آية إكمال الدين
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
منذ 6 سنواتآية إكمال الدين
آخر ما نزل من القرآن
ليس من المبالغة القول : إنّ البحث الجادّ في أسباب نزول آيات القرآن وسوره ، من شأنه أن يحدث تحوّلاً علميّاً ، لأنّه سيكشف العديد من الحقائق ، ويبطل بعض المسلمات التي تصوّر الناس لقرون طويلة أنّها حقائق ثابتة !
ذلك أن الجانب الرياضي في أسباب النزول أقوى منه في موضوعات التفسير الأخرى ..
فعندما تجد خمس روايات في سبب نزول آية ، وكلّ واحدة منها تذكر سبباً وتاريخاً لنزولها ، وهي متناقضة في المكان أو الزمان أو الحادثة .. فلا يمكنك أن تقول كلّها مقبولة وكلّ رواتها صحابة ، وكلّهم نجوم بأيّهم اقتدينا اهتدينا ..
بل لابدّ أن يكون السبب واحداً من هذه الأسباب ، أو من غيرها ، والباقي غير صحيح !
ولهذه الطبيعة المحدّدة في سبب النزول ، كانت مادة أسباب النزول مادة حاسمةً في تفسير القرآن .. وإن كانت صعوبة البحث فيها تعادل غناها ، بل قد تزيد عليه أحياناً ، لكثرة التشويش والتناقض والوضع في رواياتها !
ومهما يكن الأمر ، فلا بدّ للباحثين في تفسير القرآن وعلومه ، أن يدخلوا هذا الباب بفعاليةٍ وصبر ، ويقدموا نتائج بحوثهم الى الأمّة والأجيال ، لأنّها ستكون نتائج جديدة ومفيدة في فهم القرآن والسيرة ، بل في فهم العقائد والفقه والإسلام عموماً ..
وأكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارة لنستفيد في موضوعنا من أسباب النزول.
ليس من العجيب أن يختلف المسلمون في أوّل آيات نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله ، لأنّهم لم يكونوا مسلمين آنذاك .. ثمّ إنّهم باستثناء القلّة ، لم يكتبوا ما سمعوه من نبيّهم في حياته ، فاختلفوا بعده في أحاديثه وسيرته.
ولهذا لا نعجب إذا وجدنا أربعة أقوال في تعيين أوّل ما أنزله الله تعالى من كتابه : أنّه سورة إقرأ. وأنّه سورة المدثر. وأنّه سورة الفاتحة. وأنّه البسملة .. كما في الإتقان للسيوطي : ١ / ٩١
ولكن العجيب اختلافهم في آخر ما نزل من القرآن ، وقد كانوا دولةً وأمةً ملتفَّةً حول نبيّها ، وقد أعلن لهم نبيّهم صلّى الله عليه وآله أنّه راحلٌ عنهم عن قريب ، وحجّ معهم حجّة الوداع ، ومرض قبل وفاته مدّةً ، وودعوه وودعهم !!
فلماذا اختلفوا في آخر آيةٍ أو سورةٍ نزلت عليه صلّى الله عليه وآله ؟!!
الجواب : أن الأغراض الشخصيّة والسياسيّة لم تدخل في مسألة أوّل ما نزل من القرآن كما دخلت في مسألة آخر ما نزل منه .. كما سترى !!
سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن
يصل الباحث في مصادر الحديث والفقه والتفسير إلى أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن .. وأن آية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) نزلت بعد إكمال نزول جميع الفرائض .. وأنّ بعض الصحابة حاولوا أن يجعلوا بدل المائدة سوراً أخرى ، وبدل آية إكمال الدين ، آيات أخرى !
رأي أهل البيت عليهم السلام
ـ قال العياشي في تفسيره : ١ / ٢٨٨
عن عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن علي عليه السلام قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً ، وإنّما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بآخره ، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة ، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي ، حتّى وقفت وتدلى بطنها ، حتّى رأيت سرتها تكاد تمسّ الأرض ، وأغمي على رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي ، ثمّ رفع ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقرأ علينا سورة المائدة ، فعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وعملنا. انتهى.
ويقصد علي عليه السلام بذلك : أنّ المسح على القدمين في الوضوء هو الواجب ، وليس غسلهما ، لأنّ المسح نزل في سورة المائدة ، وعمل به النبي صلّى الله عليه وآله والمسلمون ولم ينسخ. ورواه في تفسير نور الثقلين : ١ / ٥٨٢ و : ٥ / ٤٤٧
ـ وفي الكافي : ١ / ٢٨٩
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود ، جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال : أمر الله عزّ وجلّ رسوله بولاية علي وأنزل عليه : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ، وفرض ولاية أولي الأمر ، فلم يدروا ما هي ؟ فأمر الله محمّداً صلّى الله عليه وآله أن يفسّر لهم الولاية ، كما فسّر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فلمّا أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلّى الله عليه وآله وتخوف أن يرتدّوا عن دينهم ، وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربّه عزّ وجلّ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فصدع بأمر الله تعالى ذكره ، فقام بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم ، فنادى الصلاة جامعة ، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب ـ قال عمر بن أذنية : قالوا جميعاً غير أبي الجارود ـ وقال أبو جعفر عليهالسلام : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عزّ وجلّ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. قال أبو جعفر عليه السلام : يقول الله عزّ وجلّ : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض.
ـ وفي تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٤٣
وقد قيل إن آخر ما نزل عليه : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ، وهي الرواية الصحيحة ، الثابتة الصريحة.
مصادر السنيين الموافقة لرأي أهل البيت عليهم السلام
ـ الدر المنثور : ٢ / ٢٥٢
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن أبي ميسرة قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة ، وإن فيها لسبع عشرة فريضة.
ـ المحلى : ٩ / ٤٠٧
روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حلالاً فحللوه ، وما وجدتم فيها حراماً فحرموه. وهذه الآية في المائدة فبطل أنّها منسوخة ، وصحّ أنّها محكمة.
ـ المحلى : ٧ / ٣٨٩
فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن جري بن كليب ، عن جبير بن نفير قال : قالت لي عائشة أم المؤمنين : هل تقرأ سورة المائدة ؟ قلت : نعم ؟ قالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حراماً فحرّموه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده : ٦ / ١٨٨ ، ورواه البيهقي في سننه : ٧ / ١٧٢ عن ابن نفير ، ونحوه عن عبد الله بن عمرو. ورواه في طبقات الحنابلة : ١ / ٤٢٧ ، ورواه الحاكم : ٢ / ٣١١ وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ثمّ روى عن عبد الله بن عمرو أن آخر سورة نزلت سورة المائدة وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وستعرف أنّهما لم يخرجاه مراعاة لعمر حيث ادّعى أنّ آخر ما نزل من القرآن غير المائدة.
ـ وفي مجمع الزوائد : ١ / ٢٥٦
وعن ابن عبّاس أنّه قال : ذكر المسح على الخفّين ، وعند عمر سعدٌ وعبد الله بن عمر ، فقال عمر : سعد أفقه منك ، فقال عبد الله بن عبّاس : ياسعد إنّا لا ننكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح ، ولكن هل مسح منذ نزلت المائدة ، فإنّها أحكمت كلّ شيء ، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن ، ألا تراه قال ..
فلم يتكلّم أحد.
رواه الطبراني في الأوسط ، وروى ابن ماجة طرفاً منه ، وفيه عبيد بن عبيدة التمار وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : يُغرب. انتهى.
يقصد الهيثمي أنّ الرواية ضعيفةٌ بهذا الراوي ، الذي هو ثقة عند ابن حبان ، ولكنّه يروي روايات غريبة ، أي مخالفة لمقرّرات المذهب الرسمي الذي يقول إنّ الواجب هو غسل الرجلين في الوضوء ، ويقول إنّ المائدة ليست آخر سورة نزلت !
ـ وفي الدر المنثور : ٢ / ٢٥٢
وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : المائدة « من » آخر القرآن تنزيلاً ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. انتهى.
ويشك الإنسان في كلمة « من » التي تفردت بها هذه الرواية ، وكأن راويها أضافها للمصالحة بين الواقع وبين ما تبنته السلطة ، وجعلته مشهوراً.
ـ وفي تفسير التبيان : ٣ / ٤١٣
وقال عبد الله بن عمر : آخر سورة نزلت المائدة.
ـ وفي الغدير : ١ / ٢٢٨
ونقل ابن كثير من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عايشة : أن المائدة آخر سورة نزلت. انتهى.
ويتضح من مجموع ذلك أن المتسالم عليه عند عند أهل البيت عليهم السلام أنّ آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة .. وأنّه مؤيّدٌ برواياتٍ صحيحة وكثيرة ، في مصادر إخواننا .. بل يمكن القول بأن آية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وحدها تكفي دليلاً على أنّها آخر نزلت في آخر ما نزل من كتاب الله تعالى ، لأنّها تنصّ على أن نزول الفرائض قد تمّت بها ، فلا يصحّ القول بأنّه نزل بعدها فريضة ، على أنّه وردت نصوصٌ بذلك كما تقدّم عن الإمام الباقر عليه السلام ، وكما سيأتي من رواية الطبري والبيهقي وقول السدي. وعليه ، فكلّ ما نزل بعدها من القرآن ، لا بدّ أن يكون خالياً من الفرائض والأحكام ، لأنّ التشريع قد تمّ بنزولها ، فلا حكم بعدها !
