الإِختيار في مذهب الأمر بين الأمرين
العدل الإلهي
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 341 ـ 361
(341)
مناهج الإِختيار
(3)
الإِختيار في مذهب الأمر بين الأمرين
إنَّ أصحاب المناهج الفكرية ، في مسألة أفعال الإِنسان ، اعتقدوا بأنَّ
الحق ينحصر في القول بالجبر أو التفويض ، و أنَّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه
الإنسان الباحث ، و يحفظ أساس القول بهما . و قد عرفتَ أنَّ الجنوح إلى
الجبر في العُصور الأولى كان لأجل التحفظ على التوحيد الأفعالي ، و أنَّه لا
خالق إلاّ هو . كما أنَّ الإِنحياز إلى التفويض كان لغاية التحفظ على عدله
سبحانه ، فالأشاعرة جنحوا إلى الجبر حرصاً على الأصل الأوّل ، و المعتزلة إلى
الثاني حرصاً على أصل العدل . وكلا الطرفين غفل عن نظرية ثالثة يوافقها
العقل و يدعمها الكتاب والسُّنَّة ، و فيها الحفاظ على كل من أصل التوحيد
و العدل ، مع نزاهتها ، عن مضاعفات القولين ؛ فإنّ في القول بالجبر بطلان
البعث و التكليف ، و في القول بالتفويض الثنوية و الشرك .
فهذه النظرية الثالثة ، جامعة و حافظة لما يتبناه الطرفان من الإصول ،
و في الوقت نفسه منزّهة عن التوالي و المفاسد . و هذا هو مذهب الأمر بين
الأمرين الذي لم يزل أئمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ يحثون عليه ، من
لدن حمي و طيس الجدال في أفعال الإِنسان من حيث القضاء و القدر أو
غيرهما . غير أنَّ أكثر المتكلمين من السُّنَّة لم يقفوا على تلك النظرية بتاتاً أو
لم يتأمّلوا فيها . و قلّ فيهم من تأمل فيها و صرّح بصدقها كالإِمام الرّازي في
________________________________________
(342)
تفسيره ، و الشيخ عبده في رسالة التوحيد(1) ، فهما من قادة هذا المذاهب بين
أهل السنة ، ولكن غيرهما بين جبري لا يرى للإِنسان حرية و اختياراً ،
و تفويضي وقع في حبال الشرك . نعم ، قد انقرضت الطائفة الثانية بانقراض
المعتزلة بالسيوف التي سلطت عليهم ، فلم يبق منهم و لا من آثارهم و كتبهم إلاَّ
شيئاً لا يذكر.
و أمَّا حقيقة هذا المذهب فتتعين في ظل أمور : (2) .
الأوّل : الإِمكان في الماهية غير الإِمكان في الوجود
إنَّ الإِمكان تارة يقع وصفاً للماهية و أخرى و صفاً للوجود ، و المقصود
منه في الأوّل تساوي ماهية الشيء بالنسبة إلى الوجود و العدم ، بمعنى أنّها
واقعة في مركز الدائرة ، فلا تخرج عنه إلى أحد الطرفين ، إلاَّ بعامل يخرجها
عن حالة التساوي ، و يضفي عليها لزوم الإِتصاف بأحدهما ، و هذا واضح .
و أمَّا إذا وقعت وصفاً للوجود بما هو وجود الذي يعبّر عنه بالوجود
الإِمكاني ، و يُعَدّ فعلاً للواجب ، فليس معنى إمكانه تساوي نسبته إلى الوجود
و العدم ؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، و سلبه عنه ممتنع فلا معنى لأن
يقال إنَّ نسبة الوجود إلى الوجود الإمكاني تُساوي نسبته إلى العدم ، بل نسبة
الوجود إليه ضرورية ، و نسبة العدم إليه ممتنعة.
بل معنى توصيف الوجود بالإمكان عبارة عن كونه قائماً بالعلّة بجميع
شؤونه و خصوصياته .
فكلما وصف الوجود بما هو وجود عار عن الماهية ، و صادر عن العلّة
الواجبة ، يراد منه التعلّق و القيام ، و الصلة و الإِرتباط لا التساوي. فافهم
ذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيوافيك نصوصهما في مطاف البحث.
(2) و قد أوعزنا إليها في الأبحاث السابقة عند الردّ على نظرية الطائفتين من الأشاعرة و المفوّضة
فلاحظ.
________________________________________
(343)
الثاني : ما هو المراد من قيام المعلول بعلّته
إذا كان توصيف الوجود بالإمكان بمعنى قيامه بعلته ، يقع الكلام في
حقيقة ذلك القيام و أنَّه من أي نوع من أنواعه . فهل هو من قبيل قيام العرض
بموضوعه أو الجوهر بمحله؟ ، أو أن قيامه بها يرجع إلى معنى دقيق و يشبه قيام
المعنى الحرفي بالمعنى الإِسمي في المراحل الثلاث ، التصور ، و الدلالة ،
و التحقق؟. إليك البيان:
إذا قلت : سرتُ من البصرة إلى الكوفة ، فهناك معانٍ إسمية هي السير
و البصرة و الكوفة ، و معنى حرفي و هو كون السير مبدوءاً من البصرة و منتهياً
إلى الكوفة . فالإبتداء و الإنتهاء المفهومان من كلمتي « من » و « إلى » فاقدان
للإستقلال في مجال التصور ، فلا يتصوران مستقلين و منفكين عن تصور البصرة
و الكوفة ، و إلاَّ لعاد المعنى الحرفي معنى إسمياً ، و لصار نظير قولنا :
« الإِبتداء خير من الإِنتهاء » .
