بماذا تنعقد الإمامة عند أهل السنّة ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةبماذا تنعقد الإمامة عند أهل السنّة ؟
قد تعرّفت على عقيدة أهل السنّة في باب الإمامة ، وأنّها عندهم أشبه بسياسة وقتيّة زمنيّة ، يقودها الحاكم العادي مع كفاءات ومؤهّلات ، تطابق شأنه.
وعلى ذلك يرجع تعيين الإمام إلى نفس الأُمّة ، لا إلى الله سبحانه ولا إلى رسوله ، وهم قد اختلفوا فيما تنعقد به الإمامة على أقوال شتّى نأتي ببعضها :
1 ـ قال الإسفرائيني : « 344 ـ 406 هـ » في كتاب الجنايات : « وتنعقد الإمامة بالقهر والإستيلاء ، ولو كان فاسقاً أو جاهلاً أو عجميّاً » (1).
2 ـ قال الماوردي « م 450 هـ » : « إختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم ، على مذاهب شتّى. فقالت طائفة : لا تنعقد إلّا بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ، ليكون الرضا به عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة بإختيار من حضرها ، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى : أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة ، خمسة يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين : أحدهما : أنّ بَيْعة أبي بكر إنعقدت بخمسة إجتمعوا عليها ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم عمر بن الخطاب ، وأبو عُبّيدة بن الجراح ، وأُسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حُذيفة.
والثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة.
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولّاها أحدهم برضا الإثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدَيْن ، كما يصحّ عقد النكاح بِوَلي وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى : تنعقد بواحد ، لأَنَّ العبّاس قال لعلي : امدُدْ يَدَكَ أُبايعك ، فيقول النَّاس عمّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بايعَ ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان. ولأنّه حُكْمٌ ، وحكمُ واحد نافذٌ » (2).
3 ـ قال إمام الحرمين الجويني « م 478 هـ » : « إعلموا أنّه لا يُشترط في عقد الإمامة الإجماع ، بل تنعقد الإمامة ، وإن لم تُجْمع الأُمّة على عَقْدها. والدليل عليه أَنَّ الإمامة لمّا عُقدت لأبي بكر ، إبتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى مَنْ نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم يُنكر عليه مُنْكِر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يَثْبت عدد معدود ، ولا حدٌّ محدود ، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقدِ واحد من أهل الحَلّ والعقد » (3).
4 ـ قال القُرْطُبي : « م 671 هـ » : « فإنْ عَقَدها واحدٌ من أهل الحلّ والعقد ، فذلك ثابت ، ويلزم الغير فعله ، خلافاً لبعض الناس ، حيث قال : لا تنعقد إلّا بجماعة من أهل الحلّ والعقد ، ودليلنا : أنّ عُمَر عقد البيعة لأبي بكر ، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك (4). ولأنّه عَقْدٌ ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود » (5).
5 ـ وقال القاضي عضد الدين الإيجي « م 757 هـ » : « المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة ، وأنّها تثبت بالنّصّ من الرسول ، ومن الإمام السابق ، بالإجماع ، وتثبت ببَيْعَة أهل الحلّ والعقد. لنا ، ثبوت إمامة أبي بكر بالبَيْعة ».
وقال : « وإذا ثبت حصول الإمام بالإختيار والبَيْعة ، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع ، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع ، بل الواحد والإثنان من أهل الحلّ والعقد ، كاف ، لعِلْمِنا أنّ الصحابة ، مع صلابتهم في الدين ، اكتفوا بذلك ، كعقد عمر لأبي بكر ، وعَقْد عبد الرحمن بن عوف لعُثْمان ، ولم يشترطوا اجتماع مَنْ في المدينة ، فضلاً عن إجماعهم هذا ، ولم ينكر عليه أحد ، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا » (6).
6 ـ وعلى ذلك مضى شارح المواقف السيّد شريف الجرجاني « م 816 هـ » (7).
