معطيات رسائل الإمام الحسن عليه السلام إلى معاوية
الشيخ نزار سنبل
منذ 4 أشهرمعطيات رسائل الإمام الحسن عليه السلام إلى معاوية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين :
المدخل
أراني لا أخطىء الواقع إن أنا قلت : بأنّ الدور الذي جاء عقيب شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو من أخطر الأدوار التاريخية التي مرّت على أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، إن لم يكن أخطرها ، وإنّه المنعطف الثاني الخطير في مسير الدولة الإسلامية وقد زاد في هوّة المنعطف الأوّل كثيراً ، وإنّ الحالة الاجتماعية والسياسية التي رافقت هذا الشرخ العظيم في جسد الاُمّة المسلمة ، كانت متردية إلى أبعد الحدود ، والله وحده يعلم مدى المعاناة التي عاناها الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام في سبيل إصلاح ذلك الوضع السيء ، يقتفيان خطى أبيهما العظيم عليه السلام في الذب عن كرامة الاُمّة وحريم الإسلام.
ويمكن طرح الفكرة بصورة أوضح من خلال اُمور :
1 ـ إنّ شهادة الإمام علي عليه السلام ـ زعيم الدولة الإسلامية ـ كانت في محراب المسجد الجامع ، وفي أعظم شهور الله حرمة وهو شهر رمضان ، عقيب مؤامرة دبرها نفر من الخوارج.
2 ـ بلغ خبر شهادة الإمام عليه السلام الشام فعقد معاوية اجتماعاً طارئاً دعا فيه دهاة العرب الذين أخذوا على أنفسهم أن لا يعلو صوت لآل أبي طالب عليه السلام الذي هو صوت الإسلام الحقيقي ، ليُحكموا الخطط ويحوكوا المؤامرات ضد الإمام الحسن عليه السلام وحكومته كما ستعرف بعض ذلك عن قريب.
3 ـ إنّ المناوئين الآخرين الذين نقضوا أو تخلّفوا عن بيعة الإمام علي عليه السلام يتربصون به وبأهل بيته الدوائر ، سواء من كان في المدينة ومَن خرج منها.
4 ـ التمزق الشديد داخل عاصمة الإمام عليه السلام ، واختلاف الأهواء والمطامع والمشارب واُسلوب التفكير بين أفراد المجتمع الكوفي وما يتبعه من المدن والقرى والقبائل.
5 ـ الاختلاف الكبير بين أهداف الإمام عليه السلام الطامح لإعلاء كلمة الله وإرساء الحق والعدل بين المنظومة الإنسانية ، وبين ما يفكر فيه بعض الشخصيات من عاصمته في ما يعود نفعه إلى مصلحته الشخصية أو مصلحة قبيلته.
كل هذه الاُمور وغيرها والتي غابت عنّا وعن ذاكرة التاريخ ، كان لها الدور الكبير في صنع القرار واتخاذ الموقف في سياسة الإمام الحسن عليه السلام الحربية والسلمية ، وقد بحث الكتّاب والمؤرخون عن حياة الإمام الحسن عليه السلام واستوعبوا الكثير من جوانبها ، وخرجوا بنتائج ، كل بما يمليه عليه مذهبه ومشربه وطريقته في البحث.
ومن الاُمور التي كان من المفترض أن تتصدّر قائمة الأبحاث وتعنى بالدراسة والتحليل هي رسائل الإمام الحسن عليه السلام إلى معاوية ، إلّا أنّنا لم نر من ذلك شيئاً يذكر مع قيمتها التاريخية والسياسية والوثائقية ، ممّا حدا بي إلى أن ألقي شيئاً من الضوء على هذه الرسائل حتى نتعرّف معطياتها وجانباً من منهج سياسة الإمام الحسن عليه السلام.
والجدير بالذكر إنّني حاولتُ في هذا البحث أن أتعامل مع النص وما يحيط به من ظروف ، بدون أن أترسّم خطى أحد لأخذ رأيه أو كيفية طرحه واُسلوب تعامله مع النص ، حتى تكون النتائح أقرب إلى النص منها إلى رأي الآخرين وأفكارهم.
وليكن معلوماً لدى القارىء الكريم أنّ الرسائل المتبادلة بين الإمام عليه السلام ومعاوية لم تصلنا مرتّبة في كتب التاريخ من ناحية الزمان ، بل جاءت مبعثرة غير منتظمة عدا ما ورد في معادن الحكمة للكاشاني (1) حسب تتبّعي ، إلّا أنّ الملتفِت لمجريات الحوادث يستطيع ترتيبها حسب زمان صدورها ولو ظنّاً بنسبة مرتفعة ، هذا وقد اختلفت نسخها في المصادر ، لذا سوف أكتفي بالأوسع مضموناً منها.
الرسالة الاُولى :
كتب الإمام الحسن عليه السلام إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزدي :
« من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فإنّي أحمد الله الذي لا إلٰه إلّا هو.
أمّا بعد فإنّ الله عزّ وجل بعث محمّداً صلّى الله عليه وآله رحمة للعالمين ، ومنّة للمؤمنين ، توفّاه الله غير مقصّر ولا وان ، بعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخصّ قريشاً خاصّة ، فقال له : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ) (2) فلمّا توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته واُسرته وأولياؤه لا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمّد وحقّه ، فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش ، وأنّ الحجّة لهم في ;ذلك على مَن نازعهم أمر محمّد ، فأنعمت لهم ، وسلمت إليهم ، ثم حاججنا قريشاً بمثل ما حاجّت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج.
فلمّا صرنا أهل بيت محمّد وأولياءه إلى محاجتهم وطلب النصف باعدونا ، واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت عليهم لنا ، فالموعد الله وهو الولي النصير.
ولقد تعجبّنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام ، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين ، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده.
فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لستَ من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلّى الله عليه وآله ولكتابه والله حسيبك ، فسترد فتعلم لمَن عقبى الدار.
وبالله لتلقينّ عمّا قليل ربّك ، ثم ليجزينّك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد.
إنّ عليّاً لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ، ويوم منّ الله عليه بالإسلام ، ويوم يُبعث حيّاً ـ ولّاني المسلمون الأمر بعده.
فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة ممّا عنده من كرامة.
وإنّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عزّ وجل في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين.
فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله وعند كلّ أواب حفيظ ، ومَن له قلب منيب ، واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فوالله ما لك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به ، وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منك ، ليطفىء الله النائرة بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أبيت إلّا التمادي في غيّك سرتُ إليك بالمسلمين ، فحاكمتُك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين » (3).
زمن الرسالة :
ضرب الإمام علي عليه السلام في محراب مسجد الكوفة في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك وانتقل إلى جوار ربّه في الليلة الحادية والعشرين منه في سنة 40 هـ ، وبويع الإمام الحسن عليه السلام بالخلافة في صبيحة تلك الليلة بعد أن خطب في الناس وأبّن الفقيد العظيم أمير المؤمنين عليه السلام بقوله بعد الحمد والثناء : « لقد قبض هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل ، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقيه بنفسه ... إلى أن قال : أيّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي ، وأنا ابن النبي ، وأنا ابن البشير النذير ، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وأنا من أهل بيت افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم ... » (4).
ثم قام ابن عباس فحفز المسلمون على بيعته قائلاً : « معاشر المسلمين هذا ابن نبيّكم وصي إمامكم فبايعوه » فتمّت البيعة له.
فمن المحتمل قوياً أن تكون هذه الرسالة بعد البيعة بقليل فتكون في العشر الأواخر من شهر رمضان أو أوائل شهر شوّال.
ظرف الرسالة :
هي الظروف نفسها التي ذكرنا مجملها في المدخل مع ملاحظة الأزمة السياسية الخانقة الي أعقبت الحروب الثلاثة ـ الجمل ، صفّين ، النهروان ـ والتي خاضها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، مع مَن نقض بيعته ومن تخلّف عنها ، والتي ملأت قلوب الكثيرين حقداً وبغضاً للإمام عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه ، كما امتلأت قلوب المشركين من قبل ، يضاف لها هنا بأنّ ظرف الدولة الإسلامية بعد استشهاد قائدها بهذه الصورة لم يكن ظرفاً عادياً بل كان حسّاساً وملتهباً ، مضافاً إلى أنّه ظرف لقاء الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية وجهاً لوجه ، وانّه امتداد للصراع بين الكوفة والشام ، فانّ الإمام الحسن عليه السلام يمثّل خطّ أبيه الإمام بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى « وجدتُكَ بعضي بل وجدتُك كلي » (5) ، والطرف المقابل لا زال هو معاوية الذي يطمع في الملك وبقاء السلطة في يده واستمرارها في بني اُمية من بعده.
