البعد الأخلاقي للنهضة الحسينيّة
عبّاس الذهبي
منذ 9 سنواتالبعد الأخلاقي للنهضة الحسينيّة
سلوك سيد الشهداء عليه السلام وسيرته الأخلاقيّة تعكس سمو نفسه وتربيته في حجر جدّه محمّد صلّى الله عليه وآله وأبيه علي عليه السلام ، وتجسيده للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.
وقد تجسدت خصاله الكريمة وسجاياه السامية في مختلف الميادين والمواقف في ثورة الطف ، منها رفضه القاطع مبايعة يزيد ، فخرج من المدينة وامتنع عن مبايعته حتّى في أقسى الظروف التي مرّت به في كربلاء من حصار وعطش ومختلف التحدّيات ، بل استقبل الموت بعزّة وشموخ ، وسقى الحرّ وجيشه طوال الطريق ، وقَبِل يوم عاشوراء توبة الحرّ.
ورفع البيعة عن أنصاره لينصرف من يشاء منهم الإنصراف ، وكان يعطف على أطفال مسلم بن عقيل بعد شهادة أبيهم ، كما صبر على كلّ المصائب والشدائد التي واجهته في ذلك اليوم ومنها مقتل أصحابه وأهل بيته.
وعلى الرغم من كلّ تلك المواقف العصيبة والوحدة القاتلة والعطش الشديد ، قاتل أعداءه كالليث ولم ترهبه كثرتهم. كان يرى أنّ نهضته قائمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأشار عدّة مرّات أثناء مسيره إلى كربلاء إلى هوان الدنيا وتصرّمها ، وبيّن زهده فيها ، وتحمّل في يوم الطفّ كلّ ما رآه من عدوّه من سوء الخلق ولؤم الطباع. وبعد استشهاده وجدوا على أكتافه آثار أكياس الطعام التي كان يحملها إلى الفقراء ، إلى غير ذلك من خصال نفسه الزكية وسمات نهضته الأخلاقيّة التي يمكن الإشارة إلى أهمّها بالنقاط التالية :
١ ـ الإيثار :
وهو من أبرز المفاهيم والدروس المستقاة من واقعة الطف ، والإيثار يعني الفداء وتقديم شخص آخر على النفس ، وبذل المال والنفس والنفيس فداءً لمن هو أفضل من ذاته. وفي كربلاء شوهد بذل النفس في سبيل الدين ، والفداء في سبيل الإمام الحسين عليه السلام ، والموت عطشاً لأجل الحسين عليه السلام ، وأصحابه ما داموا على قيد الحياة لم يدعوا أحداً من بني هاشم يبرز إلى ميدان القتال ، إيثاراً منهم على أنفسهم.
وفي ليلة عاشوراء لمّا رفع الإمام عليه السلام عنهم التكليف لينجوا بأنفسهم ، قاموا الواحد تلو الآخر ، وأعلنوا عن استعدادهم للبذل والتضحية. يروي الشيخ المفيد رحمه الله : « أنّ الحسين عليه السلام قال لأتباعه : ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً. فقال له اخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبدالله بن جعفر : لم نفعل ذلك لنبقى بعدك ؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي رضوان الله عليه واتّبعته الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.
فقال الحسين عليه السلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم. قالوا : سبحان الله ، فما يقول الناس ؟! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا ـ خير الأعمام ـ ولم نرم معهم. بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا والله ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : انخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقّك ؟ أما والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، والله لا نخليك حتّى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلّى الله عليه وآله فيك ، والله لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتى ألقى حمامي » (1).
ووقف بعض أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ظهيرة يوم عاشوراء ، عندما وقف لصلاة الظهر ، يقونه سهام العدو بصدورهم ، وخاض العبّاس نهر الفرات بشفاه عطشى ، ولما أراد تناول الماء تذكّر عطش الحسين والأطفال فلم يشرب منه ، وقال (2) :
يا نفس من بعد الحسين هوني |
وبعده لا كنت أن تكوني |
|
هذا الحسين وارد المنون |
وتشربين بارد المعين |
تالله ما هذا فعال ديني
ورمت زينب عليها السلام بنفسها في الخيمة المشتعلة بالنار لإنقاذ الإمام زين العابدين منها ، وحينما صدر الأمر في مجلس يزيد بقتل الإمام السجّاد عليه السلام فدته زينب عليها السلام بنفسها.
