من الشام إلى المدينة إلى الربذة
الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
منذ شهرينمن الشّام إلى المدينة إلى الرّبذة
روى البلاذري : (1)
لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث ابن الحكم ابن أبي العاص ، ثلاثمائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عز وجل : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) فرفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان. فأرسل الى أبي ذر ، ناتلا مولاه : أن انته عما يبلغني عنك.
فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله. وعيب من ترك أمر الله ؟ فوالله ، لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي ، وخير لي ، من أن أسخط الله برضاه.
فاغضب عثمان ذلك ، واحفظه ، فتصابر ، وكف.
وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ؟
فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله (ص) فيأذن له في ذلك ، وانما صار مكتبه بالشام ، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعا (2) ، اني سمعت رسول الله يقول : اذا بلغ البناء سلعا ، فالهرب ، فاذن لي أن آتي الشام فأغزو هناك. فأذن له.
وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، وبعث اليه معاوية بثلاث مائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ؟ قبلتها ! وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها. وبعث اليه مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك مني ، حين تبعث الي بمال ؟ وردَّها.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة ، وان كانت من مالك ؟ فهذا الاسراف. فسكت معاوية ، وكان ابو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنة نبيه . والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه.
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : ان أبا ذر مفسد عليك الشام ، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية الى عثمان فيه.
وجاء في شرح النهج :
عن جلّام بن جندل الغفاري قال : كنت غلاما لمعاوية على قنسِّرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت اليه اسأله عن حال عملي ، اذ سمعت صارخا على باب داره يقول : أتتكم القطار ، تحمل النار ! اللهم العن الآمرين بالمعروف ، التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.
فازبأرَّ (3) معاوية ، وتغير لونه وقال : يا جلّام أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا.
قال : من عذيري من جندب بن جنادة ! يأتينا كل يوم ، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال : أدخلوه عليَّ.
فجيء بأبي ذر بين قوم يقودنه ، حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية :
يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم ، فتصنع ما تصنع ! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان ، لقتلتك ، ولكني أستأذن فيك.
قال جلّام : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لأنه رجل من قومي ، فالتفت اليه ، فاذا رجل أسمر ضَرْب (4) من الرجال ، خفيف العارضين ، في ظهره جَنأ (5) فأقبل على معاوية وقال :
ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله. أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر. ولقد لعنك رسول الله (ص) ودعا عليك مرّات ألا تشبع.
سمعت رسول الله (ص) يقول : اذا ولي الامة الأعين ، الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه.
فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل.
قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ، أخبرني بذلك رسول الله (ص) وسمعته يقول ـ وقد مررت به ـ : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه الا بالتراب .. الخ ..
فكتب عثمان الى معاوية : ان أحمل جندبا اليّ على اغلظ مركب ، وأوعره ، فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (6) ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
دخوله على عثمان
وفي رواية الواقدي : أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له :
لا أنعم الله بقين عينا |
نعم ولا لقاه يوماً زينا |
تحية السخط اذا التقينا
فقال أبو ذر : ما عرفت اسمي ( قيناً ) قط.
وفي رواية أخرى : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب !
فقال أبو ذر : أنا جندب ، وسماني رسول الله (ص) عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله (ص) الذي سماني به على اسمي.
فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وان الله فقير ونحن أغنياء !
فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا ، لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله (ص) يقول : « اذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، جعلوا مال الله دُوَلا ، وعباده خَوَلا ، ودينه دَخَلا ».
فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟
قالوا : لا.
قال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ؟
فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أني صَدقتُ ! ؟
قالوا : لا والله ، ما ندري.
فقال عثمان : ادعوا الي عليا. فلما جاء ، قال عثمان لأبي ذر : أقصص عليه حديثك في بني العاص. فأعاده.
فقال عثمان لعلي عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله (ص).
قال : لا. وقد صَدق أبو ذر.
فقال : كيف عرفت صِدقهُ ؟
قال : لأني سمعت رسول الله يقول : « ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء ، من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذَرِّ ».
