المصالح العامّة ، وصيغة الحكومة بعد النبي
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةالمصالح العامّة ، وصيغة الحكومة بعد النبي
يسود بين المسلمين ، في صيغة الحكومة وقيادة الأُمّة بعد النبي ، رأيان واتّجاهان :
الأوّل : أنّ صيغة الحكومة صيغة التنصيب ، وأنّ الإمام بعد النبي يعين عن طريق الرسول بأمر من الله سبحانه.
الثاني : تفويض الأمر إلى اختيار الأُمّة ، وانتخابها بشكل من الأشكال التي ستوافيك.
والبحث في المقام : يرجع إلى محاسبة مصالح الأُمّة الإسلاميّة آنذاك ، فهل كانت تقتضي تحقيق النظريّة الأُولى ، وهي نظريّة النصّ على شخص أو أشخاص معينين ، أو تقتضي ترك مسألة الخلافة إلى رأي الأمّة ؟.
والحقُّ أنّ هنا أموراً تدلّ على أنّ مصلحة الأُمّة آنذاك ، كانت تتطلب تنصيب الإمام والقائد الّذي يخلف النبي ، وتعيينه بلسانه في حياته ، ووكان في ترك هذا رمي للاُمّة أمام أكبر المخاطر ، وإليك بيان تلك الأُمور :
الأوّل : الأُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثي
إنّ الدولة الإسلاميّة ، التي أسّسها النبي الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، كانت محاصرة حال وفاة النبي من جهتي الشمال والشرق ، بأكبر امبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة ، وكانتا على جانب كبير من القوّة والبأس ، وهما الروم وإيران ; هذا من الخارج.
وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من وطأة مؤامرات المنافقين الذين كانوا يشكّلون جبهة عدوانيّة داخليّة ، أشبه بما يسمّى بالطابور الخامس.
ويكفي في خطورة إمبراطوريّة إيران أنّه كتب ملكها إلى عامله باليمن ـ بعد ما وصلت إليه رسالة النبي تدعوه إلى الإسلام والتسليم ، ومزّقها ـ : « إبعث إلى هذا الرجل بالحجاز ، رجلين من عندك ، جلدين ، فليأتياني به » (1).
وكفى في خطورة موقف الإمبراطوريّة البيزنطيّة ، أنّه وقعت إشتباكات عديدة بينها وبين المسلمين في السنة الثامنة للهجرة ، منها غزوة مؤتة التي قتل فيها قادة الجيش الإسلامي وهم جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبدالله بن رواحه ، ورجع الجيش الإسلامي من تلك الواقعة منهزماً ، وقد أثارت هزيمتهم في هذه المعركة ، واستشهاد القادة الثلاثة ، نقمة شديدة في نفوس المسلمين تجاه الروم ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم بنفسه على رأس الجيش الإسلامي إلى تبوك في السنة التاسعة لمقابلة الجيوش البيزنطيّة ولكنّه لم يلق أحداً ، فأقام في تبوك أيّاماً ثم رجع إلى المدينة ، ولم يكتف بهذا بل جهّز جيشاً في أُخريات أَيّامه بقيادة أسامة بن زيد ، لمواجهة جيوش الروم.
وأمّا خطر المنافقين ، فحدّث عنه ولا حرج ، هؤلاء أسلموا بألسنتهم دون قلوبهم ، وأضمروا للمسلمين كلّ سوء ، وكانوا يتحينون الفرص لإضعاف الدولة الإسلاميّة ، بإثارة الفتن الداخليّة ، كما كانوا يتربصون الدوائر لاغتيال النبي وقتله (2).
ولقد انبرى القرآن الكريم لفضح المنافقين والتشهير بخططهم ضدّ الدين والنبي ، في العديد من السور القرآنيّة مثل البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والحشر ، وقد نزلت في حقّهم سورة خاصّة باسم المنافقين.
إنّ اهتمام القرآن بالتعرّض للمنافقين المعاصرين للنبي ، المتواجدين بين الصحابة ، أدلّ دليل على أنّهم كانوا قوّة كبيرة ويشكلون جماعة وافرة ، ويلعبون دوراً خبيثاً ، خطيراً في تعكير الصف ، وإفساح المجال لأعداء الإسلام ، بحيث لولا قيادة النبي الحكيمة ، لقضوا على كيان الدين ، وأطاحوا بصرحه.
ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّـهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (3).
وقد كان محتملاً ومترقَّباً أن يتحد هذا المثلث الخطير « الفُرُس ، الروم ، المنافقون » ، لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره ، بعد وفاة النبي.