وهناك أيضاً عشرات المشاهد الاُخرى التي يعتبر كلّ واحد منها أروع من الآخر ، وكلّ موقف منها يعطي درساً من دروس الإيثار للأحرار ، فإذا كان المرء على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل شخص آخر أو في سبيل العقيدة ، فهذا دليل على عمق إيمانه بالآخرة والجنّة وبالثواب الإلهي ، قال الإمام الحسين عليه السلام في بداية مسيره إلى كربلاء : « من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطِّنا على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى » (3).
وهذه الثقافة نفسها ـ ثقافة الإيثار ـ هي التي دفعت بعمرو بن خالد الصيداوي لأن يخاطب الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء قائلاً : « يا أبا عبدالله جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك وكرهت أن أتخلّف فأراك وحيداً بين أهلك قتيلاً. فقال له الحسين عليه السلام : تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة. فتقدّم فقاتل حتّى قتل رضوان الله عليه » (4).
كما أشارت زيارة عاشوراء إلى صفة الإيثار التي يتحلّى بها أصحاب الحسين ، فوصفتهم بالقول : « الّذين بذلوا مُهجهم دون الحسين عليه السلام » (5).
٢ ـ الشجاعة :
وهي الاقدام عند منازلة الخصوم وعدم تهيّب المخاطر ، واقتحام الخطوب ، وتعتبر الشجاعة من الصفات المهمّة التي تميّزت بها شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته ، إذ نقرأ عن الإندفاع والحماس المنقطعي النظير الذي جسدوه في سوح الوغى ، والتسابق على بذل الأرواح رخيصةً فداءً للدين والمبادئ. ورسمت ملحمة كربلاء ـ منذ انطلاقها وحتّى مراحلها الأخيرة ـ مشاهد تتجسّد فيها معالم الشجاعة بشتّى صورها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، فالتصميم الذي أبداه الإمام الحسين عليه السلام في معارضة يزيد ورفض البيعة له ، وعزمه الراسخ على المسير نحو الكوفة والتصدّي لأنصار يزيد ، من أمثال ابن زياد ، وعدم إنهيار معنويّاته لسماع الأخبار والأوضاع التي كانت تجري في الكوفة ، وإعلانه على الملأ عن الإستعداد لبذل دمه والتضحية بنفسه في سبيل إحياء الدين ، وعدم الخوف من كثرة الجيش المعادي على الرغم من كثرة عدده وعدته ، ومحاصرة هذا الجيش له في كربلاء ، مع عدم استسلامه ، والقتال العنيف الذي خاضه بعد ذلك مع جنوده وأهل بيته ، وصور البطولة الفرديّة التي أبداها أخوه العبّاس ، وعلي الأكبر ، والقاسم ، وعامّة أبناء علي وأبناء عقيل ، والخطب التي ألقاها الإمام السجاد وزينب عليهما السلام في الكوفة والشام وغيرها من المواقف والمشاهد البطولية تعكس بأجمعها عنصر الشجاعة الذي يعدّ من أوّليات ثقافة عاشوراء.
وعلى وجه العموم كان آل الرسول أمثلة خالدة في الشجاعة والاقدام وثبات الجنان ، وكانت قلوبهم خالية من الخوف من مواجهة الحتوف ، وكانت ساحات القتال في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وحروب علي عليه السلام في الجمل وصفين والنهروان شاهداً يعكس شجاعة آل البيت عليهم السلام.
وقد اعتبر الإمام السجاد عليه السلام الشجاعة من جملة الخصال البارزة التي منَّ الله بها على هذه الأسرة الكريمة ، وذلك لما قال في خطبته في قصر الطاغية يزيد : « فضلنا أهل البيت بستّ خصال : فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلّة في قلوب المؤمنين ، وآتانا ما لم يؤت أحداً من العالمين من قبلنا ، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب » (6).
وكان لهذه الشجاعة موارد مختلفة ، فهي في مجال القول واللسان ، وكذلك في تحمّل أهوال المنازلة ومقاتلة العدوّ ، والإغارة الفرديّة على صفوف جيشه ، وكذلك في تحمّل المصائب والشدائد ، وعدم الإنهيار والقبول بالدنيّة. بدليل أنّه لما اشتدّ القتال ، قال : « أما والله لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله تعالى وأنا مخضّب بدمي » (7). حتّى أنّ العدوّ والصديق قد أثنى على شجاعة الحسين عليه السلام وصحبه وأهل بيته ، ألم يخاطب عمر بن سعد قومه بالقول : « الويل لكم ، أتدرون من تبارزون ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب » (8).
وما أمر المجرم عمر بن سعد بالهجوم الشامل على أفراد جيش الإمام ورميهم بالحجارة إلّا دليلٌ على تلك الشجاعة الفريدة.
