الطّرق إلى معرفة الله
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةالطّرق إلى معرفة الله
هناك كلمة قيّمة لأهل المعرفة وهي : إنَّ الطرق إلى معرفة الله بعدد أنفاس الخلائق بل فوقها بكثير وكثير ، فإنَّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الطبيعيّة وجهين ، يشبهان وجهي العملة الواحدة ، أحدهما يحكي عن وجودها وحدودها وخصوصيّاتها وموقعها في الكون ، والآخر يحكي عن اتّصالها بعلّتها وقوامها بها ونشوئها منها. فهذه الظاهرة الطبيعيّة ـ من الوجه الأوّل ـ تقع موضوع البحث في العلوم الطبيعيّة ، فيأخذ كلّ باحث جهة خاصّة من هذا الوجه حسب تخصّصه وذوقه واطّلاعه ، فواحد يبحث عن التراب والمعادن وآخر عن النبات والأشجار ، وثالث عن الحيوان إلى غير ذلك من الموضوعات.
كما أنّها من الوجه الثاني تقع طريقاً لمعرفة الله سبحانه والتعرّف عليه من ناحية آثاره :
إِنَّ آثارَنَا تَدُلُّ علينَا * فَانْظُروا بَعْدَنا إلَى الآثارِ
وبما أنَّ الظواهر الطبيعيّة ، جليلها وحقيرها لها وجهان ، فقد أكَّد الإِسلام على معرفتها والغور في آثارها وخصوصيّاتها ، قائلاً : ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (1) ، لكن لا بمعنى الوقوف عند هذا التعرف واتّخاذه هدفاً ، بل بمعنى اتّخاذ تلك المعرفة جسراً لمعرفة بارئها وخالقها ، ومن أوجد فيها السُّنَن والنُّظُم.
إِنَّ الفرق الواضح بين تعرّف المادي على الطبيعة وتعرّف الإِلهي عليها هو أَنَّ الأوّل ينظر إلى الطبيعة بما هي هي ، ويقف عندها من دون أنْ يتّخذها وسيلة لتعرف آخر ، وهو التعرّف على مبادئ وجودها وعلل تكونها ، في حين أنَّ الإِلهي ، مع أنَّه ينظر إلى الظواهر الطبيعيّة مثلما ينظر إليها المادي ويسعى إلى التعرف على كلّ ما يسودها من نُظُم وسُنَن ، فإِنَّه يتّخذها وسيلة لتعرف عال وهو التعرف على الفاعل الذي قام بإيجادها وإجراء السُّنن فيها ، فكأَن النظرة في الأولى نظرة إلى ظاهر الموجود ، وفي الثانية نظرة إلى الظاهر متجاوزاً منها إلى الباطن.
وبعبارة أوضح ، إنَّ المادي يقتصر في عالم المعرفة ، على معرفة الشيء ويغفل عن معرفة أخرى ، وهي معرفة مبداً الشيء من طريق آثاره وآياته ، فلو اكتفينا في معرفة الظواهر بالمعرفة الأولى حبسنا أنفسنا في زنزانات المادة ، ولكن إذا نظرنا إلى الكون بنظرة وسيعة وأخذنا مع تلك المعرفة معرفة أخرى وهي المعرفة الآيوية لوصلنا في ظلّ ذلك ، إلى عالم أفسح مليء بالقدرة والعلم والكمال والجمال. وعلى ذلك فكل المظاهر الطبيعيّة مع ما فيها من الجمال والروعة ومع ما فيها من النُظم والسُنن آيات وجود بارئها ومكونها ومنشئها ، وعند ذلك يتجلى للقارئ صدق ما قلنا من أنَّ الطرق إلى معرفة الله بعدد الظواهر الطبيعيّة بدءاً بالذرّة وانتهاء إلى المجرة. ولأجل ذلك نرى أنَّ رجال الوحي ودعاة التوحيد يركّزون في معرفته سبحانه على الدعوة إلى النظر في جمال الطبيعة وروعتها فإِنّها أَصدق شاهد على أَنَّ لها صانعاً ومبدعاً ، وهذا مشهود لمن طالع القرآن وتدبّر في آياته.
فهو من خلال توجيه الإِنسان إلى الطبيعة و إلى السماء والأَرض وما فيها من كائنات ، يريد هدايته إلى مبدئها ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (2).
إِنَّ البراهين الدالَّة على وجود خالق لهذا الكون ، ومفيض لهذه الحياة ، كثيرة متعدّدة ، ونحن ذاكرون فيما يلي بعضاً منها. ولكي تقف على أوضحها وأَقربها إلى الحسّ والتجربة نركز البحث على برهان النّظم الذي يتجاوب مع جميع العقول على اختلاف سطوح تفكيرها.
البرهان الأَوّل : بُرهان النّظم
يبتني برهان النَّظم على مقدّمات أربع :
الأولى : إِنَّ وراء الذهن الإِنساني عالماً مليئاً بالموجودات ، محتفاً بالظواهر الطبيعيّة. وإِنَّ ما يتصوّره الإِنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي ، وهذه المقدّمة قد أطبق عليها الإِلهيّ والماديّ رافضَيْن كلّ فكرة قامت على نفي الواقعيّة ولجأت إلى المثاليّة ، بمعنى نفي الحقائق الخارجيّة.
إِنَّ كلّ إِنسان واقعي يعتقد بأَنَّ هناك قمراً وشمساً وبحراً ومحيطاً وغير ذلك. كما يعتقد بوجوده ، وذهنه والصور المنعكسة فيه ، وهذه هي الخطوة الأُولى في مضمار معرفة الله ، وهي التصديق بالواقعيّات. ويشترك فيها الفلاسفة الواقعيّون ، دون المثاليين بمعنى الخياليين.
و بذلك يظهر أنَّ رمي الإِلهي بالمثاليّة بمعنى نفي الواقعيّات ، افتراءٌ وكذبٌ عليه ، إِذ لا يوجد على أديم الأرض من يكون إِلهيّاً وفي الوقت نفسه ينفي واقعيّات الأَشياء والظواهر الطبيعيّة. ولو وجد هناك إِنسان بهذه العقيدة فليس من تلك الزمرة ، وإِنّما هو من المنحرفين عن الفطرة السليمة الإِنسانيّة.
وما ربّما يحكى عن بعض العرفاء من أَنَّ الموجود الحقيقيّ هو الله سبحانه وما سواه موجود بالمجاز ، فله معنى لطيف لا يضرّ بما قلناه ، وهذا نظير ما إِذا كان هناك مصباح في ضوء الشمس ، فيقال : إِنَّ الضوء ضوء الشمس ولا ضوء لغيرها ، فهكذا وجود الممكنات ، المفتقرات المتدليّات بالذات ، بالنسبة إلى واجب الوجود القائم بالذات.
الثانية : إِنَّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدّد ، وإِنَّ كلّ ما في الكون لا ينفك عن النّظم والسنن التي كشفت العلوم الطبيعيّة عن بعضها ، وكلّ ما تطوّرت هذه العلوم خطا الإِنسان خطوات أُخرى في معرفة الكون والقوانين السائدة عليه.
الثالثة : أصل العلية ، والمراد منه أنَّ كلّ ما في الكون من سنن وقوانين لا ينفكّ عن علّة توجده وأنَّ تكون الشيء بلا مكوّن وتحقّقه بلا علّة ، أمر محال لا يعترف به العقل ، بالفطرة ، وبالوجدان والبرهان. وعلى ذلك فكلّ الكون وما فيه من نظم وعلل نتيجة علّة أوجدته وكونته.
الرابعة : إِنَّ دلالة الأَثر تتجلّى بصورتين :
أ ـ وجود الأَثر يدلّ على وجود المؤثر ، كدلالة المعلول على علّته ، والآية على صاحبها ، وقد نقل عن أَعرابي أَنَّه قال : « البعرة تدل على البعير ، وأَثر الأقدام يدلّ على المسير » ، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. وهذه الدلالة ممّا لا يفترق فيها الماديّو الإِلهي ، وإِنّما المهمّ هو الصورة الثانية من الدَّلالة.
ب ـ إِنَّ دلالة الأَثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثّر ، بل لها دلالة أُخرى في طول الدلالة الأُولى ، وهي الكشف عن خصوصيّات المؤثر من عقله وعلمه وشعوره ، أو تجرّده من تلك الكمالات والصفات وغيرها. ولنوضح ذلك بمثال :
إِنَّ كتاب « القانون » المؤلّف في الطبّ ، كما له الدَّلالة الأُولى وهي وجود المؤثّر ، له الدَّلالة الثانية وهي الكشف عن خصوصيّاته التي منها أَنَّه كان إنساناً خبيراً بأُصول الطب وقوانينه ، مطّلعاً على الدَّاء والدَّواء ، عارفاً بالأَعشاب الطبيّة ، إلى غير ذلك من الخصوصيات.
والملحمة الكبيرة الحماسيّة لشاعر إيران « الفردوسي » لها دلالتان :
دلالة على أَنَّ تلك الملحمة لم تتحقّق إلّا بظل علَّة أَوجدتها ، ودلالة على أَنَّ المؤلّف كان شاعراً حماسيّاً مطلعاً على القصص والتواريخ ، بارعاً في استعمال المعاني المتناسبة مع الملاحم. ومثل ذلك كلّ ما تمرّ به ممّا بقي من الحضارات الموروثة كالأبنية الأثريّة ، والكتب النفيسة ، والصنائع المستظرفة اليدويّة والمعامل الكبيرة والصغيرة ، إلى غير ذلك ممّا يقع في مرأى ومنظر كلّ إِنسان. فالمهمّ في هذا الباب هو عدم الإِقتصار على الدلالة الأُولى بل التركيز على الدلالة الثانية بوجه علمي دقيق.
وعلى ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيّات الحافة بالعلّة ، ويستكشف الوضع السائد عليها ، ويقضي بوضوح بأَنَّ الأَعمال التي تمتاز بالنظام والمحاسبة الدقيقة ، لا بد أَنْ تكون حصيلة فاعل عاقل ، إستطاع بدقّته أن يوجد أثره وعمله ، هذا.
كما يقضي بأنَّ الأَعمال التي لا تُراعَى فيها الدّقة اللازمة والنظام الصحيح ، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل ، وفاعل بلا شعور ولا تفكير ، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته. ولتوضيح الحال نأتي بالمثالين التاليين :
المثال الأوّل : لنفترض أَنَّ هنا مخزناً حاوياً لأطنان عدّة من مواد البناء بما فيها الحجر والحديد والإِسمنت والجص والخشب والزجاج والأَسلاك والأنابيب وغيرها من لوازم البناء ، ثمّ وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أَحد المهندسين أَو المعماريين ، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعدّدة على أَرض منبسطة.
وبعد فترة من الزمن جاء سيل جارف و جرف ما تبقى في المخزن من مواد الإِنشاء وتركها على شكل تلّ على وجه الأرض.
إِنَّ العمل الأَوّل « العمارة » قد نتج عن عمل و إِرادة مهندس عالم.
أَمَّا الثَّاني « التل » فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إِرادة وشعور.
