النسخ بالأخبار
المصدر : زواج المتعة ، تأليف : السيّد جعفر مرتضى الحسيني العاملي ، ج1 ، ص 295 ـ 338
________________________________________ الصفحة 295 ________________________________________
الفصل الثاني
النسخ بالأخبار
________________________________________ الصفحة 296 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 297 ________________________________________
بداية:
وبعد أن عرفنا أقوال القائلين بنسخ تشريع زواج المتعة، وقرأنا الروايات التي اعتمدوا عليها في أقوالهم تلك. نرى من الضروري إلفات نظر القارئ الكريم إلى جانب من المآخذ على تلك الأقوال. وقسم من الإشكالات على تلكم الروايات، ليظهر له بجلاء عدم صلاحيتها للاعتماد عليها في أي حال.. ونذكر أولاً بعض المآخذ العامة عليها. ثم نتبع ذلك في الفصل التالي ببعض ما يرتبط بتفاصيلها:
فإن العلماء.. وإن كانوا قد كفونا مؤونة الكلام في كثير من تلك الأقوال، وردوها، وطعنوا في أسانيد الروايات التي ذكرتها، وخطّأوا وغلّطوا القائلين بها.. كل ذلك بالأدلة، والشواهد الكثيرة والقاطعة..
________________________________________ الصفحة 298 ________________________________________
ولكننا بدورنا لا يسعنا هنا إلا التذكير ببعض ما قيل، أو ما يمكن قوله في ذلك، فلاحظ الأمور التالية:
دليل الإباحة هو دليل النسخ:
وزعموا أيضاً: أن النصوص التي أثبتت الإباحة هي التي أثبتت النسخ وأيضاً لا يوجد اتفاق على الإباحة، لأن القائلين بالإباحة من أهل السنة إنما يثبتون الاباحة الموقتة المنسوخة، لا مطلق الإباحة المؤبدة التي لم يتعقبها نسخ، فأين الإجماع؟(1).
ونقول:
1 ـ سوف يأتي بالتفصيل: أن دليل التحريم هو أخبار آحاد، متباينة ومتناقضة فيما بينها، وفيها الكثير من الإشكالات، ودلائل الضعف والسقوط عن صلاحية الاحتجاج بها.
أما دليل الإباحة، فهو الآية الشريفة، واتفاق الأمة، وروايات كثيرة سيأتي شطر منها في فصل النصوص والآثار، وروايات أخرى تتحدث عن تحليل المتعة، من دون أن تشير إلى التحريم.
____________
(1) راجع: تحريم المتعة للمحمدي ص 188 و189.
________________________________________ الصفحة 299 ________________________________________
إذن، فليس دليل التحريم هو دليل الإباحة، كما زعموا.
2 ـ إن المثبتين للإباحة من أهل السنة إنما يثبتونها انصياعاً للأدلة الآنفة الذكر، ويدّعون النسخ استناداً إلى روايات بعينها لا تصلح لاثباته..
3 ـ ليس ثمة اتفاق من الصحابة على النسخ، وقد حكى جابر وغيره عنهم أنهم يصرون على الإباحة.
والتزامهم بقول عمر ليس دليلاً على موافقتهم له. وقد أشرنا أكثر من مرة إلى بعض أسباب التزامهم، خصوصاً وهو يتهددهم بالرجم.
النسخ غير ثابت:
قد تقدم: أن عمران بن الحصين، وابن عباس، والحكم بن عتيبة، يصرحون بأن آية حلية المتعة محكمة غير منسوخة..
وسيأتي أن طائفة كبيرة من الصحابة، وغيرهم، وأهل مكة، واليمن، وأكثر أهل الكوفة، وأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.. إلى آخر ما سيأتي قد أصروا على عدم نسخ حكم المتعة.. فلا مجال لدعوى القطع بالنسخ.