وكنتيجة لما يتحلّى الحسين عليه السلام وأسرته من شجاعة حصّلوا على أكبر عدد من أوسمة الشهادة ، يقول عباس محمود العقاد : « فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدرة ... وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين » (9).
ومع أنّ الأرقام التي تذكرها المقاتل عن عدد قتلى العدوّ نتيجة لهجوم أصحاب الإمام عليهم ، قد تكون مبالغاً فيها ، إلّا أن الأمر الثابت الذي لا يمكن إنكاره هو الشجاعة المثيرة لهذه الثلّة المؤمنة ، التي بذلت نفسها في سبيل الله ، ولم تطاوعها نفسها بترك قائدها في الميدان وحده.
٣ ـ الشهامة والمروءة :
وتعتبر من المعالم الأخلاقيّة والنفسيّة البارزة لدى الحسين عليه السلام وأنصاره ، والتي تجسّدت في ملحمة عاشوراء ، وهذه النفسيّة التي تجعل الإنسان يشمئز من الطغاة ، ويرفض الانصياع لسلطان الظلم ، ويحبّ الحريّة والفضيلة ، ويتجنّب الغدر ونقض العهد وظلم الضعفاء ، ويدافع عنهم ، ولا يتعرض للأبرياء ، ويقبل العذر ، ويقيل العثرة ، ويعترف بالحقّ الإنساني للآخرين. هذه الأمور كلّها تعتبر من معالم الشهامة والمروءة التي تجسدت على أرض الطف.
لقد رفض سيّد الشهداء عليه السلام عار البيعة ليزيد ، ولما واجه جيش الكوفة في طريق كربلاء ، رفض اقتراح زهير بن القين الذي أشار عليه بمحاربة هذه الفئة من قبل أن يجتمع إليهم سائر الجيش ، وقال عليه السلام : « وما كنت لأبدأهم بالقتال » (10) ، وهذا نموذج رائع من شهامة الحسين عليه السلام.
ولما لقي جيش الحر وقد أضرّ بهم العطش أمر بسقيهم الماء هم وخيلهم ، على الرغم من أنّهم جاءوا لمجابهته واغلاق الطريق عليه ، وكان من بينهم علي بن الطعان المحاربي الذي ما كان قادراً على شرب الماء من فرط عطشه ، ويروي لنا القضيّة بنفسه ، قال : « كنت مع الحُرّ يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ الراوية. ثمّ قال : يابن أخي أنخ الجمل. فأنخته فقال : اشرب ، فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليه السلام : اخنث السقاء. أي اعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت ، وسقيت فرسي » (11). وهذا مثال آخر على مروءته عليه السلام.
ولما عزم الحرّ الرياحي على مفارقة جيش عمر بن سعد والإنضمام إلى معسكر الحسين عليه السلام ، وقف الحرّ بين يدي الحسين عليه السلام منكسراً معلناً توبته واستعداده للتضحية بنفسه قائلاً : هل لي من توبة ؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام : « نعم يتوب الله عليك ، فانزل » (12) ، وهذا نموذج آخر على مروءة الحسين عليه السلام ، فهو يقبل عذر المعتذر ، ولا يغلق باب التوبة في وجهه.
وفي قيظ يوم عاشوراء واشتداد حرّ الرَّمضاء ، لما رأى الحسين عليه السلام هجوم الجيش على خيام عياله صاح بهم يعنّفهم : « ويلكُم ! إنْ لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا في أمر دُنياكم أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم » (13). وهذا أيضاً شاهد آخر على مروءته وشهامته ، فهو ما دام حيّاً لم يكن قادراً على رؤية العدوّ وهو يهجم على عياله ، وقد شوهدت هذه الغيرة والحميّة من الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره في ساحة القتال يوم العاشر من المحرّم.
وهذه السجيّة قد استقاها من أبيه أمير المؤمنين عليه السلام الذي غلب جيش الشام في صفين ، وانتزع منه شريعة الفرات ، ثمّ قال لجنده : « خلّوا بينهم وبينه » (14) ، ولكن لؤم معاوية الذي ورثه يزيد دعاه إلى منع الماء عن جيش الحسين بن علي عليه السلام.
روى الشيخ الصدوق قدّس سرّه أنّ عبيد الله بن زياد كتب إلى عمر بن سعد : « إذا أتاك كتابي هذا ، فلا تمهلنّ الحسين بن علي ، وخذ بكظمه ، وحُلْ بين الماء وبينه » (15). فالحسين عليه السلام قد ورث الشهامة عن علي عليه السلام ، ويزيد ورث الخسة عن معاوية.
