قدماء الشيعة وعلم أُصول الفقه
دورالشيعة في بناء الحضارة الإسلامية
منذ 15 سنةالمصدر : دور الشــيعــة في بناء الحضارة الإسلامية تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ص 39 ـ 44
( 39 )
10ـ قدماء الشيعة وعلم أُصول الفقه
إنّ السنّة النبوية بعد القرآن الكريم هي المصدر للتشريع ، وقد سبق أنّ الخلافة ـ بعد رحلة الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ـ حالت دون تحديث ما تركه بين الأُمّة ، وكتابته وتدوينه . فلم تدوّن السنّة إلى عصر أبي جعفر المنصور ، إلاّ صحائف غير منظّمة ولا مرتّبة ، إلى أن شرع علماء الإسلام في التدوين سنة (53هـ )(1) .
____________
(1) جلال الدين السيوطي ، تاريخ الخلفاء : 261 .
________________________________________
( 40 )
إنّ الحيلولة بين السنّة وتدوينها ونشرها أدّت إلى نتائج سلبية عظيمة ، منها قصور ما وصل إلى الفقهاء في ذلك العصر صحيحاً من الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عن تلبية متطلّباتهم في مجال الأحكام ، حتّى اشتهر عن إمام الحنفية أنّه لم يثبت عنده من أحاديث الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في مجال التشريع إلاّ سبعة عشر حديثاً .
ونحن وإن كنّا لا نتوافق مع ما حُكي عن النعمان ، ولكن نؤكّد على شيء آخر ، وهو أنّ ما ورد في مجموع الصحاح والمسانيد والسنن الأعم من الصحيح والضعيف في مجال الأحكام الشرعية لا يتجاوز 500 حديث .
قال السيّد محمّد رشيد رضا : إنّ أحاديث الأحكام الأُصول لا تتجاوز 500 حديث تمدّها (1) أربعة آلاف موقوفات و مراسيل .
ويقول أيضاً في تفسيره : يقولون إنّ مصدر القوانين الأُمّة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة . كما قرّره الإمام الرازي والمنصوص قليل جدّاً(2) .
وما ذكره من قضية الإمداد ، يوحي إلى الموقوفات عن الصحابة ، من دون
أن يثبت صدورها عن النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فهذه الموقوفات تعرب عن اجتهادات الصحابة في المسألة . ومن المعلوم أنّ قول الصحابي لا يكون حجّة إلاّ إذا نسبه
إلى الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .
هذا وإنّ الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ ) جمع كلّ ما ورد في مجال التشريع في كتاب أسماه بلوغ المرام من أدلّة الأحكام (3) وهو كتاب صغير جدّاً .
إنّ افتقاد النصّ في مجال التشريع الذي واجه فقهاء أهل السنّة بعد رحلة
____________
(1) الوحي المحمّدي : 212 ، ط 6 . نعم أنهاه ابن حجر في كتابه «بلوغ المرام» إلى (1596) حديثاً لكن كثيراً منها لا يتضمّن حكماً شرعياً ، وإنّما هي أحاديث أخلاقية وغيرها ، فلاحظ .
(2) تفسير المنار 5 : 189 .
(3) بلوغ المرام من أدلّة الأحكام ، ط مصر تحقيق محمّد حامد الفقيّ .
________________________________________
( 41 )
الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، هو الذي دعاهم إلى التفحّص عن الحلّ لهذه الأزمة حتّى تسدّ حاجاتهم الفقهية ، فعكفوا على المقاييس الظنّية التي ما أنزل الله بها من سلطان ، كالقياس ، و الاستقراء ، والاستحسان ، وسدّ الذرائع ، وسنّة الخلفاء ، أو سنّة الصحابة ، أو رأي أهل المدينة ، إلى غير ذلك من القواعد ، أسّسوا عليها فقههم عبر قرون متمادية ، وقد جاء ذلك نواة لتأسيس علم أُصول الفقه بصورة مختصرة نمت ونضجت في الأجيال .
