الإشكال الثالث
الإشكالات المثارة حول الشفاعة
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 353 ـ 354
(353)
* الإشكال الثالث :
إنّ الشفاعة لا تتحقق إلا بترك الإرادة وفسخها لطلب الشفيع رفع العقاب
عن المشفوع له ، من غير فرق بين الحاكم العادل والحاكم الظالم ، غاية الأمر أنّ
الحاكم العادل لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغيّر علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن
أخطأ ، ثمّ عرف الصواب ، ورأى العدل في خلاف ما أراده أو حكم به ، وأمّا
الحاكم الظالم ، فهو يقبل الشهادة لكن مع العلم بصواب الحكم الأوّل ، وكونه
عدلاً ، لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكلا
النوعين محال على الله ؛ لأنّ إرداته تعالى على حسب علمه ، وعلمه أزلي لا
يتغير (1).
والجواب :
إنّ المستشكل لو أمعن في حقيقة الشفاعة التّي نطق بها القرآن والأحاديث لما
جعل الشفاعة من هذ الباب ، بل هي من وادٍ آخر ، ومن باب تغيير الحكم لأجل
تغيّر الموضوع ، فالخمر ما دام خمراً حرام ، فإذا تبدل إلى الخل يكون حلالاً ، ولا
يعد الحكم الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.
ونظير ذلك العاصي والتائب ، فإنّ العصيان حالة نفسانية في الإنسان ، فله
حكمه الخاص ، كما أنّ التوبة حاكية عن حالة نفسانية مغايرة للحالة الأُولى ، فلها
حكمها الخاص ، والاختلاف في الحكمين لأجل الاختلاف في الموضوعين ، ولا
يعد ذلك تبدّلاً في العلم ، بل تبدّلاً في المعلوم .
و على هذا الأساس ، فالعاصي مجرداً عن انضمام الشفاعة إليه ، محكوم
بالعقاب ، ولكنه - منضمّة إليه الشفاعة - محكوم بحكم آخر من أوّل الأمر ،
واختلاف الحكمين لأجل اختلاف الموضوعين في الإطلاق والتقييد.
وإن شئتَ قلت : إنّ العاصي مجرداً عمّا يمرّ عليه في البرزخ من العذاب ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - المنار : ج 1 ص 307 ، و قد تبنى مؤلفه هذا الإشكال وما يليه !!
________________________________________
(354)
وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،
محكوم بالعقاب ، ولكنه - منضماً إلى الضمائم الثلاث - محكوم بالمغفرة.
وعلى ضوء هذا ، يتبين أنّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه ، وتغييراً في
إرادته ، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً
للجور ، بل الحكمان صدرا من الأزل على موضوعين مختلفين ، من مصدر
العدل تبارك وتعالى.
التعلیقات