الإمامة
محمد مهدي المؤمن
منذ 11 سنةالإمامة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بعد ما تبيّن أنّ النّبيّ الأكرم محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم الأنبياء وشريعته الإسلاميّة خاتمة الشرائع وكتابه الخالد مصون من كلّ تحريف وتزييف وهو مشعل نور وهداية إلى يوم القيامة ، وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حاكماً على العباد وقاضياً بينهم وشريعته الغرّاء هي الحَكَمُ العَدْل والمرجع الوحيد القائم إلى يوم القيامة وقيام السّاعة ، لا يجوز التّديُّن بغيرها ولا التحكيم الى سواها ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) (1) ، و ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) (2) ، لمّا كان الأمر كذلك وكان للقرآن ظاهر وباطن ولباطنه بطون إلى سبعين بطناً أو أكثر ـ وهذه ممّا اتّفقت عليه جماهير المسلمين وعلماء الإسلام على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ـ ، ثمّ اختلف المسلمون وعلماؤهم في تفسير ظاهره وظواهره ، بل عجزوا كثيراً عن ذلك ، وكانوا حينئذٍ عن معرفة أسراره وحقائقه وبطونه أعجز ، لأنَّ عجائبه لا تنتهي ، ولم تكن الفرصة كافية أمام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لبيان ذلك كلّه ، لعيب في قابليّة النّاس ، وعجزهم عن إدراك كثير من الحقائق ، بسبب الحقبة الزّمنيّة التي عاشوا فيها ، ولحاجة معرفة كثير من الأمور إلى مرور الزّمان وتغيير في العقول وحصول التجارب وتقدّم العلوم وتكامل في العقول وهي ممّا لم يتحقّق بل ولن يتحقّق إلّا في عصور متأخّرة عن عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فكان لابدّ من وجود خلفاء وأئمّةٍ هادين مهديّين راشدين يواصلون تلك المسيرة ويحملون عبأ الرّسالة ، فيكونون حكّاماً وخلفاء على النّاس ، يحكمون بالشّريعة ، ويقيمون الحدود ، ويحفظون الثّغور ، ويعملون بعلمهم الموروث من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والممدود إلى السّماء بحبل الله المتين ، ومعصومون عن كلّ سهو وخطأ ونسيان ، ومشهود لهم بالفضل والكمال ، ليبيّنوا للنّاس عظمة الإسلام وحقائق القرآن ، فتكون الرّسالة المحمديّة صلّى الله عليه وآله وسلّم جليّة للعيان ، واضحة المعالم ، حاكمة إلى قيام السّاعة ، وإلّا لو انقطعت العصمة ، ولم يكن الخليفة منصوباً منصوراً مؤيّداً من عند الله ـ تعالى ـ ، لكانت الرّسالة ناقصة شأنها شأن ما وقع بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يومنا هذا وإلى ظهور المهديّ من آل محمّد عليهم السلام من تشويهٍ للشريعة وظلم واضطهاد وتباين للآراء والمذاهب ولأحزاب ، وتشتُّتٍ وتمزيقٍ وانحراف ، ولم يتحقّق الغرض الّذي من أجله بعث النّبيُّ الخاتم ، والغاية الّتي من أجلها كان الإسلام خاتم الشرائع السّماويّة ، وعُدّ القرآن خالداً إلى قيام السّاعة.