وأمّا الشيعة فحيث إنّهم لم يفتقدوا سنّة الرسول بعد وفاته لوجود باب علم النبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ; علي _ عليه السلام _ والأئمّة المعصومين بين ظهرانيهم ، فلم تكن هناك أيّة حاجة للعمل بتلك المقاييس ، وبالتالي لم يكن هناك أيّ دافع للاتّجاه نحو أُصول الفقه .
نعم لمّا كان الإسلام ديناً عالمياً ، والنبيّ _ صلى الله عليه وآله وسلم _ خاتم الأنبياء ، والأُصول والسنن مهما كثرت لا يمكن أن تلبّي بحرفيّتها حاجات المسلمين إلى يوم القيامة ، انبرى أئمّة
أهل البيت إلى إملاء ضوابط وقواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النص أو إجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات التي يواجه بها الفقيه . وتلك الأُصول هي التي تكون أساساً لعلم أُصول الفقه ، ولقد جمعها عدّة من الأعلام في كتاب خاصّ أفضلها «الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة» للشيخ المحدّث الحرّ العاملي المتوفّى سنة (1104هـ ) .
ومن هنا فإنّا يمكننا القول إنّ وجود أئمّة أهل البيت _ عليهم السلام _ بين ظهراني الشيعة أغنى هذه الطائفة عن الحاجة الملحّة لتدوين مسائل أُصول الفقه إبّان تلك الفترة الماضية ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّه لم ينبرِ لفيف من صحابة الأئمّة لدراسة بعض مسائل الفقه نظير :
________________________________________
( 42 )
1 ـ هشام بن الحكم (ت 199هـ ) ، صنّف كتاب الألفاظ(1) .
2 ـ يونس بن عبد الرحمن ، صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله . وهو مبحث تعارض الحديثين(2) .
3 ـ إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت (237 ـ 311هـ ) .
قال عنه النجاشي : كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا . وذكر مصنّفاته وعدّ منها كتاب الخصوص والعموم(3).
وذكره ابن النديم في فهرسته ، وعدّ من مصنّفاته كتاب إبطال القياس ، وكتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي(4).
4 ـ أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي ، من علماء القرن الثالث ، له كتاب الخصوص والعموم والخبر الواحد والعمل به(5).
5 ـ أبو منصور صرّام النيشابوري ، من علماء القرن الثالث وأوائل القرن الرابع ، له إبطال القياس(6).
6 ـ محمّد بن أحمد بن داود بن عليّ (ت 368هـ ) ، قـال النجاشي : شيخ هذه الطائفة وعالمها ، له كتاب الحديثين المختلفين(7).
7 ـ محمّد بن أحمد بن الجنيد المتوفّى سنة (381هـ ) ، له كتاب كشف التمويه
____________
(1) النجاشي : الرجال 2 : 398 / 1165 وهو مردّد بين كونه كتاب لغة أو أدب ، أو كونه باحثاً عن الألفاظ التي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام لكون الأمر للوجوب والمرّة والتكرار ، أو الفورية والتأخير إلى غير ذلك .
(2) الطوسي : الفهرست : 211 / 810 والنجاشي 2 : 420 .
(3) النجاشي ، الرجال 1 : 121 برقم 67 .
(4) ابن النديم ، الفهرست : 265 ط مطبعة الاستقامة القاهرة .
(5) النجاشي ، الرجال 1 : 180 ـ 181 / 146 .
(6) الطوسي ، الفهرست ، قسم الكنى 381 / 588 .
(7) النجاشي ، الرجال 2 : 305 / 1046 .
________________________________________
( 43 )
والالتباس في إبطال القياس(1) .