________________________________________ الصفحة 300 ________________________________________
السنة لا تنسخ القرآن:
إن ثمة من يقول: كالشافعي وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل: إن السنة لا تنسخ القرآن(1) حتى لو كانت متواترة(2).
وقال ابن حازم الهمداني: «.. ذهب جماعة من المتقدمين ونفر من المتأخرين إلى منع ذلك وقالوا: كما أن خبر الواحد لا ينسخ المتواتر، مع اشتراكهما في اللوازم والتوابع، كذلك السنة لا تنسخ القرآن لتباينهما في الحقائق واللواحق»(3).
وقال أبو بكر الهمداني: «قال الشافعي: لا ينسخ كتاب الله إلاّ كتابه وهكذا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا ينسخها إلاّ سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
____________
(1) المستصفى للغزالي ج 1 ص 124، وفواتح الرحموت بهامشه ج 2 ص 78، والأحكام للآمدي ج 3 ص 139، ونهاية السؤل للأسنوي ج 2 ص 579 و 580 متناً وهامشاً، وراجع: ج 4 ص 457، وإرشاد الفحول ص 191، وقال: وبه جزم الصيرفي والخفاف، وأصول السرخسي ج 2 ص 67 و 68 و 69، ولباب التأويل للخازن ج 1 ص 343.
(2) الأحكام ج 3 ص 139.
(3) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص 28 وراجع: الإحكام في أصول الأحكام ج 4 ص 107 وتنقيح الفصول ص 311 وأحكام الفصول لابن خلف الناجي ص 358 وتيسير التحرير ج 3 ص 201 وإرشاد الفحول ص 190 وفواتح الرحموت ج 2 ص 76 ونهاية السؤل ج 2 ص 586.
________________________________________ الصفحة 301 ________________________________________
وقال أبو داود السجستاني: «سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن حديث السنة قاضية على الكتاب، قال: لا أجترئ أن أقول فيه، ولكن السنة تفسر القرآن، ولا ينسخ القرآن إلا القرآن»(1).
وروي عن عبد الله بن سعيد، المنع من ذلك عقلاً، وقال أبو حامد وأبو اسحق، وابو الطيب الصعلوكي بالمنع سمعاً، وقيل: ليس بممتنع لا عقلاً، ولا سمعاً، لكنه لم يقع، وقال السبكي: إن قول الشافعي لا يدل على أكثر من هذا(2).
وهذا معناه: أنه لا يصح عندهم نسخ المتعة بالروايات، المدعى ناسخيتها فضلاً عن احتمال نسخها بها مرة أو أكثر من مرة كما يدعون.
نسخ السنة بالسنة:
قالوا: إن نسخ المتواتر بالآحاد غير واقع، لأن الآحاد ضعيف، والمتواتر أقوى منه، فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى،
____________
(1) الاعتبار ص 28 و 29.
(2) راجع نهاية السؤل ج 2 ص 579 و 580 متناً وهامشاً.
________________________________________ الصفحة 302 ________________________________________
فالثابت قطعاً لا ينسخه مظنون(1).
لكن الشوكاني وأهل الظاهر قالوا بالجواز(2).
وقد اعترف الشوكاني بأن أخبار النهي عن المتعة هي آخبار آحاد، وقد نسخت التشريع القطعي الثابت، قال عن وقوع نسخ المتواتر بالآحاد: «ومن الوقوع نسخ نكاح المتعة بالنهي عنها وهو آحاد»(3).
استدلال واعتذار غير مقبول:
تقدم أن الرازي يقول: إنه بعد إجماع الأمة على تشريع المتعة في الإسلام، فالناسخ ـ لو كان ـ لكان معلوماً إما بالتواتر، وهو لا يصح، إذ يلزم منه عدم صحة مخالفة من ستأتي مخالفتهم في فصل أقوال ومذاهب لاستلزام مخالفتهم هذه تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يعني كفرهم، وإن كان الناسخ معلوماً بالآحاد لزم نسخ المقطوع بالمظنون وهو باطل(4).