معطيات الرسالة :
تعتبر هذه الرسالة وثيقة تاريخية مهمّة جداً وتحمل بين حروفها معاني كثيرة ، وتفتح آفاقاً واسعة لدارسي التاريخ الإسلامي في تلك الحقبة من الزمان شريطة أن يرتفعوا بقلمهم عن نوازع المؤرّخ التقليدي ، والتاريخ الرسمي كما يستفاد منها معطيات عدّة منها :
الأوّل : أنّ الإمام عليه السلام ابتدأ الرسالة بعد الحمد لله سبحانه ، بأنّ الله بعث محمّداً صلّى الله عليه وآله رحمة للعالمين ..
فكأنّ الإمام عليه السلام يشير بهذا المطلع إلى شيئين :
1 ـ إنّ منصب الخلافة الإسلامية موقع يخلف منصب الرسالة فلا يستحقّه كلّ أحد ، بل لا بد أن يكون أمره بيد السماء ، كما أنّ هناك صفات ينبغي تواجدها في شخص الخليفة كما هي متوفرة في شخص النبي صلّى الله عليه وآله حتى يتسنّى له أن يقوم بمهمة زعامة المسلمين الكبرى وقيادة الدولة الإسلامية بأمان ، وأن تكون له الأهلية والقدرة على إحقاق الحق وبطلان الباطل ، لمعرفتها أوّلاً ، وحمله للروحية الإسلامية التي تقبل ذلك ثانياً ، وفي هذا إشارة خفية لعدم اتصاف معاوية بهذه الاُمور المطلوب تواجدها في شخص الخليفة.
2 ـ إنّ الرسالة الإسلامية قد ووجهت بالعداء من المشركين ولا سيما مشركي قريش من مبدأ مسيرتها وإنطلاقها ، وحاول المشركون ـ الذين كنتَ منهم يا معاوية ـ وأدها في مهدها ، فما توانى الرسول صلّى الله عليه وآله في القيام بما اُمر به ، وإظهار الرسالة وإبرازها إلى نور الوجود ، ولقد قال كلمته المشهورة التي دكّت كبرياء قريش وزلزلت الأرض تحت أقدامهم : « والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك » (6) ، بينما بذلتم جهدكم في إخفائها ، فكيف تريد اليوم أن تتولّى مهام الأمر الذي كنتَ تحاربه بالأمس وتجهد في دفنه وإطفائه ؟!
وليس استبعاد أمثال معاوية عن أمر الخلافة بأمر غريب بل هو عين الحكمة والصواب ، فان مَن كانت حاله هي هذه في مبدأ أمره إلى سنين كثيرة مضت من عمره تخللتها الحروب والدماء ، لا بد أن يتأثّر بالبيئة التي كان يعيش في محيطها ، والأفكار التي تربّى عليها بحيث تبقى رواسبها في نفسه فيتحرك حسب إملائها من حيث يشعر أو لا يشعر ، ثم ما حال المسلمين الذين كانوا ضدّه في المواجهة وهم يرون أنّ أميرهم اليوم هو الرجل الذي حاربهم على كلمة التوحيد بالأمس ؟
وقد رسم الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رحمه الله نفسية معاوية ومَن أسلم معه يوم الفتح فقال في رسالة بعثها إلى الإمام الحسن عليه السلام : « واعلم انّك تحارب مَن حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله ، فلمّا وحّد الرب ومحق الشرك وعزّ الدين أظهروا الإيمان وقرأوا القرآن مستهزئين بآياته ، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم كارهون ، فلمّا رأوا أنّه لا يعزّ في الدين إلّا الأتقياء الأبرار توسّموا بسيماء الصالحين ليظنّ بهم المسلمون خيراً ، فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم وقالوا حسابهم على الله ، فان كانوا صادقين فإخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمل إلّا غيّاً ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلّا مقتا .. » (7).
الثاني : أرّخ الإمام عليه السلام للنقطة المهمة التي بها ظهر المهاجرون على الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وبالأحرى انتصرت بها قريش على الأنصار وسائر العرب ، وكان لهم بها منطق القوّة ، وهي احتجاجهم بأنّهم شجرة النبي صلّى الله عليه وآله وأنّهم أهله وأقرباؤه ، وقد ذكّر الإمام عليه السلام معاوية بأنّ هذا الأمر وهي الخلافة إنّما ذهبت عن الأنصار ويمّمت صوب قريش الذين وضعوك في هذا الموضع بتأميرهم إيّاك على الشام لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله منهم ، فلم تكن للأنصار حجّة تصلح أن تناهض تلك الحجّة.
ولعل ذكر الإمام عليه السلام لهذا الحدث التاريخي في رسالته هذه إشارة منه إلى أنّ الذي أطمع معاوية وأمثاله في الخلافة هي وقائع السقيفة ، ولو أعطيت صاحبها الشرعي من ذلك الحين لما آلت لأمثال معاوية ، ولما حدّثته نفسه بها يوماً من الأيام وهو من هو ، ممّن عُرف بالحقد والكيد للإسلام ونبي المسلمين ، كما أنّ الذي أطمع الزبير وطلحة بها جعلهم في الشورى من قِبَل الخليفة الثاني ، وقد صرّح بهذا المعنى الإمام نفسه عليه السلام في كلام له مع معاوية حيث قال : « وأقسم بالله لو أنّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله صلّى الله عليه وآله لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، وما طمعتَ فيها يا معاوية ، ولما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء : أنت وأصحابك » (8).
الثالث : بين الإمام عليه السلام انّهم ـ أهل البيت عليهم السلام ـ قد حاجوا قريشاً بمثل ما حاجت به سائر العرب فلم ينصفوهم إنصاف العرب لهم ، فأفصح الإمام عليه السلام في هذه الوثيقة عن أمر ذي بال من حياة الإمام علي عليه السلام بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وحين تولي غيره لقيادة الاُمّة المسلمة ، وهو أمر الاحتجاج من قِبَله عليه السلام على القوم ، خلافاً لما عليه كثير من مؤرخي أهل السنة وكتّابهم الذين ذهبوا إلى أنّ الإمام علياً عليه السلام لو كان هو صاحب الحقّ والأمر كما تزعم الشيعة لما سكت عن حقّه ، ولما بايع القوم وكان عليه أن يحاججهم في ذلك ، فاعتبروا عدم احتجاجه عليه السلام أمراً مسلّماً بينهم ، فهذه الرسالة إحدى الوثائق التي بيّنت احتجاج أهل البيت عليهم السلام على مَن تولّى زمام الأمر دونهم ، فقد كانت هناك مجموعة من الاحتجاجات مثل قول الإمام علي عليه السلام : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » (9) ، وما يُنسَب إليه من الشعر :
فإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمهم |
فغيرك أولى بالنبي وأقربُ |
|
وإن كنتَ بالشورى ملكتَ اُمورهم |
فكيف بهذا والمشيرون غيّبُ |
وما روي أنّ الإمام علي عليه السلام أتى إلى أبي بكر وهو يقول : « أنا عبد الله وأخو رسوله » فقيل له بايع أبا بكر.
فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليه بالقرابة من النبي صلّى الله عليه وآله وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد منكم ، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى الناس برسول الله حيّاً وميتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلّا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون » (10).
وقول السيدة الزهراء عليها السلام في خطبتها المعروفة : « فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الأقلين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللغرة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً فوسمتم غير إبلكم وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب .. » ، وفيها : « ويحكم أنّى زحزحوها ـ الخلافة ـ عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة ، ومهبط الوحي الأمين » وفيها : « ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبسط والقبض ».
ومن المحتمل انّه عليه السلام إنّما بيّن هذا الجانب لمعاوية لعلمه عليه السلام بأنّ معاوية أراد بثّ هذه الشبهة في نفوس العامّة ، بحيث اتّخذه المؤرخون أمراً مسلّماً فيما بعد.
الرابع : يظهر من قول الإمام عليه السلام : « ولقد تعجّبنا من توثّب المتوثّبين علينا في حقّنا .. الخ » أنّ أحقيّة الإمام علي عليه السلام للسلطة الدينية والزمنية بعد الرسول صلّى الله عليه وآله بلا فصل ، وانّه الخليفة المنصوب من قِبَل السماء ، أمر لا خفاء فيه على أحد ، بحيث كان من الوضوح والاشتهار أن أثار التخلّف عنه وإنكاره التعجّب والاستغراب في نفوس أهل البيت عليهم السلام والخلّص من المسلمين ، فإنّ الرسول صلّى الله عليه وآله قد ركّز فكرة خلافة الإمام علي عليه السلام بعده في نفوس المسلمين عامّة وخاصّة ، وربّى المسلمين على ذلك في كثير من المواقف الحرجة التي ألمت بالمسلمين ، بل وفي أماكن الدعة والراحة أيضاً ، وربّى الإمام علياً عليه السلام على ذلك أيضاً بإعطائه قيادة جيوش الإسلام وعدم تأمير أحد عليه في كلّ المواقع التي حضرها ، وباختصاصه بالعلم الذي ينفتح له من كلّ باب منه ألف باب وبغيره ، ولو غضّ الطرف عن جميع ذلك فلا يمكن أن يغض النظر عن بيعة الغدير وتنصيب الإمام علي عليه السلام خليفة شرعياً للرسول صلّى الله عليه وآله ووليّاً على المسلمين بعد وفاته ، تلك البيعة التي لم يمض عليها إلّا شهران وعشرة أيام قبل وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله ، وهي مدة قصيرة في حساب الزّمن لا تكفي لنسيان الحدث غير المهم فضلاً عن مثل هذا الحدث العظيم المحاط بمجموعة من الظروف المكانية والزمانية والنفسية التي تغرسه في أذهان الحاضرين إلى أبد الآبدين.
