دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذنوب
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 165 ـ 171
(165)
المقام الثالث: دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذنوب
اختلف المتكلمون في حدود عصمة الأنبياء على أقوال:
1 ـ قالت الأزارقة من الخوارج : يجوز على الأنبياء الكفر ، أخذاً بمبدئهم
من أنّ كلّ ذنب كُفْرٌ(1).
2 ـ قالت الحشوية : « يجوز ارتكاب الكبائر على الأنبياء قبل البعثة
وبعدها ». وتمسكوا في ذلك بأباطيل لا أصل لها(2).
3 ـ والمعتزلة ، منهم من قال : « يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة ، ولا
يجوز بعدها» ، وهو أبو علي الجُبّائي . ومنهم من قال : « إنّ الأنبياء لا يجوز
عليهم الكبيرة ، لا قبل البعثة ولا بعدها ، وتجوز عليهم الصغيرة إذا لم تكن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المواقف : ص 359، ومن عجيب النِسَب ما عزاه القاضي الإيجي إلى الشيعة من تجويزهم إظهار
الكفر من الأنبياء تقيةً ، ثم ردَّه بأنَّ ذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة ؛ إذ أولى الأوقات بالتقية وقت
الدعوة ، للضعف وكثرة المخالفين.
ولكنها فرية باطلة ، الشيعة منها براء ؛ فإنّ ذلك لا يجوز عندهم على الأنبياء ولا الأئمة بل لا
يجوزِّونه لأعاظم الأمة من الفقهاء إذا كان في إظهار الكفر مظنة تزعزع عقائد الناس وتزلزلهم عن
دينهم.
2- سرح الأصول الخمسة : للقاضي عبد الجبار، ص 573 .
________________________________________
( 166 )
مُنَفِّرة ؛ لأنّ قلّة الثواب(1)مّما لا يقدح في صدق الرسل ولا في القبول منهم» ،
وهو القاضي عبد الجبار(2).
4 ـ وأمّا الأشاعرة ، فقد قال القوشجي : « المذهب عند محققي الأشاعرة
منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا ً، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا
سهواً»(3).
وأمّا قبلها ، فقد نقل القاضي الإيجي ـ وهو من الأشاعرة ـ أنّ الجمهور
قال : « لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة»(4).
5 ـ وقالت الإمامية : « لا يجوز على الأنبياء صغيرة ولا كبيرة ، لا قبل البعثة
ولا بعدها»(5).
هذه هي عمدة الأقوال المطروحة في المسألة ، وهناك أقوال أخر ضربنا عن
نقلها صفحاً . ولأولى لنا أن نتبع الدليل ، ونميل معه كيفما يميل ، والأدلة العقلية
تثبت القول الأخير ، وإليك فيما يلي بيان أهمها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لم يعلم كنه قوله «قلّة الثواب» ، فإنّ ارتكاب الصغيرة موجب للبعد عن قرب الربّ ، وبالتالي فلا
يخلو من العقاب المناسب ، فكيف ينحصر أثره في قلّة الثواب.
قال الشريف السيّد المرتضى رحمه الله :« واعلم أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في تجويزهم الصغائر
على الأنبياء صلوات الله عليهم ، يكاد يسقط عند التحقيق ؛ لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا
يستقرّله استحقاق عقاب ، وإنّما يكون حظّه تنقيص الثواب ، على اختلافهم أيضاً في ذلك ؛ لأنّ
أبا علي الجُبائي يقول : إنّ الصغير يسقط عقابه بغير موازنة. فكأنّهم معترفون بأنّه لا يقع منهم ما
يستحقون به الذمّ والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى ؛ لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء
ـ عليهم السَّلام ـ ، جميع المعاصي ، حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذمّ والعقاب....
فإذا كان استحقاق الذمّ والعقاب منفياً عن الأنبياء ، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب». (تنزيه
الأنبياء : للشريف المرتضى ، ص 2).
2- شرح الأصول الخمسة : للقاضي عبد الجبار، ص 573 ـ 575.
3- شرح التجريد: للقوشجي ، ص 464.
4- المواقف : صفحة 359.
5- كشف المراد : ص 217، طبعة صيدا والمواقف : ص 359.
________________________________________
( 167 )
الدليل الأوّل : الوثوق فرع العصمة
إنّ ثقة الناس بالأنبياء ، وبالتالي حصول الغرض من بعثتهم ، إنمّا هو رهن
الإعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهذا بدوره فرع كونهم معصومين عن
الخلاف والعصيان في السرّ والعلن من غير فرق بين معصية وأخرى ، ولا بين فترة
من فترات حياتهم وأخرى.