و كذلك فاقدان للإستقلال في مجال الدلالة فلا يدلان على شيء إذا
انفكتا عن مدخوليهما .
كما هما فاقدان للإستقلال في مقام التحقق و الوجود ، فليس للإِبتداء
الحرفي وجود مستقل منفك عن متعلقه ، كما ليس للإنتهاء الحرفي وجود
كذلك.
فالحفاظ على المعنى الحرفي لا يتحقق إلاَّ بثبوت عدم الإستقلال له
في المجالات الماضية ، و إلاَّ لخرج عن كونه معنى حرفياً.
و على ضوء ذلك يتبين وزان الوجود الإمكاني الذي به تتجلى الأشياء
و تتحقق الماهيات ، و به تصير الماهيات كالشجر و الحيوان و الإنسان من
الأعيان الخارجية ، فإنّ وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي
إلى الإسمي ؛ و ذلك لأنَّ الصادر من الواجب هو الوجود ، و هو لا يخلو من
قسمين : إمَّا واجب أو ممكن ، و الأوّل خلف لكون المفروض معلوليته
و صدوره عنه ، و ما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمَّا هو عليه . فيتعين
________________________________________
(344)
الثاني ، و قد عرفتَ أنَّ معنى الإِمكان في الوجود غير الإِمكان في الماهية ، و أنَّ
معناه في الأوّل كونه متعلقاً بالعلّة و قائماً بها بجميع شؤونه و خصوصياته ،
و الإِمكان نافذ فيه و راسخ في واقعه رسوخ الحياة في الموجود الحىّ ، و عند
ذلك يكون الإِرتباط بالعلّة و القيام بها غير خارج عن واقع الوجود الإِمكاني ،
و يكون الفقر و الربط نفس ذاته و عين واقعه ، و إلاَّ فلو كان في حاق الذات غنياً ،
ثمّ عرض له الفقر يلزم الخلف ، و خروج الموجود الغني عن كونه غنياً ، إلى
حيز الفقر و الحاجة.
و على هذا الأصل ، لا يمكن إنكار صلة الوجودات الإِمكانية باللّه سبحانه ،
من غير فرق بين الإِنسان و غيره ، و تبطل نظرية التفويض القائلة بانقطاع
الصلة بين المبدأ و الموجودات الإِمكانية . و هذه الحقيقة صادقة في الفواعل
الإِلهية و العِلَل غير الطبيعية ، ففيها يصدق ما ذكرنا من الوزان و المكانة ، و أمَّا
العلل الطبيعية فصدق العلّة عليها من باب المجاز ، كما تقدم .
الثالث : وحدة حقيقة الوجود يلازم التأثير في جميع المراتب
قد وقع النزاع بين الفلاسفة في أنَّ الوجود الواجب و الوجود الإِمكاني
هل هما حقيقتان متباينتان بحيث لا صلة جامعة بينهما أبداً ، و أنَّ إطلاق الوجود
عليهما من باب إطلاق اللفظ الموضوع لمعنيين متباينين ، كالعين الموضوعة
تارة للشمس و أخرى للذهب ، أو أنّهما من مقولة واحدة يجمعهما قدر مشترك ،
و هو الوجود و طرد العدم و ما يفيد ذلك (1). و أنَّ الوجود يطلق عليهما بوضع
واحد و بمعنى مفرد ، و إطلاق المعنى الواحد على الشيئين يقتضي وجود قدر
مشترك بينهما ، و إلاَّ يلزم انتزاع المعنى الواحد بما هو معنى واحد من الأشياء
الكثيرة التي لا جهة وحدة بينها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) و هذه العناوين ليست معرفات حقيقية بل هي عناوين مشيرة إلى حقيقة مجهولة ؛ فإنَّ حقيقة
الوجود لا يقدر الإنسان على دركها ؛ لانَّ أدوات المعرفة لا تتجاوز الذهن و الذهنيات ، و هي
لا تدرك الحقيقة الخارجية بل المفاهيم العارية عنها كمفهوم النار . و أمّا حقيقة الوجود فهي
نفس العينية الخارجية ، فكيف يمكن أن تكون مُدرَكَة للذهن؟!
________________________________________
(345)
والحق هو الثاني ، لما عرفتَ من البرهان و عليه الحكماء غير
المشائيين . و على ضوء هذا الأصل ، إِذا كانت الحقيقة في مرتبة من
المراتب ذات أثر خاص ، يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة ،
أخذاً بوحدة الحقيقة ، نعم يكون الأثر من حيث الشدة والضعف ، تابعاً
للمؤثر من هذه الحيثية ، فالوجود الواجب بما أنَّه أقوى و أشد ، يكون العلم
و الدرك و الحياة و التأثير فيه مثله . و الوجود الإِمكاني بما أنّ الوجود فيه أضعف
يكون أثره مثله . و لأجل ذلك ذهب الإِلهيون إلى القول بسريان العلم و الحياة
والقدرة إلى جميع مراتب الوجود الإِمكاني ، و قد أثبتوه بهذا البرهان و حكموا
بصحته من طريق الكشف و الشهود ، و يشهد الكتاب العزيز على صحة
نظريتهم في مجال السريان العلمي و الدركي إلى جميع مراتب الوجود حتى
الجماد(1).
و على ضوء هذا الأصل ، تبطل نظرية الأشاعرة المخصصة للتأثير
بالواجب سبحانه ، و السالبة له عن سائر المراتب زاعمة أنّه مقتضى التوحيد
الأفعالي ، مع أنّه كما يتحقق بسلب التأثير عمَّا سواه ، يتحقق بتخصيص التأثير
الإِستقلالي باللّه سبحانه و إرجاع تأثير الوجود في المراتب الإِمكانية إلى إذنه
و مشيئته . و الثاني هو المتعين لما عرفتَ من البرهان.