ويوضح هذا الأمر شعر عتبة بن أبي لهب أو غيره ممّن عاصر حوادث السقيفة وآخر آيام الرسالة :
ما كنتُ أحسبُ أنّ الأمر منصرفٌ |
عن هاشم ثمَّ منها عن أبي حسن (11) |
الخامس : انّ الذي قعد بالإمام علي عليه السلام عن اتخاذ طريق المواجهة العسكرية بينه وبين مَن تولّى شؤون الاُمّة وهو مَن هو في الشجاعة والإقدام وهم مَن هم ، إنّما هو الحفاظ على الدين الإسلامي وخوفاً عليه أن تلين له قناة وهو الذي سقى عوده بدمه حتى اخضرَّ ورقه ونمت أغصانه ، وضحّى من أجله بأعظم أيام حياته ، وبذل له كل ما في وسعه ، وكان ساعد القائد الأعظم الرسول صلّى الله عليه وآله ، فانّ هناك مَن يتربّص به الدوائر ويبغي له الغوائل « وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدِّين ، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده ».
ويظهر هذا المعنى في موقف الإمام علي عليه السلام من أبي سفيان بعد حوادث السقيفة مباشرة ، فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : « لمّا اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان وهو يقول : أمَا والله إنّي لأرى عجاجة لا يطفئُها إلّا الدم ، يا لعبد مناف ، فيمَ أبو بكر من أمركم ! أين المستضعفان أين الأذلّان ـ يعني علياً والعباس ـ ما بال هذا في أقلّ حيّ من قريش ، ثُمَّ قال لعلي : إبسط يدك أبايعك ، فوالله إن شئت لأملأنّها على أبي فضيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلاً ورجالاً ، فامتنع علي عليه السلام فلمّا يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس :
ولا يقيمُ على ضيمٍ يُرادُ بهِ |
إلّا الأذلّان عيرُ الحيِّ والوتدُ |
|
هذا على الخسفِ مربوطٌ برمّتهِ |
وذا يُشَجُّ فلا يَرثي لهُ أحد (12) |
وفي رواية الطبري زجره الإمام عليه السلام وقال : « أنتَ طالما بغيتَ على الإسلام شرّاً لا حاجة لنا بنصيحتكَ » (13).
فلقد كان الإمام علي عليهالسلام يقرأ النفوس ، وينظر من وراء الغيب بنور الإيمان حين امتنع من اُطروحة أبي سفيان ، وإن كانت بهذا الشكل المثير ، فانّ أبا سفيان لم يسلم إلّا خوفاً من السيف كما يظهر لمَن تصفّح أوراق التاريخ ، وقد أظهر ما تبطنه سريرته في خلافة عثمان ، فإنّه كان جالساً في مجلس الخليفة يوماً من الأيام ومعه رهط من بني اُمية فقال : تداولوها يا بني اُميّة تداول الولدان الكرة فوالله ما من جنة ولا نار (14).
السادس : جرّد الإمام الحسن عليه السلام معاوية بن أبي سفيان عن صلاحيته للخلافة الإسلامية بأيّ نحو كان ، وأبرزه للمجتمع الإسلامي ولكل مَن قرأ هذه الرسالة على مدى التاريخ بثوبه الشفّاف الذي لا يستر له عورة ، فهو ليس بصاحب فضل في الدّين معروف حتّى يمكن له القول : بأنّي آمنتُ أوّل الناس أو أسلمتُ وسائر الناس عاكفون على أصنامهم وما إلى ذلك ! ولا له أثر في الإسلام محمود ، إذ لم يُعرَف بقيادة جيش ولا بلاء في حرب ولا .. ولا .. مضافاً إلى أنّه ابن حزب من الأحزاب التي تألّبت على النبي صلّى الله عليه وآله لقتاله في محاولة فاشلة لمحو دينه وإبادة أنصاره ، وهو ابن أعدى قريش لرسول الله صلّى الله عليه وآله وهو أبو سفيان الذي قاد حروب المشركين ضدّ النَّبي صلّى الله عليه وآله ، فلم تكن عند معاوية الصلاحية الذاتية للخلافة الإسلامية ، ولا الأهلية الموضوعية التي تجعله راجحاً في ميزان العقلاء وعند رجال الإسلام.
ولقد قال له الإمام علي عليه السلام في كتاب إليه : « ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيَّة ، وولاة الاُمّة ؟ بغير قدم سابق ، ولا شرف باسق » (15).
السابع : بيّن الإمام عليه السلام في المقابل انّه الأحقّ بالخلافة المستوعب لجميع صفات الخليفة الشرعي التي لم تكن متوفرة في معاوية ، فهو من جهة النسب سبط الرسول صلّى الله عليه وآله ، وٱبن فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وآله ، وشبل علي عليه السلام ، وهو الذي قال الرسول صلّى الله عليه وآله فيه وفي أخيه الإمام الحسين عليهما السلام : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجَنّة » وانّهما إمامان قاما أو قعدا ، فهو الممثّل الرسمي لجدّه وأبيه ، ثم انّه الذي بايعه المسلمون طائعين غير مُكرَهين الأمر الذي كان المدار عندهم (16) في الصعود إلى عرش الخلافة ، وانّ معاوية نفسه يعلم بأحقّيته عليه السلام : « فانّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منكَ عند الله وعند كل أوّاب حفيظ ، ومَن له قلب منيب ».
ولقد قال معاوية يوماً لابنه يزيد جواباً على استغراب له في معاملته مع الإمام الحسن عليه السلام في أحد المواقف بعد الصلح : يا بني إنّ الحقّ فيهم (17).
وقد أشار إلى هذا الإمام عليه السلام في كلام له مع معاوية بعد الصلح ، حيث عقّب معاوية على كلام للإمام عليه السلام يذكر فيه فضله بقوله : « أظن نفسك يا حسن تنازعك إلى الخلافة » ، فقال الإمام عليه السلام : « ويلك يا معاوية إنّما الخليفة مَن سار بسيرة رسول الله وعمل بطاعة الله ، ولعمري إنّا لأعلام الهدى ومنار التقى ، ولكنّك يا معاوية ممّن أباد السنن ، وأحيا البدع ، واتخذ عباد الله خولا ، ودين الله لعباً » (18).
الثامن : بيّن الإمام عليه السلام ما عليه معاوية من الباطل وسأله أن يدع التمادي فيه فقال له : « فدع التمادي في الباطل » ووصفه بأنّه باغ والبغي هو تجاوز الحق إلى الباطل ، قال تعالى : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) (19) ، يُقال بغى الجرح أي تجاوز الحد في إفساده ، وبغت المرأة بغاء إذا فجرتْ وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها (20).
وإنّ معاوية ممّن يتمادى في الغي أيضاً حيث قال له الإمام عليه السلام : « وإن أبيتَ إلّا التمادي في غيّكَ » وقد وصفه من قبل بهذا الوصف الإمام علي عليه السلام بقوله في رسالة له : « وانّ نفسكَ قد أولجتْكَ شراً ، وأقحمتْكَ غياً ، وأوردتْكَ المهالك ، وأوعرتْ عليكَ المسالك » (21) ، وقال له في رسالة اُخرى إليه : « وأرديتَ جيلاً من الناس كثيراً ، خدعتهم بغيّك ، وألقيتهم في موج بحرك ، تغشاهم الظلمات ، وتتلاطم بهم الشُّبهات » (22).
التاسع : إنّ الذي حمل الإمام عليه السلام على كتابة هذه الرسالة إلى معاوية إنّما هو الإعذار في ما بينه وبين الله عزّ وجل في أمره ، ولتكون الحجّة على معاوية أوقع عند أهل الرأي والحجى.
العاشر : بيّن الإمام عليه السلام انّ خلافته هي الأصلح للمسلمين ، فكل فعل مضاد يبديه معاوية فهو خروج على مصلحتهم العليا.
الحادي عشر : دعوة من الإمام عليه السلام إلى معاوية أن يكف عن الولوغ في دماء المسلمين ، وأن يحقنها فلقد شرب منها حتى الثّمالة وغرق فيها إلى الآخر.