فالعقلاء بمختلف مراتبهم وقوميّاتهم وعصورهم يحكمون بعقلانيّة صانع العمارة ، ومدى قوة إِبداعه في البناء ، من وضعه الأعمدة في أَماكنها المناسبة وإِكسائه الجدران بالمرمر ، ونصبه الأَبواب في مواضعها الخاصّة ، ومدّه الأَسلاك وأَنابيب المياه الحارة والباردة ووصلها بالحمامات والمغاسل ، وغير ذلك ممّا يتبع هندسة خاصّة ودقيقة.
ولكن عندما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل ، فغاية ما نراه هو انعدام النَّظام والترتيب فالحجر والمرمر قد اندثر تحت الطين والتراب ، والقضبان الحديديّة قد طرحت إلى جانب ، والأَسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ، والأَبواب مرميّة هنا وهناك ، وغير ذلك من معالم الفوضى والتبعثر. و بشكل عام ، إِنَّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام والمحاسبة ، إِذ لا هندسة ولا تدبّر.
فالذي يُستنتج أنَّ المؤسس للبناء ذو عقل وحكمة ، والمُحْدِث للتل فاقد لهما ، فالمهندس ذو إِرادة والسيل فاقد لها ، والأَوّل نتاج عقل وعلم ، والثاني نتاج تدفق الماء وحركته العمياء.
المثال الثاني : لنفترض أنَّنا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كلّ منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأوّل يحسن القراءة والكتابة ، ويعرف مواضع الحروف من الآلة والآخر أمّي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار ، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة.
الذي نلاحظه أنَّ الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفاً أو كلمة منها.
وأَمَّا الآخر ، الأُمي البصير ، فيضرب على الآلة دون علم أَو هدىً ولا يستطيع أَنْ يميز العين من الغين ، والسين من الشين : ونتيجة عمله ليست إِلّا الهباء وإِتلاف الأَوراق ، ولا يأتي بشيء ممّا أَردناه :
فنتاج الأوّل محصول كاتب متعلّم ، ونتاج الثاني محصول جاهل لا علم له ولا خبرة ولو أُعطي المجال للألوف ممّن كف بصرهم وحرموا لذّة العلم والتعلّم أَنْ يحرّروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحرّرونها لاستحال ذلك ، لأَنّهم يفقدون ما هو العمدة والأَساس.
ولعلَّنا نشاهد في كلّ جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حرّرت فيها قصيدة الشاعر وترانا ملزمين بالإعتراف بعلم ومعرفة وحسن أُسلوب كاتبها ونجزم بأَنّه بصير لم يكن فاقداً للعلم ، ولم يكن فعله مشابهاً لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية ، فطرق في خياله أَنْ يلهو ويلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.
وبعد ذكر الأَمثلة المتقدّمة يتَّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إِرادة وتدبّر ، والتي تحدث عن طريق الصدفة ، إِذ لا إرادة فيها ولا تدبّر.
وهذه القاعدة التي يدركها العقل « لا بفضل التجربة بل في ضلّ التفكّر والتعقّل » هي روح برهان النَّظم الذي هو من أَوضح براهين الإِلهيين في إِثبات الصانع ورفض الإِلحاد والمادية ، واشملها لجميع الطبقات. وملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدّمة على العالم ، هو أَنَّ العلم لم يزل يتقدّم ويكشف عن الرموز والسنن الموجودة في عالم المادة والطبيعة والعلوم كلّها بشتى أَقسامها وأَصنافها وتشعبها وتفرعها تهدف إلى أمر واحد وهو أَنَّ العالم الذي نعيش فيه ، من الذرّة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أَدقّ الأَنظمة والضوابط ، فما هي تلك العِلَّة ؟ أقول : إنّها تتردّد بين شيئين لا غير.
الأوّل : إنَّ هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادة عالماً قادراً واجداً للكمال والجمال ، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدقّ السنن ، وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة ، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللامتناهية ، أوجد العالم وأجرى فيه القوانين ، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها ، ومستغرقاً في تدوينها ، وهذا المؤثر الجميل ذو العِلم والقدرة هو الله سبحانه.
الثاني : إِنَّ المادة الصمّاء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة ، وليست مسبوقة بالعدم ، قامت بنفسها بإِجراء القوانين الدقيقة ، وأَضفت على نفسها السُّنن القويمة في ظلّ إِنفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مرّ القرون والأَجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أَدهش العقول وأبهر العيون.
إِذا عرضنا هاتين النظريّتين على المقدّمة الرابعة لبرهان النظم ، وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما ، فلا شكّ أنّها ستدعم أُولاهما وتبطل ثانيتهما لما عرفت من أنَّ الخصوصيّات الكامنة في وجود المعلول والأَثر ، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلّة ، فالسّنن والنُّظم تكشف عن المحاسبة والدقّة ، وهي تلازم العِلْم والشعور في العلَّة ، فكيف تكون المادة العمياء الصمَّاء الفاقدة لأيّ شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن والنُّظم ؟.
وعلى ضوء ذلك فالسُّنن والنُّظم ، التي لم يتوفق العلم إِلّا لكشف أَقلّ القليل منها ، تثبت النظريّة الأولى وهي احتضان العلَّة واكتنافها للشعور والعِلْم وما يناسبهما ، وتبطل النظريّة الثانية وهي قيام المادّة الصَّماء العمياء بإِضفاء السُّنن على نفسها بلا محاسبة ودقّة بتخيّل أَنَّ انفعالات كثيرة ، حادثة في صميم المادة ، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان « الصدفة » أو غيرها من الصراعات الداخليّة التي تلوكها أَلسنة الماركسيين.
وعلى ذلك فكلّ علم من العلوم الكونيّة ، التي تبحث عن المادة وخصوصيّاتها وتكشف عن سننها وقوانينها ، كعملة واحدة لها وجهان ، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصيّاتها ، ومن جانب آخر يعرّف موجدها وصانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أَنَّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى والعالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين ويجعل الأُولى ذريعة للثانية. وبهذا نستنتج أنَّ العلوم الطبيعيّة كلّها في رحاب إثبات المقدّمة الرَّابعة لبرهان النظم ، وأَنَّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه وأدقّ الطرق ، وأَنَّ الإِعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العِلْم في جميع العصور والأَزمان.
و في الختام نركز على نقطتين :
الأُولى : إِنَّ القرآن الكريم ملي بلفظة « الآية » و « الآيات » ، فعندما يسرد نُظُم الطبيعة وسُنَنَها ، ويعرض عجائب العالم وغرائبه ، يعقبه بقوله :
( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) أَو ( يَذَّكَّرُونَ ) أَو ( يَعْقِلُونَ ) إلى غير ذلك من الكلمات الحاثة على التفكر و التدبّر ، وهذه الآيات تعرض برهان النَّظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة ، بدلالة آيوية (3) مشعرة بأَنَّ التفكّر في هذه السنن اللاحبة والنظم المحيَّرة يكشف بوضوح عن أَنَّ جاعلها موجود ، عالم قادر ، بصير ومن المحال أَنْ تقوم المادة الصمّاء العمياء بذلك. ولأجل أَنْ يقف القارئ الكريم على بعض هذه الآيات نشير إلى ما ورد في سورة النحل في هذا المضمار :
1 ـ قوله سبحانه : ( يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (4).
2 ـ قوله سبحانه : ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) (5).
3 ـ قوله سبحانه : ( وَاللَّـهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) (6).
4 ـ قوله سبحانه : ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(7).
5 ـ قوله سبحانه : ( ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (8).
الثانية : إِنَّ برهان النَّظم و إِنْ كان يعتمد على مقدمات أَربع غير أَنَّ الثلاثة الأُول ممّا اتّفق فيه جميع العقلاء إلّا شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجيّة. وإِنّما المهمّ هو التركيز على توضيح المقدّمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعيّة والفلكيّة وغيرها التي تعد روحاً وأَساساً لتلك المقدّمة. وفي هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين والمكتشفين : يقول « كلودم هزاوي » مصمّم العقل الإِلكتروني : طلب منّي قبل عدّة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائيّة ، تستطيع أَنْ تحل الفرضيّات والمعادلات المعقدة ذات البعدين ، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الالكتروميكانيكيّة ، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو « العقل الالكتروني ».
وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل ، وتحمل شتّى المصاعب وأَنا أَسعى لصنع جهاز صغير ، يصعب عليَّ أن أتقبل هذه الفكرة وهي أَنَّ الجهاز هذا ، يمكن أَنْ يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمّم.
إِنَّ عالمنا مملو بالأَجهزة المستقلّة لذاتها والمتعلّقة بغيرها في الوقت ذاته ، وتعتبر كلّ واحدة منها أَعقد بكثير من العقل الإِلكتروني الذي صنعته ، وإِذا استلزم أَنْ يكون للعقل الالكتروني هذا مصمّم فكيف يمكننا إِذن أَنْ ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة وأعمال فيزيائيّة وتفاعلات كيميائيّة ، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون والذي أنا جزء حقير منه (9).
والعجب من الفرضيّة التي يعتمد عليها الماديّون خلفاً عن سلف ، ويقولون بأنّ الإِنفعالات اللامتناهية اللاشعوريّة انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع.
يقول البروفسور « أَدوين كونكلين » في حق هذه النظريّة : إِنَّ هذا الإِفتراض لا يختلف عن قولنا : « اِنَّ قاموساً لغوياً ضخماً أَنتجته المطبعة إِثْر انفجار فيها ».
إِنَّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبأون بحركة السيّارات والأَقمار الفلكيّة ، والتعبير عن الظواهر الطبيعيّة بمعادلات رياضيّة.
إِنَّ وجود هذا النظام في الكون بدلاً من الفوضى ، لدليل واضح على أَنَّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد وأسس معينة وأنّ هناك قوّة عاقلة ، مهيمنة عليه ، ولا يستطيع كلّ من أوتي حظاً من العقل أَنْ يعتقد بأَنَّ هذه المادَّة الجامدة الفاقدة للحسّ والشعور ـ وفي إِثْر الصدفة العمياء ـ قد منحت نفسها النظام ، وبقيت ولا تزال محافظة عليه (10).
إِنَّ هناك مئات الكلمات حول تشييد برهان النَّظم وعرضها بشكل أَدبي ، علمي ، موافق لروح العصر ، وقد اكتفينا بعرض هذا المقدار.
برهان النَّظم بتقرير ثان
الإِنسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون
إِنَّ التقرير السابق لبرهان النَّظم كان يعتمد على ملاحظة كلّ ظاهرة ماديّة ، مستقلّة ومنفصلة عن سائر الظواهر ، فالنظام السائد على الخلية منفصلاً عن سائر الظواهر ، كان محلّ البحث والنظر.
ومثله سائر الظواهر المادية ذات الأَنظمة البديعة كحركة الشمس والقمر وغيرها ، غير أَنَّه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على الإِنسجام السائد على العالم ، والإِتّصال البديع بين أَجزائه فيستدلّ بالإِنسجام والإِتّصال على أَنَّ ذاك النظام المتصل المنسجم إِبداع عقل كبير وعلم واسع ، ولولا وجوده لما تحقّق ذلك النظام المعجب المتّصل المتناسق.
إِنَّ الأبحاث العلميّة كشفت عن الإِتّصال الوثيق بين جميع أَجزاء العالم وتأثير الكلّ في الكلّ ، حتّى أَنَّ صفصفة أَوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض وحتّى أَنَّ النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئيّة ، مؤثّرة في حياة النبات والحيوان والإِنسان ، وهذا الإِنسجام الوثيق ، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضاً ، أَدلّ دليل على تدخل عقل كبير في إِبداعه وإِيجاده بحيث جعل الكل منسجماً مع الكلّ.