فقال من حضر : أما هذا ، فسمعناه كُلُّنا من رسول الله.
فقال أبو ذر : أحدثكم اني سمعت هذا من رسول الله (ص) فتتهموني ! ما كنت أظن اني أعيش حتى اسمع هذا من أصحاب محمد (7).
وجاء في رواية الواقدي ، عن صهبان مولى الاسلميين.
قال : رأيت أبا ذر يوم دُخل به على عثمان. فقال له : أنت الذي فعلت ، وفعلت !؟
فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ، فاستغشني !
قال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة ، وتحبها ، قد انغلت (8) الشام علينا.
فقال أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك ، لا يكن لأحد عليك كلام.
فقال عثمان : ما لك وذلك ، لا أمّ لك !
قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذرا ، إلا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
فغضب عثمان ، وقال : اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب ، إما ان أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله ، فانه قد فرَّق جماعة المسلمين ، أو أنفيَه من أرض الاسلام.
فتكلم علي عليه السلام ـ وكان حاضرا ـ فقال :
أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون ( وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ).
فأجابه عثمان بجواب غليظ . وأجابه علي عليه السلام بمثله (9) ..
وجاء في مروج الذهب :
وكان في ذلك اليوم قد أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فنثرت البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل الواقف ، فقال عثمان :
إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا ، لأنه كان يتصدق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون.
فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين.
فشال أبو ذر العصا ، فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال :
يا ابن اليهودي ، تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وأنا سمعت النبي (ص) يقول : ما يسرني أن أموت ، وأدَعَ ما يزن قيراطاً (10).
قال الواقدي : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، فمكث كذلك أياماً.
ثم أتي به ، فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله (ص) ورأيت أبا بكر وعُمر ! هل هَدْيُكَ كهديِهم ، أما إنَّك لتبطُش بي بطشَ جبَّار !.
فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا ـ (11) الى آخر الرواية.
وفي مروج الذهب :
فقال له عثمان : وارِ عني وجهك.
فقال : أسير الى مكة. قال : لا والله ؟
قال : فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت ؟ قال : إي والله.
قال : فالى الشام ، قال : لا والله.
قال : البصرة. قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان.
قال : لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك. ولو تركتني في دار هجرتي ، ما أردت شيئا من البلدان ، فسيرني ، حيث شئت من البلاد.
قال : فاني مسيرك الى الربذة.
قال : الله أكبر ، صدق رسول الله (ص) قد أخبرني بكل ما أنا لاق.
قال : عثمان : وما قال لك ؟
قال : أخبرني بأني أمنع عن مكة ، والمدينة ، وأموت بالربذة ، ويتولى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز (12).
نفيه الى الربذة
جاء في شرح النهج ، عن ابن عباس ، قال :
لما أخرج أبو ذر الى الربذة ، أمر عثمان ، فنودي في الناس : ألّا يكلم أحد أبا ذر ، ولا يشيِّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به. فخرج به ، وتحاماه الناس. إلا عليّ بن ابي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه ، وحسنا وحسينا عليهما السلام ، وعمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه.
فجعل الحسن عليه السلام ، يكلم أبا ذر ..
فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم ان أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ ! فان كنت لا تعلم ، فاعلم ذلك.
فحمل علي عليه السلام على مروان ، فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنحَّ ، لَحَاك الله الى النار !
فرجع مروان مغضبا الى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على عليّ ( عليه السلام ) (13).
كلام الامام (ع) لأبي ذر
وودع علي عليه السلام أبا ذر ( رض ) قائلا له :
يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، فأرجُ من غضبتَ له إن القومَ خافوك على دنياهم ، وخِفتَهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرَب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوَجُهم الى ما منعتهم ، واغناك عمَّا منعوك !
وستعلم من الرابحُ غدا ، والأكثرُ حُسَّدا ، ولو أن السمواتِ والأرضينَ كانتا على عبد رتقاً ، ثم اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجا.