____________
(1) الأحكام للآمدي 2/3/134 وإرشاد الفحول ص190.
(2) الأحكام للآمدي 2/3/135 وراجع: الأحكام لابن حزم 1/477.
(3) إرشاد الفحول ص191.
(4) التفسير الكبير ج 10 ص 52.
________________________________________ الصفحة 303 ________________________________________
ثم اعتذر الرازي عن ذلك بأنه: لعل بعضهم قد سمع الناسخ من النبي (صلى الله عليه وآله) ثم نسيه، ثم تذكره، حينما ذكر عمر ذلك أمام ذلك الجمع العظيم وعرفوا صدقه، فسلموا الأمر له(1).
والجواب:
إن الذين سيأتي ذكرهم من القائلين بحلية زواج المتعة قد عاشوا بعد موت عمر، واستمروا على الإصرار على قولهم ذاك.
وقد قلنا: إن عمر إنما نسب التحريم إلى نفسه لا إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن عمران بن الحصين، قد اعتبر تحريم المتعة رأياً لعمر، وأنه لا يهتم لهذا الرأي، حيث قال: «قال رجل برأيه ما شاء»، بل سيأتي أن ابن عمر أيضاً قد اعتبر ذلك رأياً لأبيه، وليس له أن يترك ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) ويتبع رأي أبيه.
تعدد النسخ مرفوض:
قد تقدم قولهم: إن زواج المتعة قد نسخ أكثر من مرة: مرتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، أو ستاً، أو سبعاً، وزعم بعضهم أن
____________
(1) التفسير الكبير ج 10 ص 54.
________________________________________ الصفحة 304 ________________________________________
غير المتعة أيضاً قد نسخ أكثر من مرة، وهي لحوم الحمر الإنسية، والوضوء مما مسته النار، والقبلة.. وقد نظم ذلك الجلال السيوطي فقال:
وأربع تكرر النسخ بها جاءت بها الأخبار والآثار
فقبلة ومتعة والحمر كذا الوضو مما تمس النار(1)
لكنهم قالوا في مقابل ذلك: إن النسخ مرتين مما لا يعهد في الشرع، ولا يقع مثله فيها(2) فكيف بالنسخ أربع مرات، أو ستاً، أو سبعاً، أو غير ذلك مما تقدم.
وقال النيسابوري والرازي: «.. وقول من قال: إنه حصل التحليل مراراً والنسخ، ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين، إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الرواية»(3).
وقال ابن كثير: «فعلى هذا يكون قد نهى عنها، ثم أذن فيها، ثم حرمت فيلزم النسخ مرتين وهو بعيد»(4).
____________
(1) حاشية الشيرواني على تحفة المحتاج ج 7 ص 224.
(2) زاد المعاد ج2 ص183 وفقه السنة ج2 هامش ص42، والمنتقى هامش ج2 ص97.
(3) تفسير النيسابوري بهامش الطبري ج5 ص19، والتفسير الكبير ج10ص52.
(4) راجع: سنن البيهقي ج7 ص201 و207 وغيره من المصادر ليتضح لك ذلك.
________________________________________ الصفحة 305 ________________________________________
وقال أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي: «كل موضع ثبت فيه النسخ في كتاب الله أو في سنة رسوله (صلى الله عليه وآله) فهو على التأبيد»(1).
وذلك كله يدفع ما ذهب إليه الماوردي من أن هناك ما يشهد على أن المتعة أبيحت مراراً، وهو قوله (صلى الله عليه وآله) في المرة الأخيرة: «إلى يوم القيامة، وذلك ليشير إلى أن التحريم الماضي كان مؤذناً بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة اصلاً»(2).
ويدفعه أيضاً: أنه ليس ضرورياً أن تكون كلمة: «إلى يوم القيامة» تشير إلى تعقب التحليل والإباحة.. إذ من القريب جداً أن تكون لأجل تأكيد حالة النسخ وطبيعته..