إذا وقفت على هذه الأصول تقف على النظرية الوسطى في المقام ، و أنّه
لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلاً عن الواجب ، غنياً عنه ، غير قائم به ،
قضاءً لكون الفعل وجوداً إمكانياً ، و الوجود الإِمكاني حقيقته التعلق و الصلة
والربط . كما أنّه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها قضاء
لحكم الأصل الثالث من أنَّ الوجود في أي مرتبة كان من المراتب لا يخلو
عن تأثير ودخالة فيما يظهر منه من الآثار ، أو يقوم به من الأفعال . فالفعل
مستند إلى الواجب من جهة ، و مستند إلى العبد من جهة أخرى . فليس الفعل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد أوعزنا إلى الآيات الناظرة إلى سريان العلم ، و إن أردت التفصيل فلاحظ مفاهيم
القرآن : الجزء الأوّل، ص 207 ـ 238.
________________________________________
(346)
فعله سبحانه بحيث يكون منقطعاً عن العبد بتاتاً ، و يكون دوره دور المحل
و الظرف لظهور الفعل ، كما أنَّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعاً عن
الواجب ، قضاءً بكون الفعل بل الفاعل ، أمرين ممكنين غير مستغنيين عن
الواجب في آن من الآنات.
و في هذه النظرية جمال التوحيد الأفعالي منزّهاً عن الجبر . كما أنّ فيها
محاسن العدل منزّهاً عن مغبة الشرك و الثنوية ، يدرك ذلك كل من أمعن
النظر . و ينطبق عليها قول الإِمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ : « اليمين
و الشمال مَضَلَّة ، و الطريق الوُسْطى هي الجادّة عليها باقي الكتاب ، و آثار
النُبوّة » (1).
هذا إجمال النظرية حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية ، ولكن رفع
الستار عن وجهها يحتاج إلى تمثيل يحقق واقعية النظرية بشكل محسوس .
وما ذكروا من الأمثلة يختلف حسب إدراك الممثل حقيقة هذه النظرية ، و إليك
بعضها .
أ ـ اللّه فاعل بالتسبيب و العبد بالمباشرة
إنّ كثيراً من محققي الإِمامية صوّروا هذه النظرية بما يوجبه هذا العنوان ،
فجعلوا نسبة الفعل إلى اللّه نسبة تسبيبية ، و نسبته إلى العبد نسبة مباشرية ، بحجّة
أنَّ اللّه سبحانه وهب الوجود و الحياة وا لعلم و القدرة لعباده ، و جعلها في
اختيارهم ، وأنَّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء ، فينسب
الفعل إليه سبحانه ؛ لأجل كونه معطي المبادئ و مفيض الوجود والقُدرة ، و إلى
العبد ؛ لأنّه الذي يصرفها في أي مورد شاء . و المثال الذي يبين حقيقة
النظريات الثلاث في هذا المجال هو ما ذكره المحقق الخوئي في تعاليقه
القيّمة على أجود التقريرات ، و محاضراته الملقاة على تلاميذه ، و إليك خلاصة
البيان ، قال :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة : الخطبة 16.
________________________________________
(347)
لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده
المرتعشة سيفاً قاطعاً ، و هو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر
و يهلكه ، فإذا وقع السيف وقتل ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون
صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده .
و لو فرضنا أنَّ رجلاً أعطى سيفاً لمَن يملك حركة يده و تنفيذ إرادته ، فَقَتَل
هو به رجلاً ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشِر دون مَن
أعطى .
ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد ( لا مرتعشها ) غير قادر على
الحركة إلاَّ بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة
و نشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في
آن انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص في الحال و أصبح عاجزاً . فلو
أوصل الرجل تلك القوّة إلى جسم هذا الشخص فذهب باختياره وقتل إنساناً ،
و الرجل يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما ، أمَّا إلى
المباشر ؛ فلأنّه قد فعل باختياره و إعمال قدرته ، و أمَّا إلى الموصل ؛ فلأنّه أقدره
و أعطاه التمكن حتى في حال الفعل و الإِشتغال بالقتل ، و كان متمكناً من قطع
القوة عنه في كل آن شاء و أراد.
فالجبري يمثل فعل العبد بالنسبة إلى اللّه تعالى كالمثال الأوّل ، حيث
أنَّ اليد المرتعشة فاقدة للإِختيار و مضطرة إلى الإِهلاك.
كما أنَّ التفويضي يمثل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصوّر أنَّ
العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة و الحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاءً ، و العلّة الأولى
كافية في بقاء القُدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنَّه كان الأمر في المثال
كذلك فكان الإِنسان محتاجاً إلى رجل آخر في أخذ السيف ، و بعد الحصول
عليه انقطعت حاجته إلى المعطي .
و القائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث ، فالإِنسان في
كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة و الحياة منه إليه بحيث لو قطع الفيض في آن
________________________________________
(348)
واحد بطلت الحياة و القدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه و حياة
كذلك من غير فرق بين الحدوث و البقاء . ـ إلى أن قال ـ: إنَّ للفعل الصادر
من العبد نسبتين واقعيتين إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره
منه باختياره و إعمال قدرته ، و ثانيهما نسبته إلى اللّه تعالى باعتبار أنّه معطي
الحياة و القدرة في كل آن و بصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل (1).