وذلك لأنّ المبعوث إليه إذا جوّز الكذب على النبي ، أو جوّز المعصية على
وجه الإطلاق ، جوّز ذلك أيضاً في أمره ونهيه وأفعاله الّتي أمره باتباعه فيها ، ومع
هذا الاحتمال لا ينقاد إلى امتثال أوامره ، فلا يحصل الغرض من البعثة ؛ لأنّه
ـ بحكم عدم عصمته ـ يحتمل أن يكون كاذباً في أوامره ونواهيه ، وأن يتقول على
الله ما لم يأمر به ، ومع هذا الاحتمال ، لا يجد المبعوث إليه في قرارة نفسه حافزاً إلى
الإمتثال.
ومثلُ قولِه فعلهُ ؛ فإنّ الأُمة مأمورة باتباع أفعاله ، قال سبحانه: ( قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)(1). فإذا احتملنا كون عمله على خلاف
رضاه سبحانه ، فكيف نجد في أنفسنا الباعث على اتّباعه.
وبالجملة ، بما أنّ النبيّ ، قولَه وفعلَه ، حجّتان ، فيجب اتّباعه فيهما ،
وهذا لا يحصل إلاّ عند الوثوق بصحتهما ، ومع عدم حصول هذا الوثوق تنتفي
بواعث الاتّباع ، فلا يحصل الغرض.
قال المحقق الطوسي في التجريد : « ويجب في النبي العصمة ليحصل
الوثوق ، فيحصل الغرض»(2).
ثمّ إنّ هنا أسئلة حول هذا الدليل نطرحها ، واحداً بعد الآخر:
* السؤال الأوّل : يمكن أنْ يقال : يكفي في الإعتماد على قول النبي ،
مصونيته عن معصية واحدة ، هي الكذب ، دون سائر المعاصي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة آل عمران : الآية 31.
2- كشف المراد : ص 217، طبعة صيدا.
________________________________________
( 168 )
والجواب : إنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا تصحّ أن تقع أساساً
للتربية العامة ، لما فيها من الاشكالات.
أمّا أوّلاً ـ فلأنّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل الّتي أوعزنا إليها
عند البحث عن حقيقة العصمة ، فإنّ تَمَّ وجودها أو وجود بعضها ، حصلت
المصونية عن المعاصي برمتها ، ولا يعقل معها التفكيك بين الكذب وسائر
المعاصي ، بأن يجتنب الكذب طيلة حياته ، بينما هو في الحين ذاته يسرح في سائر
المعاصي ويمرح ، فإنّ العوامل الّتي تسوق الإنسان إلى اقترافها ، تسوقه أيضاً إلى
اقتراف الكذب.
وأمّا ثانياً ـ فلأنّ التفكيك بينهما لو صحّ في عالم الثبوت ، فلا يمكن إثباته في
حقّ مدّعي النبوة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبداً مع ركوبه سائر المعاصي ، فمن أين
يحصل للأُمة العلم بأنً مدّعي النبوة مع اقترافه لأنواع الفجور والمآثم لا يكذب
أبداً ، بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لم يذعن له
أحد ، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح.
* السؤال الثاني : إنّ أقصى ما يثبته هذا الدليل ، هو لزوم نزاهة النبي عن
اقتراف المعاصي في الظاهر وبين الناس ، وهذا لا يخالف عصيانه في الخلوات ؛
فإنّ ذاك القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.
والجواب : إنّ نسبة هذا الأمر ( ركوب المعاصي في السرّ دون العلن ) إلى
مدّعي النبوّة ، يهدم الثقة به من أساسها ؛ إذ ـ حينذاك ـ ما الّذي يمنعه من أن
يكذب ولا يُعلم كذبه ، فإذا تطرّق هذا الاحتمال إلى جميع أقواله ، انتفت الثقة فيه
بالكليّة.
أضف إلى ذلك ، أنّ من كانت هذه حاله ، وإنْ أمكنه خداع الناس بتزيين
الظاهر مدّة من الزمن ، إلاّ أنّه لن يتمكن من البقاء على ذلك أبداً ، بل لن ينقضي
زمان إلاّ وترتفع الأستار ، وتكشف البواطن ، فتظهر سوأته ، ويبدو عيبه.
* السؤال الثالث : إنّ هذا الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة
لحصول الوثوق في تلك الفترة ، ولا يثبت لزوم عصمتهم قبلها.
________________________________________
( 169 )
والجواب من وجهين :
الأوّل : إنّ العصمة كما عرفتَ غصن من دوحة التقوى ، ونتيجة العلم
القطعي بعواقب المعاصي ، واستشعار عظمة الربّ . وهذه ليست وليدة ساعتها ،
فينقلب غير المعصوم معصوماً بنزول جبرائيل عليه وإكسائه ثوب الرسالة ، بل هي
ملكة نفسانية لا تحصل إلاّ بعد رياضات ومجاهدات. فلا معنى حينئذٍ لجعل
البعثة حداً في حياة النبي ؛ لأنّا إذ قلنا بعصمته ـ وهي ملكة نفسانية ـ وجب أن
تمتد جذورها إلى ما قبل البعثة بزمن مديد.