٤ ـ العزّة ورفض الذّل :
وهي من أهمّ الدروس الأخلاقيّة التي ميّزت نهضة كربلاء ، ومن أوّليات ثقافة عاشوراء. قال الحسين عليه السلام : « موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ » (16). وقال عليه السلام لما عرضوا عليه الإستسلام والبيعة : « لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد » (17). وفي كربلاء حينما خيّروه بين البيعة أو القتال ، قال : « ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام » (18). وعند اندلاع معركة الطفّ كان يكرّ على صفوف العدوّ مرتجلاً (19) :
القتل أولى من ركوب العار |
والعار أولى من دخول النار |
لقد كانت نهضة كربلاء درسا عمليّاً من دروس العزّة والكرامة ورفض الذلّ ، واستلهم الثوّار منها روح المقاومة والتحرّر.
٥ ـ الصبر :
ويعني الثبات والصمود والمقاومة ، ومجابهة العوامل التي تعيق الإنسان عن بذل مساعيه في سبيل هدفه ، إضافة إلى تحمّل المصاعب والشدائد في سبيل أداء الواجب وإحراز النصر.
وقد رسمت واقعة كربلاء أجمل صور الصمود والثبات في سبيل العقيدة وتحمّل الصعاب ، حتّى أضحت سبباً لمجد وخلود تلك الملحمة ، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الصبر يهوّن الفجيعة » (20) ، فقد هانت بعين الحسين عليه السلام هذه المصيبة الجسيمة بفعل الصبر والصمود الذي تجسّد في يوم عاشوراء ، لقد أنزل الله تعالى عليه الصبر بقدر التحديات والمصائب التي ألّمت به ، وصدق الإمام الصادق عليه السلام « إن الله ينزل الصبر على قدر المصيبة » (21).
وفي ملحمة كربلاء كان الصبر مشهوداً في القول والعمل لدى سيّد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الصابرين الأوفياء ، فلمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق ألقى خطبة قال فيها : « رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين » (22).
وخاطب أصحابه في أحد المنازل على طريق العراق ليلفت أنظارهم إلى خطورة الموقف وصعوبة ما هم مقبلين عليه فقال : « أيّها الناس ، من كان منكم يصبر على حدّ السّيف وطعن الأسنّة فليقم معنا ، وإلّا فلينصرف عنّا » (23) ، ولكن أصحابه لم يبدر منهم إلّا ما أحبّ هو من الصبر عند لقاء الأقران ، وتحمّلوا شدّة العطش ، وضراوة هجوم العدوّ ، نتيجة الصبر والثبات على الشهادة على الرغم من قلّة الناصر ، بل كانوا في غاية الفرح والسرور ، حتّى ان بعضهم كان يمازح في تلك الساعة ، كما سيأتي. وكان الحسين عليه السلام يكرر على أسماعهم ويذكرهم بأهميّة الصبر ، قائلاً : « صبراً يا بنيّ عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، فوالله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبداً » (24).
وعلّم درس الصبر للنساء لعلمه باتصافهنّ بالرّقة وسرعة الجزع عند المصيبة ، فقد جمع أخته زينب عليها السلام ونساءه ودعاهن إلى الصبر والتحمّل قائلاً : « يا أختاه تعزّي بعزاء الله ، فإنّ سكّان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البريّة يهلكون ، ثمّ قال : يا أختاه يا أمّ كلثوم ، وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً » (25).
وكانت كلّ لحظة من وقائع الحادثة تعبيراً عن المقاومة والثبات ، وحتّى الكلمات الأخيرة التي تلفّظ بها سيّد الشهداء حين سقط على الأرض إنّما تعكس هذه الروح من الصبر والصمود ، إذ قال مخاطباً ربّه : « صبراً على قضائك ، ولا معبود سواك ، يا غياث المستغيثين » (26).
٦ ـ الوفاء :
الوفاء معناه التمسّك بالعهد والثبات على الميثاق والعمل بالواجب الإنساني والإسلامي في إزاء شخص آخر جدير بذلك. وهذه الخصلة من أولويّات معجم عاشوراء ، ولها في قاموس الشهداء مكانة رفيعة ، وهي من أشرف الخصال ودليل على المروءة. قال علي عليه السلام : « أشرف الخلائق الوفاء » (27).
وكانت عاشوراء ساحة وفاء من جهة ، وغدر من جهة اُخرى ، وضرب العباس بن علي عليه السلام مثلاً في الوفاء ، فقد رفض كتاب الأمان الذي عرضه شمر بن ذي الجوشن عليه. ولم يترك أخاه الحسين وحيداً ، وقدم أخوته الثلاثة فداءً له.