التناقض والاختلاف:
إن غزوة تبوك كانت في رجب سنة تسع من الهجرة، وغزوة الفتح كانت في العشرين من شهر رمضان سنة ثمان،
____________
(1) البداية والنهاية ج 4 ص 193.
(2) راجع أوجز المسالك ج9 ص 407 وفتح الباري ج 9 ص 147.
________________________________________ الصفحة 306 ________________________________________
وأوطاس بعدها بشهر، أي في شوال سنة ثمان، وحنين أيضاً كذلك، وخيبر في محرم السنة السابعة، وعمرة القضاء في ذي الحجة في السابعة أيضاً، وحجة الوداع في السنة العاشرة.
فنلاحظ أن هناك اختلافاً في الزمان والمكان، وفي السنين والشهور.
فهل كان التحريم في سنة سبع، أو ثمان أو تسع، أو عشر؟!.
وهل كان في شهر رجب، أو في شوال، أو في شهر رمضان، أو في ذي الحجة، أو في محرم؟!.
وهل أبيحت في عسفان، أو في يوم من فتح مكة؟!.
وهل حرمت في خيبر، أو في فتح مكة، أو في عمرة القضاء، أو في حجة الوداع، أو في أوطاس، أو في تبوك، أو في حنين؟!.
وهل أبيحت ثلاثة أيام فقط، أم أكثر؟!.
وهذه الثلاثة هل هي يوم الفتح، أو يوم أوطاس؟!.
إلى غير ذلك من الاختلافات التي لو تتبعناها لملأنا صفحات عدة..
فمع هذا الاضطراب في أحاديث النسخ كيف يمكن الركون
________________________________________ الصفحة 307 ________________________________________
إليها، والاعتماد عليها؟ فكيف إذا كانت معارضة بأحاديث أخرى كثيرة وصحيحة؟!.
وهل يمكن اعتبارها مع هذا كله دليلاً قطعياً يصح الاعتماد عليه في نسخ هذا التشريع الثابت بالكتاب والسنة؟ مع العلم أن اليقين لا يدفعه إلا يقين مثله..
فلا عجب إذن إذا اختلفت أقاويل من يدعون النسخ، فقال بعضهم: نسخت مرتين أو ثلاثا، أو غير ذلك، وقال بعضهم أكثر من ذلك حسبما قدمناه. مع أن أخبارهم تفيد أنها نسخت سبع مرات إن قلنا بصحتها..
وقد عرفت قولهم: إن النسخ مرتين لا يجوز.
من عاهات روايات النسخ أيضاً:
إن البعض وإن كان يدعي: أن روايات التحريم متواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1) لكن سيأتي:
____________
(1) بداية المجتهد ج 2 ص 57، وسبل السلام شرح بلوغ المرام ج 3 ص 227، والهداية في تخريج أحاديث البداية ج 6 ص 502، وراجع عون المعبود ج 6 ص 82 و 83.
________________________________________ الصفحة 308 ________________________________________
1 ـ أن روايات النسخ لا حجية فيها لأنها ترجع في أصولها إلى أخبار آحاد.
2 ـ إن هؤلاء الرواة لا يعترف عدد منهم بمضمونها، بل يروى عنهم القول باستمرار تشريع هذا الزواج، مثل ابن مسعود، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم ممن سيأتي ذكر رواياتهم في فصل النصوص والآثار، فكيف يروي النسخ ثم يلتزم بعدمه؟ والأهم من ذلك.
3 ـ أن روايات الآحاد هذه قد جاء قسم كبير منها على سبيل الاجتهاد في النصوص والآيات القرآنية وفي دلالاتها، ولم يرد على سبيل الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فراجع ماجاء عن ابن عباس، وغيره.
وقد عرفنا الكثير، وسنعرف أيضاً، أنها اجتهادات باطلة، يتجلى فيها الخطأ الفاضح، بحيث إننا نجل أولئك الكبار عن نسبة هذه الأخطاء الفاضحة والواضحة إليهم.
