابتنا
الحياة كان المنّ له ، وإن أصابتنا الشهادة كانت المشيئة والخيرة له ، فالكل من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران: الآية 145 .
(2) سورة آل عمران: الآية 156 .
(3) سورة التوبة: الآية 51 .
________________________________________
(173)
الله وكلاهما حسنة ، ولأجل ذلك يقول : { قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا
فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}(1).
3 ـ قال سبحانه : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(2).
فالآية تنص على سبق علمه سبحانه على تحقق الأشياء وتكوّنها
وتحددها وتقدرها ، وكل ما يحف بها من الخصوصيات.
4 ـ قال تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ
مُسْتَطَرٌ }(3).
{ الزُّبُرِ } كتب الأعمال ، والمراد بالصغير والكبير ، صغيرها وكبيرها ،
والكل مكتوب في كتاب خاص.
5 ـ قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ
إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(4).
المصيبة هي النائبة الّتي تصيب في الأرض كالجدب ، وعاهة الثمار ،
والزلزلة المخربة ، أو الّتي تصيب في الأنفس ، كالمرض والجرح ، والكسر
والقتل ، والمراد من الكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان ، وما يكون ، وما هو كائن
إلى يوم القيامة. وإنّما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض ، أو في الأنفس
من المصائب لكون كلامه فيهما ، وإلاَّ فالمكتوب لا يختص به.
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } دالٌّ على أنَّ تقدير الحوادث قبل
وقوعها والقضاء عليها بقضاء ، لا صعوبة فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة: الآية 52 .
(2) سورة فاطر: الآية 11 .
(3) سورة القمر: الآيتان 52 ـ 53 .
(4) سورة الحديد: الآية 22 .
________________________________________
(174)
ويقول سبحانه بعد هذه الآية: { لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ
تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(1).
والآية بِمَنْزِلِة التعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقُوعِها .
والمعنى : أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل الوقوع لئلا تحزنوا على ما فاتكم
من النِّعَم ، ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها ؛ لأنَّ الإنسان إذا أيقن أنَّ
المصاب مقدر كائن لم يحزن لفوته ولم يفرح لمجيئه.
هذه بعض الآيات الّتي وردت في بيان أنَّ خصوصيات الأشياء وضرورة
وجودها متحققة في علمه الأزلي أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات
الماضية . وإليك بيان القسم الثاني من التقدير والقضاء:
التقدير والقضاء العينيان في الكتاب
في هذا القسم من الآيات نقف على أنّ الخصوصيات المتحققة
في الأشياء أو ضرورة وجودها كلاهما من الله سبحانه ، فالتقدير والقضاء منه.
وإليك بعض ما يدّل عليه :
1 ـ قال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(2).
قَدَرُ الشيء هو المقدار الّذي لا يتعداه ، والحد الّذي لا يتجاوزه من
جانبي الزيادة والنقيصة.
2 ـ قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ}(3).
فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه ، وصراط ممدود في وجوده
يسلكه ولا يتخطاه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد: الآية 23 .
(2) سورة القمر: الآية 49 .
(3) سورة الحجر: الآية 21 .
________________________________________
(175)
3 ـ قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْمًا }(1).
الضمير في { بَيْنَهُنَّ } يرجع إلى السَّماوات والأرض. والمُراد من
{ الأَمْرُ } هو الأمر التكويني الّذي ورد في قوله سبحانه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(2) . والمراد من تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر
الأمر حتى ينتهي إلى هذا العالم ، فيتكون ما قصد بالأمر من موت وحياة ، أو عِزّة
وذِلّة ، أو خصب وجدب ، إلى غير ذلك من الحوادث الأرضية والنفسية.
وهذه الآيات كافية في تبيين التقدير العيني . وهناك من الآيات ما يشير
إلى القضاء العيني ، وأنَّ ضرورة تحقق الأشياء ـ عند اجتماع عللها التامة ـ
من جانبه سبحانه . فكما أنَّ التقدير من الله سبحانه فكذلك القضاء والحكم
بالشيء في عالم العين ، منه سبحانه .
4 ـ قال تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ
سَمَاءٍ أَمْرَهَا }(3).