فمع هذا الخطر المحيق الداهم ، ما هي وظيفة القائد الحكيم الذي أرسى قواعد دينه على تضحيات عظيمة ، فهل المصلحة كانت تقتضي تنصيب قائد حكيم عارف بأحكام القيادة ووظائفها حتّى يجتمع المسلمون تحت رايته ، ويكونوا صفّاً واحداً في مقابل ذاك الخطر ، أو أنّ المصلحة العامّة تقتضي تفويض الأمر إلى الأُمّة ، حتّى يختاروا لأنفسهم أميراً ، مع أنّ من المعلوم أن ترك الأمر إلى الأُمّة في ذلك الوقت الحرج ، يلازم الشغب والإختلاف والتنافس الذي لم يكن لصالح الإسلام والمسلمين ، في الوقت الذي يعانون فيه من وفاة النبي ؟.
فأقضِ ما أنت قاض.
الثاني ـ الحياة القبلية تمنع من الإتّفاق على قائد
من أبرز ما كان يتميّز به المجتمع العربي في حياة النبي الأكرم ، هو حياة النظام القبلي ، والتقسيمات العشائريّة التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانة كبرى.
وقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربيّة قبل الإسلام وبعده ، وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات ، وتنشد القصائد ، وتبنى الأمجاد ، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب وأغبل المنازعات.
إنّ التاريخ يشهد لنا كيف كاد التنازع القبلي في قضيّة بناء الكعبة المشرّفة ، ووضع الحجر الأسود في موضعه أيّام الجاهليّة ، أن يؤدّي إلى الإختلاف ، فالصراع الدموي ، والإقتتال المرير ، لولا تدخل النبي الأكرم (4).
وقد سعى النبي الأكرم ، سعياً حثيثاً ، لمحو الروح القبلية ، واذابة الفوارق العشائريّة ، وجمع تلك المتشتتات في بوتقة الإيمان الموحّد ، ولكن لم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي فخراً ، سوى التعرّف والتعريف (5).
والشواهد على تغلغل العصبيّات القبلية في نفوس أكثر الصحابة ، كثيرة ، ويكفي في ذلك ما ورد في غزوة بني المصطلق ، حيث تنازع مهاجري مع أنصاريٍّ ، فصرخ الأنصاري : « يا معشر الأنصار » ، وصرخ الآخر : « يا معشر المهاجرين ». ولمّا سمع النبي هذه الكلمات قال : « دعوها فإنّها دعوىً منتنة ».
ولولا قيادته الحكيمة ، لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار (6).
وما نقله ابن هشام من أن شعث بن قيس ، وكان شيخاً من اليهود ، مرّ ذات يوم على نفرً من أصحاب الرسول ، من الأوس والخزرج ، فرآهم يتحدّثون ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، فأمر فتى شاباً من اليهود ، كان معهم ، فقال له : إعمدا إليهم ، فاجلس معهم ، ثمّ اذكر يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، ففعل الشاب ذلك ، فأَثّر كيد ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين ، وقال : « يا معشر الملسلمين ، الله ، الله ، أبدعوى الجاهليّة ، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة واستنقذكم به من الكفر » ؟ (7).
ومن ذلك الذي يدلّ على تعمّق رواسب القبيلة في النفوس ، ماذكره الشيخ البخاري في صحيحه ، في قصد الإفك ، قال : « قال النبي وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً ، و ما يدخل على أهلي إلّا معي ».
قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.
قالت عائشة : فقام رجل من الخزرج ، وهو سعد بن عبادة ، وهو سيّد الخزرج ـ قالت عائشة ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمرو الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقال أُسيد بن حضير ، وهو ابن عمّ سعد بن معاذ ، لسعد بن عبادة : كذبت لعمرو الله ، لتقتلنّه ، فانّك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت عائشة : فصار الحيّان « الأوس والخزرج » حتّى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، قائم على المنبر ، ولم يزل رسول الله ، يخفضهم ـ أيّ يهدئهم ـ حتّى سكتوا » (8).
ولا يقل شاهداً على وجود هذه الرواسب في نفوس الكثيرين منهم ، ما ظهر منهم في يوم السقيفة من روح القبلية ، ونزعة التعصّب ، وتبودل بينهم من الشتم والضرب ، وإليك نقل القصّة عن لسان عمر ، قال : « فقال ممثل الأنصار « سعد بن عبادة » :
أما بعد فنحن أنصار الله ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين ، رهط منّا ، وقد دفت دافة من قومكم ـ أيّ جاء جماعة ببطء ـ وإذا هم يريدون أن يختارونا ـ يدفعونا ـ من أصلنا ، ويغصبونا الأمر.