وبعبارة واضحة ، إِنَّ الضبط والتوازن في الكون السائدين على الطبيعة أَوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما ، ولأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأْتي بالأَمثلة التالية :
1 ـ إِنَّ حياة كلّ نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون ، الذي يتجزأ بواسطة أَووراق هذا النبات إلى كاربون و أوكسجين ، ثمّ يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه ومن غيره من المواد ، الفواكه والأَثمار والأَزهار ويلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق والزفير الأساسيّة في حياة الإِنسان.
ولو أَنَّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أوكسيد الكاربون ، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين ، لا نقلب التوازن في الطبيعة واستنفذت الحياة الحيوانيّة ، أو النباتيّة كلّ الأوكسجين أو كلّ ثاني أوكسيد الكاربون ، وذوى النبات ومات الإِنسان.
فمن ذا الذي أَقام مثل هذه العلاقة بين النبات والحيوان وأَوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين ؟ أَلا يدلّ ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعة هو الذي أَقام مثل هذا التوازن ؟.
2 ـ منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبَّار في أوستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتّى غطى مساحة واسعة وزاحم أَهالي المدن والقرى ، وأتلف مزارعهم ولم يجد الأَهالي وسيلة لصدّه عن الإِنتشار وصارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ، يتقدّم في سبيله دون عائق !!.
وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أَنْ وجدوا أَخيراً حشرة لا تعيش إلّا على ذلك الصبار ، ولا تتغذّى بغيره وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدوّ يعوقها في أوستراليا وما لبثت هذه الحشرة أَنْ تغلب على الصبار ، ثم تراجعت ولم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصدّ الصبار عن الإِنتشار إلى الأَبد (11).
فكيف عرفت هذه الحشرة أَنَّ عليها أَنْ تقضي على الزائد من الصبار وتكفّ عن الباقي لتحفظ أَشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأَشياء الأُخرى ؟ أَلا يكشف هذا التوازن والضبط عن خالق مدبّر حكيم ؟.
3 ـ كان ملّاحُو السفن الكبيرة في العهود الماضية يصابون بمرض الأسقربوط ـ وهو من أَمراض سوء التغذية و ينشأ عن نقص فيتامين « ث » ـ ، ولكن أحد الرحالة اكتشف دواءً بسيطاً لذلك المرض وهو عصير الليمون ، ترى من أَين نشأت هذه العلاقة بين الفواكه التي تحوي فيتامين « ث » وهذا المرض ، ألا يدلّ ذلك على أَنَّ خالق الداء خلق الدواء المناسب له ، ولولا هذا التوازن لعمّت الكارثة وانعدم النوع الإِنساني وغاب كلية عن وجه البسيطة ؟.
4 ـ عندما نزل المهاجرون الأوّلون أوستراليا واستقرّوا فيها ، استوردوا اثني عشر زوجاً من الأرانب وأطلقوها هناك ، ولم يكن لهذه الأَرانب أَعداء طبيعيون في أوستراليا ، فتكاثرت بشكل مذهل ، ممّا تسبب بإِحداث أَضرار بالغة بالأَعشاب والحشائش ، ولم تنفع المحاولات الكثيرة لتقليل نسل هذه الأَرانب حتّى اكتشف فيروس خاصّ يسبب مرضاً قاتلاً لها ، فعادت المروج الخضراء يانعة ، وزاد على أَثر ذلك إِنتاج الأغنام والمواشي.
أليس هذا التوازن الدقيق المبرمج في مظاهر الطبيعة والذي يؤدّي أَيّ تخلخل فيه إلى أَضرار بالغة ، دليلاً قاطعاً على وجود الخالق الخبير والإِله المدبّر وراء الطبيعة ؟
5 ـ الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمّد ، ولهذه الخاصية أهميّتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتدّ البرد ، بدلاً من أَنْ يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأَنهار ، ويكون تدريجيّاً كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها وإذابتها. والجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد ، وبذلك تبقى الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية حيّة ، فإِذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة وبلا عائق.
فهل يمكن إِعزاء كلّ هذا الضبط والدقّة في المقاييس والنسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء ، والحال إِنَّه يكشف عن تدبير وحساب ويحكي عن نظام متقن وعظيم ويدل على أَنَّ وراء كلّ ذلك خالقاً حكيماً هو الذي أَوجد هذا التوازن المدهش والضبط الدقيق.
أَجل إِنَّ ذلك التوازن وهذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور والحكمة والعقل في إِدارة هذا العالم وتدبيره وتسييره وهي أمور لا تتوفّر في الصدفة بل تتوفّر في قوّة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون واحتياجات الحياة إِدراكاً كاملاً وشاملاً ، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط والعلاقات.
برهان النظم بتقرير ثالث
الهادفية آية تدخل الشعور في تطور النظم :
إِنَّ النظرة الدقيقة في عالم الكون تهدينا إلى نظام خاصّ نسمّيه بنظام الخدمة ، بحيث نرى أنَّ أَنظمة خاصّة في الكون جعلت في خدمة أَنظمة كونية أُخرى بحيث لا بقاء للثانية بدون الأُولى ، ولذالك نلاحظ صلة قويمة بين المظاهر المختلفة. فعندئذ يطرح السؤال التالي : إِنَّ هذه الكيفيّة الملموسة في عالم الكون كيف برزت في عالم الوجود ؟.
أَمِنْ ناحية الصدفة ، وهي أقل شأناً من أَنْ تبدع أَنظمة يكون قسم منها في خدمة القسم الآخر ، وهي عاجزة عن إِيجاد فرد بهذا الشكل الدقيق فكيف بهذه المجموعة الكبيرة ؟.
أَمْ من ناحية « خاصية المادة » التي ربما يلتجئ إِليها بعض الماديين. وهي أَيضاً أَعجز عن القيام بالتفسير. فإِنَّ « فرضيّة الخاصية » تهدف إلى أَنَّ لكلّ خلية ، أَوْ لكلّ ذرّة من الذرّات أَثراً خاصاً ينتهي إلى موجود خاصّ وهو ذو نظام. وأَمَّا كون أنظمة كبيرة في خدمة أَنظمة مثلها فلا يمكن أَنْ يفسر بخاصية المادة ، فإِن هذا أثر المجموع لا أثر كل جزء من أجزاء المادة. ولنأتي بمثال : لا شكّ أنَّ لتكون المرأة والأجهزة التي خلقت بها عللاً مادية تظهرها على صفحة الوجود ، فلها مع ثدييها والخصوصيّات الحافَّة بها واللبن الذي يتكون في صدرها عللا مادية تنتهي إلى تلك الظواهر.
كما أَنَّ لتكون الطفل في رحمها وولادته على نحو يتناسب والخصوصيّات القائمة بها وتكونه بفم خاص ومجاري تغذية خاصّة تعتمد على اللبن فقط ، إِنَّ لكلّ ذلك عللاً مادية لا تُنكر.
إِلّا أَنَّ هناك أَمراً ثالثاً وهو كون المرأة بأجهزتها الماديّة في خدمة الظاهرة الثَّانية بعامة أجهزتها بحيث لولا الأُولى لما كان للثانية مجال العيش وإِدامة الحياة. فعندئذ نسأل عن هذه الكيفيّة التي سمّيناها بنظام الخدمة ، هي وليدة أَيّة علّة ؟ هل الصدفة جعلت الأولى وسيلة للثانية ، وهي عاجزة عن إِيجادها بهذه الكميّة الهائلة ، ولو صحّ التفسير بها لصح في مولود أو مولودين لا في هذه المواليد غير المتناهية وغير المعدودة ، إِلّا بالأَرقام النجوميّة.
أو من ناحية خاصية المادة وهو إِذن عقيم ، لأن فرضية الخاصية ، على فرض صحّتها ، تهدف إلى تفسير النظام الجزئي بخاصية المادة ، وأَمَّا تفسير الكمية من النُّظُم التي يقع بعضها في خدمة البعض بخاصية المادة فهو ممّا لا تفي به تلك الفرضية ، ولا يقول به أصحابها ، والإِنسجام والتخادم ممّا لا يمكن أَنْ يكون أَثراً لخلية واحدة أو نحوها.
إِنَّ العقل في هذا الموقف يقضي بوجه بات بأَنَّ هذا النظام و هذه الخصوصية وليدة مبدع عالم قادر قد نسّق هذه النُّظُم بأطروحة علميّة ، وخريطة خاصة جعلت الظاهرة الأُولى ذريعة للثانية ، وأَوجد الأُولى قبل أَنْ يبدع الثانية بزمن ، وهذا ما نسمّيه بالهادفية ، وأنَّ الخلقة غير منفكَّة عن الهدف ، كما أنَّ القول به لا ينفكّ عن إِشراف مبدع عالم قادر على الكون وهو الذي يتبناه الإِلهيّون باسم إِله العالم.
وبعبارة واضحة نرى أَنَّ يد القدرة والإِبداع قد هيَّأتْ قبل ولادة الطفل بأَعوام ، أَجهزة كثيرة يتوقّف عليها عيش الطفل وحياته في مسير الحياة ، وتداركت ما يتوقّف عليه حياة الطفل في أوليات عمره بوجه بديع ، وهذا أَوضح دليل على أنَّ الكون لا يخلو من هدف ، وأَنَّ مبدعه كان هادفاً. وهو لا ينفكّ عن تدخل الشعور ، ورفض الصدفة عن قاموس تفسير الكون وتحليله.
وكم ترى من نظائر بارزة وأَمثلة رائعة لهذا النوع من الهادفية في صفحة الكون طوينا عنها الكلام.
برهان النَّظم بتقرير رابع
برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة
ويمكن تقرير برهان النَّظم بصورة رابعة و ليست هي دليلاً مستقلّاً وإِنّما هو اختلاف في التقرير ، فروح البرهان واحدة ، وصور التقرير مختلفة ، وهذا التقرير ما نسميه بـ « برهان حساب الإِحتمالات في نشأة الحياة ».
الحياة رهن قيود وشروط
إِنَّ تكوّن الحياة فوق الأرض نتيجة اجتماع شروط عديدة يكون كلّ شرط منها بمثابة جزء علّة لوجود ظاهرة الحياة ، و تكون ظاهرة الحياة مستحلية بفقدان واحد منها فضلاً عن كثير منها أو جميعها ، وهذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك ، ومنها ما يرتبط بالهواء المحيط والغازات ، ومنها ما يرتبط بالأرض وما فيها من نبات وحيوان وجماد. وقد تكفلت العلوم الطبيعيّة بتبيين تلك الشروط و نحن في غنى عن سردها ، غير أَنَّا نقول : إِنَّ هذه الشروط من الكثرة إلى درجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب والنسق الذي يؤدي إلى استقرار ظاهرة الحياة عن طريق الصدفة ، احتمالاً في مقابل ما لا يحصى من الإِحتمالات ، ويكون الإِحتمال في الظآلة على وجه لا يعتمد عليه. مثلاً إِنَّ تحقّق الحياة يحتاج إلى عوامل وأَسباب نشير إلى أَقلّ القليل منها :
1 ـ يحيط بالأَرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمّى بالغلاف الجوي يبلغ سمكه ثمانمائة كيلومتر وهو بمثابة مظلّة واقية تصون الكرة الأَرضيّة من التعرّض لخطر النيازك التي تنفصل يوميّاً من الكواكب وتتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليوناً من السنين ولولا هذا الغلاف لسقطت على كلّ بقعة من الأَرض ملايين النيازك المحرقة.