وعلى الضدّ من موقف أهل الكوفة الذين كتبوا إلى الحسين عليه السلام يدعونه ، ولما جاءهم غدروا به ، وهبّوا لقتاله ، وقف آخرون على العهد وضحّوا بأنفسهم فداءً للحسين عليه السلام ، وهم الذين أشارت إليهم الزيارة : « السلام على الأرواح التي حلّت بفِنائك » (28).
وأشار الحسين عليه السلام في خطبه وكلماته على طول الطريق إلى غدر وخذلان وغرور ونكث أهل الكوفة ، ونقضهم العهد ، وخلعهم البيعة ، وعاب فيهم هذه الصفات. أمّا الحسين عليه السلام فقد وفى بعهده مع ربّه ، وكثيراً ما تطالعنا الزيارات بعبارات ، من قبيل : « أشهد أنّك بلغت ونصحت ووفيت وأوفيت » (29). وجاء في زيارة العباس عليه السلام : « وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله ... فجزاك الله أفضل الجزاء ، وأكثر الجزاء ، وأوفر الجزاء ، وأوفى جزاء ممن وفى ببيعته ، واستجاب له دعوته ، وأطاع ولاة أمره » (30).
صفوة القول وصفت ثورة الحسين عليه السلام بأنّها قامت على أساس الأخلاق والمروءة. وكانت جهاداً للقضاء على الرذيلة ونشر الفضيلة. وكانت تنتهج الأسلوب الشريف عند مواجهة الخصم ، وتحلّى أفرادها بالغيرة والشجاعة والتضحية ، والصبر عند الشدائد ، والثبات على طريق الحقّ.
الهوامش
1. الإرشاد ٢ : ٩١ ـ ٩٢.
2. ينابيع المودّة ، القندوزي ٢ : ١٦٥ / الباب الحادي والستّون.
3. كشف الغمّة / الإربلي ٢ : ٣٣٩ ، دار الأضواء ، بيروت ، ط ٢ ـ ١٤٠٥ هـ ، اللهوف : ٣٨.
4. اللهوف : ٦٥.
5. اللهوف : ٥ ، مصباح المتهجّد / الشيخ الطوسي : ٧٧٦ ، مؤسّسة فقه الشيعة ، بيروت ـ ط ١ ـ ١٤١١ هـ ، كامل الزيارات / ابن قولويه : ٣٢٢ ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط ١ ـ ١٤١٧ هـ.
6. مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٦٨.
7. اللهوف : ٦١.
8. مناقب آل أبي طالب ٤ : ١١٠.
9. المجموعة الكاملة ـ الحسين عليه السلام أبو الشهداء ٢ : ٢٨٠.
10. الإرشاد ٢ : ٨٤.
11. الإرشاد ٢ : ٧٨.
12. لواعج الأشجان : ٢١٩.
13. تاريخ الطبري ٦ : ٢٤٤ ، حوادث سنة إحدى وستين.
14. شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣١٩.
15. الأمالي : ٢٢٠ ، المجلس الثلاثون.
16. مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب ٤ : ٢٢٤.
17. الإرشاد ٢ : ٩٨.
18. اللهوف : ٥٩.
19. اللهوف : ٧٠.
20. عيون الحكم والمواعظ / علي بن محمّد الليثي الواسطي : ٣٣ ، دار الحديث ط ١ ـ ١٣٧٦ ش.
21. مستطرفات السرائر / ابن ادريس الحلي : ٥٥٠ ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ط ٢ ـ ١٤١١ هـ ، من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ٤ : ٤١٦ ، جامعة المدرسين ـ، قم ط ٢ ـ ١٤٠٤ هـ.
22. مثير الأحزان : ٢٩ ، واللهوف : ٣٨.
23. ينابيع المودّة ، القندوزي ٣ : ١٦٣ / الباب الحادي والستون.
24. اللهوف : ٦٨.
25. اللهوف : ٥٠.
26. ينابيع المودّة / القندوزي ٢ : / ١٧٤ الباب الحادي والستّون.
27. غرر الحكم : ٢٨٥٩ ، عيون الحكم والمواعظ / الليثي الواسطي : ١١٧.
28. كامل الزيارات / ابن قولويه : ٣٧٦ ، مؤسّسة النشر الإسلامي ط ١ ـ ١٤١٧ هـ.
29. الكافي / الكليني ٤ : ٥٧٦ ، دار الكتب الإسلامية ط ٣ ـ ١٣٦٧ هـ.
30. كامل الزيارات / ابن قولويه : ٤٤١.
مقتبس من كتاب : [ أبعاد النهضة الحسينيّة ] / الصفحة : 52 ـ 65
التعلیقات