جواب معاوية :
« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي .. فهمتُ ما ذكرتَ به محمّداً صلّى الله عليه وآله وهو أحقّ الأوّلين والآخرين بالفضل كلّه .. وذكرتَ وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وتنازع المسلمين الأمر من بعده وتغلبهم على أبيك ، فصرحتَ بتهمة فلان وفلان وأبي عبيدة وحواري رسول الله صلّى الله عليه وآله والصلحاء والمهاجرين والأنصار فكرهتُ ذلك لكَ ، إنّكَ امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ولا المسيء ولا اللّئيم ، وأنا أحب لكَ القول السديد والذكر الجميل ، انّ هذه الاُمّة لما اختلفتْ بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيّكم ولا مكانكم في الإسلام وأهله ، فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيّها ، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله وأحبّها له وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر ، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للاُمّة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متّهمين ولا في ما أتوا بالمخطئين ، ولو رأى المسلمون أن فيكم مَن يغني غناءه ويذب عن حريم الإسلام ذبّه ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه.
وقد فهمتُ الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال في ما بيني وبينكم اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله ، فلو علمت أنّكَ أضبط منّي للرعية ، وأحوط على هذه الاُمّة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال ، وأكيد للعدو ، لأجبتُكَ إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتُكَ لذلك أهلاً ، ولكن قد علمتُ أنّي أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه الاُمّة تجربة ، وأكبر منك سناً فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ، فأدخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في مال العراق بالغاً ما يبلغ ، تحمله إلى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت ، معونة لك على نفقتك ، يجبيها أمينك ، ويحملها إليك في كل سنة ، ولك أن لا نستولي عليك بالإساءة ولا تقضى دونك الاُمور ، ولا تُعصى في أمر أردتَ به طاعة الله ، أعاننا الله وإيّاك على طاعته إنّه سميع مجيب الدعاء والسلام » (23).
لا يخفى على مَن خبر كتب التاريخ والسير ، واطّلع على حوادث السقيفة ، ثم عرف النفسية التي يتمتّع بها بنو عبد الدار ، أن يدرك المغالطات التي اندست في هذه الرسالة والتلاعب بالعواطف والإثارات ، ولذا قال الكاتب المصري توفيق أبو علم : « وكما يقول الدكتور أحمد رفاعي في كتابه ( عصر المأمون ) إنّ هذه الرسالة حوت بعض المغالطات ، فقد جاء فيها : « إنّ هذه الاُمّة لما اختلفت بينها ، لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيّكم ... الخ » (24).
ونذكر هنا بعض ما يلاحظ على هذه الرسالة :
الأوّل : إنّ معاوية أضاف لقب أمير المؤمنين إلى نفسه وهو لم ينص على خلافته ولم يُبايَع من قِبَل المسلمين ، وهذا تحدّ صارخ منه في وجه الاُمّة وعدم المبالاة بقوانين الإسلام ولا الاحترام لمشاعر المسلمين.
الثاني : إنّه موّه الأمر ولم يذكر حوادث ما بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله ، وبرز في معرض الدفاع عن صحابة الرسول صلّى الله عليه وآله ، وإنّه الرجل المؤمن الذي يربأ بالإمام الحسن عليه السلام عن الكلام عن أولئك المتقدمين ، بينما لم يذكر الإمام عليه السلام إلّا ما جرى بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله كأي محدّث ينقل حدثاً تاريخياً خطيراً لعب دوره الكبير في حياة الاُمّة الإسلامية وأثّر في اتجاه سيرها ، وإنّما ذكره لينبّه معاوية وأتباعه بأنّ الأمر الذي نطلبه منك هو حقّ لنا في أعناق المسلمين وإن خرج عن دائرته حفنة من السنين لظروف طارئة ، فهو تذكير وإشارة لمَن ألقى السمع وهو منيب ، ولم يكن خافياً على معاوية ذلك الأمر ، ولذا كان يعيب الإمام علياً عليه السلام بما صنع به في تلك الأيام في كتاب له إليه ، فأجابه الإمام عليه السلام بقوله : « وقلتَ : انّي كنتُ اُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتّى اُبايع ؛ ولعمر الله لقد أردتَ أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ولا مرتاباً بيقينه ! وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقتُ لك منها بقدر ما سنح من ذكرها » (25).
الثالث : إنّ قوله : « فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها ... الخ » ، فيه الكثير من الإعلام المزيّف الذي طالما حارب به معاوية وٱتّخذه سلاحاً حاداً في كثير من المواقع التي مرّ بها وكادت تعصف به رياحُ الحقّ ، فهل اجتمعت الاُمّة على الأوّل ؟! إذن ما الذي حمل الثلاثة من المهاجرين على الذهاب إلى سقيفة بني ساعدة وإجراء المفاوضات الحادّة مع الأنصار وترك الرسول صلّى الله عليه وآله مسجى على فراش الموت لم يوار الثرى بعد ، وهو صهر أوّلهما وثانيهما ! وهل كان غيرهم من قريش بل من المهاجرين هناك ؟ وهل بايع علي والعباس والفضل بن العباس وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار و .. و .. مَنْ أهل الدين والسبق وعلية المسلمين ؟! ألم تقل الأنصار في لحظة من لحظات السقيفة : « لا نبايع إلّا علياً » (26) ألم يقل الخليفة الثاني كانت بيعة أبي بكر فلتة ! (27) وحسبنا في التعليق ما ورد في الكتاب السابق للإمام علي عليه السلام : « وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه ) (28) وقوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (29) ، فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة.
ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار في يوم السقيفة برسول الله صلّى الله عليه وآله فلجُّوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ».
الرابع : كيف اختارت الاُمّة أفضلها وأحبّها إلى الله وأعلمها به وأذبّها عن حريم الإسلام ، وعلي عليه السلام فيهم وهو الذي قال عنه الرسول صلّى الله عليه وآله : « عليّ مع الحق والحق مع علي ، وأنا مدينة العلم وعليّ بابها ، أقضاكم عليّ ، لأعطينّ الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله » ، بعد ان رجع الأوّل والثاني يجبّن كل منهما أصحابه وأصحابه يجبنونه ، ومَن الذي وقف يدافع عن النبي صلّى الله عليه وآله في يوم اُحد ؟ ومَن الذي قام لعمرو بن ود يوم الأحزاب حينما اقتحم الخندق وطلب المبارزة فشلّت حركة المسلمين وقبضوا على أنفاسهم ، أقام غير علي عليه السلام فأردى عمرو صريعاً ؟ حتى سجّل النبي صلّى الله عليه وآله كلمتيه الخالدتين : « برز الإسلام كلُّه إلى الشرك كلِّه ، وضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثقلين ! » ، ومَن الذي قال فيه جبرئيل : « لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي ! » ثم ألم يقل الخليفة الثاني أقيلوني فلستُ بخيركم ؟ (30).
وكان معاوية كثيراً ما يردّد هذه الأفضلية جرياً على عادة الإعلام الاُموي فذكر ذلك إلى الإمام علي عليه السلام في كتابه السابق فأجاب عنه : « وزعمتَ أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرتَ أمراً إن تمّ اعتزلك كُلّه وإن نقص لم يلحقك ثلمه ، وما أنتَ والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس ! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء ، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها مَن عليه الحكم لها ! ألا تربع أيّها الإنسان إلى ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر ! فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر » (31).
الخامس : ادعى أنّه فهم من كتاب الإمام عليه السلام دعوته إلى الصلح ، ولم يكن في كتاب الإمام عليه السلام للصلح عين ولا أثر ، فهل ترى فهم دعوى الصلح من قول الإمام عليه السلام : « فدع التمادي في الباطل ، وادخل في ما دخل فيه الناس من بيعتي » ؟!.
السادس : التناقض الواضح في كلمات معاوية ، فهو يستفيد دعوته إلى الصلح في الوقت الذي يقول فيه : فأنتَ أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني.
السابع : إذا لم يكن الإمام الحسن عليه السلام أحوط على اُمّة جدّه الرسول صلّى الله عليه وآله من غيره ، كائناً مَن كان ، فهل الأحوط عليها معاوية ! الذي فعل ما فعل أيام صفّين ، وقتل مَن قتل من الصحابة الكرام والبدريين الأجلّاء ؟
الثامن : قوله : « وأقوى على جمع الأموال » إن كان الجمع من مصادره المشروعة فالإمام عليه السلام أعرف بها من معاوية لأعرفيته بكتاب الله وسنّة نبيه صلّى الله عليه وآله ، فهو ربيب الرسالة ورضيعها ، وابن صوت العدالة الإنسانية في الأرض.
وإن لم يكن الجمع من مصادره المشروعة فما أبعد الإمام عليه السلام عن ذلك.