2 ـ الأَرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلاً ، ولأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة ، ويتناسب مع متطلباتها ، فلو زادت المسافة بين الشمس والأرض على المقدار الحالي إلى الضعف مثلاً لنقصت كمية الحرارة التي تتلقّاها من الشمس ، ولو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقّاها الأرض الضعف ، وفي كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.
3 ـ إِنَّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتى منها النيتروجين 78% والأوكسيجين 21% ، فلو تغير المقدار وصارت نسبة الأُوكسيجين في الهواء 50% لتبدلت جميع المواد القابلة للإِشتعال إلى مواد محترقة ، ولبلغ الأَمر إلى درجة لو أَصابت شرارة غابة ، لأحرقت جميع ما فيها دون أَنْ تترك غصناً يابساً ، ولو تضاءلت نسبة الأُوكسجين في الهواء وبلغت 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.
هذه نماذج من الشروط العديدة التي يتوقف عليها إِمكان الحياة في هذه الكرة ، و هي إلى درجة من الكثرة تكاد لا تعدّ فيها ولا تحصى. وعلى هذا الأَساس نرجع إلى صلب الموضوع فنقول : إِنَّ لظهور الحياة على وجه البسيطة عوامل ضروريّة لا بدّ منها فإِذا ما فقدت عاملاً من عواملها اللامتناهية انعدمت الحياة واستحال على الكائنات الحيّة استمرارها.
وعلى ذلك فإِنَّ فرض توفّر هذه الشروط اللازمة المتناسقة ، بانفجار المادة العمياء بنحو الصدفة ، احتمال ضئيل لا يعتمد عليه ، لأنّ المادة الأولى عند انفجارها كانت تستطيع أن تظهر بما لا يحصى. من الصور المختلفة التي لا تستقر فيها الحياة إلّا بصورة خاصّة أو بحالة واحدة ، فعندئذ يتساءل كيف تفجّرت المادة الأولى بلا دخالة شعور وعقل واسع إلى هذه الصورة الخاصّة التي تمكّن الحياة من الإِستقرار.
فلنأخذ من جميع الظواهر الحيويّة حشرة صغيرة بما تحويه من ملايين العناصر المختلفة وقد ركبت بنسبها المعينة الخاصّة. فبوسع المادة الأُولى أَنْ تظهر بأَشكال مختلفة غير صالحة لحياة الحشرة ، وإِنَّما الصالحة لها واحدة منها. وعندئذ نتساءل : كيف استطاعت المادة الأُولى عن طريق « الصدفة » ، من بين الصور الكثيرة الخضوع لصورة واحدة صالحة لحياتها ؟!
وهذا البرهان هو البرهان المعروف في العلوم الرياضية بحساب الإِحتمالات ، وعلى توضيحه نأتي بمثال :
نفترض أَنَّ شخصاً بصيراً جالساً وراء آلة طابعة و يحاول بالضغط على الأزرار ، وعددها مائة بما فيها الحروف الصغيرة والكبيرة ، أَنْ يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها :
ألا كُلُّ شَيء مَا خلا الله باطلُ * وَكُلُّ نَعيم لا محالةَ زائلُ
فاحتمال أَنَّ الضربة الأُولى أَصابت صدفة الحرف الأَوّل من هذه القصيدة « أ » ، والضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها « لا » ، والضربة الثالثة أَصابت صدفة الحرف الثالث منها « كـ » ، وهلم جرّاً .... هو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضيّة المقروءة.
وإِنْ أرْدتَ تحصيل ذلك الرقم الرياضي فعليكَ أَنْ تضرب عدد حروف الآلة الطابعة في نفسها بقدر عدد حروف القصيدة المراد تحريرها ، فلو كانت حروف الآلة الطابعة مائة ، وعدد حروف البيت من القصيدة « 38 » فسوف يكون عدد الاحتمالات واحد أمامه « 76 » من الأصفار.
ولو أَضفنا إلى البيت الأوّل بيتاً آخر ، فإِنَّ احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة ، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.
ويستحيل على المفكّر أَنْ يتقبّل هذا الإِحتمال الضئيل ـ الذي هو المناسب لتحقّق المراد ـ من بين تلك الإِحتمالات والفرضيات الهائلة. وكلّ من يرى البيتين وقد حُرّرا بالآلة الطابعة وبصورة صحيحة ، يقطع بحكمة وعلم محرّرها. ولم تكن لتحدث عن طريق الصدفة العمياء.
هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالكون والحياة الناشئين من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط والعوامل بنسب معينة في غاية الإِتقان والدّقة ، فهل يصح لعاقل أَنْ يتفوه بأَنَّ هذه الشرائط للحياة تواجدت عند انفجار المادة الأُولى وتحقّقت صدفة من بين هذه الاحتمالات الكثيرة. ويعد الإِعتماد على هذا الإِحتمال ، رياضياً ، اعتماداً على صفر ، وفي ذلك يقول العلامة « كريسي موريسن » :
« إِنَّ حجم الكرة الأَرضيّة وبعدها عن الشمس ، ودرجة الحرارة في الشمس ، وأَشعتها الباعثة للحياة ، وسمك قشرة الأَرض ، وكمية الماء ، ومقدار ثاني أوكسيد الكاربون ، وحجم النيتروجين ، وظهور الإِنسان وبقاءه على قيد الحياة كلّ هذه الأُمور تدلّ على خروج النظام من الفوضى « أَيّ إِنَّه نظام لا فوضى » ، وعلى التصميم والقصد. كما تدلّ على أنّه ـ طبقاً للقوانين الحسابيّة الصارمة ـ ما كان يمكن حدوث كلّ ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرّة في بليون مرّة. كان يمكن أَنْ يحدث هكذا ، ولكن لم يحدث هذا بالتأكيد » (12).
وتقرير هذا البرهان وهذه الصورة الرياضيّة ، يدلّ على أنَّ برهان النَّظم يتماشى مع جميع العصور ، ويناسب جميع العقول والمستويات ، ولا ينحصر تقريره بصورة واحدة. وبهذا يعلم سرّ تركيز القرآن على ذاك البرهان ، وفي الآية التالية إشارات إليه. قال سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (13).
إِشكال على برهان النَّظم :
إِعترض الفيلسوف الإِنكليزي ديفيد هيوم (14) على برهان النَّظم بما حاصله أنَّ أساس برهان النَّظم ـ كما توهّمه هيوم وفلاسفة الغرب ـ قائم على أنَّنا شاهدنا أنَّ جميع المصنوعات البشريّة المنظَّمة لا تخلو من صانع ماهر ، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء ، والسفينة لا توجد بلا عمّال ، فلا بدَّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضاً لشباهته بتلك المصنوعات البشريّة.
ثمّ انتقد هذا الإِستدلال بأَنَّه مبني على التَّشابه بين الكائنات الطبيعيّة ، والمصنوعات البشريّة. ولكن هذا التشابه بمجرّده لا يكفي لسحب وتعدية حكم أَحدهما إلى الآخر لاختلافهما ، فإِنَّ مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكون موجود طبيعي فهما صنفان لا تسانخ بينهما ، فكيف يمكن أَنْ نستكشف من أَحدهما حكم الآخر ؟
وصحيح أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد إِلّا بصانع عاقل ، ولكنّنا لم نجرّب ذلك في الكون ، فإِنَّ الكون لم يتكرّر وجوده حتّى يقف الإِنسان على كيفيّة خلقه وإِيجاده ، بل واجهه لأوّل مرّة ، وبهذا لا يمكن أَنْ يثبت له علّة خالقة على غرار مصنوعات البشر إِلّا إِذا جرّبه من قبل عشرات المرّات ، وشهد عمليّة الخلق والتكوّن كما شاهد ذلك وجرَّبه في المصنوعات البشريّة ، حتّى يقف على أَنَّ الكون بما فيه من النّظام لا يمكن أَنْ يوجد من دون خالق عليم وصانع خبير. هذا هو محصّل إِشكاله أَوردناه بغاية الوضوح.
إِنَّ ماذكره من الإِشكال ينم عن فهم ساذج وسطحي للغاية لبرهان النَّظم ، ويعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفيّة متكاملة تدرك وتستوعب برهان النَّظم بصورته الصحيحة ، فإِنَّ هذا البرهان لا يرتبط أَبداً بالتشابه والتمثيل والتجربة ، وإِنَّما هو برهان عقلي تامّ ، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام وماهيّته بأَنَّه صادر من فاعل عاقل وخالق قدير.
توضيح ما ذكرناه أَنَّ برهان النَّظم ليس مبنيّاً على التشابه بين مصنوعات البشر والموجود الطبيعي كما جاءَ في اعتراض « هيوم » ، حتّى يقال بالفرق بين الصنفين ، ويقال هذا صناعي وذاك طبيعي ولا يمكن إِسراء حكم الأَوّل إلى الثاني.
ولا على التماثل ـ الذي هو المِلاك في التجربة ـ حتّى يقال إِنَّا جربنا ذلك في المصنوعات البشريّة ولم نجرّبه في الكون لعدم تكرّر وقوعه وعدم وقوفنا على تواجده مراراً ، فلا يصحّ سحب حكم الأَوّل على الثاني وتعديته إليه.
وإِنَّما هو قائم على ملاحظة العقل للنَّظم والتناسق والإِنضباط بين أَجزاء الوجود ، فيحكم بما هو هو ، من دون دخالة لأَية تجربة ومشابهة ، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً ذا عقل وشعور ، وإليك البيان :
إِنَّ برهان النَّظم مركَّب من مقدّمتين ، إِحداهما حسّية والأَخرى عقليَّة ودور الحسّ ينحصر في إِثبات الموضوع ، أَيْ وجود النظام في الكون والسنن السائدة عليه ، وأَمَّا دور العقل فهو يرجع إلى أَنَّ هذا النّظام بالكيفيَّة والكميَّة المحدّدة ، لا يمكن أنْ يكون نتيجة الصّدفة أَو أَيِّ عامل فاقد للشعور.
أَمّا الصغرى ، فلا تحتاج إلى البيان. فإِنَّ جميع العلوم الطبيعيَّة متكفّلة ببيان النُّظُم البديعة السائدة على العالم من الذرّة إلى المجرّة ، وإِنَّما المهمّ هو بيان الكبرى ، وهي قضاء العقل بأَنّه وليد دخالة عقل كبير في حدوثه من دون استعانة في حكمه بمسألة التشابه أَو التجربة. بل يستقل به مجرّداً عن كلّ ذلك فنقول :
1 ـ الإِرتباط المنطقي بين النظام ودخالة الشعور
إِنَّ العقل يحكم بوجود رابطة منطقيّة بين النظم ودخالة الشعور ، وذلك لأَنَّ النظم ليس في الحقيقة إِلّا أُمور ثلاثة :
1 ـ الترابط بين أجزاء متنوّعه مختلفة من حيث الكميّة والكيفيّة.