لا يؤنسنك الّا الحق ، ولا يُوحشنَّك إلا الباطل ، فلو قبلتَ دنياهم لأحبُّوك ولو قرضتَ منها لأمنُّوك (14).
وجاء في رواية ابن عباس : عن ذكوان ـ وكان حافظاً ـ. كما في شرح النهج.
قال ذكوان : فحفظت كلام القوم. فقال علي عليه السلام : يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقِلى ، ونفوكَ الى الفلا. والله لو كانت السموات .. الخ.
ثم قال علي عليه السلام لأصحابه : « ودِّعوا عمَّكم » ، وقال لعقيل : ودِّع أخاك.
كلام عقيل
فتكلم عقيل : فقال : ما عسى أن نقولَ يا أبا ذر ، وأنت تعلم أنا نحبُّك ، وأنت تُحبُّنا ! فاتق الله ، فان التقوى نجاة ، واصبر ، فان الصبرَ كَرم ، وإعلم أن إستثقالك الصبرَ ، من الجزعِ. واستبطاءَك العافيةَ ، من اليأسِ ، فدَع اليأس والجزع.
كلام الحسن (ع)
ثم تكلم الحسن ، فقال : يا عمَّاه ، لولا أنه لا ينبغي للمودِّع أن يسكت ، وللمشيِّع أن ينصرف لقصر الكلام ، وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم اليك ما ترى ، فضَع عنك الدنيا ، بتذكر فراغها وشِدَّة ما اشتد منها ، برجاء ما بعدها ، واصبِر حتى تلقى نبيَّك (ص) وهو عنك راض.
كلام الحسين (ع)
ثم تكلم الحسين (ع) فقال : يا عمَّاه ، ان الله تعالى قادر أن يغيِّر ما قد يرى ، والله كلَّ يوم هو في شأن ، وقد منَعَك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينَك ، فما أغناك عمَّا منعوك ، واحوجهم الى ما منعتهم ! فاسأل الله الصبرَ والنصرَ واستعذ به من الجشع والجزع ، فان الصبرَ من الدين والكرم ، وان الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخِّر أجلا.
كلام عمَّار بن ياسر
ثم تكلم عمار ـ رحمه الله ـ مغضباً ، فقال :
لا آنس الله من أوحشَك ، ولا آمنَ من أخافك ، أما والله ، لو أردتَ دنياهم ، لأمّنوك ، ولو رضيت أعمالهم ، لأحبُّوك ، وما منع الناسَ أن يقولوا بقولك ، إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، مالوا الى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملكُ لمن غَلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فَخسِروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين !
كلام أبي ذر (رض)
فبكى أبو ذر رحمه الله ـ وكان شيخا كبيرا ـ وقال :
رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ! اذا رأيتكم ، ذكرت بكم رسول الله (ص) ما لي بالمدينة سَكن ولا شجن غيركم ، إني ثقلتُ على عثمان بالحجاز ، كما ثقلتُ على معاوية بالشام. وكَرِه أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فأفسد الناس عليهما ، فسيَّرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ! والله ما أريد إلا الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة.
بين علي (ع) وعثمان
ورجع القوم الى المدينة ، فجاء علي ( عليه السلام ) الى عثمان ، فقال له :
ما حملك على ردّ رسولي ، وتصغير أمري !؟
فقال علي (ع) : أما رسولك ، فأراد أن يردَّ وجهي ، فرددته ، وأما أمرك ، فلم أصغِّره.
قال : أم بلغك نهيي عن كلام أبي ذر ! ؟
قال (ع) : أو كلما أمرت بأمر معصية ، أطعناك فيه !
قال عثمان : أقِد مروان من نفسك.
قال : ممَّ ذا ؟
قال : من شَتمِه ، وجَذبِ راحِلتَه.
قال : أما راحلتُه ، فراحلتي بها ، وأما شتمه إياي ، فوالله لا يشتمني شتمة ، إلا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك.
فغضب عثمان ، وقال : لِم لا يشتمكَ ؟! كأنك خير منه !
قال علي (ع) : إي والله ، ومِنكَ ! ثمّ قام ، فخرج (15).