و هذا التمثيل مع كونه رفيع المنزلة في تبيين المقصود إلاَّ أنَّ الفلاسفة
الإِلهيين لا يرضون بالقول بأنَّ النفس تستخدم القوى كمن يستخدم كاتباً أو
نقاشاً قائلين بأنَّ مقام النفس بالنسبة إلى قواها أرفع من ذلك ؛ لأنّ مستخدم
البناء لا يلزم أن يكون بنّاءً ، و مستخدم الكاتب لا يكون كاتباً ، و مستخدم
القوة السامعة و الباصرة ( النفس ) لا يجب أن يكون سميعاً و بصيراً . مع أنَّ
النفس هي السميعة البصيرة ، فإذا كانت نسبة النفس إلى قواها فوق التسبيب
و الإِستخدام فكيف مثله سبحانه و هو الخالق القيوم ، و ما سواه قائم به قوام
المعنى الحرفي بالإِسمي .
و لذا فإن لهم تمثيلاً آخر في المقام و هوالتالي :
ب ـ الفعل فعل العبد و في الوقت نفسه فعل اللّه
إنَّ بعض المحققين من الإِمامية و في مقدمهم معلّم الأمَّة الشيخ المفيد
و بعده صدر المتألّهين و تلاميذ نهجه يرون الموقف أدق من ذلك ، و يعتقدون أنَّ
للفعل نسبة حقيقية إلى اللّه سبحانه ، كما أنَّ له نسبة حقيقية إلى العبد ، و لا
تُبطل إحدى النسبتين الأخرى ، و نأتي لتبيين ذلك بمثالين :
أحدهما : ما ذكره معلّم الأُمة الشيخ المفيد ( ت 336 ـ م 413 هـ ) ،
على ما حكاه عنه العلاّمة الطباطبائي في محاضراته ، و لم أقف عليه في كتب
الشيخ المفيد و هو :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحاضرات : ج 2، ص 87 و 88. أجود التقريرات : ج 1، ص 90.
________________________________________
(349)
نفترض أنّ مولىً من الموالي العرفيين يختار عبداً من عبيده و يزوجه
إحدى فتياته ، ثمّ يقطع له قطيعة ويخصّه بدار و أثاث ، و غير ذلك ممّا يحتاج
إليه الإِنسان في حياته إلى حين محدود و أجل مسمّى .
فإن قلنا إنَّ المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى ، و ملّكه ما ملك ؛ فإنّه لا
يملك ، و أين العبد من الملك ، كان ذلك قول المُجبِرة .
و إن قلنا : إنَّ المولى بإعطائه المال لعبده و تمليكه ، جعله مالكاً ،
و انعزل هو عن المالكية ، و كان المالك هو العبد ، كان ذلك قول المعتزلة .
ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، و قلنا : إنَّ للمولى مقامه في
المولوية ، و للعبد مقامه في الرقيّة ، و إنَّ العبد يملك في ملك المولى ،
فالمولى مالك في عين أنَّ العبد مالك ، فهناك ملك على ملك ، كان ذلك القول
الحق الذي رآه أئمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ و قام عليه البرهان (1).
و في بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل ، منها :
ما رواه الصدوق في (توحيده ) عن النبي الأكرم ـ صلى الله عليه
وآله ـ قال : قال اللّه عزّوجلّ : « يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء
لنفسك ما تشاء ، و بإرادتي كنتَ أنتَ الذي تريد لنفسك ما تريد» (2).
ترى أنّه يجعل مشيئة العبد و إرادته ، مشيئة اللّه سبحانه و إرادته ، و لا
يعرّفهما مفصولتين عن اللّه سبحانه بل الإِرادة في نفس الإِنتساب إلى العبد
منتسبة إلى اللّه سبحانه.
ثانيهما: ما ذكره صدر المتألّهين و قال ما هذا حاصله :
إذا أردتَ التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلاً لشخصين على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميزان : ج 1، ص 100. وقد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار، لاحظ
ج 5، ص 83.
(2) التوحيد : باب المشيئة و الإرادة، ص 340، الحديث 10. ولاحظ بحار الأنوار : كتاب العدل
و المعاد ح 62 و 63 مع تعليقة العلاَّمة الطباطبائي على الأوّل.
________________________________________
(350)
الحقيقة فلاحظ النفس الإِنسانية ، و قواها ، فاللّه سبحانه خلقها مثالاً ، ذاتاً
و صفة و فعلاً ، لذاته و صفاته و أفعاله ، قال سبحانه : { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ
لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}(1) . و قد أُثرَ عن النبي و الوصي القول
بأنَّه : « مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ ، عَرَفَ رَبَّهُ » (2).
إنَّ فعل كل حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس
أيضاً . فالباصرة ليس لها شأن إلاَّ إحضار الصورة المُبْصَرة ، أو انفعال
البصر منها ، و كذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها
بها ، و مع ذلك فكل من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضاً ؛
لأنّها السميعة البصيرة في الحقيقة ، و ليس شأن النفس استخدام القوى بل هو
فوق ذلك ؛ لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد أن نفوسنا بعينها الشاعرة في كل
إدراك جزئي و شعور حسّي ، كما أنّها المتحرك بكل حركة طبيعية أو حيوانية
منسوبة إلى قواها . و بهذا يتضح أنَّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة ، و في
الأُذن قوة سامعة ، و في اليد قوة باطشة ، و في الرجل قوّة ماشية ، و هكذا الأمر
في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين ، و تسمع الأُذن ، و تمشي
الرجل. فالنفس مع وحدتها و تجردها عن البدن و قواه و أعضائه ، لا يخلو
منها عضو من الأعضاء عالياً كان أو سافلاً ، و لا تبائنها قوة من القوى ، مدركة
كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.