4 ـ إن روايات الآحاد هذه قد جاءت متعارضة، ومتضاربة، لا يكاد يتفق رواتها على شيء في كيفية النسخ، وزمانه، ومكانه، فمن غزوة خيبر، إلى الفتح، إلى حنين، إلى
________________________________________ الصفحة 309 ________________________________________
أوطاس، إلى حجة الوداع، إلى عمرة القضاء، إلى تبوك.. وهكذا، الاختلاف في نفس الموارد، وخصوصياتها.. الأمر الذي أوجب أن تصل أقوال القائلين بالنسخ إلى اثنين وعشرين قولاً، كما قدمنا، وكل قائل منهم يعتمد على رواية يروق له الاعتماد عليها، وقد يكون للراوي الواحد أكثر من رواية، فتصبح إحداهما معتمداً لقول، وتصبح الأخرى معتمداً لقول آخر..
فيروى عن سبرة مثلاً: أن التحريم كان يوم الفتح، ويروى عنه أيضاً أنه قال: إن ذلك كان في حجة الوداع، أو في خيبر، أو في عمرة القضاء، ورواية النسخ يوم الفتح هي المعتمدة عند أكثر القائلين بتحريم هذا الزواج، وهم يضعفون سائر الروايات التي ذكرت للنسخ مناسبات أخرى وأزمنة مختلفة، فإذا سقطت هذه الدعوى عن الاعتبار فإن ما عداها يكون أولى بالسقوط وأجدر وأضعف وأوهن.
فكيف يمكن ادعاء النسخ بأخبار آحاد هذه حالها، وكل واحد من الرواة فيها يروي النسخ في مكان، وزمان، وخصوصية، ومناسبة، تختلف عما يرويه غيره، بل تختلف كثيراً مع ما يرويه هو نفسه ـ كما سيأتي ـ.
وكيف يمكن الركون إلى روايات هذه حالها للقول: بنسخ
________________________________________ الصفحة 310 ________________________________________
حكم قطعي ثبت بالقرآن، وبالسنة المتواترة، ومنها أخبار النسخ نفسها(1) وبإجماع أهل القبلة؟ مع أن النسخ لا يقع بأخبار الآحاد. بل قد تقدم أن السنة حتى لو كانت متواترة لا تنسخ القرآن فكيف إذا كانت هذه الأخبار في موقع التهمة في أنها تجسد السعي لتأكيد أمر النسخ بوحي من التعصب لشخص بعينه، أو لتبرير ما صدر منه حتى لا يكون تشريعاً ممنوعاً منه ومرفوضاً دينياً..
العسقلاني يهشم روايات النسخ:
قال العسقلاني: لا يصح من الروايات شيء بغير علة إلا غزوة الفتح(2) وأما غزوة خيبر، فهي وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة إلا أن فيها من كلام من أهل العلم ما تقدم(3).
وأما عمرة القضاء، فلا يصح الأثر فيها: لكونه من مرسل الحسن، ومراسيله ضعيفة، لأنه كان يأخذ عن كل أحد..
____________
(1) إذ لو لم يكن الحكم ثابتاً لم يكن معنى للقول بنسخه.
(2) سيأتي أنها هي الأخرى فيها الكثير من العيوب والآفات.. ولا يمكن أن تصح.
(3) سيأتي ما ذكره، وما ذكره غيره بعد قليل.
________________________________________ الصفحة 311 ________________________________________
وعلى تقدير ثبوته، فلعله أراد أيام خيبر، لأنهما كانا في سنة واحدة كما في الفتح، وأوطاس سواء.
وأما قصة تبوك، فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديماً، ثم وقع التوديع منهن حينئذ والنهي. أو كان النهي وقع قديماً، فلم يبلغ بعضهم فاستمروا على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك.. على أن في حديث أبي هريرة مقالاً، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل، عن عكرمة بن عمار، وفي كل منهما مقال.