الثاني : لو كانت سيرة الداعي إلى الله ، قبل بعثته مخالفة لما هو عليه
بعدها ، بأن يكون قبلها إنساناً سافلاً مرتكباً لقبائح الأعمال ، لا يحصل الوثوق
بقوله وإن صار إنساناً مثالياً ، بل يتسرب الريب إلى كل ما يتفوّه به من أمر ونهي
وإرشاد ، بحجّة أنّه كان في طرف من حياته متهتكاً ، ملقياً جلباب الحياء ،
فكيف انقلب إلى رجل مثالي معصوم؟!.
لا شك أنّ لكل صفحة من صفحات عمر الإنسان الداعي تأثيراً في جلب
ثقة الناس ، وانقيادهم إليه ، ولوكانت ملطخة بالسواد في بعضها ، لما سكنت إليه
النفوس . فَتَحَقُّقُ الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره.
يقول السيّد المرتضى ـ رحمه الله ـ في الإجابة عن هذا السؤال :
« إنا نعلم أنّ من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال ، وإن تاب
منهما ، وخرج من استحقاق العقاب به ، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى
من لا يجوز عليه ذلك في حال من الأحوال ، ولا على وجه من الوجوه . ولهذا لا
يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ، ونحن نعرفه ، مقارناً للكبائر ،
مرتكباً لعظيم الذنوب ، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي
نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة. ومعلوم ضرورةً الفرق بين
هذين الرجلين فيما يقتضي السكون النفور ، ولهذا كثيراً ما يعير الناس من يعهدون
منه القبائح المتقدمة ، بها ، وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً
وقدحاً . وليس إذاً تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة
________________________________________
( 170 )
وناقصاً عن رتبته في باب التفسير ، ولأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من
التنفير ؛ لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان أحدهما أقوى من
الآخر»(1).
الدليل الثاني : التربية رهن عمل المربي
إنّ الهدف العام الّذي بُعث لأجله الأنبياء ، هو تزكية الناس وتربيتهم ،
يقول سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ : (رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ)(2).
وإنّ التربية عن طريق الوعظ والإرشاد وإن كانت مؤثرةً ، إلاّ أن تأثير التربية
بالعمل أشدّ وأعمق وآكد ؛ وذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل هو
العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقيَّة تعاليم المُصلح والمربيّ . ولو كان هناك
انفكاك بينهما لانفض الناس من حوله ، وفقدت دعوته أي أثر في القلوب.
ولأجل ذلك يقول سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ
تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ )(3).
ولذاك أيضاً ، نرى في الحِكَم أنّ العاِلَم إذا لم يعمل بعِلْمِه ، زَلَّت موعظتُه
عن القلوب ، كما يَزِلُّ المطُر عن الصفا(4).
وهذا الأصل التربوي يجرنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخاة من بعثة
الأنبياء ، وترسخها في نفوس المتربين ، لا تحصل إلاّ بمطابقة أعمالهم لأقوالهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- تنزيه الأنبياء : ص 5.
2- سورة البقرة: الآية 129.
3- سورة الصف: الآيتان 2 و 3.
4- لاحظ أصول الكافي : ج 1، ص 44، باب استعمال العلم ، الحديث 3.
________________________________________
( 171 )
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممّن يخالف فعله
قوله ، سكونّها إلى من كان منزهاً عن ذلك. فيجب أن لا يجوز في الأنبياء
ـ عليهم السَّلام ـ ، إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والإستخفاف
والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.
يبينّ ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي ، بالمنع والردع
والتخويف ، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ؛ لأنّ المعلوم أنّ المُقْدِمَ
على شيء ، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي والزجر والنكير ، وأنّ هذه الأحوال
منه لا تؤثّر... ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي مَنْ يشاهده مقدماً على
مثلها ، لاستخفّ به وبوعظه»(1).
وقال في موضع آخر : « إنّ الواعظ والَمُذَكّر ، وإن غلب على ظننا من حاله
أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة ، حتى عرفنا من حاله الإنهماك
في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثّر وعظه عندنا ، كتأثير المستمر على النظافة
والنزاهة في سائر أحواله»(2).
وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة ، يقتضيها قبلها أيضاً ؛ لأنّ لسوابق
الأشخاص ، وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم
وهداياتهم(3).
ثمّ إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول العصمة ، نفردهما بالذكر ، ونجيب
عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية ، في الذكر
الحكيم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المغنى: ج 15، ص 303.
2- المصدر نفسه : ص 305.
3- وقد أقام المتكلمون ، على عصمة الأنبياء ، دلائل كثيرة ، فذكر المحقق الطوسي ثلاثة ، وأضاف
إليها القوشجي دليلين آخرين ، وذكر الإيجي تسعة أدلّة . غير أنّ بعض ما ذكروه ليس دليلاً عامّاً
لجميع الأحوال والفترات ، بل يختص بعصر النبوة . ومَن أرادها فليلاحظ المواضع التالية : كشف
المراد : ص 217. شرح التجريد : للقوشجي ، ص 464. المواقف : ص 359 ـ 360.
التعلیقات