الوضوء في عهد عمر بن الخطاب
السيد علي الشهرستاني
منذ 7 سنواتعهد عمر بن الخطاب « 13 ـ 23 هـ »
على الرغم من استقرائنا ، وتتبعنا الدقيق في تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء ـ في هذا العهد ـ لم نعثر على ما يشير إلى وجود اختلاف جوهري بين المسلمين فيه .. اللهم إلّا في مسألة يسيرة وفي حالة من حالات الوضوء ، هي جواز المسح على الخفّين ، أو عدمه.
وإليك بعضا من النصوص الواردة بهذا الشأن :
جاء في تفسير العيّاشي ، عن زرارة بن أعين ، وأبي حنيفة ، عن أبي بكر ابن حزم ، قال : توضّأ رجل ، فمسح على خفيه ، فدخل المسجد فصلّى ، فجاء علي فوطأ على رقبته ، فقال : ويلك ! تصلّي على غير وضوء ؟
فقال [ الرجل ] : أمرني عمر بن الخطاب.
قال [ الراوي ] : فأخذه بيده ، فانتهى به إليه
فقال [ علي ] : انظر ما يروي هذا عليك ؟ ـ ورفع صوته ـ.
فقال [ عمر ] : نعم ، أنا أمرته ، إن رسول الله (ص) مسح.
قال [ علي ] : قبل المائدة ، أو بعدها ؟
قال [ عمر ] : لا أدري !
قال [ علي ] : فلم تفتي وأنت لا تدري ؟! سبق الكتاب الخفين (1).
وفي النصّ إشارات جمة ، يهمّنا منها ـ في هذا المقام ـ : عبارة « ما يروي هذا عليك » بدلاً من « ... عنك » ، فالذي يظهر من قول الإمام علي أنّه قد اتّهم الماسح على الخفين بالتقول على عمر ، وذلك لبداهة كون المسح على القدمين هو السنّة المنصوص عليها ، دون المسح على الخفين ، ويمكننا أن نفهم من ظاهر قول الإمام علي كون المسح على القدمين في غاية الوضوح عند الجميع ، وإلّا لما صحّ الإنكار ، وادّعاء التقول.
وبعد تثبت الإمام علي من أن عمر هو الراوي المجيز للمسح على الخفين ، قام بمناقشة ذلك الرأي وبين أن المسح على الخفين غير جائز ، وأن المسح على القدمين هو المشروع لا غير ، بدليل آية من سورة المائدة التي أحكمت كل شيء ، حيث أمرت بالمسح على الرجلين وأرجلكم إلى الكعبين (2) ، علماً بأن سورة المائدة كانت آخر ما نزل من القرآن ـ إلّا براءة ـ باتّفاق جميع المسلمين.
وقد حصل هذا الالتباس لصحابة آخرين غير عمر ، فقد روى العيّاشي أنه :
أتى أمير المؤمنين رجل ، فسأله عن المسح على الخفين ، فأطرق في الأرض مليّاً ، ثمّ رفع رأسه فقال : « يا هذا إن الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطهارة ، وقسمها على الجوارح ، فجعل للوجه منه نصيباً ، وجعل لليدين منه نصيباً ، وجعل للرأس منه نصيباً ، وجعل للرجلين منه نصيباً ، فإن كانت خفاك من هذه الأجزاء ، فامسح عليهما » (3).
وما ذكر الإمام علي هذا الاستدلال إلّا لرفع اللبس عن القائلين بجواز المسح على الخفين ، والخليفة عمر بن الخطاب من أولئك القائلين.
وأخرج السيوطي بسنده ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر ، سعد وعبد الله بن عمر.
فقال عمر [ لعبد الله ] : سعد أفقه منك !
فقال [ عبد الله بن ] عمر : يا سعد ، إنّا لا ننكر أنّ رسول الله مسح ، ولكن هل مسح منذ أنزلت سورة المائدة ؟ فإنّها أحكمت كلّ شيء ، وكانت آخر سورة من القرآن ، إلّا براءة (4).
نحن لسنا بصدد تنقيح البحث في جواز المسح على الخفين أو عدمه ، بل الذي نقوله هو : إن الخلاف لم يشكل مدرسة وضوئيّة كاملة ، بل إن أغلب الروايات الواردة عن الخليفة في الوضوء كانت تدور حول نقطة واحدة وبيان حالة معيّنة من حالات الوضوء ، ولم نعثر على اختلافات أخرى بين الصحابة آنذاك ، كما هو مختلف فيه بين فرق المسلمين بعد ذلك ، مثل حكم غسل اليدين ، هل هو من الأصابع إلى المرافق أو العكس ؟ أو كمسح الرأس ، هل يجب كلّه ، أو يجوز بعضه ، أو أن الماء المأخوذ للمسح ، هل هو واجب أو جائز ، أو أن الوضوء يبطل به ؟
وما هو حكم مسح الرقبة ، هل هو من مسنونات الوضوء، أم ماذا ؟ وما إلى ذلك من المسائل المطروحة.