إذا عرفتَ ذلك ، فاعلم أنَّه كما ليس في الوجود شأن إلاَّ و هو شأنه ،
كذلك ليس في الوجود فعل إلاَّ فعله ، لا بمعنى أنَّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً
عنه ، بل بمعنى أنَّ فعل زيد مع أنَّه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فهو فعل اللّه
بالحقيقة . فكما أنَّ وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع منسوب إلى زيد
بالحقيقة لا بالمجاز ، و هو مع ذلك شأن من شؤون الحق الأوّل ، فكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الذاريات: الآيتان 20 و 21.
(2) غُرَرُ الحِكَمْ : ص 268، طبعة النجف. و روي عن أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ قوله:
« أَعْلَمُكُمْ بنفسه أعلمكم بربه ». أمالي المرتضى : ج 2، ص 329.
________________________________________
(351)
علمه و إرادته و حركته و سكونه و جميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا
بالمجاز و الكذب . فالإِنسان فاعل لما يصدر عنه و مع ذلك ففعله أحد أفاعيل
الحق الأوّل على الوجه اللائق بذاته سبحانه(1).
هذا ما أفاده صدر المتألّهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية ، و في
بعض الأحاديث إشارة إليه ، روى الكليني في ( الكافي ) ، عن أبان بن
تَغْلِب ، عن أبي جعفر الباقر : إنَّ اللّه جلّ جلاله قال : « ما يقرب إلىَّ عبد
من عبادي بشيء أحبّ إلىّ ممَّا افترضت عليه ، و إنَّه ليتقرب إلىَّ بالنافلة ،
حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ،
و لسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، و إن سألني
أعطيته » (2) .
إلى هنا تمّ تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية ، فسواء أكان المختار
هو البيان الأوّل المشهور بين الإِمامية ، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين ،
فالتحقيق هو أنَّ الفعل فعل اللّه ، و هو فعلنا إمَّا بحديث التسبيب و الإِستخدام ، أو
لأجل أنَّه لا يخلو شيء منه سبحانه ، فقال سبحانه: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ }(3) . وقال سبحانه : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(4).
و اللّه سبحانه من وراء وجود فعل الإِنسان و معه و بعده كالنفس بالنسبة إلى
قواها و أفعالها . و قال سبحانه : { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(5).
ثمّ إنَّ القول بأنَّ فعل العبد فعل اللّه سبحانه لا يصح نسبة كل ما
يصدر عن العبد إلى اللّه سبحانه كأكله و شربه و نكاحه ، وقد ذكرنا ضابطة
قيّمة لتمييز ما يصحّ نسبته إليه عمّا لا يصح مع كون السببية محفوظة في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار : ج 6، ص 377 إلى 378، و ص 374.
(2) وسائل الشيعة : ج 3، أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، ب 17، ح 6.
(3) سورة الحديد : الآية 4.
(4) سورة ق: الآية 16 .
(5) سورة الروم: الآية 27.
________________________________________
(352)
الجميع عند البحث في التوحيد في الخالقية ، فراجع(1).
بقي الكلام في الآيات و الروايات التي يستنبط منها هذه النظرية
بوضوح .
الأمر بين الأمرين في الكتاب و السُنَّة
إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين و الإِسنادين في فعل
العبد ، نسبة إلى اللّه سبحانه ، و في الوقت نفسه نسبة إلى العبد ، من دون
أن تزاحم إحداهما الأخرى ، فإنَّا نجد هاتين النسبتين في آيات :
1ـ قوله سبحانه : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2).
فترى أنَّه سبحانه ينسب الرمي إلى النبي ، و في الوقت نفسه يسلبه عنه
و ينسبه إلى ذاته ، كما هو مفاد قوله: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى }. و لا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلاَّ على الوجه الذي ذكرناه ،
و هو أنَّ نسبة الفعل إلى العبد ليست نسبة كاملة بأن يكون له الصلة ، دون اللّه
سبحانه . و مثله في جانبه تعالى . فلأجل ذلك تصح النسبتان ، كما يصح
سلبه عن أحدهما و إسناده إلى الآخر . فلو كانت نسبة الفعل إلى واحد منهما
نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، لم يكن مجال إلاَّ لإِحداهما .
2ـ قال سبحانه : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}(3).
فالظاهر أنَّ المراد من التعذيب هو القتل ؛ لأنّ التعذيب الصادر من اللّه
تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاَّ ذاك ، لا العذاب البرزخي و لا الأُخروي ؛
فإنّهما راجعان إلى اللّه سبحانه دون المؤمنين . و على ذلك فقد نسب فعلاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ : ص 399 و 400.
(2) سورة الأنفال: الآية 17.
(3) سورة التوبة: الآية 14.
________________________________________
(353)
واحداً إلى المؤمنين و خالقهم . و لا تصح تينك النسبتين إلاَّ على هذا
المنهج ، و إِلاَّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاَّ إليه سبحانه ، وفي منهج
التفويض على العكس ، و المنهج الذي ... النسبتين هو منهج الأمر
بين الأمرين ، على البيان الماضي.
قال الرازي الأشعري المذهب : « احتجّ... أنَّ فعل
العبد مخلوق للّه تعالى بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } ؛ فإنّ المراد من
هذا التعذيب القتل و الأسر . و ظاهر النّص يدل على أنَّ ذلك القتل و الأسر
فعل اللّه تعالى ، إلاّ أنَّه تعالى يدخله في عالم الوجود على أيدي العباد ، و هو
صريح قولنا و مذهبنا » (1).