الآراء المخالفة والمتناقضة
ولكن هذا الأمر المحدّد الواضح ، صار غير واضحٍ ولا محدّدٍ عندهم !! وكثرت فيه الروايات وتناقضت ! وزاد في الطين بلةً أن المتناقض منها صحيحٌ بمقاييسهم ! وأنّها آراء صحابةٍ كبارٍ لايجرؤون على ردّهم !
ولعلّ السيوطي استحى من كثرة الأقوال في آخر ما نزل من القرآن ، فأجملها إجمالاً ، ولم يعددها أوّلاً وثانياً كما عدد الأقوال الأربعة في أوّل ما نزل !!
ونحن نعدها باختصار ، لنرى أسباب نشأتها !
١ ـ أن آخر آية هي آية الربا ، وهي الآية ٢٧٨ من سورة البقرة.
٢ ـ أن آخر آية هي آية الكلالة ، أيّ الورثة من الأقرباء غير المباشرين ، وهي الآية ١٧٦ من سورة النساء.
٣ ـ أنّ آخر آية هي آية ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ .. ) البقرة ـ ٢٨١.
٤ ـ أنّ آخر آية هي آية ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ .. ) التوبة ـ ١٢٨.
٥ ـ أنّ آخر آية هي آية ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ .. ) الأنبياء ـ ٢٥.
٦ ـ أنّ آخر آية هي آية ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ .. ) الكهف ـ ١١٠.
٧ ـ أنّ آخر آية هي آية ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا .. ) النساء ـ ٩٣.
٨ ـ أنّ آخر سورة نزلت هي سورة التوبة.
٩ ـ أنّ آخر سورة نزلت هي سورة النصر.
هذا ما جاء فقط في إتقان السيوطي ١ / ١٠١ ، وقد تبلغ أقوالهم ورواياتهم ضعف هذا العدد ، لمن يتتبع المصادر !!
كيف نشأت هذه الآراء المتناقضة
القصّة التالية تعطينا ضوءً على نشأة هذا الإضطراب والضياع :
سئل الخليفة عمر ذات يوم عن تفسير آية الربا وأحكام الربا ، فلم يعرفها فقال : أنا متأسف ، لأنّ هذه الآية آخر آية نزلت ، وقد توفّي النبي ولم يفسّرها لي !
ومن يومها دخلت آيات الربا على الخط ، وشوشت على سورة المائدة ، وصار ختام ما نزل من القرآن مردّداً بين المائدة ، وبين آيات الربا !
ولكن الربا ذكر في أربع سور من القرآن : في الآيتين ٢٧٥ ـ ٢٧٦ من سورة البقرة والآية ١٦١ من سورة النساء ، والآية ٣٩ من الروم ، والآية ١٣٠ من آل عمران .. وبعض هذه السور مكّي وبعضها مدني ! فأيّ آيةٍ منها قصد الخليفة ؟!
وتبرع المبرّرون للخليفة وقالوا إنّ مقصوده الآية ٢٧٨ من سورة البقرة ! فصار مذهبهم أن آخر آية نزلت من القرآن وضعت في سورة البقرة ، التي نزلت في أوّل الهجرة ! وصار مذهبهم أن تحريم الربا تشريعٌ إضافي ، لأنّه نزل بعد آية إكمال الدين ! ولعلّهم يتصوّرون أنّه لا بأس بهذه المفارقة في نزول القرآن والوحي ، مادام هدفهم هدفاً شرعيّاً صحيحاً هو الدفاع عن خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله !
ـ قال الإمام أحمد في مسنده : ١ / ٣٦ :
عن سعيد بن المسيب قال : قال عمر رضي الله عنه : إنّ آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبض ولم يفسّرها ، فدعوا الربا والريبة !! ورواه في كنز العمال : ٤ / ١٨٦ عن « ش وابن راهويه حم هـ وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ق في الدلائل ».
ـ وقال السرخسي في المبسوط : ٢ / ٥١ و ١٢ / ١١٤ :
فقد قال عمر رضي الله عنه : إنّ آية الربا آخر ما نزل ، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبيّن لنا شأنها !
ـ وقال السيوطي في الإتقان : ١ / ١٠١
وأخرج البخاري عن ابن عبّاس قال : آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله .. وعند أحمد وابن ماجه عن عمر : من آخر ما نزل آية الربا. انتهى.
ولكن إضافة « من » في هذه الرواية لا تحلّ المشكلة ، كما لم تحلّها في سورة المائدة ، لأنّ الروايات الأخرى ليس فيها « من » وهي نصّ على أنّ آية الربا آخر ما نزل !
قصة ثانية !
وذات يومٍ بل ذات أيّام .. لم يعرف الخليفة عمر معنى الكلالة ، وتحيّر فيها ، واستعصى عليه فهمها ، الى آخر عمره ! فقال وقالوا عنه : إنّها آخر آية نزلت ، وتوفّي النبي قبل أن يبيّنها له ، أو بيّنها له بياناً ناقصاً !
ـ ففي البخارى : ٥ / ١١٥
عن البراء رضياللهعنه قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة .. ونحوه في : ٥ / ١٨٥
ـ وقال السيوطي في الإتقان : ١ / ١٠١
فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، وآخر سورة نزلت براءة.
ـ وفي مسند أحمد : ٤ / ٢٩٨
عن البراء قال : آخر سورة نزلت على النبى صلّى الله عليه وسلّم كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يستفتونك .. الى آخر السورة .. الى آخره !
ومن يومها دخلت آية الكلالة على الخطّ ، وشاركت في التشويش على سورة المائدة ! وصار ختام ما نزل من القرآن مردّداً بين آيات الربا والكلالة ، وبقيّة المائدة بما فيها آيتا العصمة من الناس ، وإكمال الدين !
وقد راجعت ما تيسّر لي من مصادر إخواننا في مسألة الربا والكلالة ، فهالتني مشكلة الخليفة معهما ، خاصةً مسألة الكلالة ، حتّى أنّه جعلها من القضايا الهامة على مستوى قضايا الأمّة الإسلاميّة الكبرى ، وكان يطرحها من على منبر النبي صلّى الله عليه وآله واستمر يطرحها كمشكلة كبرى ، حتّى ساعات حياته الأخيرة ، وأوصى المسلمين بحلّها ! الأمر الذي يدلّ على شعوره العميق بالحرج أمام المسلمين ، لعدم تمكنه من استيعابها !! ففي صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٢
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : إنّه قد نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة أشياء : العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمر ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفارقنا حتّى يعهد إلينا عهداً : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا. انتهى. ورواه مسلم في : ٢ / ٨١ ، بتفصيل أكثر ، وروى نحوه في : ٥ / ٦١ و٨ / ٢٤٥ ، ورواه ابن ماجة في : ٢ / ٩١٠ ، وقال عنه السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٤٩ : وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن عمر ..
ويدلّ هذا الصحيح المؤكّد ، على أنّ عمر لم يسأل النبي صلّى الله عليه وآله عن الكلالة.
وقد صرح بذلك صحيح الحاكم الذي رواه في المستدرك : ٢ / ٣٠٣ ، فقال :
محمّد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أكون سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاثٍ أحبّ إليّ من حمر النعم : عن الخليفة بعده ، وعن قوم قالوا نقرُّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤدّيها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.
ولكن في صحيح مسلم أنّ عمر سأل النبي صلّى الله عليه وآله عنها مراراً !!
ـ قال مسلم في : ٥ / ٦١ : عن معدان بن أبي طلحة أنّ عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ، وذكر أبا بكر ثمّ قال : إنّي لا أدع بعدي شيئاً أهمّ عندي من الكلالة ! ما راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء ما راجعته في الكلالة ! وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه ، حتّى طعن بإصبعه في صدري وقال : يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟! وإنّي إن أعش أقض فيها بقضيّة يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. انتهى.
يعني أنّه سأل النبي صلّى الله عليه وآله عنها مراراً فوضّحها له مراراً ، ولكنّه كرّر سؤاله حتّى غضب عليه النبي صلّى الله عليه وآله لعدم فهمه لشرحه إيّاها !
بل يدلّ الصحيحان التاليان على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أخبر عمر أنّه سوف لن يفهم الكلالة طول عمره ، أو دعا عليه بذلك !
ـ ففي الدر المنثور : ٢ / ٢٥٠
وأخرج العدني والبزار في مسنديهما ، وأبو الشيخ في الفرائض ، بسند صحيح عن حذيفة قال : نزلت آية الكلالة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في مسيرٍ له ، فوقف النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فإذا هو بحذيفة فلقاها إيّاه ، فنظر حذيفة فإذا عمر فلقاها إيّاه. فلمّا كان في خلافة عمر ، نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقانيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقيتك كما لقاني ، والله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً. انتهى.
ـ وفي كنز العمال : ١١ / ٨٠ حديث ٣٠٦٨٨ عن سعيد بن المسيب أنّ عمر سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : كيف يورث الكلالة ؟ قال : أو ليس قد بيّن الله ذلك ، ثمّ قرأ : وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ .. الى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم !
فأنزل الله : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّـهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ .. الى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم ! فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طيب نفس ، فاسأليه عنها فقال : أبوك ذكر لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها أبداً !!
فكان يقول : ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال !! وذكر في مصدره أن ابن راهويه أو ابن مردويه صحّحه.
ـ بل روى السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٤٩ أنّ النبي صلّى الله عليه وآله قد كتبها لعمر في كتف ! قال : وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن مردويه عن طاوس ، أنّ عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكلالة ، فسألته فأملاها عليها في كتف ، وقال : من أمرك بهذا أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أو ما تكفيه آية الصيف ؟!!
قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء : وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ .. فلمّا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، نزلت الآية التي في خاتمة النساء. انتهى.
فانظر الى هذه التناقضات في أحاديث عمر والكلالة ، وكلّها صحيحة !
ولاحظ أنّ الكلالة هي إحدى المسائل الثلاث التي قال البخاري إنّ النبي صلّى الله عليه وآله لم يبيّنها للأمّة ، ولا سأل عمر النبي عنها .. مع أنّ روايتهم الصحيحة تقول إنّ النبي صلّى الله عليه وآله قد كتب الكلالة لعمر في كتف !
وأمّا المسألة الثانية التي هي الخلافة ، فقد روى البخاري نفسه أيضاً أنّ النبي صلّى الله عليه وآله دعا بدواة وكتف ليكتب للأمّة الإسلاميّة كتاباً لا تضلّ بعده أبداً ، ولكن عمر أبى ذلك ..
وأمّا المسألة الثالثة ، وهي أبواب الربا ، فيستحيل أن لا يكون النبي صلّى الله عليه وآله قد بينها وشرحها للمسلمين أيضاً ، وقد يكون كتبها لعمر أو غيره في كتف أيضاً !!
دلالة هاتين القصتين
تدل هاتان القصتان على أن صحاح إخواننا فيها متناقضاتٌ لا يمكن لباحثٍ أن يقبلها جميعاً ، بل لا بد له أن يرجح بعضها ويرد بعضها.
وكيف يمكن لعاقلٍ أن يقبل في موضوعنا أن عمر لم يسأل النبي صلّى الله عليه وآله عن الآية لأنّها آخر آية نزلت .. وأنّه سأله عنها مراراً ، حتّى دفعه بإصبعه في صدره ، وغضب منه ، الخ !!
وكيف يقبل أن الكلالة آخر آية ، وآيات الربا آخر آيات .. الى آخر التناقضات التي ذكرناها ، وأكثر منها فيما لم نذكره !
وتدلّ القصّتان على أنّ سلطة الخليفة عمر على السنيين بلغت حداً تستطيع معه أن تجعل ادّعاءه غير المعقول معقولاً ! وأن المهمّ عندهم تكييف تفسير القرآن ، وأحداث نزول آياته ، وأسبابها ، وفق ما قاله الخليفة ، حتّى لو تناقضت أقواله ، وحتّى لو لزم من ذلك إثارة شبهة التناقض في دين الله تعالى ، وفي أفعاله تعالى !
وإذا اعترض أحدٌ على ذلك فهو رافضي ، عدوٌّ للإسلام ورسوله وصحابته !.
وتدلّ القصّتان في موضوعنا على أنّ آيات الربا وإرث الكلالة ، وربّما غيرهما ، حسب رأي الخليفة قد نزلت بعد آية إكمال الدين ، ومعنى ذلك أنّ الله تعالى قال للمسلمين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، ولكنّه لم يكن أكمل أحكام الإرث والربا وأحكام القتل !!
إن من يحترم نفسه لا يمكنه أن يقبل منطقاً يجادل عن إنسان غير معصوم ليبرئه من التناقض ، حتّى لو استلزم ذلك نسبة التناقض الى الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله !
بقيّة الأقوال :
لا نطيل في ذكر بقيّة الأقوال ، وأحاديثها الصحيحة عندهم ، بل نجملها إجمالاً :
ـ ففي صحيح البخارى : ٥ / ١٨٢
قال سمعت سعيد بن جبير قال : آية اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها الى ابن عبّاس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [ النساء ـ ٩٣ ] هي آخر ما نزل ، وما نسخها شيء.
ـ وفي البخاري : ٦ / ١٥
عن سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت فيه الى ابن عبّاس فقال : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينخسها شيء.
ـ وفي الدر المنثور : ٢ / ١٩٦
وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت فيها .. هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وأخرج أحمد ، وسعيد بن منصور ، والنسائي ، وابن ماجة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والطبراني من طريق سالم بن أبى الجعد ، عن ابن عبّاس .. قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى ؟
قال : وأنّى له بالتوبة ؟!.
ـ وفي مجموع النووي : ١٨ / ٣٤٥
قوله تعالى : وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا .. الآية.
في صحيح البخارى .. هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس في الآية فقال : ما نسخها شيء. انتهى.
فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات « الصحيحة » من البخاري أو غيره ، ومن ابن عبّاس أو غيره ، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإسلام ، نزل بعد آية إكمال الدين !
ـ وفي مستدرك الحاكم : ٢ / ٣٣٨
عن يوسف بن مهران ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : آخر ما نزل من القرآن : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ. حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وهذه الرواية « الصحيحة » على شرط الشيخين تقصد الآيتين ١٢٨ ـ ١٢٩ ، من سورة التوبة.
ـ وفي الدر المنثور : ٣ / ٢٩٥
وأخرج ابن أبي شيبة ، واسحق بن راهويه ، وابن منيع في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق يوسف بن مهران ، عن ابن عبّاس ، عن أبي بن كعب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن ـ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ الى آخر .. الآية.
* وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مروديه ، عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول : إن أحدث القرآن عهداً بالله ـ وفي لفظ بالسماء ـ هاتان الآيتان : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ .. الى آخر السورة.
ـ الدر المنثور : ٣ / ٢٩٥
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند ، وابن الضريس في فضائله ، وابن أبي دؤاد في المصاحف : وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والخطيب في تلخيص المتشابه ، والضياء في المختارة ، من طريق أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر ، فكان رجال يكتبون ويملّ عليهم أبيّ بن كعب ، حتّى انتهوا الى هذه الآية من سورة براءة : ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّـهُ قُلُوبَهُم .. قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ، فظنّوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال أبيّ بن كعب : إنّ النبى صلّى الله عليه وسلّم قد أقرأني بعد هذا آيتين : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. فهذا آخر ما نزل من القرآن. قال فختم الأمر بما فتح به بلا إله إلّا الله ، يقول الله : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ.
وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال : من كان تلقى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتّى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك اليه.
فقام عثمان بن عفان فقال : من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتّى يشهد به شاهدان ، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إنّي رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما !
فقالوا : ما هما ؟
قال : تلقيت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ .. الى آخر السورة.
فقال عثمان : وأنا أشهد أنّهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما ؟
قال : إختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة. انتهى.
وشبيه به في سنن أبي داود : ١ / ١٨٢ ، وقد بحثنا هذه الروايات في كتاب تدوين القرآن.
ـ وفي صحيح مسلم : ٨ / ٢٤٣
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عبّاس : تعلم ـ وقال هارون تدري ـ آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً ؟
قلت نعم ، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ. قال : صدقت.
وفي رواية ابن أبي شيبة : تعلم أيّ سورة ، ولم يقل آخر.
ـ وفي سنن الترمذي : ٤ / ٣٢٦
وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال : آخر سورة أنزلت : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ.
ـ وفي الغدير : ١ / ٢٢٨ : وروى ابن كثير في تفسيره : ٢ / ٢
عن عبد الله بن عمر أنّ آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ـ يعني النصر ـ.
ـ وفي الدر المنثور : ٦ / ٤٠٧
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ ، قال : علمٌ وحدٌّ حدّه الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، ونعى اليه نفسه ، إنّك لا تبقى بعد فتح مكّة إلّا قليلاً.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عبّاس قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ.
ـ وفي المجعم الكبير للطبرانى : ١٢ / ١٩
عن ابن عبّاس قال : آخر آية أنزلت : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ. انتهى. وهي الآية ٢٨١ من سورة البقرة !
ونذكر في آخر ادّعاءاتهم في آخر آيةٍ من القرآن : أنّ معاوية بن أبي سفيان أدلى بدلوه في هذا الموضوع ، ونفى على المنبر أن تكون آية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. ) آخر ما نزل ، وأفتى للمسلمين بأن آخر آيةٍ نزلت هي الآية ١١٠ من سورة الكهف ، وأنّها وكانت تأديباً من الله لنبيّه !! ففي المعجم الكبير للطبراني : ١٩ / ٣٩٢ :
عمرو بن قيس أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. قال : نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ، ثمّ تلا هذه الآية : فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ .. وقال : إنّها آخر آية نزلت .. تأديباً لرسول الله .. انتهى.
وقد التفت السيوطي الى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن ، وحجّة الوداع ، وغدير خم .. فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر ! ولكنه مرَّ بذلك مروراً سريعاً ، على عادتهم في التغطية والتستر والروغان !