إن عدم نقل وضوء بياني عن الخليفة ، وعدم تأكيده على تعليم الوضوء للمسلمين لدليل على أن الاختلاف بينهم لم يكن إلّا جزئيّاً ، وأنّه لم يشكل بعد عند المسلمين نهجين وكيفيّتين كما هو المشاهد اليوم ، إذ لو كان ذلك لسعى الخليفة في إرشاد الناس ودعوتهم إلى وضوء رسول الله (ص) ، وقد تناقلت كتب السير والتاريخ اهتمامه بجزئيّات الشريعة مدّة خلافته الطويلة ، ومنها :
ما روي من أن النبي (ص) رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير ـ لحكة كانت به ـ فأقبل عبد الرحمن ذات يوم على عمر ومعه فتى من بنيه قد لبس قميصاً من حرير ، فنظر عمر إليه وقال : ما هذا ؟! ثمّ أدخل يده في جيب القميص فشقّه إلى أسفله ، فقال له عبد الرحمن : ألم تعلم أن رسول الله قد رخص لي لبس الحرير ؟ قال عمر : بلى ، لشكوى شكوتها ، فأمّا بنيك فلا (5).
ونقل عنه : إن أبا عبيدة ـ واليه على الشام ـ قد كتب إليه : إن نفراً من المسلمين قد شربوا الخمر في دمشق بعد فتحها ، فكتب إليه عمر أن يسأل هؤلاء النفر عن رأيهم في الخمر ، أحلال هي أم حرام ؟ فإن استحلوها ضرب أعناقهم ، لأنّهم جحدوا نصّاً من القرآن الكريم ، وإن اعترفوا بأنّها محرّمة وفسقوا فيها ، أقام عليهم الحدّ (6).
وقصّته مع ابنه عبد الرحمن الأوسط ـ أبي شحمة ـ معروفة ، وقد تحدث بها الرواة ، فقد شرب أبو شحمة الخمر بمصر ، فأقام عليه والي عمر الحدّ في صحن الدار، وليس في جمع المسلمين ـ وذلك لقربه من الخليفة ـ وما أن بلغ عمر ذلك أمر بأن يرسل إليه على قتب ، ليكون السفر أكثر مشقّة عليه ، ولما وصل المدينة كان مريضاً ، فجيء به إلى عمر وهو على تلك الحال ـ مريضاً مكدوداً ـ فأقام عليه الحدّ فوراً بمحضر جماعة من المسلمين ، ولم يلتفت الأب الخليفة لاستغاثة فتاه حتّى مات تحت السياط (7).
ومنها : قضيّة نصر بن حجّاج والمرأة التي قالت فيه أبياتاً من الشعر ، مطلعها :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها |
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج |
فلمّا سمع عمر الأبيات ، أرسل إلى نصر بن حجاج فرآه شاباً جميلاً حسناً ، فجز شعره وغربه ونفاه إلى بلد آخر ، وقال : والله ، لا يساكنني رجل تهتف به العواتق في الخدور (8) ، ... وما إلى ذلك كثير.
فإذا كان الاهتمام بالأحكام إلى هذا المدى ، فلم لا نرى للخليفة وضوءاً بيانيّاً لو كان الاختلاف في الوضوء قد شجر بين المسلمين ؟!
وإذا كان يفعل بشاب ما فعل به لقول قائلة متغزلة ، والولاة يهتمّون بنقل الأخبار من الأمصار إلى الخليفة ، فلماذا لا نرى نقل خبر عنهم في الوضوء ؟!
وإذا صحّ وقوع الخلاف في الوضوء في هذا العهد ، فكيف يصحّ السكوت من عمر ـ على وسع اهتماماته ـ عن الاختلاف في الوضوء ؟! ذلك الفرض الذي تتوقّف عليه كثير من العبادات من صلاة وحج !
بناء على ما تقدّم ، نستبعد حصول اتّجاه وضوئي مخالف لسنّة رسول الله (ص) وفعله ، إذ لو كان لتناقلته الكتب ، فعدم توجّه الخليفة إلى هذه المسألة المهمّة الحسّاسة ، دليل على استقرار المسلمين على وضوء رسول الله (ص).
الهوامش
1. تفسير العياشي 1 : 297 / 46.
2. المائدة : 6.
3. تفسير العياشي 1 : 301 / 59.
4. الدر المنثور 2 : 263.
5. راجع صحيح مسلم 3 : 1646 / 24 ، والنص السابق أخذ عن مجموعة طه حسين.
6. مجموعة طه حسين 4 : 51 و١٦٤.
7. مجموعة طه حسين 4 : 165.
8. حلية الأولياء 4 : 322.
مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 35 ـ 39
التعلیقات