يلاحظ عليه : أنَّ الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في الدلالة على
مذهب الأشاعرة ؛ فإنّ مذهبهم أنّ العباد بمنزلة الآلات المحضة بل أدون
منها حيث لا تأثير لإِرادتهم و قدرتهم ، و هي قابلة للإِنطباق على مذهب
العدلية ، بمعنى أنَّه سبحانه ينفذ إرادته من طريق إرادة المؤمنين لكونهم
خاضعين له كخضوع العبد للمولى و المأمور للآمر . و قد شاع قولهم في
التمثيل بـ « فتح الأمير المدينة » ، مع أنَّ الفاتح هو الجيش ، لكن بأمر
الأمير .
ثمّ إنَّ الجُبّائي من المعتزلة أجاب عن استدلال الأشاعرة بأنَّه لو صحّ أن
يقال : إنَّه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين لجاز أن يقال: إنَّه يكذب أنبياءه
بألسنتهم ، ويلعن المؤمنين و يسبّهم بأفواههم ؛ لأنَّ المفروض أنَّ اللّه خالق
لذلك كله في كلا الجانبين.
و العجب أنَّ الرازي قال في جواب الجُبّائي : « و أجاب أصحابنا عنه
فقالوا أمّا الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلاَّ أنا لا نقوله باللسان » !! (2).
3 ـ هناك آيات نسب الفعل الواحد في آية منها إلى اللّه سبحانه ، و في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفاتيح الغيب : ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.
(2) مفاتيح الغيب : ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.
________________________________________
(354)
أخرى إلى المخلوق ، و لا تصح النسبتان إلاَّ على هذا المبنى ، و هي عديدة
نكتفي بواحدة منها:
قال سبحانه : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً }(1) . وقال أيضاً: { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُون}(2) . ففي هاتين الآيتين ينسب القسوة إلى نفس اليهود ، و كأنهم
صاروا هم السبب لعروض هذه الحالة إلى قلوبهم بشهادة أنَّ الآيتين في مقام
الذمّ و اللوم ، فلو لم يكن هناك سببية من جانبهم لما صح تقريعهم .
وفي الوقت نفسه يعرّف فاعل هذه الحالة الطارئة بأنَّه هو اللّه تعالى
و يقول: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }(3).
4 ـ هناك مجموعة من الآيات تُعرّف الإِنسان بأنّه فاعل مختار في مجال
أفعاله ، و هي كثيرة أو عزنا إلى كثير منها فيما سبق.
فمنها قوله سبحانه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا
رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}(4).
و منها قوله سبحانه : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(5).
و منها قوله سبحانه: { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ }(1).
و منها قوله سبحانه: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة: الآية 74.
(2) سورة الأنعام: الآية 43.
(3) سورة المائدة: الآية 13.
(4) سورة فصّلت: الآية 46.
(5) سورة الطور: الآية 21.
(6) سورة النور: الآية 11.
________________________________________
(355)
سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}(1).
و منها قوله سبحانه: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }(2).
و منها قوله سبحانه : { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(3).
و منها قوله سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(4).
و منها قوله سبحانه : { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلاً}(5).
و منها قوله سبحانه : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }(6).
إلى غير ذلك من الآيات التي تعترف بدور الإِنسان في حياته و كونه
مالكاً لمشيئته ، و معيّناً لمسيره في مصيره.
و هناك مجموعة أخرى من الآيات تصرّح بأنَّ كل ما يقع في الكون من
دقيق و جليل لا يقع إلاّ بإذنه سبحانه و مشيئته ، و أنَّ الإِنسان لا يشاء لنفسه إلاَّ
ما شاء اللّه له ، و هي كثيرة نشير إلى بعضها:
منها ـ قوله سبحانه: { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ}(7).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النجم: الآيات 39 ـ 41.
(2) سورة الكهف: الآية 29.
(3) سورة الزمر: الآية 7.
(4) سورة الإِنسان: الآية 3.
(5) سورة المزمل: الآية 19، المدثر: الآية 55، النبأ: الآية 39، و عبس: الآية 12.
(6) سورة الشمس: الآيات 7 ـ 10.
(7) سورة التكوير: الآية 29.
________________________________________
(356)
و منها ـ قوله سبحانه آمراً نَبِيَّه: { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ
مَا شَاءَ اللَّهُ }(1). و ليست الآية خاصة بالمواهب الطارئة عليه من غير طريق
اكتسابه ، بل تعمّها و تعمّ كل ضر و نفع يكسبهما بسعيه و فعله ، فلا يصل إليه
الإِنسان إلاَّ عن طريق مشيئة اللّه سبحانه.
و منها ـ قوله سبحانه :{ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ }(2).
و منها ـ قوله سبحانه: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ }(3).
ومنها ـ قوله سبحانه : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ }(4).
و منها ـ قوله سبحانه: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ }(5).
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ كل ما يقع في الكون أو
يصدر من العباد فهو بمشيئة و إذن منه سبحانه.
فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر و تفنده ، كما أنَّ المجموعة الثانية
ترد التفويض و تبطله ، و مقتضى الجمع بين المجموعتين حسب ما يرشدنا إليه التدبر
فيها ليس إلاَّ التحفظ على النسبتين ، و أنَّ العبد يقوم بكل فعل و ترك ، باختيار و حرية ،
لكن بإقدار و تمكين منه سبحانه ، فليس العبد في غنى عنه سبحانه في فعله و تركه ، فهو
يعمل في ظل عناياته و توفيقاته ، و لعلّ المراجع إلى الذكر الحكيم يجد من
الآيات الراجعة إلى المجموعتين أكثر ممّا ذكرنا ، كما يجد فيها قرائن
و شواهد تسوقه إلى نفي كل من الجبر و التفويض ، و اختيار الأمر بين الأمرين .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأَعراف: الآية 188.