2 ـ ترتيبها وتنسيقها بنحو يمكن التعاون والتفاعل فيما بينها.
3 ـ الهادفية إلى غاية مطلوبة ومتوخاة من ذلك الجهاز المنظم.
والنظام بهذا المعنى موجود في كلّ أجزاء الكون من ذرّته إلى مجرته ، فإذا نظر العقل في كلّ جوانب الكون ابتداءً من الذرّة ومروراً بالإنسان والحيوان والنبات وانتهاءً بالنجوم والكواكب والمجرّات ورأى فيها أجزاءً مختلفة في الكميّة والكيفيّة أولا ، ومنسقة ومرتبة بنحو خاص ثانياً ، ورأى كيف يتحقّق بذلك الهدف المنشود من وجودها ثالثاً ، حكم من فوره بأَنَّ ذلك لا يمكن أنْ يصدر إلّا من فاعل عاقل ، وخالق هادف شاعر ، يوجد الأجزاء المختلفة كمّاً وكيفاً ، ويرتبها وينسّقها بحيث يمكن أنْ تتفاعل فيما بينها و تتعاون لتحقيق الهدف المطلوب من وجودها.
وهذا الحكم الذي يصدره العقل لا يستند إلى شيء غير النظر إلى ماهية النظام وطبيعة الآبية للتحقّق بلا فاعل عاقل مدبر. وهو لا يستند لا إلى التشابه ولا إلى التجربة كما تخيل « هيوم » وأَضرابه.
إِنَّ ملاحظة العقل لما في جهاز العين أَو الأذن أَو المخ أَو القلب أو الخلية من النظام ، بمعنى وجود أَجزاء مختلفة كمّاً وكيفاً ، أولا ، وتناسقها بشكل يمكنها من التفاعل فيما بينها ثانياً ، وتحقيق الهدف الخاصّ منها ثالثاً ، يدفع العقل إلى الحكم بأنّها من فعل خالق عليم ، لاحتياجها إلى دخالة شعور وعقل وهادفية وقصد.
وبهذا تبين أَنَّ بين الجهاز المنظّم ، ودخالة العقل والشعور رابطة منطقيّة. وإِنْ شئت قلت : إِنَّ ماهية نفس النظام بمقوّماته الثلاثة « الترابط ، والتناسق ، والهادفيّة » تنادي بلسانها التكويني : إِنَّ النظام مخلوق عقل واسع وشعور كبير.
2 ـ تقرير الرابطة المنطقيّة بين النظام ودخالة الشعور بشكل آخر
إِنَّ العقل عندما يرى اجتماع ملايين الشرائط اللازمة لاستقرار الحياة على الأرض بحيث لو فقد بعضها لاختلت الحياة ، أو عندما يرى اجتماع آلاف الأَجزاء والعناصر اللازمة للإِبصار ، في العين ، بحيث لو فقد جزء واحد أو تقدّم أو تأخّر عن مكانه المعين لاختلت عملية الرؤية واستحال الإِبصار ، يحكم أَنَّ هناك عقلاً جباراً أرسى مثل هذا النظام ، وأوجد مثل هذا التنسيق والإِنسجام والترتيب والتوفيق ، ويحكم بدخالة الشعور في ذلك ونفي حصوله بالصدفة والإِتّفاق ، لأنَّ اجتماعها عن طريق الصدفة كما يمكن أن يكون بهذه الصورة المناسبة كذلك يمكنه أن يكون بما لا يعدّ ولا يحصى من الصور والكيفيّات الأُخرى غير المناسبة ، وحينئذ يكون احتمال استقرار هذه الصورة من بين تلكم الصور الهائلة ، احتمالاً ضعيفاً جدّاً يكاد يبلغ الصفر الرياضي في ضآلته ، وهو ما لا يذهب إليه الإِنسان العادي فضلاً عن العاقل المحاسب.
أَجل ، إِنَّ هذه المحاسبة الرياضيَّة التي يُجريها العقل إِذا هو شاهد النظام السائد في الكون ، تدفعه إلى الحكم بأَنَّ هناك علّة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد وإِرادة ، وجمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة (15).
وبهذا يبقى برهان النظم قويّاً صامداً سليماً عن أَيَّ نقد ولا يرتبط بشيء من التمثيل أو التجربة كما تصوّر « هيوم » ، وإِنّما هو العقل وحده ينتهي إِليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء ، وبهذا يتساوى الموجود الطبيعي والمصنوع البشري. فالعقل إذا رفض الإِذعان بأَنَّ الساعة وجدت بلا صانع أَو أنَّ السيارة وجدت بلا علّة ، فإِنّما هو لأَجل ملاحظة نفس الظاهرة « الساعة والسيارة » حيث يرى أَنَّها تحقّقت بعد ما لم تكن ، فيحكم من فوره بأَنَّ لها موجداً. وليس هذا الحكم إِلّا لأَجل الإِرتباط المنطقي بين وجود الشيء بعد عدمه ، ولزوم وجود فاعل له ، وإِنْ شئت قلت لأَجل قانون العليّة والمعلوليّة الذي يعترف به العقل في جميع المجالات.
كما أَنَّ حكم العقل في المقام بأَنَّ الموجود المنظم مخلوق عقل كبير ، ناشئ من الإِرتباط المنطقي بين النظام ودخالة الشعور ، أو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضيّة التي مرّت ، لا لأن العقل مثل أَو جرّب فتوصل إلى هذه النتيجة.
وحصيلة الكلام : إِنّ طبيعة النظام وماهيّته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أَنَّها صادرة عن فاعل شاعر وخالق عاقل ، وهذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني ، من دون النَّظر إلى شيء آخر (16).
البرهان الثاني : برهان الإِمكان
و توضيحه يتوقف على بيان أمور :
الأمر الأوّل : تقسيم المعقول إلى الواجب والممكن والممتنع.
إنَّ كلّ معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود والتحقق ، فإمّا أن يَصِحَّ اتّصافُه به لذاته أو لا.
الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين.
والأَوّل : إما أَنْ يقتضي وجوبَ اتصافه به لذاته أو لا. والأول هو واجب الوجود لذاته.
والثاني ، هو ممكن الوجود لذاته ، أعني به ما تكون نسبة كلّ من الوجود والعدم إليه متساوية.
وبعبارة أخرى : إذا تصورنا شيئاً ، فإمّا أن يكون على وجه لا يقبل الوجود الخارجي عند العقل أو يقبله. والأوّل هو الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدّين ، ووجود المعلول بلا علّة.
والثاني ، إمّا أن يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده ولزوم تحقّقه في الخارج ، فهذا هو الواجب لذاته. وإمّا أَن يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم فلا يستدعي أَحدهما أَبداً ، ولأجل ذلك قد يكون موجوداً وقد يكون معدوماً ، وهو الممكن لذاته ، كأفراد الإِنسان وغيره.
وهذا التقسيم ، دائر بين الإِيجاب والسلب ولا شقّ رابع له ، ولا يمكن أَنْ يُتصور معقول لا يكون داخلاً تحت هذه الأَقسام الثلاثة.
الأَمر الثاني : وجود الممكن رهن علّته.
إِنَّ الواجب لذاته بما أَنَّه يقتضي الوجود من صميم ذاته ، لا يتوقّف وجوده على وجود علّة توجده لاستغنائه عنها. كما أَنَّ الممتنع حيث يستدعي من صميم ذاته عدم وجوده فلا يحتاج في الإِتصاف بالعدم إلى علّة. ولأَجل ذلك قالوا إِنَّ واجب الوجود في وجوده ، وممتنع الوجود في عدمه ، مستغنيان عن العلّة ، لأن مناط الحاجة إلى العلّة هو الفقر والفاقة ، والواجب ، واجبُ الوجود لذاته. والممتنع ، ممتنعُ الوجود لذاته. وما هو كذلك لا حاجة له في الإِتّصاف بأَحدهما إلى علّة. فالأَوّل يملك الوجود لذاته ، والثاني يتّصف بالعدم من صميم الذات.
وأمّا الممكن فبما أَنَّ مَثَلَه إلى الوجود والعدم كَمَثَلِ مركَزِ الدائرةِ إلى محيطها لا ترجيحَ لواحد منها على الآخر ، فهو في كلٍّ من الإِتصافين يحتاج إلى علّة تخرجه من حالة التساوي وتجرُّه إمّا إلى جانب الوجود أَو جانب العدم.
نعم ، يجب أن تكون علّة الوجود أمراً متحقّقاً في الخارج ، وأمّا علّة العدم فيكفي فيها عدمُ العلّة. مثلاً : إن طردَ الجهل عن الإِنسان الأُمّي وإحلال العلم مكانَه ، يتوقّفُ على مبادئ وجوديّة ، وأمّا بقاؤه على الجهل وعدم العلم فيكفي فيه عدم تلك المبادئ.
الأمر الثالث : في بيان الدور والتسلسل وبطلانهما.
الدور عبارة عن كون الشيء مُوجِداً لشيء ثانِ ، وفي الوقت نفسه يكون الشَّيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأَوّل. وهذا باطل لأنَّ مقتضى كونِ الأَوّل علّة للثاني ، تقدُّمُه عليه وتأخُّرُ الثاني عنه : ومقتضى كون الثاني علّة للأوّل تقدُّمُ الثاني عليه. فينتج كونُ الشيء الواحد ، في حالة واحدة ، وبالنسبة إلى شيء واحد ، متقدِّماً وغير مُتَقَدِّم ، ومتأخراً وغير متأخّر. وهذا هو الجمع بين النقيضين ، وبطلانه كارتفاعهما من الضروريّات البديهيّة. فينتج أنَّ الدّورَ وما يستلزمه محال.
ولتوضيح الحال نمثل بمثال : إِذا اتّفق صديقان على إمضاء وثيقة واشترط كلُّ واحد منهما لإِمضائها ، إمضاءَ الآخر ، فتكون النتيجة توقُّفُ إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر وعند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاةً إلى يوم القيامة ، لما ذكرنا من المحذور.
وهاك مثالاً آخر : لو أَراد رجلان التعاون على حمل متاع ، غيرَ أَنَّ كلّاً يشترط في اقدامه على حمله إِقدام الآخر. فلن يحمل المتاع إلى مكانه أَبداً.
وأمّا التسلسل فهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة ، مترتّبةً غير متناهية ، ويكون الكلّ متَّسِماً بوصف الإِمكان بأَنْ يتوقف « أ » على « ب » ، والثاني على « ج » ، والثالث على رابع وهكذا دواليك تتسلسل العلل والمعاليل من دون أن تنتهي إلى نقطة.
