هل الإعجاز يضعضع برهان النظم؟
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 83 ـ 85
( 83 )
الجهة الرابعة
هل الإعجاز يضعضع برهان النظم؟
إنّ برهان النَّظم من أوضح الأدلة على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر.
حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة وجزء من ظواهر الكون وأجزائه
كاشف عن دخالة قدرة كبرى وعلم عظيم في تحققه وتكوّنه. هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، إنّ المعجزات ـ كما تقدّم ـ خارقة للعادة والسنن السائدة
في هذا النظام ، فهي تعدّ استثناء فيه ونوع مخالفة له. فالوليد الإنساني ـ مثلاً ـ
يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة ، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية ، ثمّ
تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل والتكامل ، ليخرج بعدها من بطن الأم موجوداً سويّاً
متكاملاً.
والقول بأنّ المسيح ـ عليه السَّلام ـ ولد بلا سيادة هذا النظام ، بل بمجرد
نفخ الَملَك في رحم مريم ـ عليها السَّلام ـ خرق لذاك النظام ، وهو كاشف عن عدم
كليته واطراده . أفبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع؟
وبعبارة ثانية : إنّ النظم السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة
والتقدير في تكوّن كل شيء إنساناً كان أو حيواناً ، أرضياً كان أو أثيرياً. ولكن
خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس ، وخروج الناقة من الجبل الصخري
الأصم ، وما شابه ذلك ، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر.
________________________________________
( 84 )
والجواب :
إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان النظم أوّلاً ، كما لم يقف على حقيقة
الإعجاز وماهيته ثانياً . ولذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم.
أمّا الأوّل ، فلأنّ المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم
واحد بالعدد سائد على الجميع ، وقائم بمجموع الأشياء في العالم ، بحيث لو
شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان ، بحكم كونه واحداً بالعدد
غير قابل للانقسام.
ولكن الحقيقة خلاف ذلك ؛ فإنّ برهان النظم واحد بالنوع ، كثير بالعدد.
فهو يتمثّل ويتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام ، فتكون كل ذرة باستقلالها
حاملةً لبرهان النظم والدلالةِ على وجود الصانع القادر العليم ، من دون توقف في
دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى.
وفي الحقيقة ، إنّ برهان النظم يتكثر عدداً بتكثر الذرات والأجزاء والظواهر
الخاضعة للنظام ، ولو فرض فقدان النظم في جزء وظاهرة ، أو أجزاء وظواهر ـ كما
يدعيه المعترض في مجال الإعجاز ـ لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء والظواهر ،
في إثبات الصانع ، وإلى هذا يهدف القائل:
وفي كل شيء له آية * تدل على أنّه واحد
ففي كل خلية وعضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم ، ويتكثر
بتكثرها . فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر والمخلوقات والكواكب والمجرّات. وكما
أنّ طغيان غُدَّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان ، كما هو الحال
في السرطان ، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان ، فكذلك الخروج عن
النظام في مجال الإعجاز ، لأغراض تربوية ، ولهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم
الغيب ، فإنّه لا يؤثّر شيئاً في برهان النظم من باب أولى.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء ، بحيث
يكون النبي مصدراً له في كل لحظة وساعة ويوم ، ويكون خرق العادة وهدم
________________________________________
( 85 )
النظام شغله الشاغل ، وإنّما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة وحساسة لغايات
تربوية.
ثمّ إنّ النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة ، أطْلَعَ الناس مُسْبقاً على أنّه سيقوم
بخرق العادة في وقت خاص . وهذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم ،
تقوم كلما شاءت واقتضت الحكمة والمصلحة القدسية ، بخرق بعض النظم
والتخلّف عنها. فالعالم ، قَبْضُه وبَسْطُه ، وسن أنظمته وخرقها ، بيد خالقه ،
يفعل ما يشاء حسب المصالح.
وخلاصة البحث : أنّ الإعجاز ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالم ،
وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم
على وجود الصانع . وأيضاً ، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه
بالإعلام المسبق ، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة ومشيئة القوة
القاهرة المسيطرة على الكون ، والمجرية للسنن والأنظمة فيه.
هذا كلّه ، مع أنّ الإعجاز ، وإن كان خرقاً للسنن العادية ، إلاّ أنّه ربما
يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها ، فهي تخرق النظام
العادي ، وتجري نظاماً آخر غير عادي ، لا يقلّ في نظمه عنه.
* * *
التعلیقات