فلأجل هذه الأسباب اقتضت الضّرورة وحكم العقل بالبداهة أن ينصب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر من الحكيم العليم خلفاء يحملون الرّاية من بعده ويكونون للاُمّة كما كان هو ، وتكون لهم حقوق على الاُمّة بمثل ما كانت له صلّى الله عليه وآله وسلّم عليها ، وسمّي هؤلاء أئمّة فما معنى كلمة الامام ؟
ج) : الإمام في اللّغة هو الزّعيم والقائد ، وفي اصطلاح المتكلّمين وعلماء الكلام الإمامة هي الزّعامة الدّينيّة والدّنيويّة المطلقة على أهل الإسلام وكافّة المسلمين ، وهذه الزّعامة لا تكون عندنا ولا تجوز في مذهبنا وعقيدتنا إلّا لمن كان منصوباً من عند الله ـ تعالى ـ ، لما تقدّم من أهميّة هذا المنصب والمقام وخطورته وعجز النّاس عن اختيار من يكون أهلاً لذلك ، والتّجارب قد أثبتت ذلك ورأيناها رأي العين في زماننا هذا ، وإن سمعنا أيضاً الكثير عن ماضي ، ولهذا فقد أثبتت تلك التّجارب بطلان كلّ ادّعاء خلاف ما ذكرنا ، وزيف كلّ داعٍ إلى اختيار النّاس ، وإلى تحكيم ما يطلق عليه في لسان الغرب بالدّيمقراطيّة ، وكلّما تقدّم بنا الزّمان ظهر بطلان هذه الدّعوات للعيان أكثر ، ويئس النّاس من دعاة الدّيمقراطية ، وأيقنوا بمدى زيف هذه المحاولات في إسعادهم وسلامتهم ، حتّى زعم بعض علماء العامّة من المتأخّرين والمعاصرين وحتّى القدماء أنّ الخلفاء الأربعة كانوا منصوبين من قِبَلِ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم متجاهلين ما في صحاحهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم « من بعدي اثنا عشر أمير » أو « خليفة » أو « إمام » وأنّ « كلّهم من قريش » (3) واختلفوا في تفسيره وتطبيقه على مصاديقه ، رغم أنّ في بعض كتبهم روايات صريحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تنصّ على أسمائهم وتدلّ على أعيانهم ، ولم يتمسّك بها سوى فرقة واحدة من فرق المسلمين أطلق عليها الإماميّة الاثني عشريّة.
فالإمام يجب أن يكون منصوباً من عند الله تعالى ، وأن يكون متّصلاً بمنبع الفيض الإلهي مستمدّاً علمه من الله تعالى ، وأن يكون معصوماً بالعصمة الكبرى لأنّه عِدْلُ القرآن وهو القرآن النّاطق لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنّي تاركٌ فيكم الثِّقْلَينِ ، كتابَ الله حبلٌ ممدود إلى السّماء ، وعترتي أهلَ بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ـ بعدي ـ أبداً » (4) وهو معنى قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (5) والقربىٰ هم فاطمة الزهراء سيّدة النّساء وبَعْلُها وبنوها عليها وعليهم أفضل الصّلاة وأتمُّ التّسليم.
ليت شعري كيف انتبه الخليفة الثاني ومن معه إلى لزوم اختيار الخليفة ، وضرورة أن ينصبوا إماماً للمسلمين وخليفةً لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سقيفة بني ساعدة ، ولم ينتبه الله إلى هذا الأمر ولا رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟!
ومن أين جاء الخليفة الأوّل بفكرة نصب الخليفة الثّاني من بعده وتعيينه وتحديده دون الرجوع إلى المسلمين ، والعمل بالشّورى ، إن كان الشّورى هو المرجع والطريق إلى تعيين الخليفة واختياره ، على ما يزعمه دعاة الشُّورى ؟!
ومن أين جاء الخليفة الثّاني بقانون نَصَبَ به ستّةً من المسلمين ـ الصّحابة ـ وأمرهم باختيار الخليفة من بعده ، إذا كان الخليفة الثالث مَنصُوباً من عند الله تعالى والرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على حدّ زعم القائلين بالنصّ على خلافة الأربعة الرّاشدين ، وأنّهم كانوا منصوصين منصوبين من عند الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟!
وللرّدّ على القائلين : لو كان عليٌّ عليه السلام منصوصاً منصوباً من قِبَلَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخلافة مباشرة بعده ، وكان الخليفة الأوّل لرسول الله فهل يُعقَل أن يخالفه الصّحابة ويعرضوا عنه ؟!