وباختصار : حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود تَرَتُّبِ علل ومعاليل ، تكون متناهيةً من جانب ـ أعني آخرها ـ وغيرَ متناهية من جانب آخر ، أعني أوّلها. وعلى ذلك ، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلوليّة فقط بخلاف سائر الأَجزاء ، فإِنَّ كلا منها مع كونه معلولاً لما فوقه ، علّة لما دونه ، فالمعلوليّة وصف مشترك بين الجميع ، سائدة على السلسلة وعلى أجزائها كلّها بخلاف العلية فهي غير صادقة على الجزء الأخير. هذا واقع التسلسل وأمّا بيان بطلانه :
إنّ المعلوليّة كما هي وصف عام لكلّ جزء من أجزاء السلسلة ، وصف لنفس السلسلة أَيضاً. وكما أَنَّ كلِّ واحدة من الحَلقات معلولة ، فهكذا مجموعها الذي نُعبِّر عنه بسلسلة المعاليل المترتبة ، أَيضاً معلول. فعندئذ يَطرَحُ هذا السؤال نفسَه : إِذا كانت السلسلةُ الهائلة معلولةً ، فما هي العلّةُ التي أَخرجَتها من كَتْمِ العَدَمِ إلى عالم الوجود ، و من الظُّلْمَةِ إلى عالم النور ؟ مع أَنَّ حاجةَ المعلول إلى العلّةِ أَمرٌ بديهي. وقانونُ العليّةِ من القوانينِ الثابتة لا ينكره إِلّا الغبي أَو المجادل في الأمور البديهيّة ، هذا من جانب. ومن جانب آخر إِنَّ السلسلة لم تقف ولن تقف عند حدّ حتّى يكونَ أوّلُ السلسلة علّةً غيرَ معلول ، بل هي تسير وتمتدّ بلا توقّف عند نقطة خاصّة ، وعلى هذين الأمرين تتسم السلسلة بسمة المعلوليّة من دون أنْ يكونَ فيها شيءٌ يَتَّسِمُ بِسِمَةِ العليَّةِ فقط. وعندئذ يعود السؤال : ما هي العلّة المحقّقة لهذه السلسلة المعلولة ، المخرجة لها عن كتم العدم إلى حيّز الوجود ؟
ولك إجزاءُ هذا البيان في كلّ واحدة من حلقات السلسلة ، كما أُجْرِيَ في نفسِ السلسلة بعيِنها وتقول : إذا كان كلُ واحد من أَجزاءِ السلسلة معلولاً ومتسِماً بِسِمَةِ المعلوليّة ، فيطرح هذا السؤال نَفْسَهُ : ما هي العلّة التي أخرجت كلَّ واحدة من هذه الأجزاء الهائلة الموصوفة بوصف المعلوليّة ، من حَيِّزِ العدم إلى عالَم الوجود.
وإذا كانت المعلولية آيةَ الفقر وعلامة الحاجة إلى العلّة ، فما تلك العلّةُ التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات والبَسَتْها لِبَاسَ الوجود والتحقّق وصيّرتها غنية بالغَير ؟.
إِنَّ معلوليّة الأَجزاء التي لا تنفك عن معلوليّة السلسلة آية التعلق بالعلّة ، وعلامة التدلي بالغير ، وسمةُ القيام به. فما هي تلك العلّة التي تتعلّق بها الأَجزاء ؟ وما ذاك الغير الذي تتعلّق به السلسلة ؟
وأنت إذا سألت كلّ حلقة عن حالها لأجابتك بلسانها التكويني بأنّها مفتقرة في وجودها ، متعلّقة في جميع شؤونها بالعلّة التي أوجدتها. فإذا كان هذا حال كلّ واحدة من هذا الحلقات ، كان هذا أيضاً حال السلسلة برمّتها. وعندئذ نخرج بهذه النتيجة : إنَّ كلَّ واحدة من أجزاءِ السلسلة معلولة ، والمركب من المعاليل ـ السلسلة ـ أيضاً معلول. والمعلول لا ينفكّ عن العلّة ، والمفروض أنَّه ليس هنا شيء يكون علّة ولا يكون معلولاً وإلّا يلزم انقطاع السلسلة وتوقفها عند نقطة خاصة قائمة بنفسها أعني ما يكون علّة ولا يكون معلولاً ، وهذا خلف.
فإنْ قلت : إِنَّ كلَّ معلول من السلسلة مُتَقَوِّم بالعلّة التي تتقدّمه ، ومتعلّق بها ، فالجزء الأَوّل من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني ، والثاني بالثالث ، وهكذا إلى ما شاء الله من الأَجزاءِ غير المتناهية والحلقات غير المحدودة. وهذا المقدار من التعلّق يكفي في رفع الفقر والحاجة.
قلت : إِنَّ كلّ معلول ، وإِن كان يستند إلى علة تتقدمه ويستمد منها وجودَه ، ولكن لما كانت العلل في جميع المراحل متسمةً بسمة المعلوليّة كانت مفتقرات بالذات ، ومثل هذا لا يوجد معلولَه بالإستقلال ، ولا ينفض غبار الفقر عن وجهه بالأَصالة ، إذْ ليسَ لهذه العلل في جميع الحلقات دور الإِفاضة بالأَصالة ودور الإِيجاد بالإِستقلال بل دور مثل هذه العلل دور الوسيط والأَخذ من العلّة المتقدّمة والدفع إلى معلوله ، وهكذا كلّ حلقة نتصوّرها علّة لما بعدها. فهي عند ذاك لا تملك شيئاً بذاتها وإنما تملك ما تملكه من طرف العلّة التي تتقدّمها ومثلها حال العلل الأخرى من دون استثناء في ذلك. ومثل هذا لا يصيِّر السلسلة ولا أَجزاءَها غنية بالذات بل تبقى على ما وصفناها به من كونها مفتقرات بالذات ومتعلّقات بالغير. فلا بدّ أَنْ يكون هناك علّة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها وتكون سناداً لها.
وبعبارة أخرى : اِنَّ كلَّ حلقة من هذه الحلقات ـ غير الأخيرة ـ تحمل سمتين : سمة العلية ، وبهذه السمة تُوجِدُ ما قبلها ، وسمةِ المعلوليّة وبهذه السمةِ تعلن أَنَّهَا لم تملك ما ملكَتْهُ ولم تدفع ما دفعَتْهُ إِلى معلولها إِلّا بالاكتساب ممّا تقدمها من العلّة. وهذا الأَمر جار وسائدٌ في كلّ حلقة وكلّ جزء يقع في أفق الحس أو الذهن. فإِذاً تصبح نفسُ السلسلة وجميعُ أَجزائِها تحمل سمة الحاجة والفقر ، والتعلّقِ والرَّبطِ بالغير. ومثل تلك السلسلة لا يمكن أَنْ تُوجَد بنفسها إلّا بالإِستناد إلى موجود يحمل سمةً واحدة وهي سمةُ العلية لا غير ويتنزّه عن سمة المعلوليّة. وعند ذاك تنقطع السلسلة وتخرج عن كونها غير متناهية إلى التناهي.
تمثيلان لتقريب امتناع التسلسل
إذا أردْتَ أن تستعينَ في تقريب الحقائقِ العقليّة بالأمثلة الملموسة فهاك مثالين على ذلك :
الأوّل : إنَّ كلّ واحدة من هذه المعاليل ـ التي نشير إليها بالإِشارة العقليّة وإن لم نقدر على الإِشارة إليها عن طريق الحسّ لكونها غير متناهية ـ بحكم فقرها الذاتي ، بمنزلة الصفر. فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار. ومن المعلوم أنَّ الصِّفْر بإضافة صِفْر ، بإضافة صِفْر ، صِفْرٌ مهما تسلسل ، ولا ينتج عدداً صحيحاً. فلأجل ذلك يحكم العقل بأنَّه يجب أن يكونَ إلى جانب هذه الأصفار عدداً صحيحاً قائماً بالنفس حتّى يكون مصحّحاً لقراءتها ، ولولاه لما كان للأصفار المجتمعة الهائلة أيُّ دور في المحاسبة ، فلا يُقْرَأ الصفر مهما أُضيفَتْ إليه الأصفار.
الثاني : إنَّ القضايا المشروطة إذا كانت غيرَ متناهية وغيرَ متوقّفة على قضيّة مطلقة ، لا تخرج إلى عالم الوجود. مثلا إذا كان قيام زيد مشروطاً بقيام عمرو ، وقيامُه مشروطاً بقيام بكر ، وهكذا دواليك إلى غير النهاية، فلن يتحقّق القيام عندئذ من أي واحد منهم أَبداً ـ كما إِذا شرط الأَوّل إِمضاءَه للورقة بإِمضاءِ الثاني ، والثاني بإِمضاءِ ثالث وهكذا ، فلن تُمْضَى تلك الورقة إلى الأبد ـ إلّا إِذا انتهت تلك القضايا إِلى قضية مُطْلَقَة بأنْ يكونَ هناك من يقومُ أَو يمضي الورقة من دون أَنْ يكون فعلُه مشروطاً بشيء.
فهذه المعاليلُ المتسلسلة ـ بما أَنَّ وجودَ كلٍّ منها مشروط بوجودِ علّة تتقدّمه ـ تكون قضايا مشروطةً متسلسلةً غيرَ متناهية فلا تخرُجُ إلى عالم الوجود ما لم تصل إلى قضيّة مطلقَة ، أيّ إلى موجود يكون علّةً محضةً ولا يكونَ وجوده مشروطاً بوجودِ علّة أخرى ، وعندئذ يكون ما فرضناه متسلسلاً غير متسلسل ، وما فرضناه غير متناه متناهياً.
فقد خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ فَرْضَ عِلَل و معاليلَ غير متناهية ، فرضٌ محال لاستلزامه وجود المعلول بلا علّة. فيكون الصحيح خلافَه أَيّ انقطاع السلسلة ، إذ لا واسطة بين الإيجاب والسلب (17).
إلى هنا تمّت المقدّمات التي لها دور في توضيح برهان الإِمكان وإليك نفس البرهان.
تقرير برهان الإِمكان
لا شكّ أنّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإِمكانية بدليل أنها توجَد وتنعدم ، وتَحْدُث وتفنى ، ويطرأ عليها التبَدل والتغيّر ، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإِمكان وسمات الافتقار.
وهذه الموجودات الإمكانيّة ، الواقعة في أفق الحس إمَّا موجودات بلا علّة أو لها علّة. وعلى الثاني فالعلّة إمّا ممكنة أو واجبة. ثمّ العلّة الممكنة إمّا أنْ تكون متحقّقة بمعاليلها ـ أيّ الموجودات الإِمكانيّة ـ ، أو بممكن آخر.
فعلى الأوّل ـ أيّ كونها موجودات بلا علّة ـ يلزم نقضُ قانونِ العليّةِ والمعلوليّة وأنّ كلّ ممكن يحتاج إِلى مؤثّر. ومثلُ هذا لو قلنا بأن علّتها نفسُها ، مضافاً إلى أنّ فيه مفسدة الدور.
وعلى الثاني ـ أيّ كونها متحقّقة بعلّة ممكنة والعلّة الممكنةُ متحقّقةٌ بهذه الموجوداتِ الإِمكانيّة ـ يلزم الدور المحال.
وعلى الثالث ـ أيّ تحقّقها بممكن آخر وهذا الممكن الآخر متحقّق بممكن آخر وهكذا ـ يلزم التسلسل الذي أَبطلناه.
وعلى الرابع ـ أي كون العلّة واجبة ـ يثبت المطلوب.
فاتضح أنّه لا يصحّ تفسير النظام الكوني إلّا بالقول بانتهاء الممكنات إلى الواجب لذاته القائم بنفسه ، فهذه الصورة هي الصورة التي يصحَّحُها العقلُ ويَعُدُّها خاليةً عن الإِشكال. وأمّا الصور الباقية فكلّها تستلزم المحال ، والمستلزم للمحال محال.