والطابع السائد على هذه الكتب هو دراسة بعض المسائل الأُصولية ، كحجّية خبر الواحد ، أو حلّ مشكلة اختلاف الحديثين ، أو نقد بعض الأساليب الرائجة في تلك الأجيال في استنباط الأحكام ، كالقياس وغيره ، ولا يصح عدّها كتباً أُصولية بالمعنى المصطلح .
نعم; يمكن عدّها مرحلة أُولى ونواة بالنسبة إلى المرحلة الثانية .
وأمّا المرحلة الثانية فقد امتازت بالسعة والشمول ، بإدخال كثير من المسائل الأدبية والكلامية في علم أُصول الفقه ، وأوّل من فتح هذا الباب للشيعة على مصراعيه :
1 ـ معلم الأُمّة الشيخ المفيد (336ـ413هـ ) ألّـف رسـالة في هذا المضمار وأدرجها تلميذه العلاّمة الكراجكي في كتابه كنز الفوائد(2) .
وألّف بعده تلميذه الجليل علم الهدى المعروف بالسيّد المرتضى كتابه القيّم «الذريعة إلى أُصول الشريعة» ، والذي طبع في جزأين ، وقد رأيت منه نسخة مخطوطة في مدينة قزوين كتب فيها : إنّ تاريخ فراغ المؤلّف منه عام (400هـ ) .
2 ـ الشيخ الطوسي : (385ـ460هـ ) ألّف كتاب عدّة الأُصول والذي يحتلّ مكانة رفيعة في هذا الميدان ، حتّى أنّه أُعيد طبعه لمرات متكرّرة .
وهكذا يمكن القول بأنّ هذه الكتب كوّنت اللبنة الأساسية التي توسعت بواسطتها وانتشرت آراء الشيعة في علم الأُصول .
وأمّا في المرحلة الثالثة من مراحل تطوّر علم الأُصول لدى الشيعة فقد شهدت بزوغ جملة واسعة من كبار العلماء توسّعوا بشكل كبير في تثبيت وشرح
____________
(1) المصدر نفسه 2 : 304 / 1048 .
(2) كنز الفوائد 2 : 15 ـ 30 ، ط بيروت .
________________________________________
( 44 )
الأبعاد الأساسية لعلم الأُصول ، فكان من نتاج تلك المرحلة :
1 ـ التقريب في أُصول الفقه للشيخ أبي ليلى المعروف بسلاّر بن عبد العزيز الديلمي صاحب المراسم ، توفّـي عام (463هـ ) .
2 ـ غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع ، تأليف أبي المكارم حمزة بن علي المعروف بابن زهرة ، المتوفّى عام (585هـ ) .
3 ـ المصادر ، تأليف الشيخ سديد الدين الحمصي ، المتوفّى حدود سنة (600هـ ) .
هذه هي المراحل الثلاث التي مرّ بها علم الأُصول ، وقد تلتها مراحل أُخرى إلى أن بلغت في القرن الرابع عشر ذروتها وقمّتها ، و أعلى مراحل كمالها ، ويتّضح ذلك من ملاحظة ماأُلّف من عصرالأُستاذالأكبرالمحقّق البهبهاني (1118 ـ 1206هـ ) إلى يومنا; فقد راج التحقيق في المسائل الأُصولية من عصره إلى عصر الشيخ مرتضى الأنصاري (1212 ـ 1281هـ ) وعصر تلميذه الشيخ محمّد كاظم
الخراساني (1255 ـ 1329هـ ) ففي هذه الفترة ; أي القرون الثلاثة ، أُلّفت مئات الكتب والرسائل في ذلك المجال ، ولا أُغالي إذا قلت : إنّه لم تبلغ طائفة من الطوائف الإسلامية تلك الدرجة التي وصلت إليها الشيعة في علمي الفقه والأُصول من جانب كثرة الانتاج والاستيعاب ودقّة النظر ، شكر الله مساعيهم .
____________
(1) كزاد المعاد لابن القيّم، وفقه السيرة للغزّالي المعاصر له.
التعلیقات