التاسع : إنّ الاُمور التي جعلها مرجّحاً له في طرف الميزان لم تكن كذلك في الرؤية الإسلامية الهادفة لأعلاء كلمة الله في الأرض ، فما قيمة كبر السن وطول الولاية وما إلى ذلك أن لم تكن في رضا الله وطاعته. ولو كان لكبر السن أهمية في المنظور الإسلامي لما كان اُسامة بن زيد أميراً على جيش مؤتة وفيه أكابر الصحابة وشيوخهم ، ولقد قال أبو قحافة حينما سمع بتنصيب ابنه خليفة على المسلمين : « .. لم ولوه ؟ قالوا : لسنه. قال : أنا أسنّ منه » (32).
العاشر : إنّ منطق معاوية في قوله : « ولك ما في بيت مال العراق .. » منطق المخادع الذي يريد أن يستولي على الملك بأي طريق ، وليس منطقه منطق الطالب للحقّ ومَن تهمّه مصلحة المسلمين ، وإلّا فما يعني قوله : ولك ما في بيت مال العراق بالغاً ما يبلغ ! أليست هي المساومة بعينها على شيء ليس له ؟ وقد أخطأ معاوية مرماه حينما عرض على الإمام عليه السلام هذا العرض الدنيوي الزائل ، وهل كان الإمام عليه السلام إلّا كأبيه القائل : « يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري » ؟!
هذا بعض ما يؤخذ على رسالة معاوية ومنطقها ، والذي يظهر أنّ الإمام عليه السلام لم يعبأ بهذه الرسالة فلم يجب عنها بشيء ، ممّا أثار حفيظة معاوية فظهر بصورة اُخرى غير الصورة التي حاول أن يبرز بها في الرسالة الاُولى ، فكتب إلى الإمام عليه السلام كما يروي ابن أبي الحديد : « أما بعد فانّ الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس ، وايأس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضتَ عمّا أنت فيه وبايعتني وفيتُ لك ما وعدتُ ، وأجريت لك ما شرطت ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بن قيس بن ثعلبة :
وإن أحدٌ أسدى إليك أمانةً |
فأوفِ بها تدعى إذا متَّ وافيا |
|
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنىً |
ولا تُجفهِ إن كان في المال فانيا |
ثم الخلافة لك من بعدي وأنت أولى الناس بها » (33).
قال توفيق أبو علم : « ويقول بعض رجال التاريخ إنّ هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد ، إنّما بعثها معاوية إلى الإمام الحسن عليه السلام بعدما اتصل اتصالاً وثيقاً برجال العراق وقادته وضمنوا له تنفيذ خطّته ، فالغالب أنّه لم يكتب ذلك إلّا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له » (34).
ولكن المحتمل غير ذلك كما سيظهر عن قريب من تتابع الحوادث ومجريات الاُمور.
والذي تجدر الإشارة إليه تهديد معاوية للإمام الحسن عليه السلام بالقتل إن هو لم يسلم الأمر إليه ، وفيه الشيء الكثير من أخلاق آل اُميّة وروح معاوية.
الرسالة الثانية :
أجاب الإمام عليه السلام معاوية برسالة مختصرة :
« أمّا بعد فقد وصل إليّ كتابك فيه ما ذكرت ، وتركتُ جوابك خشية البغي ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحقّ فانّك تعلم من أهله : وعليّ إثم أن أقول فأكذب » (35).
قال توفيق أبو علم : « وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية.
وعلى أثرها علم معاوية أنّه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية .. » (36).
وليس الأمر كما قال ، بل هناك رسائل اُخرى متبادلة بينهما كما ستأتي ، وقد صدق حكمه في أنّ الإمام عليه السلام لم ينخدع باُطروحة معاوية ومغالطاته السياسية ، وكيف ينخدع ابن أبي طالب الذي عرف معاوية وما يحمله من طموحات الرياسة والملك ، وما يتلوّن به من أساليب الخديعة والمكر ، وأين يبعد عن الإمام الحسن عليه السلام قول أبيه أمير المؤمنين عليه السلام في معاوية وهو يحذّر زياد ابن أبيه منه : « فاحذره ، فإنّما هو الشيطان ، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ليقتحم غفلته ويستلب لبّه .. » (37).
ظرف الرسالة :
ظرف هذه الرسالة يقرب من ظرف الرسالة السابقة ، مع وضوح الرؤية في موقف معاوية وإصراره على التمادي في باطله ، وانّه سوف يفعل كل ما يخدم سياسته ، ويمهّد له طريق الاستيلاء ولو كان ذلك هو قتل الإمام الحسن نفسه.
زمن الرسالة :
يحتمل أنّها كانت في أواخر شهر شوال أو أوّل شهر ذي القعدة ، من السنة نفسها ، فانّ مدّة السير بين الكوفة والشام تستغرق سبعة إلى عشرة أيام ، وقد كتب الإمام عليه السلام رسالته الاُولى في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك أو أوائل شهر شوال كما احتملناه سابقاً ، فإذا ما وضعنا ذلك في الحسبان مع أيام السفر ذهاباً وإياباً ، وبقاء الرسول في الشام ولو لأيام معدودة ، والمدة الفاصلة بين جواب معاوية ورسالته الثانية للإمام عليه السلام يكون الوقت التقريبي لزمن الرسالة يحوم حول ما ذكرناه.
الرسالة الثالثة :
لمّا بلغ معاوية ابن أبي سفيان وفاة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وبيعة الناس لابنه الإمام الحسن عليه السلام ، دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ، ورجلاً من القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ، ويفسدا على الحسن الاُمور ، فانكشف أمرهما لدى الإمام الحسن عليه السلام بأمر باستخراج الحميري من عند لحّام ( حجّام ) بالكوفة فاُخرج وأمر بضرب عنقه ، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سُلَيم فأخرج وضربت عنقه.
ثم كتب الإمام عليه السلام إلى معاوية :
« أمّا بعد فانّك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون كأنّك تحبّ اللقاء ، وما أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله ، وبلغني أنّك شمتّ بما لم يشمت به ذو الحجى ، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل :
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى |
تزوّد لاُخرى مثلها فكأن قَدِ |
|
فانّا ومن قد مات منّا لكالذي |
يروح فيمسي في المبيت ويغتدي (38) |
زمن الرسالة :
يظهر أنّ هذه الرسالة جاءت عقيب الرسالة المذكورة ثانياً ، فانّ تلك كانت جواباً على كتاب ، وهذه ابتداء خطاب ، ثم انّ المستفاد من كلام مجموعة من المؤرخين انّ هذه هي الرسالة الاُولى للإمام عليه السلام ، وهو جدّ بعيد ، فانّ المقارنة بين لسانها ولسان الرسالة التي ذكرناها أوّلاً تقضي بما أثبتناه ، فانّ طبيعة الاُمور ومجاريها قائمة على أن يرسل الخليفة الجديد إلى ولاة المناطق بخبر استخلافه ويطلب منهم البيعة ، ثم انّه من المستبعد جداً أن يرسل الإمام عليه السلام إلى معاوية بهذه اللّهجة الصارخة والشدة في الخطاب وبيان الاستعداد لحربه ـ كما في هذه الرسالة ـ ، ثم يرسل له بعد ذلك بالمطالبة وأنّه الأحقّ منه.
ظرف الرسالة :
اتضحت ملامح الأزمة وخيوطها بشكل أكبر ، فالظرف ظرف تأزّم واستعداد للحرب وتهيؤ للقتال ، فانّ الإمام عليه السلام ثابت على موقفه وطريقته في الأمت والعوج وإظهار الدّين وإبقاء الحق عند أهله ، ورفض معاوية جملة وتفصيلا ، وفي المقابل يقف معاوية متمنياً الخلافة مصرّاً على الملك ، طالباً لما يريد بأي ثمن كان ، ويحتمل أنّ الإمام عليه السلام قد وصل إلى مسامعه ما أرسله معاوية إلى عمّاله في هذه الآونة ، فقد أرسل إليهم بعد أن جاءه جواب الإمام عليه السلام السابق وعرف منه العزم على الحرب وعدم التفكير في قبوله أبداً : « من عبد الله أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم فإنّي أحمد الله الذي لا إلٰه إلّا هو ، أمّا بعد فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوّكم وقاتل خليفتكم : إنّ الله بلطفه وحسن صنيعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهودكم وجندكم وحسن عدّتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الصبر وبلغتم الأمل وأحلّ الله أهل البغي والعدوان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » (39).
وقد علّق الاستاذ توفيق أبو علم على هذه الرسالة بقوله : « والذي يلفت النظر في هذه الرسالة أن ينسب معاوية البغي والعدوان إلى الإمام علي عليه السلام ، مع أنّ جنود معاوية هم الباغون ولقد قتلوا الصحابي الجليل عمّار بن ياسر وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له : « تقتلك الفئة الباغية » كما يلفت النظر شماتة معاوية في الإمام عليه السلام.
ولمّا وصلت هذه الرسالة إلى عمّاله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثّهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله عليه السلام وسبطه » (40).