قال في الإتقان : ١ / ١٠٢
من المشكل على ما تقدّم قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فإنّها نزلت بعرفة في حجّة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها. وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي ، فقال : لم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ ، مع أنّه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنّها نزلت بعدها !
وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأولى أن يتأوّل على أنّه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتّى حجّه المسلمون ، لا يخالطهم المشركون ! انتهى.
ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ارتضاه السيوطي : أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع وتنزيل الأحكام والفرائض ، ونحصره بتحرير مكّة فقط ، حتّى تسلم لنا أحاديث عمر عن الكلالة والربا وحديث معاوية في آخر آية في « تأديب النبي » !!
إنّها فتوى تتكرّر أمامك من العلماء السنيّين بوجوب قبول كلام الصحابة ـ ما عدا أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله ـ حتّى لو استلزم ذلك تفريغ آيات الله تعالى وأحاديث رسوله من معانيها ! فهم عمليّاً يعطون الصحابة درجة العصمة ، بل يعطونهم حقّ النقض على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلّى الله عليه وآله ، لأنّهم يجعلون كلامهم حاكماً عليه !
ثمّ يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك ، وتصمَّ سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة !!
ونتيجة هذا المنطق : أن آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ليست آخر آية ، ولا سورتها آخر سورة ، ولا معناها أكملت لكم الفرائض والأحكام ، بل أكملت لكم فتح مكّة !
وأن معنى ( الْيَوْمَ ) في الآية ليس يوم نزول الآية ، بل قبل سنتين من حجّة الوداع !
وسوف تعرف أنّ الخليفة عمر أقرّ في جواب اليهودي بأن معنى اليوم في الآية : يوم نزولها ، وليس يوم فتح مكّة ! بل قال القرطبي إنّ اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية ، كما سيأتي.
نصّ الآية الكريمة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. المائدة ٢ ـ ٣
آية إكمال الدين واللحوم المحرمة
أوّل ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن ، فظاهر ما رواه المحدّثون والمفسّرون عنها ، أنّها نزلت في حجّة الوداع آية مستقلّة لا جزء آية .. ثمّ يجدها في القرآن جزءً من آية اللحوم المحرّمة ، وكأنّها حشرت حشراً في وسطها ، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء ، بل لاتصل السياق !!
فما هي الحكمة من هذا السياق ؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن ، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة ؟!
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب : ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة ؟
ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً ، ولم يلتفت الى ذلك الذين جمعوا القرآن ، فوضعوها هنا.
ثمّ .. قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم ، ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم ! فإذا قال الله تعالى : أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فقد تمّت الأحكام ، فكيف يقول بعدها مباشرة : فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ؟! ثمّ يقول بعدها مباشرة : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم .. الى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء سبحانه قبل لحظات : إنه قد أكمله وأتمّه ؟!!
ـ قال في الدر المنثور : ٢ / ٢٥٩ :
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال : هذا نزل يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ. انتهى.
ـ وقال في : ٢ / ٢٥٧
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس .. فلمّا كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، يقول حلالكم وحرامكم ، فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ. انتهى.
والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة ، وقد مرّ بعضها ، ولا تحتاج الى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها .. ويؤيّده ما ذكره اللغويّون في معنى الكمال والتمام.
ـ قال الزبيدي في تاج العروس : ٨ / ١٠٣ :
« الكمال : التمام » وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره ، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني ، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وبسطه في العناية ، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح. وقيل : التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي ، وفيه ثلاث لغات « كمل كنصر وكرم وعلم » قال الجوهري والكسر أردؤها ، وزاد ابن عباد : كمل يكمل مثل ضرب يضرب ، نقله الصاغاني « كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل » جاؤوا به على كمل.
وقال في ص ٢١٢ : « وتمام الشيء وتمامته وتتمّته ما يتمّ به » وقال الفارسي : تمام الشيء ما تمّ به بالفتح لا غير يحكيه عن أبي زيد. وتتمّة كلّ شيء ما يكون تمام غايته ، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة ، وتتمّة هذه المائة.
قال شيخنا : وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره ، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا اليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهراً ولم يفصح عنه.
وقال جماعة : التمام الإتيان بما نقص من الناقص ، والكمال الزيادة على التمام ، فلا يفهم السامع عربيّاً أو غيره من رجل تام الخلق إلّا أنّه لا نقص في أعضائه ، ويفهم من كامل ، وخصّه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي. فالكمال تمامٌ وزيادة ، فهو أخصّ.
وقد يطلق كلّ على الآخر تجوزاً ، وعليه قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الإصبع.
وقيل التمام يستدعي سبق نقص ، بخلاف الكمال. وقيل غير ذلك ، ممّا حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح ، وابن الزملكاني في شرح التبيان ، وغير واحد.
قلت وقال الحراني : الكمال : الإنتهاء الى غاية ليس وراءها مزيد من كلّ وجه. وقال ابن الكمال : كمال الشيء : حصول ما فيه الغرض منه ، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه. انتهى.
وبعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها ، وسبب نزولها .. وفي ذلك ثلاثة أقوال :
القول الأول
قول أهل البيت عليهم السلام أنّها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجّة في الجحفة ، في رجوع النبي صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع ، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم ، قبل أن تتشعب بهم الطرق ، ويبلغهم ولاية علي عليه السلام من بعده ، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربّه. وهذه نماذج من أحاديثهم :
فقد تقدّم ما رواه الكليني في الكافي : ١ / ٢٨٩
عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام وفيه « وقال أبو جعفر عليه السلام : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، قال أبو جعفر عليه السلام : يقول الله عزّ وجلّ : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض.
ـ وعن علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : كنت عنده جالساً فقال له رجل : حدّثني عن ولاية علي ، أمن الله أو من رسوله ؟
فغضب ثمّ قال : ويحك كان رسول الله صلّى الله عليه وآله أخوف « لله » من أن يقول ما لم يأمره به الله !! بل افترضه الله ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.
ـ وفي الكافي : ١ / ١٩٨
أبو محمّد القاسم بن العلاء رحمه الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنّا مع الرضا عليه السلام بمرو ، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأداروا أمر الامامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيّدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسّم عليه السلام ثمّ قال :
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ، إنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه صلّى الله عليه وآله حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء ، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال عزّ وجلّ : مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ، وأنزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره صلّى الله عليه وآله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.
وأمر الامامة من تمام الدين ، ولم يمض صلّى الله عليه وآله حتّى بيّن لأمّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحقّ ، وأقام لهم عليّاً عليه السلام علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلّا بيّنه ، فمن زعم أنّ الله عزّ وجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله ، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر به.
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟!
إنّ الامامة أجلّ قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلى مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً ، من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم.
إنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة والخلة ، مرتبةً ثالثة ، وفضيلة شرفه بها ، وأشاد بها ذكره فقال : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها : وَمِن ذُرِّيَّتِي ؟ قال الله تبارك وتعالى : لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم الى يوم القيامة ، وصارت في الصفوة.
ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريّته أهل الصفوة والطهارة ، فقال : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.
فلم تزل في ذريّته ، يرثها بعض عن بعض ، قرناً فقرناً ، حتّى ورثها الله تعالى النبي عليه السلام فقال جل وتعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّـهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ، فكانت له خاصّة فقلّدها صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريّته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، بقوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّـهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ، فهي في ولد علي عليه السلام خاصة الى يوم القيامة ، إذ لا نبيّ بعد محمّد صلّى الله عليه وآله.
فمن أين يختار هؤلاء الجهال !. انتهى.
القول الثاني
قول المفسّرين السنيّين الموافق لقول أهل البيت عليهم السلام :
وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات ، وفيها صحاح من الدرجة الأولى عندهم وقد جمعها عددٌ من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرّخ في كتابه « الولاية » فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلّدين ، وتنصّ رواياتها على أن النبي صلّى الله عليه وآله أصعد علياً معه على المنبر ، ورفع يده حتّى بان بياض إبطيهما ، وبلغ الأمّة ما أمره الله فيه .. الخ. وقد انتقد الطبري بعض المتعصّبين السنيّين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير ، التي يحتجّ بها الشيعة عليهم ، ويجادلوهم بها عند ربّهم !
وتنصّ بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي صلّى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام.
لكن ينبغي الإلتفات الى أن أكثر السنيّين الذين صحّت عندهم روايات الغدير ، لم يقبلوا الأحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير ، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية ، أنّها نزلت يوم عرفة ، كما سيأتي.
وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخّرين ، ومن أشهر المتأخّرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الأنوار ، والشيخ الأميني في كتاب الغدير ، والسيّد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحقّ ، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الأزهار.
وقد أورد صاحب الغدير عدداً من الروايات من مصادر السنيين ، ذكرت أنّ آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير ، بعد إعلان النبي صلّى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام ..
ـ وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير : ١ / ٢٣٠ :
ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أميرالمؤمنين عليه السلام قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .. ثمّ ذكر الأميني رحمه الله عدداً من المصادر التي روتها ، نذكر منها :
١ ـ الحافظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّى ٣١٠ روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام ..
٢ ـ الحافظ ابن مردويه الأصفهاني المتوفى ٤١٠ ، روى من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري .. ثمّ رواه عن أبي هريرة ..