فالقول بكونها متحقّقة بلا علّة أو كونِ علتِها نفسَها ، يدفعه قانون العليّة الذي هو معترف به عند الجميع ، كما أنّ القول بكون بعضها متحقّقاً ببعضها الآخر ، وذاك البعضِ الآخر متحقّق بالبعض الأول يستلزم الدور.
والقول بأَنَّ كلَّ ممكن متحققٌ بممكن ثان و الثاني بثالث و هكذا يستلزم التسلسل.
فلم يبق إلّا القول بانتهاء الممكنات إلى الواجب بالذات ، القائم بنفسه ، المفيض للوجود على غيره.
برهان الإمكان في الذكر الحكيم
إنّ الذكر الحكيم طرح معارفَه و أصولَه مدعومة بالبراهين الجليّة ، ولم يكتف بمجرّد الدعوى بلا دليل ، فهو كالمعلِّم يلقي دروسه على تلاميذه بالبيّنة والبرهان. فالإستدلالُ بهذه الآياتِ ليس كاستدلال الفقيه بها على الفروع ، فإنّ الفقيه أثبَتَ أنّ الوحيَ حجةٌ فأخَذَ بتفريعِ الفروع وإقامةِ الحجّةِ عليها من الوحي ، بل الإستدلال بها في هذا الموقف الذي نحن فيه كالإستدلال بسائر البراهين الموروثة عن الحكماء والمتألهين. وقد أشار سبحانه في الآيات التالية إلى شقوق برهان الإمكان.
فإلى أنّ حقيقةَ الممكن ، حقيقةٌ مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً وتحقُّقاً ولا أيّ شيء آخر ، أشار بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (18).
و مثله قوله سبحانه : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) (19).
و قوله سبحانه : ( وَاللَّـهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ) (20).
و إلى أنّ الممكن ، ومنه الإنسان ، لا يتحقّق بلا علّة ، ولا تكون علَّتُهُ نفسَهُ، أَشار سبحانه بقوله : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (21).
وإلى أنّ الممكن لا يصحّ أنْ يكونَ خالقاً لممكن آخر بالأصالة والإِستقلال ومن دون الإِستناد إِلى خالق واجب ، أَشار سبحانه بقوله : ( أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ) (22).
فهذه الآيات ونظائِرُها تستدلّ على المعارف العقليّة ببراهين واضحة ولا تتركها بلا دليل. (23)
سؤال وجواب
السؤال : إنّ القول بانتهاء الممكنات إلى علّة أزليّة موجودة بنفسها ، غير مخلوقة ولا متحقّقة بغيرها ، يستلزم تخصيص القاعدة العقليّة ، فإنّ العقل يحكم بأنّ الشيء لا يتحقّق بلا علّة. والواجب في فرض الإلهيين شيءٌ متحقّق بلا علّة ، فلزم نقض تلك القاعدة العقليّة.
والجواب على وجوه :
الأوّل ـ إنّ هذا السؤال مُشْتَرَك بين الإلهي والماديّ ، فكلاهما يعترف بموجود قديم غير متحقّق بعلّة. فالإلهي يرى ذلك الموجود فوقَ عالَمِ المادةِ والإمكان ، و أنّ الممكناتِ تنتهي إليه. والماديُّ يرى ذلك الموجودَ، المادة الأولى التي تتحوّل وتتشكل إلى صور وحالات ، فإنّها عنده قديمة متحقّقة بلا علّة. فعلى كلٍّ منهما تجب الإجابة عن هذا السؤال و لا يختصّ بالإِلهي (24).
الثاني ـ إنّ القاعدة العقليّة تختصّ بالموجودات الإمكانيّة والظواهر المادية فإنها ـ بما أنّها مسبوقةٌ بالعدم ـ لا تنفك عن علّة تخرجها من كَتْم العَدَمِ إِلى عالَمِ الوجود. ولولا العلّة للزم وجود الممكن بلا علّة ، وهو محال.
وأمّا الواجب في فرض الإِلهيينَ فهو أزَلِيٌ قديمٌ غيرُ مسبوق بالعدم. وما هذا حاله غني عن العلّة لا يتعلّق به الجعل والإيجاد ، فإنّهما من خصائص الشيء المسبوقِ بالعدم ولا يعمّان ما لم يسبِقْهُ العدم أبداً وكان موجوداً في الأزل.
والسائل لم يحلل موضوع القاعدة وزعم أنّ الحاجة إلى العلّة من خصائص الموجود بما هو موجود مع أنّها من خصائص الموجود الممكن المسبوق بالعدم ، والواجب خارج عن موضوع القاعدة خروجاً تخصصياً لا تخصيصياً ، والفرق بين الخروجين واضح.
الثالث ـ إنّ القول بانتهاء الممكنات إلى موجود واجب متحقّق بنفسه مقتضى البرهان العقلي الذي يحكم في سائر المجالات. فلا يصحّ الأخذ بحكمه في مجال دون مجال.
فالعقل الذي يعترف بقانون العليّة والمعلوليّة يحكم بلزوم انتهاء الموجودات إلى موجود واجب. وقد عبّر الحكماء عن هذه القاعدة بقولهم : «كلُّ ما بالعَرَض لا بدَّ أن ينتهي إلى ما بالذات ». كما استعانوا في توضيحه بأمثلة كثيرة معروفة في محلها ، نحو : إنّ كلّ شيء مضاءٌ بالنور ، والنور مضيءٌ بنفسه ، وإنّ حلاوة الأغذية الحلوة بالسّكر والسكر حُلْوٌ بنفسه ، إلى غير ذلك من التقريبات العرفية.
خاتمة المطاف
قد تعرفتَ على مقدّمات برهان الإِمكان وأنّ الاستنتاج منه متوقف على امتناع الدور والتسلسل ، ولولا تسليم امتناع هذين الأمرين ، لأصبح القياس عقيماً والبرهان غيرَ منتج. والذي نركز عليه هنا هو أنّ كلّ ما استُدِلَّ به على إثبات الصّانع لا يكونُ منتجاً إلّا إِذا ثبت قبله امتناع الدور والتسلسل. ولولا هذا التسليم لكانت البراهين ناقصةً ، غير مفيدة.
مثلاً : إنّ برهان النظم الذي هو من أَوضح البراهين وأعمّها لا يكون منتجاً ودالّاً على أنّ للعالَم خالقاً واجباً ، وأنّ سلسلة الكون منتهيةً إليه ، إلّا إذا ثبتَ قبلَه امتناعُ الدور والتسلسل. لأنّ النظام البديعَ آيةُ كونِه مخلوقاً لعلم وسيع وقدرة فائقة يعجز الإنسان عن وصفهما وتعريفهما. وأمّا كون ذلك العلم واجباً وتلك القدرة قديمة ، فلا يثبتُ بذلك البرهان. إِذ من المحتمل أنْ يكونَ خالقُ النّظام ممكناً مخلوقاً لموجود آخر وهكذا ، إما أنْ يدورَ أو يتسلسل. فإِثباتُ كونِ النظامِ وسلسلةِ العللِ والمعاليلِ متوقفةً عند نقطة خاصّة هي واجبةٌ لا ممكنةً ، غنية لا فقيرة ، قائمةٌ بنفسها لا بغيرها ، يحتاج إلى تسليم امتناع الدور والتسلسل كما هو واضح ، فكأنّ المُسْتَدِلَّ ببرهان النظمِ أو سائر البراهين أخذ امتناعهما أصلاً مسلماً عند الاستدلال بها.
البرهان الثالث : بُرهانُ حدوث المادّة
إنّ الأصول العلميّة أَثبَتَتْ نفاد الطاقات الموجودة في الكون باستمرار ، و توجّهها إلى درجة تنطفئ معها شعلةُ الحياة و تنتهي بسببه فعالياتُها ونشاطاتُها (25). وهذا ـ نفاد الطاقات وانتهاؤها ـ يدلّ على أنّ وصفَ الوجود والتّحقّق للمادة ليس أمراً ذاتياً لها ، إذ لو كان الوجود والتحقّق أمراً ذاتياً لها ، لزم أنْ لا يفارقها أزلا و أبداً، فنفادها وزوال هذا الوصف عنها خيرُ دليل على أنّ الوجودَ أمرٌ عرضي للمادة ، غيرُ نابع من صميم ذاتها. ويلزم من ذلك أن يكونَ لوجودها بدايةٌ، لأنّ لازمَ عدمِ البداية كونُ هذا الوصفِ أمراً ذاتياً لها كما هو شأنُ كلّ ذاتيٍّ ، ولو كان ذاتياً لها لوجب أن لا يكون لها نهاية ، مع أنّ العلم أثبتَ لها هذه النهاية.
وبعبارة أخرى : إنّ الوجودَ للمادة المتحوّلةِ إِلى الطّاقة ليس أمراً ذاتياً لها ، وإلّا لوجب أن لا يفارقَها أبداً وأنْ لا تسير المادة إلى الفناء وانعدام الحياة والفعالية ، والحال أنّ العلوم الطبيعيّة اعترفت بأنّ المادة سينتهي سلطانُها وتفنى قوَّتُها وطاقاتها وتموت وتبرد. فالمفارقة في جانب النهاية دليل على عدم كونِ الوجود ذاتيّاً للمادة ، وكونُه غيرَ ذاتيٍّ يلازم أنْ يكونَ لها بداية ، وهذا هو ما نقصده من حدوث المادّة.
إلى هنا تمّ بيان البراهين الثلاثة ، وبقيت هناك براهين أُخَر طرحها العلماءُ في الكتب الكلاميّة نشير إِلى عناوينها :
1 ـ برهان الحركة الذي أبدعه الحكيم أرسطو وأكمله الفيلسوف الإلهي البارع « صدر المتألهين » وهو من أشرف البراهين وأتقنها.
2 ـ برهان الصديقين وقد ذكره الشيخ الرئيس في « الإشارات ». (26)
3 ـ برهان الوجوب.
4 ـ البرهان الأسدّ الأَخْصَر.
5 ـ برهان الترتّب. (27)
بقيت هنا نكاتٌ يجب التنبيهُ عليها :
الأُولى ـ العلّة عند الإلهي والعلّة عند المادي.
إنّ كُلاًّ من الإِلهي والمادي يستعمل كلمة العلّة وكلٌّ يريد منه معنى مُغَايراً لما يريدُه الآخر.
فالعلّة عند الإِلهي هي مفيضُ الوجودِ على الأشياءِ ومُخرِجُها من العدم ، ومصيِّرها موجودةً بعد أنْ كانت معدومة ـ فعند ذلك يكون المعلولُ بمادته وصورته وبجميع شؤونه منوطاً بها ، فالعلّة هي التي تعطي المادة وجودها وصورتها وكل شؤونها وهي التي ـ بالتالي ـ تخرجها من ظلمة العدم إلى حيّز التحقّق.
وللتوضيح نمثل لذلك بالصور الذهنيّة والنفسِ الإِنسانيّة. إِنَّ النفسَ تُوجِد الصورَ في الذهن و تُكَوِّنُها فيه. نعم ، النفسُ تستعين في خلقها لبعض الصور بأَمثلة خارجيّة محسوسة ولكنّها قد تخلق أَحياناً صوراً في الذهن لا مثيل لها في الخارج كالمفاهيم الكليّة مثل مفهومي الإِنسان والإِمكان.