7 ـ وقال التفتازاني « م 791 هـ » : « وتنعقد الإمامة بطرق :
أحدها : بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسّر حضورهم من غير اشتراط عدد ، ولا اتّفاق مَنْ في سائر البلاد ، بل لو تعلّق الحّلُّ والعَقْدُ بواحد مطاع كفت بيعته.
الثاني : إستخلاف الإمام وعهده ، وجعله الأمر شورى بمنزلة الإستخلاف ، إلّا أنّ المستخلَف عليه غير متعيّن فيتشاورون ، ويتّفقون على أحدهم ، وإذا خَلَع الإمام نَفْسَه كان كموته ، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.
الثالث : القَهْرُ والإستيلاء ، فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقَهَرَ الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر » (8).
يلاحظ على هذه الأقوال والنظريّات
أوّلاً ـ إنّ موقف أصحاب هذه الأقوال في المسألة ، موقفُ من اعتقد بصحّة خلافة الخلفاء ، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي ، من انعقادها بواحد أو اثنين ، أو اتّفاق من تيسّر حضوره ، دون النائين من الصحابة ، وغير ذلك.
وهذا النَّمَط من الإستدلال ، إستدلال بالمُدّعى على نفس المُدّعى ، وهو دور واضح. والعجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الإعتراضات الهائلة الّتي توجهت من نفس الصحابة من الأنصار والمهاجرين على خلافة الخلفاء ، الذين تمّت بَيْعتهم ، بِبَيْعة الخمسة في السقيفة ، أو بَيْعة أبي بكر لعمر ، أو بشورى السِّتَّة ، فإنّ من كان مُلِمّاً بالتاريخ ومهتمّاً به ، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالإعتراض. حتّى أنّ الزُبير وقف في السقيفة أمام المبايعين ، وقد اخترط سيفه ، وهو يقول : « لا أُغمده حتّى يبايَعَ عليٌّ ». فقال عمر : « عليكم الكلب » !. فأخذ سيفه من يده ، وضرب به الحجر ، وكُسِرَ (9).
ويكفي في ذلك قول الطبري أنّه قام الحباب بن المنذر ـ وانتضى سيفه ـ وقال : « أَنا جُذَيْلُها المُحَكَكُ ، وعُذَيْقُها المُرَجَّب ، أنا أبو شبل ، في عرينة الأسد ، يعزى إليّ الأَسد ، فحامله عمر ، فضرب يده ، فندر السيف ، فأَخذه ، ثمّ وثب على سعد ـ بن عبادة ـ ووثبوا على سعد وتتابع القوم على البيعة ، وبايع سعد ، وكانت فلتة كفلتات الجاهليّة ، قام أبو بكر دونها ، وقال قائل حين أُوطئ سعد : قتلتم سعداً. فقال عمر : قتله الله ، إنّه منافق. واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه (10).
هذه نبذة يسيرة من الأصوات المُدَوّية الّتي عارضت الخلافة والخليفة المنتخب ، وكم لها من نظير في السقيفة والشورى وغيرهما ضربنا عنه صفحاً.
أفيصحّ بعد ذلك قول القرطبي : « ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك » ، وكأَن الحباب ، وسعداً ، وابنه قيس ، وعامّة الخزرجيين ، وبني هاشم ، والزبير ، لم يكونوا من الصحابة ؟!.
وثانياً ـ إنّ هذا الإختلاف الفاحش في كيفيّة عقد الإمامة ، يعرب عن بطلان نفس الأصل لأنّه إذا كانت الإمامة مفوّضة إلى الأُمّة ، كان على النبي الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصيّاتها وخطوطها العريضة ، وأنّه هل تنعقد بواحد أو إثنين من الصحابة ؟ أو تنعقد بأهل الحلّ والعقد منهم ؟ أو بالصحابة الحضور عند رحلة النبي أو رحلة الإمام السابق ؟ أو باتّفاق جميع المسلمين بأنفسهم ، أو بممثليهم ؟
وليس عقد الإمامة لرجل ، أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الّذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده ، كما اهتمّت السنّة على الخصوص بشؤونه وأحكامه.
