الدين و الفطرة
المعرفة
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج1 ، ص 11 ـ 13
(11)
الدين و الفطرة
الإِيمان بالمبدأ والتوجه إلى ما وراء الطبيعة من الأمور الفطرية التي
عجنت خلقة الإِنسان بها ، كما عجنت بكثير من الميول و الغرائز.
أقول بشكل عام إِنَّ إِدراكات الإِنسان تنقسم إلى نوعين:
1 ـ الإِدراكات التي هي وليدة العوامل الخارجة عن وجود الإِنسان
بحيث لولاها لما وقف الإِنسان عليها بتاتاً ، مثل ما وقف عليه من قوانين
الفيزياء و الكيمياء و الهندسة.
2 ـ الإِدراكات النابعة من داخل الإِنسان و فطرته من دون أن يتدخل في
الإِيحاء عامل خارجي ، كمعرفة الإِنسان بنفسه و إِحساسه بالجوع و العطش ،
و رغبته في الزواج في سن معينة ، و الإِشتياق إلى المال و المنصب في فترات
من حياته . تلك المعارف - و إِنْ شئت سمّيتها بالأَحاسيس - تنبع من ذات
الإِنسان و أَعماق وجوده . و علماء النفس يدّعون أنَّ التوجه إلى المبدأ داخل
تحت هذا النوع من العرفان .
إِنَّ علماء النفس يعتقدون بأَنَّ للنفس الإِنسانية أَبعاداً أَربعة يكون كلُّ
بعد منها مبدأً لآثار خاصة.
أ - روح الإِستطلاع و استكشاف الحقائق ، و هذا البعد من الروح
الإِنسانية خلاق للعلوم و المعارف ، و لولاه لما تقدم الإِنسان منذ أن وجد في
هذا الكوكب شبراً في العلوم ، و استكشاف الحقائق.
ب - حبّ الخير ، و النزوع إلى البرِّ و المعروف ، و لأَجل ذلك يجد
الإِنسان في نفسه ميلاً إلى الخير و الصلاح ، و انزجاراً عن الشر و الفساد.
فالعدل و القسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأَجواء و الظروف ، و الظلم
و الجور منفور له كذلك ، إلى غير ذلك من الأَفعال التي يصفها كل إِنسان
بالخير أو الشر، و يجد في أَعماق ذاته ميلاً إلى الأَوّل و ابتعاداً عن الثاني ،
________________________________________
(12)
و هذا النوع من الإحساس مبدأٌ للقيم و الأَخلاق الإِنسانية.
جـ - عشق الإِنسان و علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة و الصناعة
فالمصنوعات الدقيقة و الجميلة ، و اللوحات الفنية و التماثيل الرائعة تستمد
روعتها و جمالها من هذا البعد.
إِنَّ كل إِنسان يجد في نفسه حبّاً أَكيداً للحدائق الغناء المكتظة بالأَزهار
العطرة ، و الأَشجار الباسقة ، كما يجد في نفسه ميلاً إلى الصناعات اليدوية
المستظرفة ، و حباً للإِنسان الجميل المظهر ، و كلها تنبع من هذه الروح التي
عجن بها الإِنسان ، و هي في الوقت نفسه خلاّقة للفنون في مجالات
مختلفة.
د - الشعور الدينى الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ ، فيدعو
الإِنسان إلى الإِعتقاد بأَنَّ وراء هذا العالم عالماً آخر يستمد هذا العالم وجوده
منه ، و أنَّ الإِنسان بكل خصوصياته متعلق بذلك العالم و يستمد منه.
و هذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأَخير ، و أَيدوه
بالإِختبارات المتنوعة ممّا ركز عليه الذكر الحكيم قبل قرون ، و أَشار إليه في
آياته المباركات ، نعرض بعضها:
أ – { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا } (1).
إِنَّ عبارة « فِطْرَةَ الله » تفسير للفظة الدّين الواردة قبلها ، و هي تدل
بوضوح على أنَّ الدّين - بمعنى الإِعتقاد بخالق العالم و الإِنسان ، و أَنَّ مصير
الإِنسان بيده - شيء خلق الإِنسان عليه ، و فُطر به ، كما خلق و فُطِر على كثير
من الميول و الغرائز.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الروم: الآية 30.
________________________________________
(13)
ب – { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }(1).
أيْ عرَّفْنا الإِنسان طريقَ الخير و طريقَ الشر ، و ليس المراد التعرف
عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه ، و إن لم يقع في
إِطار تعليم الأَنبياء ؛ و ذلك لأَنّه سبحانه يقول قبله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
كَبَدٍ * ... * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.
فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإِنسان و إبداعه.
و هذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدل على أنَّ النظرية التي اكتشفها علماء
معرفة النفس ممّا ركّز عليها الوحي بشكل واضح ، و حاصلها إِنَّ الدين
بصورته الكليَّة أَمر فطري ينمو حسب نمو الإِنسان ورشده ، و يخضع للتربية
و التنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز.
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البلد: الآية 10.
التعلیقات