هل الجنة والنار مخلوقتان؟
الجنّة والنار
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 419 ـ 425
(419)
أسئلة المعاد
(11)
هل الجنة والنار مخلوقتان؟
إنّ الله سبحانه وعد المتقين بالجنة ، وأوْعد العاصين بالنار ، فهل هما مخلوقتان
الآن ، أم لا؟
الجواب : ذهبت المعتزلة ـ غير أبي على الجبّائي ـ والخوارج وطائفة من
الزيدية ، إلى الثاني ، وذهبت الإمامية والأشاعرة إلى أنّهما مخلوقتان.
قال الشيخ المفيد : « إنّ الجنة والنّار في هذا الوقت مخلوقتان، وبذلك جاءت
الأخبار ، وعليه إجماع أهل الشرع والآثار » (1).
وقال التفتازاني : « جمهور المسلمين على أنّ الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافاً
لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار ، ومَن يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا أنّهما
إنّما يُخْلَقان يوم الجزاء » (2).
والظاهر من السيّد الرضي ، أنّهما غير مخلوقتين الآن ، قال : « والصحيح أنّهما
تخلقان بعد » (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - أوائل المقالات : ص 102.
(2) - شرح المقاصد : ج 2، ص 218، ولاحظ شرح التجريد : للقوشجي ، ص 507، والعبارتان
متحدتان.
(3) - حقائق التأويل : ص 245.
________________________________________
(420)
أدلة القائلين بخلقهما
استدل على كون الجنة والنار مخلوقتان ، بوجوه :
الوجه الأول: قصة آدم وحواء ، وإسكانهما الجنة ، وأكلهما من الشجرة ،
وخصفهما عليهما من ورق الجنة ، ثمّ إخراجهما منها ، على ما نطق به الكتاب
والسنة ، وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين ، وحملهما على بستان من بساتين
الدنيا ، ليس عليه دليل (1).
يلاحظ عليه : إنّ حمله على غير جنة الخلد الّتي هي قرار المآب وجنة
الثواب ، ليس أمراً بعيداً ، والجنة في أصل اللغة يعبر بها عن الرياض ،
والمنابت ، والأشجار ، والحدائق ، والكروم المعروشة ، والنخيل.
وعلى هذا قوله سبحانه : { وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ } (2).
وقوله سبحانه: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (3).
ويمكن أنْ يؤيّد ذلك بأنّه لو كانت جنّة الخلد ، لما خرج منها ، قال
سبحانه : { أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ} (4).
وهذا ، وإنْ كان يُمكن حَمْلُه على مَنْ دَخَلَها بَعْدَ دارِ الدنيا ، وهو غَيْرُ متحقق
في آدم ، ولكنه احتمال في مقابل احتمال . وكما لا يمكن الاحتجاج على كونهما
مخلوقين بما ورد في جنة آدم ، كذلك لا يمكن الاحتجاج عليه بما ورد من كون
الشهداء أحياءً عند ربهم يرزقون (5) ، أو بما وَرَدَ من أنّ آل فرعون يُعْرَضون على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - شرح المقاصد : ج 2، ص 218.
(2) - سورة الكهف : الآية 39.
(3) - سورة سبأ : الآية 15.
(4) - سورة المؤمنون : الآيتان 10 ـ 11.
(5) - سورة آل عمران : الآية 169.
________________________________________
(421)
النار غُدُوّاً وعشياً (1) ، لأنّهما راجعان إلى الحياة البرزخية ، أو التنعيم والتعذيب
فيهما ، غيرهُما في الآخرة.
الوجه الثاني: الآيات الصريحة في كونهما مخلوقين ، كقوله سبحانه:
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (2) ، وكقوله في
حقّ الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (3) ، و: { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ } (4) ، و: { وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (5) ، وفي حق النار: { أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ} (6) ، و : { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} (7) ، وحملها على التعبير عن
المستقبل بلفظ الماضي مبالغةً في تحققه ، مثل : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} (8) ،
و: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ } (9) ، يحتاج إلى دليل(10).
وهذا الاستدلال أمتن من سابقه ، ومع ذلك فالاعتقاد بكونهما مخلوقتين الآن
يتوقف على كون دلالتهما على المقصود قطعية ، وهو غير حاصل ، لما عرفتَ من
الاحتمال الآخر (11).
نعم ، بعض هذه الآيات لا يحتمل إلا المعنى الأوّل ، مثل قوله : {عِنْدَهَا
جَنَّةُ الْمَأْوَى} ؛ إذ لم ير التعبير عن الشيء الّذي سيتحقّق غداً ، بالجملة
الاسمية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة غافر : الآية 46.
(2) - سورة النجم : الآيات 13 ـ 15.
(3) - سورة آل عمران : الآية 133.