والعجب أنّ عقد الإمامة الّذي تتوقّف عليه حياة الأُمّة ، لم يطرح في النصوص ، لا كتاباً ولا سنّة ـ على زعم القوم ـ ولم تُبَيَّن حدوده ولا شرائطه ، ولا سائر مسائله الّتي كان يواجهها المسلمون بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة !!
وجملة القول ، إنّ اختلافهم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه ، جعل الخلافة وبالاً على المسلمين ، حتّى أخذت لنفسها شكلاً يختلف كلّ الإختلاف عن الشكل الّذي ينبغي أن تكون عليه. فقد أصبحت الخلافة الإسلاميّة ، إمبراطوريّة ، وملكاً عضوضاً ، يتناقلها رجال العَيْث والفساد ، من يد فاسق ، إلى آخر فاجر غارق في الهوى ، إلى ثالث سفّاك متعصّب. وقد أعانهم في تسنم ذورة تلك العروش ، مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين ، فبرّروا أفعالهم ، ووجّهوا أعمالهم توجيهاً ملائماً للظروف السائدة ، وصحّحوا إتّجاهاتهم السياسيّة الخاصّة ، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة ، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل ، لتدعيم مراكزهم السياسيّة ، ويكفيك النموذج التالي ، لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة.
رووا عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّه قال : « يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهُدايَ ، ولا يَسْتَنّون بسُنَّتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال الراوي : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضَرَبَ ظهرَك ، وأَخَذَ مالَك ، فاسمع وأَطع » (11).
الهوامش
1. إحقاق الحقّ ، للسيّد التُّسْتَري ، ج 2 ، ص 317.
2. الأحاكم السلطانيّة ، ص 6 ـ 7 ، ط الحلبي بمصر.
3. الإرشاد ، 424.
4. ولعلّ القرطبي لم يقرأ مأساة السقيفة بين المهاجرين والأنصار ، وإلّا فالإعتراض والنزاع كان قائماً على قدم وساق ويكفي في ذلك مراجعة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، وتاريخ الطبري ، وسيرة إبن هشام ، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري المتوفّى عام 280 هـ. وفيما يأتي من المباحث نشير إلى بعض تلك الوقائع.
5. تفسير القرطبي ، ج 1 ، ص 260.
6. المواقف ، صفحة 399 ـ 400 ، ط عالم الكتب.
7. شرح المواقف ، ج 8 ، ص 351 ـ 353.
8. الإمامة والسياسة ج 1 ، ص 11.
9. شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 272 ، ط اسطنبول.
10. تاريخ الطبري ، حوادث عام 11 ، ج 2 ، ص 459. وفي رواية أخرى للطبري أنّ عمر قام على رأس سعد ، وقال : لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك. فأخذ سعد بلحية عمر ، وقال : والله لو حصحصت منه شعرة ما رَجِعْتَ وفيك واضَحة ، أمّا والله لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت منّي في أقطارها وسككها زئيراً يُجْحِرك وأصحابك « أيّ يلزمهم دخول الجحر ، وهو كناية عن شدّة التضييق » ، أمّا والله ، إذاً لألحقنّك بقوم كُنْتَ فيهم تابعاً غير متبوع ، احملوني من هذا المكان ». فحملوه ، فأدخلوه في داره. وتُرك إيّاماً ، ثمّ بعث إليه أن أَقْبل ، فبايع ، فقد بايع الناس ، وبايَعَ قومُك. فقال : أما والله حتّى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأُخَضِّب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما مَلِكَتْهُ يدي ، وأُقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، فلا أفعل. وأَيْمُ الله ، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتّى أُعرَضَ على ربّي ، وأعلم ما حسابي ». فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يُجْمع معهم ، ولا يفيض معهم إفاضتهم ، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر. [ المصدر نفسه ]. وسعد بن عبادة سيّد الخزرجيين.
11. صحيح مسلم ، ج 6 ، باب الأمر بلزوم الجماعة ، وباب حكم من فَرَّق أمر المسلمين ، ص 20 ـ 24 ، وفي البابين نظائر كثيرة لهذا الحديث.
مقبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 20 ـ 25
التعلیقات