معطيات الرسالة :
الأوّل : إنّ معاوية أرسل الأعين إلى أهم مركزين سياسيين في حكومة الإمام عليه السلام ـ الكوفة والبصرة ـ للاحتيال والاغتيال ، فهو يريد بذلك التجسّس على الإمام عليه السلام ومعرفة ما يدور في أوساط دولته ، وأن يفسد الأمر على الإمام عليه السلام بإشاعة الأخبار الكاذبة ، وإحباط المعسكر الإسلامي وتخويفه ، وإحداث البلبلة في صفوفه ، وغرس الفتنة في داخل حكومة الإمام عليه السلام والوسطين الكوفي والبصري ، وأمّا الاغتيال فلعل معاوية كانت تمنيه نفسه باغتيال الإمام عليه السلام من ذلك الوقت ليستتب له الأمر ، كما يظهر من تحذيره السابق ، أو اغتيال بعض الشخصيات الشيعية المهمّة اجتماعياً وعسكرياً حتى تضعف قوة جيش الإمام وتنهار معنوياته ، أو هما معاً.
الثاني : إنّ حنكة الإمام عليه السلام وحزمه في مواجهة الاُمور اقتضيا أن يسلك طريق الشدّة ممّا أفشل مخطط معاوية المشؤوم ، فأمر بإعدام الجاسوسين طبقاً لقوله تعالى : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا ) (41).
الثالث : استعداد الإمام عليه السلام لحرب معاوية بدون أي تردّد أو خوف ، فهذه الأعين القادمة رسل حرب وليست برسل سلام.
الرابع : إنّ معاوية قد شمت بقتل الإمام عليه السلام ، وذو الحجى لا ينبغي له أن يشمت بموت أحد أو قتله ، لا سيما وأنّ الإمام عليّاً عليه السلام قد ضرب وهو قائم يصلّي في محرابه وقد تعلّقت روحه بالعالم الآخر على يقين ممّا هو عليه قائلاً : « فزتُ وربّ الكعبة ».
جواب معاوية :
« أمّا بعد فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرتَ فيه ، ولقد علمتُ بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس ، وإنّ علياً أباك لكما قال الأعشى :
فأنت الجواد وأنت الذي |
إذا ما القلوب ملأن الصدورا |
|
جدير بطعنة يوم اللقا |
ء يضرب منها النساء النمورا |
|
وما مزبد من خليج البحا |
ر يعلو الأكام ويعلو الجسورا |
|
بأجود منه بما عنده |
فيعطي الألوف ويعطي البدورا » (42) |
وقد علّق على هذه الرسالة أيضاً توفيق أبو علم بقوله : « وتلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه وخوفه من الحسن عليه السلام ، وذلك لمدحه وثنائه على الإمام علي عليه السلام ، وإنكاره لما أظهره من الفرح بموته ، ولو لا ذلك لما سجّل لخصمه هذا الثناء العاطر » (43).
الرسالة الرابعة :
كتب معاوية إلى الإمام الحسن عليه السلام : « يا بن عم ، لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني ، فإنّ الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك » (44).
جواب الإمام عليه السلام :
« إنّما هذا الأمر لي والخلافة لي ولأهل بيتي ، وإنّها لمحرّمة عليك وعلى أهل بيتك ، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، والله لو وجدتُ صابرين عارفين بحقّي غير منكرين ، ما سلمتُ لك ولا أعطيتك ما تريد » (45).
ظرف الرسالة :
يقول المؤرخون : لمّا توفرت لمعاوية القوّة الهائلة من الجند وأصحاب المطامع توجّه إلى العراق فلمّا انتهى إلى جسر منبج ، وعلم الإمام عليه السلام بذلك أمر بالصلاة جامعة ثم اعتلى المنبر فقال :
« أمّا بعد ، فانّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إنّ الله مع الصابرين ، فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلّا بالصبر على ما تكرهون ، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه ما أزمعنا على المسير إليه فتحرّك لذلك ، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون ».
وتباطأ الناس وٱثّاقلوا عن الذهاب خوفاً من جيش الشام ، وبعد مداولات كلامية بين بعض الشخصيات الشجاعة وعامّة الناس أزمعوا على المسير ، ثم لمّا ركب الإمام عليه السلام تخلّف عنه الكثير ولم يوفوا بما وعدوه به ، فقام خطيباً وقال :
« غررتموني كما غررتم مَن كان قبلي ، مع أي إمام تقاتلون بعدي ؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط ، ولا أظهر الإسلام هو وبنو اُميّة إلّا فرقاً من السيف ؟ لو لم يبق لبني اُميّة إلّا عجوز درداء ، لبغت دين الله عوجاً ، وهكذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله ».
ثم وجّه إليه قائداً من كندة في أربعة آلاف ، وأمره أن يعسكر في الأنبار ، وعلم به معاوية فأرسل إليه رسلاً وكتب إليه معهم : انّك إن أقبلت إليّ اُولِّك كور الشام والجزيرة ، غير منفس عليك ، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم فقبض الكندي المال وقلب على الإمام الحسن عليه السلام ، وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصّته وأهل بيته.
فبلغ ذلك الإمام الحسن عليه السلام فقام خطيباً وقال :
« هذا الكندي توجّه إلى معاوية وغدر بي وبكم ، وقد أخبرتكم مرّة بعد مرّة أنّه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا .. ».
ثم أرسل آخر من مراد وأخبره أنّه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالإيمان المغلظة التي لا تقوم لها الجبال ـ على حدّ تعبير المؤرخين ـ ، أنّه لا يفعل ، فقال الإمام عليه السلام انّه سيغدر ، وصدقت نبوءة الإمام عليه السلام فيه ، ففعل كما فعل الأوّل إزاء ثمن بخس. حينها بعث معاوية إلى الإمام برسالته المتقدّمة.
ظرف رسالة الإمام عليه السلام :
ثم انّ الإمام عليه السلام أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام فلم يحضره إلّا أربعة آلاف فانصرف إلى الكوفة فصعد المنبر وقال :
« يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين ، ولو سلّمتُ له الأمر فأيم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني اُميّة ، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنّوا أنّ عليكم جيشاً جيشاً ، ولو وجدتُ أعواناً ما سلّمتُ له الأمر ، لأنّه محرّم على بني اُميّة فأف وترحاً يا عبيد الدنيا ».
ثم انّ القائد العام لجيش الإمام عليه السلام ابن عمّه عبيد الله بن العباس المثكول من معاوية بولديه قد غدر هو الآخر بثلثي مقدمة الجيش الذي سار إلى معاوية.
وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية : إنّا معك وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك.
هذه ظرف رسالة الإمام عليه السلام ، والذي يظهر من البحار نقلاً عن الخرايج (46) :
أنّ الإمام عليه السلام كتبها بعد طعنه في فخذه والهجوم على الفسطاط ، والذي يترجّح لمَن يراقب الأحداث أنّها كُتبت بعدما ذكرناه ، والرسالة الاُخرى وهي الخامسة تقريباً كانت بعد الهجوم على الفسطاط.
وفي هذه الفترة بالذات نشر معاوية شائعة الصلح بينه وبين الإمام عليه السلام في أوساط مقدّمة الجيش ، كما نشر شائعة التحاق قيس بن سعد القائد العام لجيش الإمام عليه السلام بعد عبيد الله بن العباس بمعاوية في أوساط مَن بقي مع الإمام عليه السلام ، ممّا أدى إلى زعزعة جيش الإمام عليه السلام وانهيار ما تبقّى عندهم من معنويات ، وقد أخذت شائعات معاوية محلها في النفوس المريضة ممّن يحبون الدعة والراحة.
معطيات الرسالة :
الأوّل : ركّز الإمام عليه السلام على عدم شرعية خلافة معاوية ، وأنّها محرّمة عليه وعلى أهل بيته ـ بني اُميّة ـ كما جاء عن الرسول صلّى الله عليه وآله ، فما سوف يحصل لمعاوية إنّما هو ملك لا يلبث أن يزول.
الثاني : إنّ الكثير من الذين مع الإمام عليه السلام ليسوا على شيء من ناحية العقيدة ، والقليل منهم مَن يعرف الإمام عليه السلام حقّ معرفته ، وأنّه إمام مُفترَض الطاعة من قِبَل الله يُسمَع له ويُطاع ، وهذا ما بيّنه الإمام عليه السلام بعد الصلح أيضاً ، وانّهم غير صابرين على الحرب ، وإلّا فعلى أسوأ التقادير وعدم الإيمان منهم بأنّه إمام مُفترَض الطاعة فلا أقل أنّه قائدهم وزعيمهم وأميرهم الذي بايعوه.
الرسالة الخامسة :
كتب معاوية إلى الإمام عليه السلام في الهدنة والصلح وأنفذ إليه كتب أصحابه الذين ضمنوا له الفتك به وتسليمه إلى معاوية ، واشترط على نفسه عند استجابته إلى الصلح شروطاً كثيرة وعقد له عقوداً.