٣ ـ الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى ٤٣٠ ، روى في كتابه « ما نزل من القرآن في علي » .. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا الناس الى علي في غدير خم ، أمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتّى نظر الناس الى بياض إبطي رسول الله ، ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. الآية .. الخ.
٤ ـ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى ٤٦٣ ، روى في تاريخه ٨ / ٢٩٠ .. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم .. قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخٍ بخٍ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم ، فأنزل الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. الآية.
٥ ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى ٤٧٧ ، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي ، عن قيس بن الربيع ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ..
٦ ـ أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى ٤٨٣ ، روى في مناقبه عن أبي بكر أحمد بن محمّد بن طاوان قال : أخبرنا أبوالحسين أحمد بن الحسين بن السماك قال : حدّثني أبو محمّد جعفر بن محمّد بن نصير الخلدي ، حدّثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي ، قال : .. عن أبي هريرة ..
٧ ـ الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني .. عن أبي سعيد الخدري : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، قال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي.
٨ ـ الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفّى ٥٧١ ، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردويه ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، كما في الدر المنثور ٢ / ٢٥٩.
٩ ـ أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفّى ٥٦٨ ، قال في المناقب / ٨٠ .. عن أبي سعيد الخدري إنّه قال : إنّ النبي صلّى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ثمّ دعا الناس الى علي ، فأخذ بضبعه فرفعها حتّى نظر الناس الى إبطيه ، حتى نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. الآية ..
وروى في المناقب / ٩٤ .. عن ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوارق. الى آخر ما مرّ عن الخطيب البغدادي سنداً ومتناً.
١٠ ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية ، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر / ٤٣ ، وعن الخدري وجابر الأنصاري ..
١١ ـ أبو حامد سعد الدين الصالحاني ، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل : وبالإسناد المذكور عن مجاهد رضي الله عنه قال : نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ، بغدير خم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعلي. رواه الصالحاني.
١٢ ـ شيخ الإسلام الحمويني الحنفي المتوفى ٧٢٢ ، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر ، قال : أنبأني الشيخ تاج الدين .. الخ. انتهى.
القول الثالث
قول الخليفة عمر بأنّها نزلت في حجّة الوداع يوم عرفة يوم جمعة ، وهذا هو القول المشهور عند السنيّين فقد رواه البخارى في صحيحه : ١ / ١٦
عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا !! قال أيّ آية ؟ قال : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وهو قائمٌ بعرفة ، يوم جمعة.
ـ وفي البخاري ٥ / ١٢٧
عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال عمر : أية آيةٍ ؟
فقالوا : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.
فقال عمر : إنّي لا علم أيّ مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفة ..
عن طارق بن شهاب : قالت اليهود لعمر : إنّكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتّخذناها عيداً !
فقال عمر : إني لاَعلم حيث أنزلت وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزلت. يوم عرفة وأنا والله بعرفة ـ قال سفيان : وأشكّ كان يوم الجمعة ، أم لا ـ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
وفي البخاري : ٨ / ١٣٧ :
عن طارق بن شهاب قال : قال رجل من اليهود لعمر : يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .. لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً !
فقال عمر : إنّي لاعلم أيّ يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة. سمع سفيان من مسعر ، ومسعر قيساً ، وقيس طارقاً. انتهى.
وقد روت عامة مصادر السنيّين رواية البخاري هذه ونحوها بطرقٍ متعددة ، وأخذ بها أكثر علمائهم ، ولم يديروا بالاً لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجّة الوداع يوم جمعة ، مثل سفيان الثوري والنسائي ! ولا لرواياتهم المؤيّدة لرأي أهل البيت عليهم السلام ، التي تقدمت .. وذلك بسبب أنّ الخليفة عمر قال إنّها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيّام ، وقوله مقدم عندهم على كلّ اعتبار.
ـ قال السيوطي في الاِتقان ١ / ٧٥ عن الآيات التي نزلت في السفر :
منها : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. في الصحيح عن عمر أنّها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع ، وله طرقٌ كثيرة.
لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدير خم.
وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه : أنّه اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة مرجعه من حجّة الوداع. وكلاهما لا يصحّ. انتهى.
وقال في الدر المنثور : ٢ / ٢٥٩
أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر بسند ضعيف ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّاً يوم غدير خم ، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
وأخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال : لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فأنزل الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. انتهى.
وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيّين .. ولكنّه لا يعني أنّهم يضعفون حديث الغدير كما تقدّم ، بل يقولون إن حديث الغدير صحيحٌ ، ولكن الآية نزلت قبل ذلك اليوم ، تمسكاً بقول الخليفة عمر الذي روته صحاحهم ، حتّى لو خالفه حديثٌ صحيحٌ ، وحتّى لو خالفه الحساب والتاريخ !
ومن المتعصّبين لرأي عمر المذكور : ابن كثير ، وهذه خلاصة من تفسيره : ٢ / ١٤ :
قال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ. وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً ، رواهما ابن جرير.
ثمّ ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال :
قال سفيان : وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية.
وشكّ سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكّاً في كون الوقوف في حجّة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به ، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة ، لا يشكّ في صحّتها ، والله أعلم. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير .. عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال : قال كعب لو أن غير هذه الأمّة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتّخذوه عيداً يجتمعون فيه !!
فقال عمر : أيّ آيةٍ يا كعب ؟
فقال : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ .. « ورواه في مختصر تاريخ دمشق ٢ جزء ٤ / ٣٠٩ »
وقال ابن جرير : .. حدّثنا عمرو بن قيس السكوني أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ حتّى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة ..
وقال ابن جرير : وقد قيل ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند الناس !!
ثمّ روى من طريق العوفي عن ابن عبّاس في قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يقول ليس بيومٍ معلومٍ عند الناس. قال : وقد قيل إنّها نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسيره « إلى » حجّة الوداع.
ثم قال ابن كثير :
قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أنّها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم غدير خم ، حين قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه. ثمّ رواه عن أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، يعني مرجعه عليه السلام من حجّة الوداع.
ولا يصحّ لا هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شكّ فيه ولا مرية ، أنّها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأوّل ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنه ، وأرسله الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمّة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله. انتهى.
وتلاحظ أنّ ابن كثير لا يريد الإعتراف بوجود تشكيكٍ في أنّ يوم عرفة كان يوم جمعة ، لأن ذلك يخالف قول عمر ، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه !!
وممّا يدلّ على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كن يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره : ٤ / ١١١ ممّا لم يذكره ابن كثير قال :
حدّثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب قال : ثنا داود قال قلت لعامر : إنّ اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟!
فقال عامر : أو ما حفظته ؟
قلت له : فأيّ يوم ؟
قال : يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة !!
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ، أعني قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الإثنين ، وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة.
ذكر من قال ذلك : حدّثني المثنى قال : ثنا إسحاق قال : أخبرنا محمّد بن حرب قال : ثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش عن ابن عبّاس : ولد نبيّكم صلّى الله عليه وآله يوم الإثنين ، وخرج من مكّة يوم الإثنين ، ودخل المدينة يوم الإثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، ورفع الذكر يوم الإثنين.
ثمّ قال الطبري : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنّها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحّة سنده وهي أسانيد غيره. انتهى.
الموقف العلمي في سبب نزول الآية
بإمكان الباحث أن يفتش عن الحقيقة في سبب نزول الآية في أحاديث حجّة الوداع ، لأن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تمّ بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق ، وإعدادٍ نبوي واسع .. وقد حضره ما بين سبعين ألفاً الى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين ، ونقلوا العديد من أحداث حجّة الوداع ، وأقوال النبي صلّى الله عليه وآله وأفعاله فيها ، بشيء من التفصيل ، ورووا أنّه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر .. وسجّلوا يوم حركته من المدينة ، والأماكن التي مرّ عليها أو توقّف فيها ، ومتى دخل مكّة ، ومتى وكيف أدّى المناسك .. ثمّ رووا حركة رجوعه وما صادفه فيها .. الى أن دخل الى المدينة المنوّرة وعاش فيها نحو شهرين بقيّة عمره الشريف صلّى الله عليه وآله.
وعلى هذا ، فإن عنصر التوقيت والتاريخ حاسمٌ في المسألة ، وهو الذي يجب أن يكون مرجحاً للرأي الصحيح من الرأيين المتعارضين.
وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت عليهم السلام والروايات السنّية الموافقة لهم ، مضافاً الى المرجّحات الأخرى المنطقيّة ، التي تنضمّ اليه كما يلي :
أولاً : أنّ التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصحّ سنداً وأكثر طرقاً كما توهّموا .. بل هو تعارض بين حديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وبين قولٍ للخليفة عمر.
فإن الأحاديث التي ضعّفوها هي أحاديث نبويّة مسندة ، بينما أحاديث البخاري وغيره هي قول لعمر ، لم يسنده الى النبي صلّى الله عليه وآله !
فالباحث السنّي لا يكفيه أن يستدلّ بقول عمر في سبب نزول القرآن ، ويردَّ به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول ، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه ، فإن صحّ عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر .. وإن لم يصحّ رجع الى أقوال الصحابة المتعارضة ، وجمع بين الموثوق منها ان أمكن الجمع ، وإلّا رجح بعضها وأخذ به ، وترك الباقي .. ولكنّهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف !
ثانياً : لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت عليهم السلام في سبب نزول الآية والأحاديث السنّية المؤيّدة لها ليست أكثر من رأي لأهل البيت ومن أيدهم في ذلك ، وأنّ التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول ، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
فنقول : إن النبي صلّى الله عليه وآله أوصى أمّته بأخذ الدين من أهل بيته عليهم السلام ولم يوصها بأخذه من أصحابه .. وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع ، وهو كما في مسند أحمد : ٣ / ١٤ : عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض. انتهى.
ورواه أيضاً في : ٣ / ١٧ ـ ٢٦ و٥٩ ، و : ٤ / ٣٦٦ ، و٣٧١ ، والدارمي : ٢ / ٤٣١ ، ومسلم ٧ / ١٢٢ ، والحاكم ، وصحّحه على شرط الشيخين وغيرهما في : ٣ / ١٠٩ و ١٤٨ ، والبيهقي في سننه : ٢ / ١٤٨ ، وغيرهم.
وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي صلّى الله عليه وآله بأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم ، أو يدلّ على الأقلّ على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم !
ثالثاً : أنّ الرواية عن الخليفة عمر نفسه متعارضة ، وتعارضها يوجب التوقّف في الأخذ بها ، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجّة الوداع كان يوم خميس ، وليس يوم جمعة. قال النسائي في سننه : ٥ / ٢٥١ :
أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال : أنبأنا عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال يهودي لعمر : لو علينا نزلت هذه الآية لاتّخذناه عيداً : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
قال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت ، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرفات !
والطريف أن النسائي روى عن عمر في : ٨ / ١١٤ ، أنّها نزلت في عرفات في يوم جمعة !
رابعاً : تقدّم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري وهو من أئمّة الحديث والعقيدة عندهم ، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة « قال سفيان وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا .. » وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان ، بل يظهر أنّ سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجّة الوداع لم يكن يوم جمعة ، وإنّما قال « أشكّ » مداراةً لجماعة عمر ، الذين رتّبوا كلّ الروايات لأحداث حجّة الوداع ، بل وأحداث التاريخ الإسلامي كلّها .. على أساس أنّ يوم عرفات كان يوم جمعة ، كما ستعرف.
خامساً : أن عيد المسلمين هو يوم الأضحى ، وليس يوم عرفة ، ولم أجد روايةً تدلّ على أن يوم عرفة عيدٌ شرعي ، فالقول بذلك ممّا تفرد به الخليفة عمر ، ولم يوافقه عليه أحدٌ من المسلمين ! وهو عند السلفيّين يدخل في باب البدعة !
أمّا إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس ، وأنّ الآية نزلت ليلة عرفة .. فلا يبقى عيدٌ حتى يصطدم به العيد النازل من السماء ، ولا يحتاج الأمر الى قانون إدغام الأعياد الإلهيّة المتصادمة ، كما ادّعى الخليفة !.
فيكون معنى جواب الخليفة على هذه الرواية أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحقّ أن يكون عيداً ، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين ، فلم نتّخذ يومها عيداً !
وهذا كلام متهافت !
سادساً : أنّ قول عمر يناقض ما رووه عن عمر نفسه بسندٍ صحيحٍ أيضاً .. فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الإسلام وختمه في يوم نزول الآية ، وقبل عمر منه هذا التفسير .. فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض ، فيصحّ على رأيه ما قاله أهل البيت عليهم السلام وما قاله السدي وابن عبّاس وغيرهما من أنّه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم.
مع أنّ الخليفة عمر قال إنّ آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة ، وأحكام الإرث ، وغيرها ، كما تقدّم .. فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي : ليس معنى الآية كما ظننت ، بل كان بقي من الدين عدّة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها ، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً !
وعندما تتعارض الروايات عن شخصٍ واحد وتتناقض ، فلا بد من التوقّف فيها جميعاً ، وتجميد كلّ روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن ، وفي وقت نزول آية إكمال الدين !
ومن جهة أخرى ، فقد أقرّ الخليفة أن ( الْيَوْمَ ) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه ، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنة كفتح مكّة ، أو يأتي بعد شهور مثلاً. فهو يستوجب ردّ قول الطبري الذي تعمّد اختياره ليوافق عمر ، ويستوجب ردّ كلّ الروايات التي تريد تعويم كلمة ( الْيَوْمَ ) في الآية ، أو تريد جعله يوم فتح مكّة.
قال القرطبي في تفسيره : ١ / ١٤٣
وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وجمع يوم أيّام وأصله أيوام فأدغم.
وقال في : ٢ / ٦١
واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول : فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنّك لم تستوعب الشهر ولا السنة ، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم.
سابعاً : أنّ جواب الخليفة لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم !
فإن كان يقصد الإعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد ، ولذلك لم نتّخذ يومها عيداً !
فيمكن لليهودي أن يجيبه : لماذا خرَّب عليكم ربّكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم ؟!
وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة ، حتّى صار جزءً منه !
فمن حقّ سائلٍ أن يسأل : هذا يعني أنّكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد ، مشتركاً مع عرفة .. فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم ، إلّا عند الشيعة ؟!
وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم ، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة ، فأدغم فيهما وذاب ، أو أكلاه وانتهى الأمر !
فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين ، وهو يعلم أنّهما سيأكلانه !
فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد ، أم أنّه نسي والعياذ بالله فأنزل عيداً في يوم عيد ، فتدارك المسلمون الأمر بقرار الدمج والإدغام ، أو التنصيف !!
ثمّ من الذي اتّخذ قرار الإدغام ؟ ومن الذي يحقّ له أن يدغم عيداً إلهيّاً في عيد آخر ، أو يطعم عيداً ربّانيّاً لعيد آخر !
ومابال الأمّة الإسلاميّة لم يكن عندها خبر من حادثة اصطدام الأعياد الربانيّة في عرفات ، حتّى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبّههم ! فأخبره الخليفة عمر بأنّه يوافقه على كلّ ما يقوله ، وأخبره وأخبر المسلمين بقصّة تصادم الأعياد الإلهيّة في عرفات ! وأنّ الحكم الشرعي في هذا التصادم هو الإدغام لمصلحة العيد السابق ، أو إطعام العيد اللاحق للسابق !
وهل هذه الأحكام للأعياد أحكامٌ إسلاميّة ربانيّة ، أم استحسانيّة شبيهاً بقانون تصادم السيّارات ، أو قانون تصادم الأعياد الوطنيّة والدينيّة ؟!!
إنّ المشكلة التي طرحها اليهودي ، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه ، لأن الخليفة لم يقدم لها حلّاً .. وكلّ الذي قدمه أنّه اعترف بها وأقرّها ، ثمّ رتّب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها ، ولم يقلّ إنّه سمعها من النبي صلّى الله عليه وآله !
فقد اعترف خليفة المسلمين بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌ بالنسبة الى المسلمين ، لأنّه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الإسلام ، وأتمَّ فيه النعمة على أمّته ، ورضيه لهم ديناً يدينونه به ، ويسيرون عليه ، ويدعون الأمم اليه.
وأن هذا اليوم العظيم يستحقّ أن يكون عيداً شرعيّاً للأمّة الإسلاميّة تحتفل فيه وتجتمع فيه ، في صفّ أعيادها الشرعيّة الثلاث : الفطر والأضحى والجمعة ، وأنّه لو كان عند أمّة أخرى يوم مثله ، لأعلنته عيداً ربانيّاً ، وكان من حقّها ذلك شرعاً ..
لقد وافق الخليفة محاوره اليهودي على كلّ هذا ، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعيّاً سنويّاً ، يضاف إلى عيدي الفطر والأضحى السنويين وعيد الجمعة الأسبوعي.
إن الناظر في المسألة يلمس أن الخليفة عمر وقع في ورطة « آية علي بن أبي طالب » من ناحيتين : فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر ما نزل من القرآن .. ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية إلى يوم القيامة !! وصار من حقّ المسلم أن يسأل أتباع عمر من الفقهاء عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ولا اسماً في تاريخ المسلمين ، ولا في حياتهم ، ولا في مصادرهم .. إلّا .. عند الشيعة !
ثمّ .. إنّ الأعياد الإسلاميّة توقيفيّة ، فلا يجوز لأحد أن يشرع عيداً من نفسه .. وحجّة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً ، أنّ أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رووا عن النبي صلّى الله عليه وآله أن يوم الآية أيّ يوم الغدير عيدٌ شرعي ، وأن جبرئيل أخبره بأنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يأمرون أممهم أن تتّخذ يوم نصب الوصي عيداً.
فما هي حجّة الخليفة في تأييد كلام اليهودي ، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحقّ أن يكون عيداً شرعيّاً للأمّة الإسلاميّة ! ثمّ أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد .. الخ.
فإن كان الخليفة حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحقّ أن يكون عيداً ، فهو تشريع وبدعة ، وإن كان سمعه من النبي صلّى الله عليه وآله ، فلماذا لم يذكره ، ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية ، إلّا ما رواه الشيعة ؟!