وبلغ أبا الدرداء ـ وهو في الشام ـ ان عثمان قد سيَّر أبا ذر الى الربذة ، فقال : « إنا لله وانا اليه راجعون ، لو أن أبا ذر قطع لي عضوا أو يدا ، ما هجته ، بعد ان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر (16) »
في الرّبذَة
عن أبي الاسود الدؤلي ، قال :
كنت أحب لقاء أبي ذر ، لاسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له : ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ، أم أخرجت كرها ؟
فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم ، فأُخرجتُ الى المدينة ! فقلت : دار هجرتي وأصحابي ! فأخرجت من المدينة الى ما ترى !.
ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد ، على عهد رسول الله (ص) ، أذ مرَّ بي عليه السلام فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائما في المسجد.
فقلت : ـ بأبي انت وأمي ـ غلبتني عيني ، فنمتُ فيه.
قال : فكيف تصنع ، اذا أخرجوك منه ؟
قلت : الحق بالشام ، فانها أرض مقدَّسة ، وأرض الجهاد.
قال : فكيف تصنع اذا أخرجتَ منها ؟
قلت : أرجع الى المسجد !
قال : فكيف تصنع اذا أخرجوك منه ؟
قلت : آخذ سيفي ، فأضربهم به.
فقال : ألا أدلُّك على خير من ذلك ؟ إنسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع ، فسمعت وأطعت ، وأنا أسمع وأطيع ! والله ليلقَين الله عثمان ، وهو آثم في جنبي (17).
وفي حلية الاولياء ، بسنده عن عبد الله بن خراش ، قال :
رأيت أبا ذر بالربذة ، في ظُلة له سوداء ، له امرأة سحماء ، وهو جالس على قطعة جوالق. فقيل له : انك إمرؤ ما يبقى لك ولد ؟
فقال : الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ، ويدَّخرهم في دار البقاء.
قالوا : يا أبا ذر ، لو اتخذت امرأة غير هذه ؟
قال : لئن أتزوج امرأة تضعني ، أحب اليَّ من امرأة ترفعني.
فقالوا : لو اتخذت بساطا ألين من هذا ؟
قال : اللهم غفرا ! خذ مما خوّلتَ ، ما بدا لك (18).
ودخل عليه قوم من أهل الربذة . فقالوا : يا أبا ذر ! ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي !
قالوا : فما تشتهي ؟
قال : رحمةَ ربي.
قالوا : هل لك بطبيب ؟
قال : الطبيبُ أمرضني (19) !!
كلامه (رض) على قبر ولده
روى الكليني في الكافي ، بسنده عن علي بن ابراهيم ، رفعه ، قال :
لما مات ذر بن ابي ذر ، مسح أبو ذر القبر بيده ، ثم قال :
رحمك الله يا ذر ، والله إن كنت بي بارا ، ولقد قُبِضتَ واني عنك لراض ، أما والله ما بي فقدُك وما علي من غضاضة (20) وما لي الى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطَّلع ، لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك ، عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ! ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلتَ ؟ وماذا قيل لك ؟
ثم قال : اللهم إني قد وهبت له ما افترضتَ عليه من حقي ، فَهب له ما افترضتَ عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني (21).
بَين أبي ذَرّ وَحُذيفَة بن اليَمان
ما كتبه أبو ذر ، الى حُذَيفَة بن اليمان يشكو اليه ما فعل به في كتاب الفصول للسيد المرتضى ، عن أبي مخنف ، قال : حدثني الصلت عن زيد بن كثير ، عن ابي أمامة . قال : كتب أبو ذر الى حذيفة بن اليمان يشكو اليه ما صنع به عثمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد يا أخي. فَخَف الله مخافة يكثر منها بكاء عينيك ، وحرِّر قلبك ، وأسهر ليلك ، وانصَب بدنك في طاعة الله. فحق لمن عَلِم أن النار مثوى من سخط الله عليه ، أن يطول بكاؤه ، ونَصَبُه ، وسهرُ ليله ، حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه. وحق لمن علم أن الجنة مثوى من رضي الله عنه ، أن يستقبل الحق كي يفوز بها ، ويستصغرَ في ذات الله الخروج من أهله وماله ، وقيام ليله ، وصيام نهاره ، وجهاد الظالمين الملحدين بيده ولسانه ، حتى يعلم ان الله أوجبها له ، وليس بعالِم ذلك دون لقاء ربِّه.