فقال أبوبكر (9) : أمّا ما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم له أصل ولن تعرف العرب هذا الأمر ، إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً.
ثمّ قال قائل من الأنصار : « أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش ». قال عمر : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتّى تخوفت الإختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته : ثمّ بايعه المهاجرون ، ثمّ بايعه الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، قال: فقلت : قتل الله سعد بن عبادة » (10).
ولم يقتصر إختلاف الأمّة على ما جرى في السقيفة ، بل جرت بين الأنصار والمهاجرين مشاجرات كلاميّة وشعرية وهجائيّة ، هاجم كلٌّ الفريق الآخر ، بأنواع الهجاء ، نقلها المؤرّخون ولا يعجبني نقل كلمهم (11).
وما ذكرناه غيض من فيض ممّا جرى بين الصحابة من المنازعات والخلافات الناشئة من روح القبلية ، والتعصّب العشائري.
أفهل يجوز في منطق العقل ترك هذا المجتمع ، الغارق في نزاعاته العصبيّة ، دون نصب قائد ، يكون نصبه قاطعاً لدابر الإختلاف ، ومانعاً من مأساة التمزّق والتفرّق ؟ فاقض ما أنت قاض.
وها هنا محاسبة ثالثة لا تقلّ عن العاملين السابقين في استلزامها كون المصلحة تقتضي نصب القائد ، لا تفويض الأمر إلى المسلمين أنفسهم ، وهي ما يلي :
الثالث ـ الصحابة ومدى الوعي الديني
إنّ الأُمّة الإسلاميّة ـ كما يدلّ عليه التاريخ ـ لم تبلغ في القدرة على تدبير أمورها ، وإدارة شؤونها حدّ الإكتفاء الذاتي الذي لا تحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب الله سبحانه. وقد كان عدم بلوغهم هذا الحدّ أمراً طبيعياً لأنّه من غير الممكن تربية أمّة كانت متوغلة في العادات الوحشيّة ، والعلاقات الجاهليّة ، والنهوض بها إلى حدٍّ تصير أمّة كاملة ترفع عن نفسها الرواسب ، وتستغني عن نصب القائد المحنّك ، والرئيس المدبّر ، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في هذا المجال.
إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ، ومثل هذه الأُمّة ، لا تتمّ في العادة إلّا بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلاميّة إلى أعماق تلك الأُمّة ، بحيث تختلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها ، وتتمكن منها العقيدة إلى درجة تحفظها من التذبذب والتراجع إلى الوراء.
ويكفيك شاهداً على هذا ، معركة أحد ، فقد هرب المسلمون ـ إلّا قليل ـ من ساحة المعركة عند ما أذيع نبأ قتل النبي من جانب الأعداء ، ولاذ بعضهم بالجبل ، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين ، حتّى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وترددهم قائلاً : « إن كان محمّد قد مات ، فربّ محمّد حيّ ، قوموا ودافعوا عن دينه » (12) وفي هذا نزل قوله سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ ) (13).
ويقول سبحانه في شأن من ذهبوا يفتشون عن ملجأ لهم فراراً من الموت : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) (14).
ولم تكن واقعة أحد وحيدة في نسجها ، بل كانت غزوة حنين على منوالها في التقهقر والفرار عن ساحة الحرب ، يقول ابن هشام عن جابر :
استقبلنا وادي حنين ، وانحدرنا في واد من أودية تهامة ، وكان العدوّ قد سبقونا إلى الوادي وكمنوا لنا في شعابه واحنائه ، ومضائقه ، وقد شدّوا علينا شدّة رجل واحد ، وانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله ذات اليمين ، وهو يقول : أين ، أيّها الناس ؟ هلموا إليّ أنا رسول الله. فانطلق الناس ، إلّا أنّ بقي مع رسول الله من جفاة أهل مكّة الهزيمة ، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : « لا تنتهي هزيمتهم دون البحر » ، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته . وصرخ جبلة بن الحنبل : « ألا لَبَطل السِّحْر » (15).
وغير ذلك من الأحداث والوقائع التي كشفت عن عدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوب الأكثريّة منهم.
نعم كان بينهم رجال صالحون ، يضحون في سبيل العقيدة ، بأنفس النفائس ، وأثمن الأموال ، غير أنّ البحث مركز على دراسة وضع المجتمع الإسلامي ككل ، لا من حيث اشتماله على أفراد لا يدرك شأوهم في الفضيلة والصلاح.