وأما حديث جابر، فلا يصح، فإنه من طريق عباد بن كثير، وهو متروك.
وأما حجة الوداع، فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح، وأشهر، فإن كان حفظه، فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله (صلى الله عليه وآله) أراد إعادة النهي ليشيع، ويسمعه من لم يسمعه.
فلم يبق من المواطن ـ كما قلنا ـ صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر، وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم
________________________________________ الصفحة 312 ________________________________________
ما تقدم(1).
ثم ذكر بعض الإشكالات على غزوة خيبر، وسنوردها إن شاء الله في ما يأتي فلا يبقى إلا روايات النسخ في غزوة الفتح، وسنرى أنها هي الأخرى لا تصح.
تعارض روايات التحريم والتحليل:
إن روايات النسخ متضاربة وضعيفة سنداً إلا أقل القليل منها. وقد رواها فريق بعينه بل إن الاختلاف والتنافي ظاهر حتى في روايات الراوي الواحد، وللقضية الواحدة.
وهي بالإضافة إلى ذلك كله معارضة بالروايات المتواترة والمروية عن عشرات الأشخاص وأسانيد العشرات منها صحيحة، رواها السنة والشيعة على حد سواء، والدالة على عدم نسخ هذا التشريع، وبقائه إلى يوم القيامة.
وسيأتي شطر كبير منها إن شاء الله تعالى في فصل: «النصوص والآثار».
وهذه الروايات ـ بالإضافة إلى ذلك ـ لا تعاني من أي
____________
(1) فتح الباري ج9 ص 146 و147.
________________________________________ الصفحة 313 ________________________________________
اضطراب، أو تناقض، أو اختلاف.
علاج التعارض:
وفي مقام علاج هذا التعارض.. ومع وجود كل تلكم الهنات والعلل المضعفة لأخبار النسخ، والتي ذكرنا وسنذكر شطراً كبيراً منها فإن العلاج هو:
1 ـ تقديم أخبار بقاء هذا التشريع المتواترة، والسليمة عن أية علة ـ على أخبار التحريم التي هي آحاد تعاني من ألف علة وعلة..
2 ـ ولو سلمنا جدلاً بعدم تقديمها عليها ومع عدم امكان التخيير بينها، فلا أقل من سقوط أخبار الأحاد تلك، وهي أخبار النسخ، عن الحجية والاعتبار، ثم الرجوع إلى العمومات الأولى، وهي تثبت لنا أصل مشروعية هذا الزواج وبقائه إلى يومنا هذا.
هذا كله عدا عن أنه سوف يأتي في كثير من النصوص التصريح بأن التحريم إنما كان في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وقد زعم البعض أن ذلك لأمور وقتية وآنية، دفعته إلى المنع المؤقت عن ممارسة هذا الأمر المشروع، فظن البعض تأبيد
________________________________________ الصفحة 314 ________________________________________
التحريم، فبذل وسعه لتأييده وإبقائه، فلم يسعفه الحظ، ولا ساعده الدليل على ذلك.
ونحن وإن كان لنا كلام سيأتي حول هذا الأمر، لكننا نقول إن من يلتزمون بالدفاع عن ممارسات الخليفة وموقفه في هذه القضية.. يمكنهم أن يلجأوا إلى هذا التوجيه حين تضيق بهم السبل والمذاهب.
سبب اختلاف الأخبار والأقوال:
ويعلل الشيخ محمد حسن، صاحب الجواهر اختلاف الأقوال بالنسخ بقوله:
إنما تعددت وتشعبت، بهذه الآية أو بتلك، وبهذا الخبر، أو بذاك.. بسبب: أن الذين تصدوا لرفع التناقض، كانوا جماعة متفرقين، يحاول كل منهم ذلك دون أن يعلم بالآخر: فلم تتوارد الخواطر على ناسخ بعينه، بل تعددت وتشعبت، فكان عملهم: «ضغثاً على إبالة».. حتى لقد بلغت دعاوى النسخ إلى اثنين وعشرين قولاً، حسبما قدمنا تماماً، كما حصل في قضية النبي دانيال (عليه السلام)، في قضية تفريق الشهود، فكان ذلك
________________________________________ الصفحة 315 ________________________________________
سبباً في إظهار الحق، وكشف الواقع(1).