وكذلك ينبغي لكل من رغب في جوار الله ، ومرافقة انبيائه ، أن يكون.
يا أخي ، أنت ممن أستريح الى التصريح اليه ببثي وحزني. وأشكو اليه تظاهر الظالمين علي.
إني رأيت الجور ـ يعمل به ـ بعيني ، وسمعته يقال ، فرددته ، فحُرمت العطاء ، وسُيِّرت الى البلاد ، وغُرِّبت عن العشيرة والاخوان ، وحَرَم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعوذ بربي العظيم أن يكون مني هذا شكوى ، أن رُكب مني ما رُكب ، بل انبأتُك أني قد رضيت ما أحب لي ربي ، وقضاه علي ، وأفضيت ذلك اليك ، لتدعوَ الله لي ، ولعامَّة المسلمين بالروح والفرج ، وبما هو أعم نفعا ، وخير مغبَّة وعقبى ـ والسلام.
جواب حذيفة له
فكتب اليه حذيفة :
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد يا أخي. فقد بلغني كتابك ، تُخَوّفني به ، وتحذّرني فيه منقلَبي ، وتحثني فيه على حظ نفسي ، فقديما ـ يا أخي ـ ما ، كنت بي ، وبالمؤمنين حفيَّاً لطيفا. وعليهم حدِبا شفيقا. ولهم بالمعروف آمِرا ، وعن المنكرات ناهيا ، وليس يهدي الى رضوان الله إلا هو ، ولا يُتناهى من سخطه الا بفضل رحمته ، وعظيم منِّه. فنسأل الله ربنا ـ لأنفسنا وخاصَّتنا ، وعامَّتنا ، وجماعة أمَّتنا ـ مغفرة عامة ، ورحمة واسعة ، وقد فهمتُ ما ذكرتَ من تسييرك ، يا أخي ، وتغريبك ، وتطريدك ، فعزَّ والله عليَّ يا أخي ، ما وصل اليك من مكروه ولو كان يُفتدى ذلك بمال ، لأعطيتُ فيه مالي ، طيِّبة بذلك نفسي ، ليصرَف الله عنك ـ بذلك ـ المكروه. والله ، لو سألتُ لك المواساة ، ثم أعطيتُها لأحببت احتمال شطر ما نزل بك ، ومواساتك في الفقر ، والأذى ، والضرر. لكنه ، ليس لأنفسنا ، إلا ما شاء ربنا. يا أخي ، فافزع بنا الى ربنا ، ولنجعل اليه رغبتنا ، فقد استُحصِدنا ! واقترب الصَّرام (22). فكأني ، واياك ، قد دعينا فأجبنا ! وعرضنا على أعمالنا ، فاحتجنا الى ما أسلفنا ! يا أخي : ولا تأسَ على ما فاتك ، ولا تحزن على ما أصابك ، واحتسب فيه الخير. وارتقب فيه من الله أسنى الثواب. يا أخي : لا أرى الموت لي ولك ، إلا خيرا من البقاء ، فانه قد أظلتنا فتن يتلو بعضها بعضا ، كقطع الليل المظلم ، قد انبعثت من مركبها ، ووطئت في خطامها ، تشهر فيها السيوف ، وتنزل فيها الحتوف ! يُقتل فيها من اطلع لها ، والتبس بها ، وركض فيها ، ولا يبقى قبيلة من قبائل العرب ، من الوبر والمدر ، إلا دخلت عليهم ! فأعزّ أهل ذلك الزمان ، أشدهم عتوَّا ! وأذلُّهم ، اتقاهم ! فأعاذنا الله واياك ، من زمان هذه حال أهله.