فكتب إليه الإمام الحسن عليه السلام بعدما سيأتي من الحوادث في ظروف الرسالة :
« أمّا بعد فإنّ خطبي انتهى إلى اليأس من حقّ أحييه وباطل أميته ، وخطبك خطب مَن انتهى إلى مراده ، وإنّني اعتزل هذا الأمر ، ولي شروط اشترطها لا تبهظك إن وفيت لي بها بعهد ، ولا تخف إن غدرت ، وستندم يا معاوية كما ندم غيرك ممّن نهض في الباطل ، أو قعد عن الحقّ حين لم ينفع الندم ، والسلام » (47).
ظروف الرسالة :
ذكر الشيخ الصدوق في العلل : دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجر بن الحارث وشبث بن ربعي دسيساً ، أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه ، إنّك إن قتلتَ الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم ، وجند من أجناد الشام ، وبنت من بناتي ، فبلغ الحسن عليه السلام فاستلأم ولبس درعاً وكفرها (48) ، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلّا كذلك ، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يلبث فيه ، لما عليه من اللأمة ، ثم لمّا صار الإمام عليه السلام في مظلم ساباط ضرب الإمام عليه السلام بخنجر أو معول مسموم فعمل فيه .. (49).
فقال الحسن عليه السلام : « ويلكم والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإنّي أظن أنّي إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي صلّى الله عليه وآله ، وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّ وجل وحدي ، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم ، يستسقونهم ويستطعمونهم ، بما جعله الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعداً وسحقاً لما كسبت أيديهم ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون » (50).
معطيات الرسالة :
الأوّل : إنّ طلب الإمام عليه السلام للخلافة الظاهرية أعني السلطة الزمنية لم يكن هو الهدف والغاية التي يطمح لها ، بل كان طلبه لها ما هو أسمى من ذلك بكثير ، فإنّ الهدف الأساس للإمام عليه السلام إنّما هو إحياء الحق وإماتة الباطل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، أمّا وقد بلغ الأمر إلى أن يسلم الإمام عليه السلام أسيراً إلى معاوية فيقتله أو يطلقه فتكون سبّة على بني هاشم إلى أبد الدهر ، أو يقتل غيلة بدون أي فائدة تجنى من وراء ذلك ، فالصلح مع معاوية خير وأولى ، حفاظاً على نفسه وإبقاء على أهل بيته والخلّص من شيعته ، مع الشروط التي ستقيّد معاوية إن هو عمل بها ، أو يبقى عار التخلّف عنها صورة ماثلة أمام الأجيال تحكي ما انطوت عليه سريرته من حب المُلك والسلطان بأي طريق أتى ومن أي مسلك حصل.
الثاني : قدّم الإمام عليه السلام استعداده للتنازل لمعاوية بالأمر ، وإنّه شرّ لمعاوية في معاده ، فإنّه جاء إلى الأمر بغير طريقه المشروع وأخذه من أهله بالمكر والخديعة والقهر والغلَبَة.
فلا يعني تنازل الإمام عليه السلام عن الخلافة الظاهرية إعطاء الشريعة لمعاوية.
الثالث : إنّ معاوية سوف يندم على سيّىء صنيعه كما ندم غيره ممّن نهض في الباطل أو قعد عن الحق حيث لم ينفع الندم.
وقد علّق الشيخ الصدوق رحمه الله على هذه النقطة من كلام الإمام عليه السلام بقوله :
« فإن قال قائل : مَن هو النادم القاعد ؟ قلنا : هو الزبير ، ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ما أيقن بخطأ ما أتاه ، وباطل ما قضاه وبتأويل ما عزاه ، فرجع عنه القهقرى ، ولو وفى بما كان في بيعته لمحا نكثه ، ولكنّه أبان ظاهراً الندم ، والسريرة إلى عالمها.
والنادم القاعد عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فانّ أصحاب الأثر رووا في فضائله بأنّه قال : مهما آسى من شيء فإنّي لا آسى على شيء أسفي على أنّي لم أقاتل الفئة الباغية مع علي. وهذه عائشة روى الرواة أنّها لما أنّبها مؤنّب في ما أتته ، قالت :
« قضي القضاء وجفّت الأقلام.
والله لو كان لي من رسول الله صلّى الله عليه وآله عشرون ذكراً مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فثكلتهم بموت وقتل ، كان أيسر عليّ من خروجي على ( علي ) ومسعاي التي سعيت فإلى الله شكواي لا إلى غيره ».
وهذا سعد بن أبي وقاص لما أنهي إليه أن علياً عليه السلام قتل ذا الثدية ، أخذه ما قدم وما أخر ، وقلق ونزق وقال : والله لو علمتُ أنّ ذلك كذلك لمشيت إليه ولو حبوا (51).
هذه آخر الرسائل قبل كتاب الصلح ، فيما وجدته بين يدي من مصادر.
المعطيات الرئيسة للرسائل :
الأوّل : تركيز الإمام عليه السلام على شرعية خلافته دون معاوية ، وانّه هو الأحقّ بتولّي زعامة المسلمين لما يتمتع به من صفات جسدية ونفسية ، ظاهرية ومعنوية ، ذاتية ونسبية ، مضافاً إلى النص عليه من قِبَل صاحب الرسالة الخاتمة ، الذي هو المدار في عملية الاستخلاف الشرعي.
وأمّا معاوية فهو طالب مُلك وسلطان يتمتّع به قليلاً ثم ما يبرح حتى يسأل عن ما اقترفته يداه ، وانّ الخلافة محرّمة عليه وعلى أهل بيته بنصّ الرسول صلّى الله عليه وآله.
الثاني : إنّ المجتمع الكوفي ولا سيما الجيش المفترض أن يكون هو المعتمد في القيادة وتثبيت أركان الدولة والمحافظة على أمن واستقرار البلاد ، لم يكن جيشاً مؤهّلاً لهذه المهام ، كما أنّه لم يكن مؤهّلاً للدخول في حرب مع معاوية وأهل الشام المجتمعين على باطلهم ـ على حدّ تعبير الإمام علي عليه السلام ـ ، فإنّه جيش مذبذب قد تنازعته الأهواء وعصفت به رياح الفتن وتناوشته الإشاعات من مكان قريب ، ففيه الخوارج الطالبون ثأراً من معاوية ، فهم ينتظرون راية تظلهم ينطوون تحت لوائها لإنجاز مهمتهم ، ولا يهمّهم ـ بعد ذلك ـ الانقلاب على قائدهم بعد ذلك ، لا سيما وأن قائدهم هو الإمام الحسن عليه السلام بن علي بن أبي طالب عليه السلام قاتل آبائهم وإخوانهم وأصحاب الرأي عندهم ، وفيه رؤساء القبائل والقادة الذي غرتهم الدنيا بزخارفها فكتبوا إلى معاوية ما كتبوا في شأن الإمام الحسن عليه السلام ، وفيه أعين بني اُميّة الذين انبثّوا داخل معسكر الكوفة ليثيروا الإشاعات ويثبّطوا العزائم ويضعّفوا الهمم ، وفيه عامّة الناس وغوغاؤهم الذين لم يؤمنوا بالإمام الحسن عليه السلام كإمام مفترَض الطاعة ، وقد سئموا الحرب وملّوها ، فلم تعد عندهم طاقة عليها كما لا صبر لهم على الجهاد ، فلم يبق مع الإمام عليه السلام ممّن يعرف حقّه إلّا أفراد قلائل.
وقد حاول الإمام عليه السلام بشدّته في رسالته ، وصلابته في موقفه ، وتوبيخه لهم وخطبه فيهم ، أن يرفع من معنوياتهم ، وينفخ في نفوسهم العزيمة من جديد ، ويضخ في عروقهم الدم الحر ، ويبث في قلوبهم الحماس والإقدام ، إلّا انّهم لم يعطوه النصف من أنفسهم فلم يجد لكلامه آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية تعي عواقب الاُمور ، وتدرك مغبّة الوهن والضعف ، فباؤوا بغضب من الله وخسران مبين ، وانتهت حالهم إلى أن صاروا أذلّاء تحت سيطرة بني اُميّة يسومونهم سوء العذاب ، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وقد صدقت نبوءة الإمام عليه السلام في خطبته فيهم.
الثالث : إنّ هذه الرسائل وثائق تاريخية أوضحت كثيراً من الاُمور في حياة الاُمّة الإسلامية ، كادت أن تذهب في أعماق التاريخ المظلم تحت غمار الإعلام المزيّف ، المبثوث من قِبَل بني اُميّة وأعوانهم ، ورفعت الستار عن حقيقة معاوية وبني اُميّة قاطبة الذين حُرّمت عليهم الخلافة الإسلامية بقول الرسول صلّى الله عليه وآله ، لا لشيء إلّا لعدم تأهّلهم للقيام بأعبائها ، وشهد بذلك اُسلوبهم في العامل مع المؤمنين حينما تربعوا على عرش الملك.