ثامناً : لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله ، لصلّى النبي صلّى الله عليه وآله بالمسلمين صلاة الجمعة ، مع أن أحداً لم يرو أنّه صلى الجمعة في عرفات ، بل روى النسائي وغيره أنّه قد صلّى الظهر والعصر !
والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر ، فقد جعل في سننه : ١ / ٢٩٠ عنواناً باسم « الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ».
وروى فيه عن جابر بن عبد الله قال : سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ، حتّى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت له ، حتّى إذا انتهى إلى بطن الوادي خطب الناس ، ثمّ أذن بلال ثمّ أقام فصلّى الظهر ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصل بينهما شيئاً !! انتهى.
ـ وكذلك روى أبو داود في سننه : ١ / ٤٢٩
عن ابن عمر قال : غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منى حين صلّى الصبح صبيحة يوم عرفة ، حتّى أتى عرفة فنزل بنمرة ، وهي منزل الإمام الذي ينزل بعرفة ، حتّى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهجراً ، فجمع بين الظهر والعصر ، ثمّ خطب الناس ، ثمّ راح فوقف على الموقف من عرفة. انتهى.
وأمّا الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر ، فهو أمر مختلفٌ عندهم فيه ، ولو صحّ أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي صلّى الله عليه وآله صلاة الجمعة ، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجّة الوداع !
وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى : ٧ / ٢٧٢ :
مسألة : وإن وافق الإمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهرِ وهي صلاة جمعة ! ويصلّي الجمعة أيضاً بمنى وبمكّة ، لأن النصّ لم يأت بالنهي عن ذلك ، وقال تعالى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ، فلم يخصّ الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى.
وروينا .. عن عطاء بن أبي رباح قال : إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة ، جهر الإمام بالقراءة .. فإن ذكروا خبراً رويناه .. عن الحسن بن مسلم قال : وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجّة النبي عليهالسلام فقال : من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل ، فصلّى الظهر بمنى ولم يخطب .. فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كلّ بلية : ابراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكلّ ، ثمّ هو مرسل ، وفيه عن ابن الزبير ، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، ثمّ الكذب فيه ظاهر ، لأن يوم التروية في حجّة النبي عليه السلام إنما كان يوم الخميس ، وكان يوم عرفة يوم الجمعة ، روينا ذلك من طريق البخارى ..
فإن قيل : إن الآثار كلّها إنّما فيها جمع رسول الله عليه السلام بعرفة بين الظهر والعصر ؟
قلنا : نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها ! وليس في شيء من الآثار أنّه عليه السلام لم يجهر فيها ، والجهر أيضاً ليس فرضاً ، وإنّما يفترق الحكم في أنّ ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان. انتهى.
وجواب ابن حزم : أنّه صادر على المطلوب ، لأنّه ردّ الرواية لمجرّد مخالفتها لقول عمر بأن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة !
فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس ، وروايته صحيحة ؟
أو بقول النسائي والثوري ، والأقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره ؟
ولو صحّ ما قاله من أن النبي صلّى الله عليه وآله اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لأنّه جهر فيهما ، لاشتهر بين المسلمين أن النبي صلّى الله عليه وآله جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح « أتوماتيكيّاً » صلاة جمعة !
بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنصّ على أنّه صلّى الله عليه وآله صلّى الجمعة في منى ، وهي أقرب إلى حساب سفره صلّى الله عليه وآله من المدينة الذي كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة ، ووصوله إلى مكّة يوم الخميس لأربع مضين من ذي الحجّة ، وأن أوّل ذي الحجّة كان يوم الإثنين ، فيوم عرفة يوم الثلاثاء ، وعيد الأضحى الأربعاء ، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجّة كما سيأتي .. فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً ، ولكنّه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات ، مع أنّها كانت بعده !
تاسعاً : إن القول بأنّ يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه رواياتهم التي تقول إنّه صلّى الله عليه وآله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين !
فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي صلّى الله عليه وآله في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل ومن ٩ ذي الحجة الى ١٢ ربيع الأوّل أكثر من تسعين يوماً .. فلا بدّ لهم إمّا أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنّها في ٢٨ من صفر ، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير ١٨ ذي الحجّة.
ـ قال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٥٩
وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : مكث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. انتهى.
ـ وذكر نحوه في : ٢ / ٢٥٧ عن البيهقي في شعب الإيمان.
ـ وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي : ٧ / ٣
وروى أبو عبيد ، عن حجاج ، عن ابن جريح أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يبق بعد نزول قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إلّا إحدى وثمانين ليلة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم ١٢٩٨٤ ، ورواه الطبري في تفسيره : ٤ / ١٠٦ عن ابن جريح قال : حدّثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجّاج عن ابن جريج قال : مكث النبي صلّى الله عليه وآله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
ـ وقال القرطبي في تفسيره : ٢٠ / ٢٢٣ :
وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجّة الوداع ثمّ نزلت : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. فعاش بعدهما النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمانين يوماً. ثمّ نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً ، ثمّ نزل لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ. فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوماً. ثمّ نزل وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيّام. وقيل غير هذا. انتهى.
ورواية ابن عمر تؤيّد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين ، ولكنّه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنّها آخر آية ، ومن ناحية أخرى خالف أباه في أنّ آية إكمال الدين نزلت في عرفة ، وقال إنّها نزلت بعد سورة النصر بمنى ، يعني بعد انتهاء حجّة الوداع وسفر النبي صلّى الله عليه وآله ، واقترب من القول بنزولها في الغدير !!
ـ وقال الأميني في الغدير : ١ / ٢٣٠
وهو الذي يساعده الإعتبار ويؤكّده النقل الثابت في تفسير الرازي : ٣ / ٥٢٩ عن أصحاب الآثار : إنّه لما نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعمر بعد نزولها إلّا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : ٣ / ٥٢٣ ، وذكر المؤرّخون منهم أن وفاته صلّى الله عليه وآله في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الإثنين وثمانين يوماً ، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة ..
وعلى أيّ فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الأيّام حينئذ. انتهى.
كما تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة ، رواياتهم التي تنصّ على أن الآية نزلت يوم الإثنين .. ففي دلائل البيهقي : ٧ / ٢٣٣ : عن ابن عبّاس قال : ولد نبيّكم صلّى الله عليه وآله يوم الإثنين ، ونبئ يوم الإثنين ، وخرج من مكّة يوم الإثنين ، وفتح مكّة يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وتوفّي يوم الإثنين.
ـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٩٦
رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه : وفتح بدراً يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ، وبقيّة رجاله ثقات من أهل الصحيح. انتهى.
وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة .. ولكن علته الحقيقيّة عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر ، كما صرح به السيوطي وابن كثير ! فقد قال ابن كثير في سيرته : ١ / ١٩٨ : تفرد به أحمد ، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة ، وزاد : نزلت سورة المائدة يوم الإثنين : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به ، وزاد أيضاً : وكانت وقعة بدر يوم الإثنين. وممّن قال هذا يزيد بن حبيب. وهذا منكرٌ جداً !! قال ابن عساكر : والمحفوظ أن بدراً ونزول : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الجمعة وصدق ابن عساكر. انتهى.
وقد تقدّم أنّ علّة نكارته عند ابن كثير أنّه مخالف لقول عمر ، وقول معاوية ! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة ، بل قال إنّه مخالفٌ للمحفوظ ، أيّ المشهور عندهم ، وهو قول عمر.
وينبغي الإلفات إلى أن الإشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الإثنين إنّما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به ، وإلّا فنحن لا نقبل أنه صلّى الله عليه وآله لم يبق بعد الآية إلّا ثمانين يوماً لأن المعتمد عندنا أن الآية نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، وأنّ وفاته صلّى الله عليه وآله كانت في يوم الثامن والعشرين من صفر ، فتكون الفاصلة بنحو سبعين يوماً.
وقد ثبت عندنا أنّ الآية نزلت يوم الخميس ، وفي رواية يوم الجمعة ، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي صلّى الله عليه وآله كانت يوم الإثنين ، وأنّ عليّاً عليه السلام صلّى معه يوم الثلاثاء ، وأنّ وفاته صلّى الله عليه وآله كانت في يوم الإثنين أيضاً ، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الإثنين أيّ أكثرها ، ثمّ نزلت بقيتها بعد ذلك ، ومنها آية التبليغ ، وآية إكمال الدين.
عاشراً : إنّ القول بأنّ يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي صلّى الله عليه وآله من المدينة ، وأنّه كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة. وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت عليهم السلام ، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجّة.
وذلك ، لأنّ سفر النبي صلّى الله عليه وآله كان في يوم الخميس ، أيّ في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة ، لأربع بقين من ذي القعدة هي : الخميس والجمعة والسبت والأحد .. ويكون أوّل ذي الحجة يوم الإثنين ، ووصول النبي صلّى الله عليه وآله إلى مكّة عصر الخميس الرابع من ذي الحجّة في سلخ الرابع ، كما في رواية الكافي : ٤ / ٢٤٥ ، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء ، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجّة. وهذه نماذج من روايات أهل البيت عليهم السلام في ذلك :
ـ ففي وسائل الشيعة : ٩ / ٣١٨
محمّد بن إدريس في « آخر السرائر » نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال : خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله لأربع بقين من ذي القعدة ، ودخل مكّة لأربع مضيْن من ذي الحجّة ، دخل من أعلى مكّة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفلها.