إجابات وتوجيهات لا تصح:
وقد تصدى القائلون بالنسخ لرفع اختلاف الروايات بطرق أخر:
فقالوا: «فإن قلت: ما وجه الاختلاف المذكور في وقت تحريم المتعة، لأنه جاء في زمن خيبر، وفي غزوة تبوك وفي عام أوطاس، وفي حجة الوداع.
قلت: قال الماوردي: يصح أن ينهى عنها في زمن، ثم ينهى عنها في زمن آخر توكيداً، أو ليشهر النهي ويسمعه من لم يكن سمعه أولاً، ولم يسمع بعض الرواة في زمن وسمعه آخر، فنقل كل منهم ما سمعه، وأضافه إلى زمن سماعه، وقال بعضهم: «هذا ما تداوله التحريم والإباحة مرتين»(2).
وقال آخر: «اختلاف الرواة في وقت النهي، لتفاوتهم في بلوغ الخبر إليهم»(3).
____________
(1) راجع: جواهر الكلام ج 30 ص 147 بتصرف.
(2) راجع: أوجز المسالك ج 9 ص 407. وراجع: فتح الباري ج 9 ص 147، وشرح صحيح مسلم للنووي ج 9 ص 179.
(3) مرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
________________________________________ الصفحة 316 ________________________________________
ونقول:
أما الفرض الأول، وهو التأكيد على النهي؛ فينافيه التصريح بالإباحة في الأزمنة والمواضع الأخرى.
أضف إلى ذلك: أن الماوردي نفسه قد اعتبر أن ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله) من أنه قال يوم الفتح: «إلى يوم القيامة» مشعر بأن التحريم في السابق كان مؤذنا بالإباحة.
2 ـ وأما بالنسبة لقوله: إن الإباحة والتحريم قد تعاقبا على هذا الأمر مرتين، فقد تقدم: أن ذلك مما لا يقع في التشريع مثله.
3 ـ وأما قولهم إن سبب الاختلاف هو التفاوت في بلوغ النهي إليهم.. فهو أعجب وأغرب.
فإن ذلك لا يتلاءم مع قولهم: إن المتعة أحلت في عمرة القضاء ثلاثة أيام لم تحل قبلها ولا بعدها.
ولا مع قولهم: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا».
ولا مع قولهم: نهى عن المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر
________________________________________ الصفحة 317 ________________________________________
الأهلية.
ولا مع قوله (صلى الله عليه وآله) عام الفتح: استمتعوا من هذه النساء.
ولا مع قول ابن الأكوع: رخص لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها، ولا مع غير ذلك مما تقدم ويأتي.
إجابات المقدسي أوضح فساداً:
وقد أجاب عن ذلك أبو الفتح نصر بن ابراهيم المقدسي الشافعي بعدة وجوه، هي التالية:
1 ـ إذا اتفقنا على التحريم لم يضر الاختلاف في زمانه، كالشهادة على الإقرار بألف في سنة عشر، ثم شهادة أخرى على الإقرار به في سنة عشرين، فإن الألف تثبت بذلك، وإن لم يثبت وقت الإقرار به..
2 ـ إن الاختلاف بوقت التحريم لا ينافي ثبوته، لأن الاختلاف معناه الجهل بالوقت، وهذا كما لو قال الشاهدان نسينا وقت التحريم.
________________________________________ الصفحة 318 ________________________________________
3 ـ إن الخبرين لا يمكن أن يكونا كاذبين لصدق رواتهما وصحة طرقهما، كما أن أحدهما لا يمكن أن يكون كاذباً لنفس هذا الدليل، أي لصدق رواته وصحة طريقه..
