انحصار التّدبير في الله سبحانه
التوحيد
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : لشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 59 ـ 63
(59)
التوحيد في الرّبوبية
(5)
انحصار التّدبير في الله سبحانه
يُستفاد بجلاء من مطالعة عقائد الوثنية في كتب الملل والنحل أنَّ مسألة
التَّوحيد في الخالقية كانت موضع اتفاق ، وأنَّ الإِنحراف كان في مسألة
التدبير أوّلاً ، والعبادة ثانياً . فكان الوثنيون موحدين في أمر الخلقة مشركين
في الربوبية ، ثمّ في العبادة.
وكان الشّرك في العبادة عاماً ، بخلاف الشّرك في التدبير فلم يكن مثله
في السعة و الشمول.
وما ذكرناه يجده التالي للكتاب العزيز ، قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }(1) . ومثله في سورة الزّمر،
الآية 38.
وقال سبحانه : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(2).
وقال سبحانه :{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة لقمان: الآية 25.
(2) سورة الزخرف: الآية 9.
________________________________________
(60)
يُؤْفَكُونَ}(1).
وهذه الآيات تعرفنا موقف الوثنيّين في مسألة التوحيد في الخالقية ،
وأنَّ تلك العقيدة كانت عامة للمشركين أو لأكثرهم في الجزيرة العربية.
نعم ، كان الاعتقاد بوجود مبدأين وخالقين لهذا العالم ، أحدهما :
« يزدان » ، والآخر : «أهريمن» أمراً مشهوراً بين « الزرادشتيين» ، ولكن عقيدتهم
تحيط بها هالة من الإِبهام والغموض ، كعقيدة البراهمة والبوذيين
والهندوكيين في هذا المجال ، والبحث فيه خارج عن إطار الموضوع ، وقد تقدّم
شيء عنهم آنفاً.
وأمَّا مسألة التوحيد في التدبير فلم تكن أمراً مسلَّماً عندهم ، بل الشرك
في التدبير كان شائعاً بين الوثنيين ، حيث كانوا يقولون بأنّه ليس للكون سوى
خالق واحد ، وهو موجد السَّماوات والأرض وخالقهما ، ولكنه بعد أن خلق الكون
فوّض تدبير بعض أُموره إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه ، واعتزل هو أمر
التدبير . وهذه المخلوقات المفوّض إليها أمر التدبير كانت في نظر هؤلاء عبارة
عن « الملائكة » ، و « الجن » ، و « الكواكب » ، و « الأرواح المقدسة » و....
التي تكفلت كل واحدة منها تدبير جانب من جوانب الكون على حدّ زعمهم.
إنَّ عبدة الكواكب والنجوم في عصر بطل التوحيد « إبراهيم » كانوا من
المشركين في أمر التدبير ، حيث كانوا يعتقدون بأنَّ الأجرام العُلْوية هي
المتصرفة في النظام السُّفلي من العالم ، وأنَّ أمر تدبير الكون ومنه الإِنسان ،
فوّض إليها فهي أرباب لهذا العالم ، ومدبرات له لا خالقات له (2) ؛ ولأجل
ذلك نجد أنَّ إبراهيم يرد عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإِشارة إلى أُفولها
وغروبها ويقول: إذا كانت هذه الأجرام حسب زعمكم هي المدبرات
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزخرف: الآية 87.
(2) سيأتي البحث في التفويض عند البحث في التوحيد في العبادة.
________________________________________
(61)
للموجودات الأرضية ومنها الإِنسان ، فيجب أن يكون لها إشراف دائم على
المدبّرات ، واتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها ، ولكنه لا
يجتمع مع الأفول والغروب ؛ لأنّهما يستلزمان غَيْبة المدبِّر عن مدبَّره ( بالفتح ) ،
وجهله بحاله ، فيكون دليلاً قاطعاً على عدم كونها مدبِّرة للموجودات
الأرضية.
ولأجل أنَّ شِرْكَ عَبَدة الأجرام كان شركاً في الربوبية والتدبير نرى أنَّ
إبراهيم يستعمل في طرح عقيدتهم ، وردّها لفظ « الربّ » ، يقول سبحانه
حاكياً عنه : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي }(1). وقال أيضاً:
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي }(2). فاستعمل لفظة «الرَّبّ» فيهما ، وفي
غيرهما من الآيات الواردة في احتجاجه مع المشركين ، ولم يستعمل كلمة
« الخالق » ، للفرق الواضح بين التوحيدين ، و عدم إنكارهم التوحيد الأوّل ،
وإصرارهم على الشّرك في الثاني.
وأمَّا لفظة « الرّب » في لغة العرب ، فهي بمعنى المتصرف والمدبّر
والمتحمل أمر تربية الشيء ، وكأنّه بمعنى الصاحب . وهذه ، أعني التدبير
والتصرف ، من لوازم كون الشخص صاحباً ومالكاً . فربّ الضيعة يقوم
بأمرها ، وربّ البيت والغنم بالتصرف اللازم فيهما.
