مبدأ ظهور فكرة العصمة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 163 ـ 165
(163)
المقام الثاني : مبدأ ظهور فكرة العصمة
إنّ الكتب الكلامية ، قديمها وحديثها مشحونة بالبحث عن العصمة ، فيقع
السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين ، ومن يقف وراء طرحها في
الأوساط الكلامية.
لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم المبدعين لهذه الفكرة ؛ لأنّهم يصفون
أنبياءهم بأقبح الذنوب ، وأفظع المعاصي ، وهذا العهد القديم يسجّل لداود وسليمان
وقبلهما يعقوب ، ما يندى له الجبين ، ويخجل القلم عن نقله(1) ، فكيف يمكن بعد
هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام ، هم المبدعون لهذه الفكرة.
ولا شك أيضاً في أنّ علماء النصارى ليسوا هم كذلك ؛ فإنّهم وإن كانوا
ينزهون المسيح عن كلِّ عيب وشين ، إلاّ أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريٌّ أُرْسل
لتعليم الإنسان وإرشاده ، بل بما هو « إلهُ متجسِّد » ، أو « ثالثُ ثلاثة».
وبعد هذا فاعلم ، أنّ بعض المستشرقين من رماة القول على عواهنه ، لَمّا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سنتعرض لذلك مفصّلاً عند البحث في الشاهد الرابع من شواهد إعجاز القرآن ، وهو هيمنته على
الكتب السماوية ، من مباحث النبوة الخاصّة.
________________________________________
( 164 )
حار في تحديد زمن ومصدر نشوء فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام ، ذهب إلى أنّ
هذه الفكرة مرجعها إلى تطور علم الكلام عند الشيعة ، وأنّهم أوّلُ من تطرق إلى
بحثها في العقائد . ومردّ ذلك ـ يضيف هذا المستشرق ـ إلى أنّ الشيعة لكي يثبتوا
أحقيّة إمامة أئمَّتهم ، وصحة دعوتهم في مقابل الخلفاء السنيين ، أظهروا عصمة
الرسل بوصفهم أئمة أو هداة(1).
هذا ، والحقّ أنّ العصمة بمفهومها العام قد وردت أوساط المسلمين من
خلال الإمعان في الآية القرآنية الّتي يصف فهيا الله تعالى ملائكته بقوله: (عَلَيْهَا
مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(2). ولن يجد
الإنسان كلمة أوضح في العصمة من قوله: (لا يَعْصُوَن الله ما أَمَرهم).
كما أنّ الله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله: (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد)(3)، فإنّ هذا الوصف للقرآن عبارة
أخرى عن المصونية من كل خطأ وتحريف.
بل إنّ الله سبحانه يصف منطق نبيه بالعصمة ؛ إذ يقول عزّ من قائل: (وَ مَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى)(4).
ويقول: ( ما كَذَبَ الفُؤاد ما رأَى)(5). ويقول: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا
طَغَى)(6).
فالعصمة بمفهومها الوسيع ـ مع قطع النظر عن موصوفها ـ مسألة أَلفتَ
القرآن الكريم نظر الناس إليها ، فلا معه يحتاج معه علماء المسلمين إلى الأحبار
والرهبان أو إلى نضاجة علم الكلام في عصر الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ ، لينتقلوا
إلى هذا الوصف.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- عقيدة الشيعة : تأليف المستشرق رونالدسون، ص 328.
2- سورة التحريم: الآية 6.
3- سورة فصلت: الآية 42.
4- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
5- سورة النجم: الآية 11.
6- سورة النجم: الآية 17.
________________________________________
( 165 )
وأي عتب بعد هذا على الشيعة إذا اقتفوا في كلامهم اثر كتاب الله ،
فوصفوا رُسُل الله وأنبياءه بما وصفهم به ربُّ الجلال والعزّة في كتابه.
ولا يمكن لأحد إنكار عناية الشيعة بتنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث
والجسمية ، وأنبياءه عن وصمة الذَّنْب والخلاف بل إنّك لن تجد في الأُمة
الإسلامية طائفةً تهتم بالتنزيه والتقديس مثلَ الشيعة ، سواء فيما يرجع إلى الخالق
عزّوجل ، أو أنبيائه ـ عليهم الصلاة السَّلام ـ .
* * *
التعلیقات