(4) - سورة الحديد : الآية 21.
(5) - سورة الشعراء : الآية 90.
(6) - سورة آل عمران : الآية 131.
(7) - سورة الشعراء : الآية 91.
(8) - سورة الكهف : الآية 99.
(9) - سورة الأعراف : الآية 44.
(10) - شرح المقاصد : ج 2، ص 218 ـ 219.
(11) - وقد اعتمد على هذا الاحتمال السيّد الرضي في حقائق التأويل : ص 247، وقال : إنّ التعبير بالفعل
الماضي ، لصحته وتحقق وقوعه ، وكأنه قد كان ، فعبر عنه بعبارة الكائن الواقع.
________________________________________
(422)
الوجه الثالث : إنّ الله تعالى رَغّب المُكَلّفين بالجنة ، ورهّبَهم بالنار ،
فكيف يصح الترغيب بجنة لم يخلقها ، والترهيب بنار لم يخلقها (1).
وهذا الوجه ضعيف جداً ؛ لأنّ الجنّة الموصوفة ، لمّا كانت مقدورة له
تعالى ، ومثلها النار ، صحّ الترغيب والترهيب ، كما رغب المكلفين في ثواب لم
يوجد بعد ؛ لأنّ وعده صادق وأمره واقع (2).
نعم ، هناك روايات لا يمكن العدول عنها ، لتضافرها روى الصدوق في
الأمالي والتوحيد عن الهَرِوي ، قال : قلت : للرضا ـ عليه السَّلام ـ : يابن
رسول الله ، أخبرني عن الجنّة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال : نعم ، وإنّ
رسول الله قد دخل الجنة ورأى النار ، لما عرج به إلى السماء. قال : فقلت له :
فإنّ قوماً يقولون إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين . فقال ـ عليه السَّلام ـ : ما أُولئك
منّا ولا نحن منهم ، من أنْكر خلق الجنة والنار ، فقد كذّب النبي ـ صلى الله عليه
وآله وسلم ـ وكذّبنا (3).
أدلة النافين لخلقهما
استدل النافون لخلقهما بوجوه :
1 ـ إنّ خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء ، عبث ، لا يليق بالحكيم تعالى .
2 ـ إنّهما لو خلقتا لهلكتا ، لقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } (4).
واللازم باطل ، للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة بدوام أُكُل الجنة
وظلّها.
3 ـ إنّهما لو وجدتا الآن فإمّا في هذا العالم ، أو في عالم آخر ، وكلاهما
باطل ، وأمّا الأوّل : ؛ فلأنه لا يتصور في أفلاكه ، لامتناع الخرق والالتئام عليها ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - حقائق التأويل : ص 248.
(2) - المصدر السابق نفسه.
(3) - حق اليقين : للسيّد شبر ، ج 2، ص 204.
(4) - سورة القصص : الآية 88.
________________________________________
(423)
ولامتناع حصول العنصريات فيها ، ولأنّها لا تسع جنّة عرضها كعرض السماء
والأرض.
وأمّا الثاني : بأن يكونا فوق محدد الجهات (1) ؛ فلأنّه يلزم أن يكون في
اللامكان مكان ، وفي اللاجهة جهةٌ (2).
يلاحظ على الأوّل: أنّ الحكم بالعبثية يتوقف على العلم القطعي بعدم ترتب
غرض عليه ، ومن أين لنا بهذا العلم؟
ويلاحظ على الثاني: أنّه ليس المراد من : { هَالِكٌ } هو تحقق انعدامه وبطلان
وجوده ، بل المراد أنّ كل شيء هالك في نفسه ، باطل في ذاته ، لا حقيقة له إلا ما
كان عنده ممّا أفاضه الله عليه ، والحقيقة الثابتة في الواقع الّتي ليست هالكة باطلة من
الأشياء هي صفاته الكريمة ، وآياته الدالة عليها فيهما جميعها ثابتة بثبوت الذات
المقدسة ، هذا بناء على كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل.
وأمّا إذا أُريد من الهالك ما يستقبله الهلاك والفناء ، بناء على ما قيل من أنّ
اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال ، فهلاك الأشياء ليس بمعنى البطلان المطلق بعد
الوجود ، بأن لا يبقى منها أثر ؛ فإنّ صريح كتاب الله ينفيه ، فإن آياته تدل على
أنّ كل شيء مرجعه إلى الله ، وأنّه المنتهى وإليه الرجعى ، وهو الّذي يُبدىءُ الخلق ثمّ
يعيده.