نقول : لو كان الأوّل ـ أبوبكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنّص والتّنصيب فما بال كثير من المسلمين ـ الصّحابة ـ قد امتنعوا في الوهلة الاولى عن بيعته وعلى رأسهم عليّ عليه السلام وبنو هاشم وسلمان ومقداد وأبوذر وعمّار وجمع غفير من المهاجرين والأنصار حتّى تضاربوا بينهم وتراشقوا بالألفاظ وكادوا يتقاتلون فقالت الأنصار : منّا الأمير ، وقال المهاجرون : منّا الأمير ، ثمّ قالوا واتّفقوا بينهم على ما قاله بعض المهاجرين للأنصار أنّ « منّا الأمير ومنكم الوزير » (6). وما بال حروب الرّدّة التي دارت بين المسلمين حينذاك وإنّما سُمّيتْ بالرّدّة لزعمهم أنّ من امتنعوا عن طاعة الخليفة الأوّل وحبسوا الزّكوات عن إرسالها إليه وإيصالها لديه مرتدّون عن الإسلام خارجون على الخليفة ، كلّ ذلك قد ورد في كتب التأريخ والسيرة والحديث والعقائد والكلام وكان مثار جدلٍ بين المسلمين ، ولا يزال كذلك.
على أنّ الشّخص الوحيد والفرد الفريد من بين هؤلاء الأربعة الّذي لم يتمّ اختياره للخلافة من قِبَلِ الناس ولا بواسطة واحدٍ بعينه من الصّحابة ، وإنّما تمّتْ له البيعة بتزاحم المسلمين على باب داره واجتماعهم على بيته ، وعلمهم ويقينهم بأنّ بيعتهم له تحصيل حاصل بعد بيعة المسلمين له في صدر الإسلام سيّما في واقعة الغدير بأمر من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي محضرة الشّريف ، وعلمهم ويقينهم بأنّه الخليفة الحقّ والإمام المنصوب من عند الله تعالى ورسوله وإجماعهم على وجوب طاعته ، كما أجمعوا على أنّ مخالفيه ومعاديه ناكثون وقاسطون ومارقون ، هو الإمام أميرالمؤمنين عليُّ بنُ أبي طالبٍ عليه السلام وإن حاول بعض المخالفين المعاندين تجاهل ذلك في العمل والواقع العملي ، والبحثَ عن مبرّرٍ لما بدر من أصحاب الجمل وخوارج نهروان ومعاوية بن أبي سفيان وأذنابه ، وسعىٰ جاهداً للدّفاع عنهم في محاولة يائسة لإنقاد الغرقى تحسين صورتهم في عيون المسلمين ، وأنّى لهم ذلك وقد فَضَحَهُمُ التأريخ ، وكشفتْ عن عوراتهم السّيرة ، وبدتْ وصمة العار على جبينهم لا تزيله مياه البحار والأنهار ، وأقرّوا بها في كتبهم ، ونطقوا بها في مجالسهم ومحافلهم ؟! وأينَ هم من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « يا عمّار ستقتلُكَ الفئةُ الباغية » ؟! (7)
والحمد لله ربّ العالمين
الهوامش
1. سورة آل عمران : ٨٥.
2. سورة آل عمران : ١٩.
3. صحيح البخاري ج ٨ / ١٢٧ ، صحيح مسلم ج ٦ / ٣ ـ ٤.
4. مسند أحمد ج ٣ / ١٤ و ١٧ ، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٦٣ ، مسند أبي الجعد : ص ٣٩٧ ، مصنف ابن أبي شيبة ج ٧ / ١٧٦ ، ينابيع المودة ج ١ / ٧٤.
5. سورة الشورى : ٢٣.
6. تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٠٣ ، الكمال في التاريخ ج ٢ / ٣٢٥ ، بحار الأنوار ج ٢٨ / ٣٢٤ وص ٣٣٧.
7. كنز العمال ج ١٣ / ٥٣٢ ح ٣٧٣٨٦ ، شرح مسند أبي حنيفة : ص ٢٤٥ ، مشاهير علماء الامصار : ص ٧٤ ح ٢٦٦ ، الموضوعات ج ٢ / ١٢ ، اسد الغابة ج ٢ / ٢١٧ ، البداية والنهاية ج ٣ / ٢٦٣ ، وقعة صفين ص ٣٢٤.
مقتبس من كتاب : [ كيف نفهم الرّسالة العمليّة ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 133 ـ 140
التعلیقات