5 ـ قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً }(4).
6 ـ قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ
الأَرْضِ }(5).
وغيرها من الآيات الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء وإبرامه على
صفحة الوجود.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الطلاق: الآية 12 .
(2) سورة يس: الآية 82 .
(3) سورة فصلت: الآية 12 .
(4) سورة الأنعام: الآية 2 .
(5) سورة سبأ: الآية 14 .
________________________________________
(176)
التقدير والقضاء في السّنة الصحيحة
روى السنة والشيعة روايات كثيرة في هذا المجال ، ولكن العبرة في
الصحة بما لا يخالف القرآن . وإليك بعض ما وقفنا عليه في الجوامع
الحديثية من الشيعة أوّلاً ، والسُّنَّة ثانياً.
1 ـ روى الصدوق في الخصال بسنده عن علي ـ عليه السَّلام ـ قال:
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة :
حتى يشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله بعثني
بالحق ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت ، وحتى يؤمن بالقدر » (1).
2ـ وروى أيضاً بسنده عن أبي أمامة الصحابي قال : قال رسول الله
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : « أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقّ ،
ومنّان ، ومُكَذّب بالقَدَر ، ومُدْمِنُ خَمْر» (2).
3 ـ وروى أيضاً بسنده عن علي بن الحُسَيْن قال : قال رسول الله
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : « ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب
الله ، والمكذب بقدر الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل من عترتي ما حرّم
الله ، والمتسلط بالجبروت ليذل مَن أعزه الله ، ويعزّ مَن أذلّه الله ، والمستأثر
بفيء الله المستحل له » (3).
4 ـ وروى أيضاً بسنده عن أبي الحسن الأوّل ( موسى الكاظم )
ـ عليه السَّلام ـ قال : « لا يكون شيء في السَّماوات والأرض إلاّ بسبعة :
بقضاء ، وقدر ، وإرادة ، ومشيئة ، وكتاب ، وأجل ، وإذن . فمَن قال غير هذا
فقد كذب على الله ، أو ردّ على الله عزّ وجلّ » (4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار : ج 5 باب القضاء والقدر، الحديث 2، ص 87 .
(2) المصدر نفسه : الحديث 3 .
(3) المصدر نفسه : الحديث 4، وبهذا المضمون الحديث الخامس والسادس مع إضافة يسيرة.
(4) المصدر نفسه : ح 7، ص 88 .
________________________________________
(177)
5 ـ وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن علي قال : قال
رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : « إنَّ الله عزّوجلّ قدَّر المقادير ، ودَبّر
التّدابير قبل أن يَخْلُق آدم بألفي عام » (1).
وأمّا ما روي من طرق أهل السُّنّة فالذي يمكن الأخذ به فهو الّذي ننقله
فيما يلي (2).
6 ـ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى
الله عليه وآله وسلم ـ : « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، وحتى يعلم أنَّ
ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه » (3).
هذه الرواية ونظائرها لا تنافي اختيار الإنسان وصحة التكليف ؛ لأنّ المراد
ممّا يصيب وما لا يصيب هو الأُمور الخارجة عن إطار اختياره ، كالمواهب
والنوازل ، فلا شكّ أنَّ الإصابة وعدمها خارجان عن اختيار الإنسان ، وليس له
دور ، وإنّما الكلام في حكومة القضاء والقدر على ما يناط به التكليف ويثاب به ،
أو يعاقب ؛ فإنّ سيادة القضاء والقدر على اختيار الإنسان أمر لا يقبله العقل ، ولا
يوافقه النقل ، كما سيأتي . وقس على هذا باقي ما رواه أهل السنة في باب
القضاء والقدر.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه : حديث 12، ص 93 .
(2) سيوافيك في باب خاص أنَّ أكثر ما رواه أهل الحديث في باب التقدير يلازم الجبر الباطل
ويضاد كتاب الله ، وأنَّ كثيراً منها من الإسرائيليات الّتي بثها نظراء كعب الأحبار ، فترقب .
(3) جامع الأصول : ج 10، كتاب القدر، الحديث 7552، ص 511 .
التعلیقات