هل العصمة تسلب الإختيار ؟
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 4 أشهرالسؤال الأول : هل العصمة تسلب الإختيار ؟
ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية والإختيار ، وتقهره على ترك المعصية ، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم . وقد أُشير في أمالي السيد المرتضى إلى ما ذكرنا ، عند إيراد السؤال التالي :
« ما حقيقة العصمة التي يعتقد وجوبها للأنبياء والأئمة ، وهل هي معنى يضطرّ معه إلى الطاعة ، ويمنع عن المعصية ، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية ، والذمّ لفاعلها. وإن كان معنى يضاهي الإختيار ، فاذكروه ودلّوا على صحّة مطابقته له » (1).
جوابه
إنّ العصمة لا تسلب الإختيار عن المعصوم بأيٍّ من التحاليل التي مضت ، ويتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس ، فقد تقدم أنّ العالِم بوجود الطاقِة الكهربائية في الأسلاك العارية ، لا يمسّها ، والطبيب لا يشرب سؤر المجذومين والمسلولين ، لعلمهما بعواقب فعلهما. ومع ذلك ، فكل منهما ـ في حال اجتنابه عن الفعل ـ قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته وخاطر بها ، ولكنهما لا يقومان به لحبِّ كلٍّ منهما صحتَه وسلامته.
إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين ممكن الصدور بالذات منهما ، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، لا ذاتاً وعقلاً ، وكم فرق بين المحالين. ففي المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكناً بالذات ، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه ، بخلاف الثاني ، فإنّ أصل الفعل ممتنع بذاته ، فلا يصدر لذلك ، لا لعدم الدواعي. وهذا نظير صدور القبيح من الله سبحانه ، فإنّه ممكن بالذات ، فيقع تحت إطار قدرته ، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنم ، لكنه لا يصدر منه ، لكونه مخالفاً للحكمة ، ومبائناً لما وعد.
وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان ، حفظاً للأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الإختيار والقدرة.
وهكذا ، فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي ، بمقتضى ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّ تقواه العالية وعلمه بآثار المعاصي ، واستشعاره عظمة الخالق ، يصدّه عن ذلك ، فهو كالوالد العطوف الذي لا يُقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملء الأرض ذهباً ، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه ، كما يقطع وتين عدوه.
يقول العلامة الطباطبائي : إنّ ملكة العصمة لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا تُخرجها إلى ساحة الإجبار والإضطرار . كيف ، والعلم من مباديء الإختيار ، ومجرّد قوة العلم لا يوجب إلّا قوة الإرادة. كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه ، فإنّه يمتنع باختياره من شربه ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ ، يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (2) ، والضمير في ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ) يرجع إلى الأنبياء. وفي الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا بالله ، غير أنّ الإجتباء والهداية الإلهية ، يمنعان من ذلك.
ومثله قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (3).
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قدرة الأنبياء على المخالفة » (4).
الهوامش
1. أمالي السيد المرتضى ، ج 2 ، ص 347.
2. سورة الأنعام : الآيتان 87 ـ 88.
3. سورة المائدة : الآية 67.
4. لاحظ الميزان ، ج 11 ، ص 179.
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 172 ـ 174
التعلیقات