فالقارىء لهذه الرسائل والظروف التي كُتبت فيها وما أحاط بها من كلمات وخطب وحوادث يدرك مَن هو معاوية ويعرف مَن هم بنو اُميّة ، ويستطيع أن يحلّل شخصياتهم عن قرب.
الرابع : نعرف من هذه الرسائل وما يحيط بها من ظروف مدى قدرة الإمام عليه السلام على معالجة الاُمور ، واستيعابه للمشاكل التي تواجهه وسرعة طرح الحل لها ، وحزمه في الاُمور ، وعدم فتح المجال للدخول في خداع معاوية ومراوغته ، وعدم قبوله للمساومات وأنصاف الحلول أبداً.
الخامس : يلاحظ منطق القوة في رسائل الإمام عليه السلام جميعها بما فيها الرسالة الأخيرة التي كانت قبولاً بعرض الصلح الذي اضطر الإمام عليه السلام إليه اضطراراً ، ممّا يدلّ على نفسيّة لا تعرف الخوف ، وقلب لم يداخله الجُبن ، وفي هذا تكذيب لما حاول إثارته المؤرخون من غير الشيعة ـ مستشرقين وغيرهم ـ للتشويش على شخصية الإمام الحسن عليه السلام ، والحطّ من مكانها اللائق بها ، ورميه بالضعف والموادعة وحب السلامة والدعة ، إمّا تصريحاً أو تلويحاً.
فإنّ هذه الرسائل والخطب والكلمات المتفرقة في هذه الأجواء الساخنة ، قبل الصلح وبعده تنفي هذا الزعم الباطل وبشدّة.
ومن المناسب جداً أن نستعرض بعض الشواهد من مواقفه الجريئة بعد الصلح ، المبرِزة لتلك الشجاعة والبطولة التي تحلّى بها آل أبي طالب عليهم السلام.
الموقف الأوّل : عن أبي عمر زادان قال : لمّا وادع الحسن بن علي عليه السلام معاوية ، صعد معاوية المنبر ، وجمع الناس فخطبهم وقال : « انّ الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ، ولم يرَ نفسه لها أهلاً .. ».
فلمّا فرغ من كلامه قام الإمام الحسن عليه السلام فحمد الله تعالى بما هو أهله ثم ذكر المباهلة وآية التطهير وبعض فضائلهم ، إلى أن قال : « وإنّ معاوية زعم لكم أنّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً فكذب معاوية ، نحن أولى بالناس في كتاب الله عزّ وجل وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وآله ، ولم نزل أهل البيت مظلومين ، منذ قبض الله نبيّه صلّى الله عليه وآله ، فالله بيننا وبين مَن ظلمنا حقّنا ، وتوثّب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع اُمّنا ما جعل لها رسول الله صلّى الله عليه وآله ».
الموقف الثاني : روى الشعبي أنّ معاوية قدم المدينة فقام خطيباً فنال من علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقام الحسن بن علي عليه السلام فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال له : « إنّه لم يُبعَث نبي إلّا جعل له وصي من أهل بيته ، ولم يكن نبي إلّا وله عدوّ من المجرمين ، وإنّ عليّاً عليه السلام كان وصي رسول الله صلّى الله عليه وآله من بعده ، وأنا ابن علي ، وأنت ابن صخر ، وجدّك حرب وجدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله ، واُمّك هند واُمّي فاطمة ، وجدّتي خديجة وجدّتك نثيلة ، فلعن الله ألأمنا حسباً وأقدمنا كفراً وأخملنا ذكراً وأشدّنا نفاقاً » ، فقال عامّة أهل المسجد : آمين ، فنزل معاوية فقطع خطبته (52).
الموقف الثالث : قال معاوية للحسن بن علي عليه السلام : أنا خير منك يا حسن ، قال : « وكيف ذاك يا ابن هند ؟! » ، قال : لأنّ الناس أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك.
قال : « هيهات هيهات لشرّ ما علوت ، يا ابن آكلة الأكباد ، المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومُكرَه ، فالطائع لك عاص لله ، والمُكرَه معذور بكتاب الله ، وحاش لله أن أقول : أنا خير منك فلا خير فيك ، ولكنّ الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل » (53).
السادس : إنّ الرسائل بتسلسلها الزمني المذكور وما رافقها من الحوادث والضغوطات تخلق في ذهنية القارىء ـ شاء أم أبى ـ العذر للإمام عليه السلام في قبوله اُطروحة الصلح ، وتوجد في نفسيته القناعة التامّة على أنّه الرأي الأصوب في وقته ، ولم يكن الوضع ليحتمل الحرب والقتال مع معاوية أبداً.
السابع : وأخيراً يتّضح للقارىء ـ وهو يمر في مسلسل الرسائل والظروف المحيطة بها ـ ظلامة الإمام الحسن عليه السلام التاريخية ، وقسوة بعض الباحثين حول شخصيته ممّن لم يكن لهم دين ولا فكر مكين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1. معادن الحكمة في مكاتيب الأئمة للعلّامة الشيخ محمّد بن الفيض الكاشاني المحسن بن المرتضى ، ج 1 ، ص 2.
2. الزخرف ، آية 44.
3. رواها الأربلي في كشف الغمّة ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 16 ، ص 22 نقلها عن أبي الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ، ونقلها عنه المجلسي في البحار ج 44 ، ص 40 ، والكاشاني في معادن الحكمة.
4. شرح النهج ج 16 ، ص 30.
5. نهج البلاغة : من وصيّته لابنه الإمام الحسن عليهما السلام الكتاب رقم 31.
6. شرح نهج البلاغة : ج 1 ، ص 54.
7. شرح نهج البلاغة : ج 1 ، ص 23.
8. البحار : ج 44 ، ص 63.
9. شرح نهج البلاغة : ج 6 ، ص 3.
10. الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ج 1 ، ص 18 ، شرح النهج : ج 6 ، ص 11 ، راجع مناظرات في الإمامة لعبد الله الحسن ص 39 وما بعدها ففيه ذكر كثير من احتجاجات أهل البيت عليهم السلام.
11. شرح نهج البلاغة : ج 6 ، ص 21.
12. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 1 ، ص 221.
13. النظام السياسي في الإسلام نقلاً عن الطبري : ج 3 ، ص 209 ـ 210.
14. شرح نهج البلاغة : ج 2 ، ص 44.
15. نهج البلاغة الكتاب رقم 9.
16. عند غير أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم إذ يرونها بالنص.
17. شرح نهج البلاغة : ج 16 ، ص 12.
18. البحار : ج 44 ، ص 12.
19. الشورى ، آية 42.
20. راجع مفردات الراغب مادة بغى.
21. الكتاب رقم 30.
22. الكتاب رقم 32.
23. شرح نهج البلاغة : ج 16 ، ص 35.
24. أهل البيت لتوفيق أبو علم : ص 315.
25. نهج البلاغة الكتاب رقم 28.
26. شرح نهج البلاغة : ج 2 ، ص 266.
27. المصدر السابق : ج 2 ، ص 26.
28. الأنفال ، آية 75.
29. آل عمران ، آية 68.
30. شرح نهج البلاغة : ج 1 ، ص 169.
31. نهج البلاغة الكتاب رقم 28.
32. شرح نهج البلاغة : ج 1 ، ص 222.
33. شرح نهج البلاغة : ج 16 ، ص 37.
34. أهل البيت لتوفيق أبو علم : ص 316.
35. شرح نهج البلاغة : ج 1 ، ص 37 ، والبحار : ج 44 ، ص 55 باختلاف يسير.
36. أهل البيت : ص 317.
37. نهج البلاغة الكتاب رقم 44.
38. رواها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج 16 ، ص 31 ، والعلّامة المجلسي في البحار : ج 44 ، ص 45 ، والكاشاني في معادن الحكمة : ج 2 ، ص 7 ، عن الإرشاد للشيخ المفيد : ص 170 ، وجاءت في مقاتل الطالبيين أيضاً.
39. شرح نهج البلاغة : ج 16 ، ص 37.
40. أهل البيت : ص 317 ـ 318.
41. المائدة ، آية 23.
42. شرح نهج البلاغة : ج 16 ، ص 31.
43. أهل البيت : 309.
44. البحار : ج 44 ، ص 44.
45. المصدر السابق : ص 45.
46. البحار : ج 44 ، ص 44.
47. البحار : ج 44 ، ص 34.
48. استلأم : لبس اللأمة وهي الدرع ، وكفّرها : سترها.
49. علل الشرائع : ج 1 ، ص 259.
50. البحار : ج 44 ، ص 33.
51. علل الشرائع : ج 1 ، ص 260.
52. البحار ج 44 ، ص 63.
53. المصدر السابق ص 90.
مقتبس من كتاب : المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية / الصفحة : 109 ـ 144
التعلیقات