(2) سورة البقرة: الآية 102.
(3) سورة البقرة: الآية 249.
(4) سورة البقرة: الآية 251 .
(5) سورة يونس: الآية 100.
________________________________________
(357)
هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم ، و أمَّا الروايات فنذكر النزر اليسير ممّا
جمعه الشيخ الصدوق في ( توحيده ) ، و المجلسي في ( بحاره ).
1ـ روى الصدوق عن أبي جعفر و أبي عبداللّه ـ عليهما السَّلام ـ
قالا : « إنَّ اللّه عزّوجلّ أرْحَمُ بِخَلْقِهِ من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثمّ
يعذبهم عليها ، و اللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون . قال فسُئِلا
ـ عليهما السَّلام ـ : هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا : نعم أوسع ممَّا
بين السماء و الأرض » (1).
2 ـ روى الصَّدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن
الرضا ـ عليه السَّلام ـ قال : « ذكر عنده الجبر و التفويض فقال : ألا أعطيكم
في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، و لا تخاصمون عليه أحداً إلاَّ كسرتموه ،
قلنا : إن رأيت ذلك . فقال: إنَّ اللّه عزّوجل لم يُطَع بإكراه ، و لم يُعْصَ
بِغَلَبَة ، و لم يُهْمِل العباد في ملكه . و هو المالك لما ملكهم ، و القادر على ما
أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته ، لم يكن اللّه عنها صاداً ، ولا منها
مانعاً ، و إن إئتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل ، و إنَّ لم
يحل و فعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه ، ثمّ قال ـ عليه السَّلام ـ : من
يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (2).
3 ـ وروى الصدوق عن المفضل بن عمر عن أبي عبداللّه
ـ عليه السَّلام ـ قال : « لا جبر و لا تفويض ولكن أمر بين أمرين » قال :
فقلت : وما أمر بين أمرين؟ قال : مَثَلُ ذلك مَثَلُ رجل رأيته على معصية ، فَنَهَيْتَه ،
فلم ينته ، فتركْتَه ، ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يَقْبَلْ منك ، فتركته أنت
الذي أمرته بالمعصية » (3).
4 ـ روى الصدوق في ( معاني الأخبار ) و ( عيون أخبار الرضا ) عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد : باب نفي الجبر و التفويض، الحديث 3، ص 360.
(2) المصدر السابق : الحديث 7، و السند صحيح.
(3) المصدر السابق : الحديث 8.
________________________________________
(358)
الفضل عن الرضا ـ عليه السَّلام ـ فيما كتب للمأمون: « مِنْ مَحْضِ الإِسلام
أنّ اللّه تبارك و تعالى لا يكلّف نفساً إلاَّ وُسْعَها ، و أن أفعال العباد مخلوقة للّه ،
خَلْقَ تَقدير لا خَلْقَ تكوين ، و اللّه خالق كل شيء ، و لا نقول بالجبر
و التفويض » (1).
5 ـ روى السيّد بن طاووس في ( طرائفه ) قال : روي أنَّ الفضل بن
سهل سأل الرضا ـ عليه السَّلام ـ بين يدي المأمون فقال : « يا أبا الحسن الخلق
مجبورون ؟ فقال : اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذبهم . قال :
فمُطْلَقون؟ قال : اللّه أحكم من أن يهمل عبده و يكله إلى نفسه » (2).
6 ـ و قد كتب الإِمام العاشر أبو الحسن الثالث ـ صلوات الله عليه ـ
رسالة في الردّ على أهل الجبر و التفويض ، و إثبات العدل ، والأمر بين
الأمرين ، و هذه الرسالة نقلها صاحب تحف العقول في كتابه ، و ممَّا جاء فيها :
« فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول مَن زعم أنَّ اللّه جلّ و عز ،
أجبر العباد على المعاصي و عاقبهم عليها ، و مَن قال بهذا القول فقد ظلّم اللّه
في حكمه ، وكذّبه ، وردّ عليه قَوْلَه: { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(3) . و قوله :
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}(4) . و قوله : {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(5) . فمَن زعم أنَّه مجبَر على
المعاصي ، فقد أحال بذنبه على اللّه ، و قد ظلَّمه في عقوبته ، و مَن ظلَّم اللّه
فقد كذَّب كتابه ، و مَن كذَّب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة . ـ إلى أن
قال ـ : فمَن زعم أنَّ اللّه تعالى فوض أمره و نهيه إلى عباده فقد أثبت عليه
العجز... ـ إلى أن قال ـ لكن نقول: إنَّ اللّه عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته ،
و مَلَّكَهُم استطاعةً تَعَبَّدَهُم بها فأَمرهم و نهاهم بما أراد... إلى أن قال :
و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض ، و بذلك أخبر أمير المؤمنين
ـ صلوات الله عليه ـ عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الإِستطاعة التي بها
يقوم و يقعد و يفعل ، فقال له أمير المؤمنين : سألت عن الإِستطاعة ، تملكها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار : كتاب العدل و المعاد، ج 5، الحديث 38، ص 30.
(2) المصدر السابق : الحديث 120، ص 56.
(3) سورة الكهف: الآية 49.