ولعلّ الباحث يتخيّل أنّهم انقلبوا بعد رحلة الرسول إلى مجتمع ديني لا يتخطّون سبيل الدين قيد أنملة ، ولكن ما ورد في الصحاح والمسانيد من ارتداد أمّة كبيرة من الصحابة ، يؤيّد ما ذكرناه من عدم رسوخ العقيدة والإيمان في قلوبهم ، ولا مجال لذكر جميع الروايات ، إنّما نكتفي بواحدة منها ونحيل البقيّة إلى الباحث الكريم :
روى البخاري في تفسير قوله سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ) (16) قال : خطب رسول الله فقال : ألا وإنّه يجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول ، يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ) فيقال إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ما فارقتهم (17).
إنّ دراسة هذه الأمور الثلاثة ، يرشدنا إلى أنّ القائد الحكيم ، الذي مرّت عليه هذه الأوضاع والأحوال وعاينها عن كثب ، عليه أن يستخلف قائداً للأمّة لما في هذا التنصيب من مصلحة ، وقطع لدابر الإختلاف ، وجمع لشمل الأمّة. وهذا بخلاف ما لو ترك الأمر إلى المسلمين أنفسهم ، ففيه من الأخطار ما صوّرناه.
إنّ القائد الحكيم هو من يعتني بالأوضاع الإجتماعيّة لأمّته ، ويلاحظ الظروف المحيطة بها ، ويرسم على ضوئها ما يراه صالحاً لمستقبلها ، وقد عرفت أنّ مقتضى هذه الظروف هو تعيين القائد والمدبّر ، لا دفع الأمر إلى الأُمّة.
و إلى ما ذكرنا ينظر قول حكيم الإسلام الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا في حقّ الإمام :
« و الإستخلاف بالنصّ أصوب ، فان ذلك لا يؤدّي إلى التشعب والتشاغب والإختلاف » (18).
* * *
وحصيلة الكلام أنّ النظر إلى لزوم ملأ الفراغات الهائلة التي تخلفها رحلة النبي الأكرم ومحاسبة مصالح الأمّة آنذاك ، لا يدع شكّاً في أنّ صيغة التنصيب ، لا ترك الأمر إلى الأُمّة واختيار الإمام بطريق من الطرق التي سنشير إليها.
هذا ، مع قطع النظر عن النصوص التي تعيّن النظريّة الأُولى بوضوح ، وأنّه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، قد قام بنصب الوصي خضوعاً بمصالح الإسلام والمسلمين ثالثاً ، فإلى الملتقى في مورد هذه النصوص.
الهوامش
1. الكامل ، للجزري ، ج 2 ، ص 145.
2. لاحظ التفاسير ، في تفسير قوله سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) [ سورة التوبة : الآية 65 ] ، وكان المنافقون قد حاولوا اغتيال النبي الأكرم في العقبة ، عند عودته من تبوك.
3. سورة التوبة : الآية 48.
4. قد ذكرنا هذه القضيّة فيما تقدّم.
5. إشارة إلى قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) [ سورة الحجرات : الآية 13 ].
6. صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 119 ، باب غزوة بني المصطلق.
7. السيرة النبويّة ، ج 1 ، ص 555.
8. صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 119 ، باب غزوة بني المصطلق.
9. لم يكن يوم السقيفة من المهاجرين إلّا خمسة ، أشخاص ، ولأجل ذلك لم نصف القائل بممثل المهاجرين.
10. السيرة النبويّة ، ج 2 ، ص 659 ـ 660. وإنّما بايعه الأوس من الأنصار ، وأما الخزرجيّون ، فقد خرجوا غير مبايعين لأحد.
11. لاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 6 ، ص 17 ـ 38 ط مصر.
12. سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 83.
13. سورة آل عمران : الآية 144.
14. سورة آل عمران : الآية 154.
15. سيرة ابن هشام : ج 2 ، ص 448.
16. سورة المائدة : الآية 117.
17. صحيح البخاري ، ج 3 ، ص 85. وصحيح مسلم ، كتاب الجنّة ونعيمها ، ومسند الإمام أحمد ، ج 1 ، ص 235.
إنّ الروايات الدالّة على ارتداد الصحابة رحلة النبي الأكرم ، كثيرة جدّاً ، لا يمكن حملها على نفر أو اثنين منهم ، بل لا يصحّ في تفسيرها إلّا حملها على أمّة كبيرة منهم ، فلاحظ ماورد في هذا المجال : جامع الأصول لابن الأثير ، ج 11، كتاب الحوض، الفرع الثاني في ورود الناس عليه، الأحاديث 7969 ـ 7980.
18. الشفاء ، الفن الثالث عشر في الإلهيّات ، المقالة العاشرة ، الفصل الخامس ، ص 564.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 46 ـ 55
التعلیقات