وعلى ذلك فالعلّة التي يقصدها الإِلهي هي ذلك. وبالتالي إنَّ الخالق خَلَقَ المادة وأَفاض عليها صُوَرَها وأَحاطها بشبكة من النظام البديع الذي لم يكن قبل ذلك قط.
وأَمّا العلّةُ عند المادي فهي المُوجِد للحركة والتفاعلات في المادّة ، كالنجار الّذي يجمع الأخشاب من هنا وهناك ويضمّ بعضها إلى بعض بنحو خاصّ فتصيرُ على هيئة الكرسي ، أو كالبنّاء الذي يجمع الأحجَار والطين من هنا وهناك ويرتِّبُها بهندسة خاصّة فتصير جداراً وبناءً ، أو كالنَّار التي توجب غليان الماء وتُحَوِّلُه إلى بخار.
وربّما يتوسع الماديّ في استعمال كلمة العلّة فيطلقُها على نفس المادّة المتحوّلة إِلى مادة أخرى كالحطب إلى الرماد ، والوَقود إلى الطاقة ، والكهرباء إلى الضوء والصوت والحرارة.
فبذلك عُلِمَ أَنَّ بين المصطلحين بوْناً شاسعاً ، فأَين العلة التي يستعملها الإِلهي في مفيض الوجود بمادته وصورته ، من العلّة التي يستعملها المادي في موجد الحركة في المادة أَو في المادة القابلة للتحوّل إِلى شيء آخر !!.
والذي دعى المادي إلى تفسير العلَّة بهذا المعنى هو اعتقادُه بِقدَمِها وقِدَمِ الطاقاتِ الموجودة فيها وغناها عن مُوجِدِها. وهذا بخلاف الأِلهي المعتقد لحدوث المادة وسَبْقِها بالعدَم ، فلها علّة فاعليّة مخرجة لها من العدم إِلى الوجود.
وإِلى ذينك الإِصطلاحين أَشارَ الحكيم الإِلهي السبزواري بقوله :
معطي الوجود في الإِلهي فاعل * معطي التحرك الطبيعي قائل
نعم ربّما يستعمل الإِلهي لفظة العلّة في معطي الحركة ومُوجِدِها وإِنْ لم يُوجِد المادةَ وصورتَها ، فيقول : إِنَّ النجّار علّةٌ للسرير ، والنارَ للإِحراق ، توسعاً في الإِصطلاح.
وإلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * ... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * ... أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ) (28).
ولا شكّ أنَّ للإِنسان دوراً في تكوُّن الإنسان والزرعِ والشجرِ ، ولله سبحانه أيضاً دوراً. ولكنَّ دورَ الإِنسان لا يتجاوز كونَه فاعلاً بالحركة حيث يلقي النطفة في الرحم وينثر البذور في الأرض ويغرس الأشجار ويُجْري الماء عليها ، فأين هو من إفاضة الوجودِ على الإِنسان والزرع .. والشجرة ، مادة وصورة.
الثانية : إنّ في الكتاب الكريم نصوصاً على حدوثِ الكون أَرضاً وسماءً وما بينهما وما فيهما.
والآيات في هذا الشأن كثيرة نشير إلى القليل منها.
قال سبحانه : ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (29).
وقال سبحانه : ( اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ... ) (30). فصرَّح في الآية الأُولى بِخَلْقِ كُلِّ شيء. وفي الآية الثانية بخلق السماء والأرض ، ولكن صرَّحَ في الآيتين التاليتين بخلق كلِّ دابة ونفس الإِنسان.
قال سبحانه : ( وَاللَّـهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ) (31).
وقال سبحانه : ( هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ) (32). إِلى غير ذلك من الآيات.
حدوثُ الكون في الأَحاديث
قال الإمام أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ في خطبة له : « الحمد لله الدالِّ على وجودِه بخَلْقِهِ ، وبمُحْدَثِ خَلْقِه على أَزَلِيَّتهِ » (33).
و قال ـ عليه السّلام ـ أيضاً :
« الحمد لله الواحدِ الأَحدِ الصَّمدِ المتفردِ الذي لا مِنْ شيء كَانَ ، ولا منْ شَيء خَلَقَ ما كَانَ » (34).
وقال ـ عليه السّلام ـ : « لم يَخْلُقِ الأَشياءَ مِنْ أصول أَزلية ، ولا مِنْ أوائلَ كَانَتْ قَبْلَه أَبَدِيَّةٌ ، بَلْ خَلَقَ ما خَلَقَهُ وَأَتقن خَلْقَه ، وَصَوَّر ما صَوَّر فأَحْسَنَ صورَتَه » (35).
وقال ـ عليه السّلام ـ : « لا يجري عليه السّكونُ والحركةُ ، وكيفَ يَجْري عَلَيْهِ ما هُو أَجراه ويَعُودُ فيه ما هو أَبداهُ ويحدُثُ فيه ما هو أَحْدَثَه » (36).
و قال الإمام الحسن بن علي ـ عليه السّلام ـ :
« خَلَقَ الخَلْقَ فكان بديئاً بديعاً، إبتدأَ ما ابتَدَعَ، و ابتَدَعَ ما ابتَدَأَ » (37).
إِلى هنا تمَّ البحث عن أدلّة وجود الصّانع وبراهينه اللامعة ، فحانَ حَيْنُ البحث عن أسمائه وصفاته وأفعاله بفضل منه تعالى.
الهوامش
1. سورة يونس : الآية 101.
2. سورة البقرة : الآية 164.
3. الآيوية : منسوب إلى الآية ، وهي دلالة خاصّة إبتكرها القرآن الكريم وراء سائر الدلالات التي كشف عنها المنطقيّون في أبحاثهم العلميّة ، والمراد من الدلالة الآيوية هو ما ركَّزنا عليه من أَنَّ التعمق في الأَثر والتدبّر في خصوصيّاته ، يهدينا إلى وجود المؤثّر وخواصّه ، ففي تلك الدلالة ، الآية ملموسة ومحسوسة ، وإنْ كان ذو الآية غير محسوس ولا ملموس.
4. سورة النحل : الآية 11.
5. سورة النحل : الآية 13.
6. سورة النحل : الآية 65.
7. سورة النحل : الآية 67.
8. سورة النحل : الآية 69.
9. العلم يدعو للإِيمان ، ص 159.
10. المصدر السابق نفسه.
11. العلم يدعو للإِيمان ، ص 159.
12. العِلْم يدعو للإِيمان ـ كريسي موريسن.
13. سورة البقرة الآية 164.
14. وهو اسكتلندي المولد ، ولد عام 1711 م وتوفي عام 1776 م. وكان يعد من أكبر الفلاسفة المشككين ، وقد أورد هذا الإشكال في كتابه المسمى بـ « المحاورات » وهو مؤلف على شكل حوار بين شخصين افتراضيين أحدهما يمثل مشكّكاً في برهان النّظم باسم « فيلون » والآخر يمثل المدافع عنه باسم «كلثانتس ».
15. راجع التقرير الرابع لبرهان النَّظم ، فقد أشرنا فيه إلى ماها هنا مفصّلا.
16. إنّ الأسئلة المتوجّهة إلى برهان النّظم لا تنحصر بما ذكرناه ، و إنْ كان هو أقواها. وقد ذكر الأُستاذ ـ دام ظله ـ جميع الإشكالات المطروحة حول هذا البرهان وتربو على السبع ، وأجاب عنها في كتاب « الله خالق الكون » فمن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الصفحات التالية من : « 220 إلى 279 ».
17. إنّ بطلان التسلسل من المسائل المهمّة في الفسلفة الإلهيّة وقد طرحه الفلاسفة في أسفارهم وأثبتوا البطلان بحجج كثيرة تناهز العشر. ولكنّ أَكثرها غيرُ مُقنع لأنّهم استدلوا على البطلان بالبراهين الهندسيّة التي لا تجري إلا في الامور المتناهية وما ذكرناه من البرهان ، برهان فلسفي محض مقتبس من أصول الحكمة المتعالية التي أَسَّسها صَدْرُ الدين الشّيرازي و أرْسى قواعدها تلامذة مدرسته وأبرزهم في العصر الأخير سيّدنا الراحل المغفور له العلّامة الطباطبائي ـ قدّس سرّه ـ.
18. سورة فاطر : الآية 15.
19. سورة النجم : الآية 48.
20. سورة محمّد : الآية 38.
21. سورة الطور : الآية 35.
22. سورة الطور : الآية 36.
23. كما أنّ فيها دلالة واضحة على أنّ التفكّر المنطقيّ مما يتوخّاه القرآن الكريم ويدعو البشريّة إليه. ولو كانت الفلسفة بمعنى التفكّر الصحيح والبرهنة المبتنية على المدعى ، فقد فتح بابها القرآن الكريم.
24. والعجب أنّ الفيلسوف الإنكليزي « برتراند راسل » زعم اختصاصه بالإِلهي وأَنَّ مَنْهَجَه يستلزم وجود الشي بلا علّة وقد عرفت خلافه.
25. أثبت العلم بكلّ وضوح أَنَّ هناك انتقالاً حرارياً مستمراً من الأجسام الحارة إِلى الأَجسام الباردة ولا يمكن أَنْ يَحْدُثَ العكسُ بقوّة ذاتيّة بحيث تعود الحرارةُ فترتَدُّ من الأَجسام الباردة إلى الأَجسامِ الحَارة. ومعنى ذلك أنَّ الكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأَجسام ويَنْضُبُ فيها مَعينُ الطاقة. ويومئذ لن تكون هنالك عملياتٌ كيميائيّة أو طبيعيّةٌ ، ولن يكون هنالك أَثَر للحياة نفسِها في هذا الكون. ولما كانت الحياة لا تزال قائمة ، ولا تزال العمليّات الكيميائيّة والطبيعيّة تسير في طريقها ، فإننا نستطيع أَنْ نستنتج أَنَّ هذا الكون لا يمكن أَنْ يكون أَزليّاً وإِلّا لاستهلك طاقاته منذ زمن بعيد وتوقّف كلّ نشاط في الوجود. وهكذا توصَّلت العلومُ دونَ قصد إلى أَنَّ لهذا الكونِ بِدايةٌ.
وباختصار : إِنَّ قوانى الدّيناميكا الحراريّة تدلّ على أنَّ مكوناتِ هذا الكونِ تفقد حرارتها تدريجيّاً وأنَّها سائرةٌ حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الإِنخفاض هي الصّفر المطلق. ويومئذ تنعدمُ الطاقة وتستحيلُ الحياة.
26. الإِشارات ج 3 ، ص 18.
27. لاحظ تجريد الإِعتقاد ، ص 67. والأَسفار ، ج 6 ، ص 36 ـ 37. و أيضاً ج 2 ، ص 165 و 166. فمن أَراد الوقوف على هذه البراهين فعليه المراجعة إلى ما ذكرنا من المصادر.
28. سورة الواقعة : الآيات 58 ، 59 ، 63 ، 64 ، 71 ، 72.
29. سورة الأنعام : الآية 101.
30. سورة الطلاق : الآية 12.
31. سورة النور : الآية 45.
32. سورة الدهر : الآية 1.
33. نهج البلاغة ، الخطبة 152.
34. التوحيد للصدوق ، ص 41.
35. نهج البلاغة ، الخطبة 163.
36. نهج البلاغة : الخطبة 186.
37. التوحيد للصّدوق ، ص 46 ، الحديث 5.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 29 ـ 78
التعلیقات