ـ وفي الكافي : ٤ / ٢٤٥
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : حجّ رسول الله صلّى الله عليه وآله عشرين حجّة .. إن رسول الله صلّى الله عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ، ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ عليه : وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله يحجّ في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحجّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه ، أو يصنع شيئاً فيصنعونه ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله في أربع بقين من ذي القعدة ، فلمّا انتهى إلى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل ، ثمّ خرج حتّى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلّى فيه الظهر ، وعزم بالحجّ مفرداً ، وخرج حتّى انتهى إلى البيداء عند الميل الأوّل فصف له سماطان ، فلبّى بالحجّ مفرداً ، وساق الهدي ستّاً وستّين أو أربعاً وستّين ، حتّى انتهى إلى مكّة في سلخ أربع من ذي الحجّة فطاف بالبيت سبعة أشواط ، ثمّ صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام ، ثمّ عاد إلى الحجر فاستلمه ..
ـ وفي المسترشد / ١١٩ :
العبدي عن أبي سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا الناس إلى علي عليه السلام بغدير خم ، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ، ثمّ دعا الناس ، وأخذ بضبعيه ورفعه حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيه ، ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. انتهى.
ويؤيّد قول أهل البيت عليهم السلام ما روته مصادر الفريقين من أن النبي صلّى الله عليه وآله كان لا يبدأ سفره إلّا يوم الخميس ، أو قلما يبدأه في غيره ، كما في صحيح البخاري : ٤ / ٦ وسنن أبي داود ١ / ٥٨٦ ، وتنصّ رواية ابن سيّد الناس في
عيون الأثر : ٢ / ٣٤١ على أن سفر النبي من المدينة كان يوم الخميس.
وروى في بحار الأنوار : ١٦ / ٢٧٢ عن الكافي بسندٍ مقبول عن أبي عبد الله صلّى الله عليه وآله قال : كان النبي صلّى الله عليه وآله إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس ، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد ، دخل يوم الجمعة. انتهى.
ويؤيّد قول أهل البيت عليهم السلام أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته صلّى الله عليه وآله كانت لأربع بقين من ذي القعدة ، كما يأتي من سيرة ابن كثير.
بل يؤيّده أيضاً ، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلّى الله عليه وآله كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة ، بدون تحديد يوم راجع البخاري : ٢ / ١٤٦ و ١٨٤ و ١٨٧ و : ٤ / ٧ وفيه « وقدم مكّة لأربع ليالٍ خلون من ذي الحجّة » ، والنسائي : ١ / ١٥٤ و ٢٠٨ و : ٥ / ١٢١ ، ومسلم : ٤ / ٣٢ ، وابن ماجه : ٢ / ٩٩٣ ، والبيهقي : ٥ / ٣٣ ، وغيرها.
ويؤيّده أيضاً أن مدّة سيره صلّى الله عليه وآله من المدينة إلى مكّة لا تزيد على ثمانية أيّامٍ ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه ، والذي هو في حدود ٤٠٠ كيلومتراً ، وملاحظة سرعة السير ، حتّى أنّ بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم شدها.
وملاحظة أن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكّة أبداً.
وملاحظة روايات رجوعه ووصوله إلى المدينة أيضاً ، مع أنّه توقّف طويلاً نسبياً في الغدير .. الخ.
ثمّ بملاحظة الروايات التي تتّفق على وصوله إلى مكّة في الرابع من ذي الحجّة. كما رأيت في روايات أهل البيت عليهم السلام ورواية البخاري الآنفة.
وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍ بقين من ذي الحجّة ، كما في عمدة القاري ، وإرشاد الساري ، وابن حزم ، وهامش السيرة الحلبية : ٣ / ٢٥٧ ، لأنّها تستلزم أن تكون مدّة السير إلى مكّة عشرة أيّام !
وبهذا يتّضح حال القول المخالف لرواية أهل البيت عليهم السلام الذي اعتمد أصحابه رواية « خمس بقين من ذي القعدة » وحاولوا تطبيقها على يوم السبت ، ليجعلوا أوّل ذي الحجّة الخميس ، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقاً لقول عمر ، بل تراهم ملكيين أكثر من الملك ، لما تقدم عن عمر من أن يوم عرفة كان يوم الخميس.
وممّن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات : ٢ / ١٢٤ ، والواقدي في المغازي : ٢ / ١٠٨٩ وكذا في هامش السيرة الحلبية : ٣ / ٣ ، والطبري : ٣ / ١٤٨ ، وتاريخ الذهبي : ٢ / ٧٠١ ، وغيرهم.
وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيّام هي : السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ويكون أوّل ذي الحجّة الخميس ، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة ، وتكون مدّة السير إلى مكّة تسعة أيّام ، إلّا أن يكون الراوي تصوّر أن ذي القعدة كان تامّاً ، فظهر ناقصاً.
وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول ، فقال في سيرته : ٤ / ٢١٧ :
وقال أحمد .. عن أنس بن مالك الأنصاري قال : صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات ، ثمّ صلّى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف ، في حجّة الوداع. تفرد به أحمد من هذين الوجهين ، وهما على شرط الصحيح. وهذا ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعاً.
ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم ، لأنّه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لأنّه لا خلاف أن أوّل ذي الحجّة كان يوم الخميس لما ثبت « بالتواتر والإجماع » من أنّه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة ، وهو تاسع ذي الحجّة بلا نزاع.
فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لبقي في الشهر ستّ ليال قطعاً : ليلة الجمعة والسبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء. فهذه ستّ ليال. وقد قال ابن عبّاس وعائشة وجابر إنّه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر أنّه يوم الجمعة لحديث أنس ، فتعيّن على هذا أنّه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت ، وظنّ الراوي أنّ الشهر يكون تامّاً فاتّفق في تلك السنة نقصانه ، فانسلخ يوم الأربعاء واستهلّ شهر ذي الحجّة ليلة الخميس. ويؤيّده ما وقع في رواية جابر : لخمس بقين أو أربع.
وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه. والله أعلم. انتهى.
ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات ، لأنّه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه ، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري ، وتشكيك النسائي. وجزم ابن حزم بأن سفره صلّى الله عليه وآله كان يوم الخميس.
ونلاحظ أنّ ابن كثير استدلّ على أنّ خروج النبي صلّى الله عليه وآله يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال « لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنّه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة » فأيّ تواترٍ وإجماعٍ يقصد ، وما زال في أوّل البحث ؟!
كما أنّه استدلّ على أن سفر النبي صلّى الله عليه وآله لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلّى الظهر والعصر ولم يصلّ الجمعة ، وهو استدلالٌ يرد نفسه ويؤيّد قول أهل البيت عليهم السلام بأن بدء سفره كان الخميس لأربع بقين من ذي القعدة !
وتقدّمت الرواية عندنا أنّه عليهم السلام صلّى الظهر والعصر في ذي الحليفة.
ولو صحّت رواية أنس بأنّه صلّى الظهر في مسجده في المدينة ، ثمّ صلّى العصر في ذي الحليفة ، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس ، بل يكون معناه أنّه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة ، وواصل سفره صلّى الله عليه وآله.
والنتيجة : أنّ القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة ، يرد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ ، سواء في منطقه ، أم في تاريخه وتوقيته .. تستوجب من الباحث المنصف أن يتوقّف ولا يأخذ به.
فيبقى رأي أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم في سبب نزول الآية بدون معارض ، لأنّ المعارض الذي لا يستطيع النهوض للمعارضة كعدمه .. والمتن الكسيح لا ينفع معه السند الصحيح !!
وفي الختام : فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلهيٌّ عظيمٌ « عيد إكمال الدين وإتمام النعمة » بل ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنّه أعظم الأعياد الإسلاميّة على الاطلاق ، ودليله المنطقي واضحٌ ، حيث ارتبط العيد الأسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة ، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم ، وارتبط عيد الأضحى بعبادة الحجّ .. أمّا هذا العيد ، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الإسلام كلّه على الأمّة ، وقد تحقّق في رأي إخواننا السنّة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آليةٍ لقيادة مسيرته ..
وتحقّق في رأينا بإكمال تنزيل الأحكام ، ونعمة الحلّ الإلهي لمشكلة القيادة وإرساء نظام الإمامة إلى يوم القيامة ، في عترة خاتم النبيّين صلّى الله عليه وآله.
ومادام جميع المسلمين متّفقون على أنّه عيدٌ شرعي ، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكّروهم ورؤساؤهم أن تخسر الأمّة أعظم أعيادها ، ولا يكون له ذكرٌ في مناسبته ، ولا مراسمُ تناسب شرعيّته وقداسته ؟!
فهل يستجيب علماء إخواننا السنّة إلى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب .. وإعادته إلى حياة كلّ المسلمين ، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم !
مقتبس من كتاب : [ آيات الغدير ] / الصفحة : 239 ـ 284
التعلیقات