وإنّما المراد بالهلاك على هذا الوجه ، تَبَدُّل نشأة الوجود ، والرجوع إلى الله ،
المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة ، والتلبس بالعود بعد البدء ، وهذا إنّما
يشمل ما كان موجوداً بوجود بدني دنيوي ، وأمّا نفس الدار الآخرة ، وما هو
موجود بوجود أُخروي كالجنة والنار ، فلا يتصف بالهلاك بهذا المعنى. قال
سبحانه: { مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - محدّد الجهات عبارة عن الفَلَك التاسع ، وهو الفلك الأطلس الّذي كان يعتقد به بطلميوس ، ويقول :
ليس فوقه خلاء ولا ملاء.
(2) - لاحظ هذه الوجوه الثلاثة في شرح المقاصد : ج 2، ص 219.
(3) - سورة النحل : الآية 96.
________________________________________
(424)
وقال سبحانه: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} (1) ، وقال سبحانه : { وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ } (2) ، وكذا اللوح المحفوظ ، كما قال سبحانه :
{ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } (3) ، فهذه الآيات تعرب عن عدم شمول الآية إلا لما له
وجود دنيوي ، فيتبدل إلى وجود أُخروي ، لا ما كان موجوداً بوجود أُخروي من
بدء الأمر.
ويلاحظ على الثالث : أنّه مبني على التصوير البَطْلَمْيوسي للعالم ، وقد أبطل
العلم أصله ، فيبطل ما فرع عليه ؛ فإن الكون وسيع إلى حد لا تحيط به الأرقام
والأعداد النجومية.
وعلى ذلك يمكن أنْ تكون الجنة والنار في ذلك الفضاء الواسع الّذي لا يحيط
بسعته إلا الله سبحانه ، وليس علينا تعيين مكانهما بالدقة ، كيف والله سبحانه
يقول : {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (4) ، فلمّا كان المراد من جنة
المأوى ، الجنة الموعودة ، فهي عند سدرة المنتهى ، وقد سئل ابن عباس عن سدرة
المنتهى ، فقال : « إليها ينتهي علم كل عالم ، وما وراءها لا يعلمه إلاّ الله » (5).
فإذا كانت سدرة المنتهى هي منتهى علم البشر ، فلن يصل علمهم إلى الجنة
الموعودة الّتي هي عندها ، ولا يمكن لأحد تعيين مكانها ، بل غاية ما يمكن قوله هو
أنّهما مخلوقتان موجودتان في هذا الكون غير المتناهي طولاً وعرضاً.
وأمّا قوله سبحانه: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } (6) ، فليس المراد من
العَرْض فيه ما يضاد الطول ، بل هو بمعنى السعة ، والآية بصدد بيان سعة الجنة
كما لا يخفى .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(2) - سورة آل عمران : الآية 198.
(2) - سورة الحِجْر : الآية 21.
(3) - سورة ق : الآية 4.
(4) - سورة النجم : الآيتان 14 ـ 15.
(5) - الدر المنثور : ج 6، ص 125.
(6) - سورة الحديد : الآية 21.
________________________________________
(425)
نعم ، يستفاد من ظاهرها أنّها ليست في السماء الّتي يراد منها السيارات
والكواكب والمجرّات الظاهرة ، وممّا يؤيد ذلك أنّ النظام السمائي السائد على
الكون المشاهد ، يتلاشى عند قيام القيامة لقوله سبحانه : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (1).
فلو كانت الجنة والنار فيها ، للزم تلاشيهما واندثارهما عند قيام القيامة.
ويمكن أن يقال إنّ الجنة والنار كسائر الموجودات الإمكانية ، تتكاملان
وتتسعان ، ويؤيّده ما رُوِيَ عن النبي أنّه قال : « ليلةَ أُسرِيَ بي ، مَرّ بي إبراهيم ،
فقال : مُرْ أُمَّتَكَ أنْ يُكْثِروا من غرس الجنة ، فإنّ أرضها واسعة وتربتها طيبة ،
قلت : وما غرس الجنة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله » (2).
هذا كله على القول بأنّ الجنة والنار حسب ظواهر الكتاب ، موجودتان في
الخارج ، مع قطع النظر عن أعمال المكلف ، وأنّهما معدّتان للمطيع والعاصي ،
وأمّا على القول بأنّه ليس لهما وراء عمل الإنسان حقيقة ، وأنّ الجنة والنار عبارة
عن تجسم عمل الإنسان بصورة حسنة وبَهيّة ، أو قبيحة ومرعبة ، فالجنة والنار
موجودتان واقعاً بوجودهما المناسب في الدار الآخرة ، وإن كان الإنسان ، لأجل
كونه محاطاً بهذه الظروف الدنيوية ، غير قادر على رؤيتهما ، وإلا فالعمل ، سواء
كان صالحاً أو طالحاً ، قد تحقق ، وله وجودان وتمثّلان ، وكلٌّ موجود في ظرفه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة الأنبياء : الآية 104.
(2) - سفينة البحار : مادة غرس ، ج 2، ص 312.
التعلیقات