وباختصار : إنَّ في زعم المشركين أنَّ مقام الخلق غير التدبير ، وأنَّ
الذي يرتبط بالله إنّما هو الخلق والإِيجاد ، وأمَّا التدبير فيتعلق بموجودات أُخرى
غير الله سبحانه وتعالى . فهي المتصرفات فيه ، وقد فوّض إليها تدبير عالم
الطبيعة ، وليست لله تعالى أية دخالة في أمر تدبير الكون وإدارته وتنظيم
شؤونه والتصرف فيه.
هذه حقيقة الشّرك في التدبير ووجه الفرق بينه وبين الشّرك في الخالقية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام: الآية 76.
(2) سورة الأنعام: الآية 77.
________________________________________
(62)
ونرى ذلك الشّرك في كلام (عمر بن لُحَىّ) وهو أوّل من أدخل الوثنية إلى
مكة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون
الأوثان وعندما سألهم عن شؤونها قالوا:
« هذه أصنام نَعْبُدُها فَنَسْتَمْطِرُها فَتُمْطِرُنا ، ونَسْتَنْصِرُها فَتَنْصُرُنا ، فقال
لهم : أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض العرب فيعبدوه ». فاسْتَصْحَب
معه صنماً كبيراً باسم « هُبَلْ » ، ووضعه على سطح الكعبة المشَرَّفة ، ودعا
الناس إلى عبادته(1).
وها هنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي : إنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور أنَّ
الوثنية تعتقد بأنَّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرفة والمدبرة
للكون ؛ إذ لا يصدر ذلك عن عاقل ، بل كانوا يعتقدون بكونها أصناماً للآلهة
المدبّرة لهذا الكون فُوّض إليها إدارته . ولما لم تكن هذه الآلهة المزعومة
في متناول أيديهم ، وكانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحسّ واللمس
صعبة التصور ، عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ،
ورسوم وأجسام ، وقوالب من الخشب والحجر ، وصاروا يعبدونها عوضاً عن
عبادة أصحابها الحقيقيين ، وهي الآلهة المزعومة.
ثمّ إنَّ الاعتقاد بربوبية غير الله سبحانه كما يتصور في مسألة التكوين
فَيَعْتَقِد المشرك بكون المَلَك أو الجنّ أو غيرهما متصرفاً في العالم ، فكذلك
يتصور في عالم التشريع . فمن أعطى زمام التشريع والتقنين ، أو الحلال
والحرام إلى الإِنسان فقد اتخذه ربّاً لنفسه وصاحباً لها ؛ ولأجل ذلك نرى أنَّ
القرآن الكريم يصرّح بأنَّ اليهود والنصارى اتخذوا الأحبار والرّهبان أرباباً
لأنفسهم ، ولم يكن الاعتقاد بربوبيتهم بصورة الاعتقاد بتصرفهم في العالم
السُّفلي ، وإنّما كان يتجلَّى في اتخاذهم أرباباً وأصحاباً لأنفسهم في إطار
التقنين ، فاستحلوا ما أحلّوه ، وحرّموا ما حرموه. يقول سبحانه :{اتَّخَذُوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيرة ابن هشام : ج 1، ص 79.
________________________________________
(63)
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(1). ويقول عزّ وجلّ : { وَلاَ يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(2).
وحصيلة البحث:
1ـ إِنَّ ربوبية الله عبارة عن مدبريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.
2ـ دلّت الآيات التي ذكرناها على أنَّ مسألة التوحيد في التدبير
لم تكن موضع اتفاق ، بخلاف مسألة « التوحيد في الخالقية » ، و أنَّه كان في
التاريخ ثمة فريق يعتقد بمدبريّة غيرالله للكون كله أو بعضه ، وكانوا
يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أربابٌ.
3 ـ و بما أنَّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فقد تكون
بعض الفِرَقِ موحدة في الثاني ، و مشركة في الأوّل ، فاليهود والنصارى تورطوا في
« الشرك الربوبي التشريعي » ، لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار
و الرهبان ، وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة ، فكأنهم فُوّضوا أمر التشريع إليهم.
وبذلك يتجلَّى أنَّ التوحيد في الربوبية هو الاعتقاد بأنَّ الخير والشّر ،
و تدبير الحياة والكون كلّها بيد الله سبحانه ، وأنَّ الإِنسان بل كل ما في الكون لا
يملك لنفسه شيئاً من التدبير ، وأنّ مصير الإنسان في حياته كلها إليه سبحانه ،
ولو كان في عالم الكون أسباب و مدبرات له ، فكلها جنود له سبحانه يعملون
بأمره و يفعلون بمشيئته . ويقابله الشرك في الربوبية ، و هو تَصَوُّر أنّ هناك
مخلوقات لله سبحانه لكن فَوّض إليها أمر تدبير الكون و مصير الإنسان في
حياته تكويناً أو تشريعاً ، و أنَّه سبحانه اعتزل هذه الأُمور بعد خلقهم و تفويض
الأمر إليهم.
هذا خلاصة التوحيد و الشّرك في مجال الربوبية ، و إنّما الكلام في إقامة
الدليل عليه:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة: الآية 31.
(2) سورة آل عمران: الآية 64.
التعلیقات