(4) سورة الحج: الآية 10.
(5) سورة يونس: الآية 44.
________________________________________
(359)
من دون اللّه أو مع اللّه؟ فسكت عباية ، فقال له أمير المؤمنين : قل يا عباية ،
قال : و ما أقول؟ . قال ـ عليه السَّلام ـ إن قلت إنك تملكها مع اللّه قتلتك .
و إنَّ قلت تملكها دون اللّه قتلتك . قال عباية : فما أقول يا أميرالمؤمنين؟ قال
ـ عليه السَّلام ـ تقول : إنك تملكها باللّه الذي يملكها من دونك . فإنْ
يُمَلّكها إياك كان ذلك من عطائه ، و إنَّ يَسْلُبْكَها كان ذلك من بلائه ، هو
المالك لما ملّكك ، و القادر على ما عليه أقدرك » (1).
قال العلاَّمة الطباطبائي : إختلف في الإِستطاعة قبل الفعل هل العبد
مستقل بها بحيث يتصرف في الأسباب و آلات الفعل من غير أن يرتبط شيء
من تصرفه باللّه ، أم للّه فيها صنع ، بحيث إنَّ القدرة للّه مضافة إلى سائر
الأسباب ، و إنّما يقدر العبد بتمليك اللّه إيَّاه شيئاً منها ، المعتزلة على الأوّل ،
و المتحصل من أخبار أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ هو الثاني (2).
ولكن إنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه ، فالمولى مالك لجميع ما
يملكه في عين كونه ملكاً للعبد (3).
و قد اكتفينا بهذا النزر اليسير ، و هو غيض من فيض ، و قليل من الكثير
من الأحاديث الواردة في باب الجبر و التفويض ، و باب القضاء و القدر . و قد
تقدم إيراد مجموعة من هذه الأحاديث فيما مضى .
و من ظريف ما روي عن الشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي
( ت 909 ـ م 966 ) قوله :
لقد جاء في القُرآن آيةُ حِكْمَة * تُدَمِّرُ آياتِ الضّلالِ ومن يجبُر
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق : كتاب العدل و المعاد ، الباب الثاني الحديث 1، ص 71 ـ 75. و هذا
الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم برقم 61، ص 39،
المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق : ص 39، تعليقة العلاَّمة الطباطبائي ـ رحمه الله ـ
(3) لاحظ تعليقته الأخرى : ص 83.
________________________________________
(360)
وَ تُخْبِرُ أنَّ الإِختيارَ بأَيدينا * فمن شاء فلْيُؤْمن و من شاء فَلْيَكْفُر (1).
***
رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين
إنّ فخر الدين الرازي ( ت 543 ـ م 606 هـ ) ، مع كونه متعصباً في
الذبّ عن كلام الأشعري ، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين و قال :
« هذه المسألة عجيبة ، فإنّ الناس كانوا مختلفين فيها أبداً بسبب أنَّ ما
يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة ، فَمُعَوَّلُ الجبرية على أنَّه لابدّ لترجيح
الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ، و معوّل القَدَرية على أنَّ العبد لو
لم يكن قادراً على فعل لما حسن المدح و الذمّ و الأمر و النهي » . ثمّ ذكر أدلة
الطائفتين إلى أن قال : « الحق ما قال بعض أئمة الدين إنَّه لا جبر و لا
تفويض ولكن أمر بين أمرين ؛ و ذلك أنَّ مبنى المبادئ القريبة لأفعال العباد
على قدرته و اختياره و المبادئ البعيدة على عجزه و اضطراره ، فالإنسان
مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب و الوتد في شق الحائط ، وفي
كلام العقلاء قال الحائط للوتد : لِمَ تَشُقُّني؟ فقال : سَلْ مَنْ يَدقُّني » (2).
إعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية
و ممّن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته ، الشيخ محمّد
عبده في رسالته حول التوحيد ، وقد أثّر كلامه في الأجيال المتأخرة من تلاميذ
منهجه و مطالعي كتبه ، قال : « جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين ، هما
ركنا السعادة و قوام الأعمال البشرية ، الأوّل : إنَّ العبد يكسب بإرادته و قدرته
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة الروضة البهية : للشهيد الثاني ، ص 188.
(2) بحار الأنوار : ج 5، ص 82. و لا يخفى إنَّه مع اعترافه ببطلان الجبر و التفويض في ثنايا
كلامه لم يفسّر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيراً لائقاً بها.
________________________________________
(361)
ما هو وسيلة لسعادته . و الثاني : إنَّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات ، و إن
من آثارها ما يحول بين العبد و إنفاذ ما يريده ، و إنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له
أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه...
وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده بعد أن
يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الكفر و إجادة العمل ، و هذا الذي
قررناه قد اهتدى إليه سلف الأُمة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ،
و عوّل عليه من متأخري أهل النظر إمام الحرمين الجُوَيْني ـ رحمه الله ـ ، و إن
أنكر عليه بعض من لم يفهمه» (1).
***
إلى هنا خرجنا بتوضيح حقيقة النظرية عن طريق البراهين العقلية
و النقلية ، ولكن بقيت ها هنا أسئلة حول القول باختيار الإِنسان نوردها واحدة
بعد الأُخرى ، فبعض هذه الأسئلة قرآني ، و البعض الآخر روائي ، و البعض
الثالث فلسفي ، و الإِجابة عليها تحل غالب المشاكل المحفوفة بنظرية
الإِختيار.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسالة التَّوحيد : ص 59 ـ 62 بتلخيص.
التعلیقات