لن أدَعَ الدُعاء لك ، في القيام والقعود ، والليل والنهار ، وقد قال الله ، ولا خُلف لموعده : أدعوني ، أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، فنستجير بالله من التكبُّر عن عبادته ، والاستنكاف عن طاعته ، جعل الله لنا ولك فرجاً ، ومخرجا عاجلا برحمته ، والسلام (23).
يَمشي وَحْدَهُ وَيمُوتُ وَحْدَه
« صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »
حين استعدَّ النبي صلى الله عليه وآله لمحاربة الروم قاصدا « تبوك » من أرض الشام ، كان الفصل قائضا شديد الحرارة . وكان العدو شديد البأس ، كثير العدّة والعدد ، مما دعا نفرا من المتاخذلين ـ ممن أسلم رهبة أو رغبة ـ الى القعود ، والتخلف عن الجهاد.
وتابع المسلمون سيرهم بكل ثقة وشجاعة ، وانتهى الامر بالصلح مع الروم على دفع الجزية.
فقد ألقى الله في قلوب زعمائهم الهيبة ، لما تناهى الى أسماعهم من أنباء الانتصارات الساحقة التي سجلها المسلمون في أكثر من موقع بالرغم من قلتهم ، ولما سمعوه عن بسالة المقاتل المسلم ، واستماتته في سبيل الدفاع عن اسلامه واضعا نصب عينيه الجنة ، قاتلا أو مقتولا. لذلك ، فقد آثروا الانسحاب على المواجهة.
ووجه النبي (ص) الى يوحنا بن رؤبة ـ أحد زعماء المنطقة ـ رسالة يدعوه فيها الى الاسلام ، أو دفع الجزية ، فقدم على النبي (ص) حاملا الهدايا ، ومعلنا الطاعة . فصالحه (ص) على الجزية ، في كل سنة ثلاثمائة دينار ، كما صالحه على ذلك أهل المناطق الاخرى ، وكتب (ص) بينه وبينهم كتبا تتضمن شروط الصلح بما يحفظ للمسلمين حقهم في الجزية ، والتجول في تلك المنطقة ، آمنين على أنفسهم وأموالهم ، ويضمن لأصحاب تلك المناطق حرية العقيدة ، والعيش مع جيرانهم المسلمين بأمان.
في هذه الغزوة ، تخلف بأبي ذر جمله ، فعالجه حتى أعياه أمره ، فأخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتابع سيره ماشيا على قدميه.
« ونظر الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده.
فقال رسول الله (ص) : كن أبا ذر !
فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر.
فقال رسول الله (ص) : يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين.
فلما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة ، أصابه بها أجله ، ولم يكن معه الا مرأته وغلامه (24).
الهوامش
1. الغدير 8 / 292 ـ 293 عن الانساب 5 / 52 / 54.
2. سَلع : موضع بقرب المدينة ( معجم البلدان ـ 3 / 236 ).
3. ازبأرّ : غَضِب.
4. ضرب : الخفيف اللحم.
5. الجنأ : يقال جنیء ، جنأ ، اذا اشرف كاهله على ظهره حدبا.
6. الشارف : الناقة المسنَّة.
7. شرح النهج 8 ص 257 ـ 258 ـ 259 وج 3 منه.
8. النغل : الافساد بين القوم.
9. نفس المصدر السابق.
10. مروج الذهب 2 / 340.
11. شرح النهج 8 / 259 ـ 260.
12. مروج الذهب 2 / 340 ـ 341.
13. شرح النهج 8 / 252 ـ 253.
14. نهج البلاغة 2 / ص 12 ـ 13.
15. شرح النهج 8 / 253 الى 255.
16. المستدرك على الصحيحين 3 / 344.
17. شرح النهج 8 / 260 ـ 261.
18. الاعيان 329.
19. المصدر السابق / 373.
20. ما بي فقدك ، أي ليس علي بأس وحزن من فقدك.
21. الفروع من الكافي ج 3 / 250 ـ 251.
22. الصرّام للنخل : أوان ادراكه وجزّه.
23. أعيان الشيعة 16 / 366 ـ 368.
24. الكامل 2 / 280.
مقتبس من كتاب : أبو ذر الغفاري / الصفحة : 133 ـ 152
التعلیقات