فثبت صدق الخبرين معاً.. مع تقدم أحدهما على الآخر، فيكون الثاني مؤكداً للأول، وليس ناسخاً، لأنهما متوافقين غير متخالفين.
4 ـ إنه لا يمتنع أن تكون المتعة قد أبيحت عند الحاجة، ثم نسخت، ثم تجددت الحاجة فأبيحت ثم نسخت إلى يوم القيامة..
ففي صدر الإسلام أبيح ترك الغسل عند التقاء الختانين وعدم الإنزال بقوله (صلى الله عليه وآله): الماء من الماء. ثم بعد ذلك أوجب الغسل مطلقاً حين قال: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل.
5 ـ إن التحريم بمكة كان إخباراً عن التحريم الذي صدر في خيبر، لأن قريشاً لم يكونوا علموا بالتحريم، لأنهم كانوا على الكفر عام خيبر.. ففي فتح مكة أخبرهم أن النكاح الذي كان جائزاً عندهم وعنده في أول الإسلام قد حرم، وأن التحريم باقٍ إلى يوم القيامة.
________________________________________ الصفحة 319 ________________________________________
ونقول:
إن جميع ما ذكره النووي والمقدسي لا يصح، ولا يمكن الالتزام به، وقد اتضح فساده من خلال البحوث التي أوردناها في هذا الكتاب بما لا مزيد عليه، ولكننا ـ مع ذلك ـ نسجل على كل هذه النقاط إجابات مختصرة فنقول:
1 ـ القياس على الإقرار وعلى الشهادة لا يصح:
بالنسبة للنقطة الأولى والثانية أعني قياس ما نحن فيه على الإقرار وعلى الشهادة.
نقول:
أ ـ قد قامت القرائن، ودلت الشواهد على عدم صحة الرواية المنسوبة إلى علي (عليه السلام) من أن النسخ كان يوم خيبر، وصار أصل التحريم مشكوكاً، ولم يعد الشك مقتصراً على الوقت، وكذا الحال بالنسبة لرواية سبرة بن معبد، وسيأتي إن شاء الله كل ذلك.
ب ـ إن الثابت عن علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) هو استمرارهم على القول بالحلية.. مما يعني أن ما
________________________________________ الصفحة 320 ________________________________________
ينسب إليه (عليه السلام) مما هو خلاف ذلك لا يعتمد عليه، حتى إنه اشتهر عنه (عليه السلام) قوله: لولا تحريم عمر للمتعة، ما زنى إلا شقي.. أو شفا، أو نحو ذلك، فلا مجال لقياس هذه المسألة على مسألة الشهادة والإقرار.
ج ـ إن ما نحن فيه يتضمن الدعوى إثباتاً ونفياً في كل شهادة. أي أن مدعي التحريم يوم الفتح يقول: بوجود تحليل متصل به سابق عليه.
ومدعي التحريم يوم خيبر يقول: باستمرار هذا التحريم إلى يوم الفتح وبعده إلى آخر الزمان.. ولذا صح ـ بحسب زعمهم ـ الاستدلال عند علي (عليه السلام) على ابن عباس وتخطئته فيما ذهـب إليه.. فعلي (عليه السلام) إذن ـ حسب قولهم ـ ينكر وجود تحليل ثم نسخ في يوم الفتح، إذ لو كان يعترف به لكان عليه أن يستدل به ولا يستدل بعام خيبر.. لأن يوم خيبر منقوض على هذا التقدير دون شك، فكيف قال له: إنك امرؤ تائه؟!.
وعلى هذا، لا تقاس هذه المسألة على مسألة الإقرار بالألف، كما أنها لا تقتصر على الجهل بالوقت، كما لو قال
________________________________________ الصفحة 321 ________________________________________
الشاهدان نسينا وقت التحريم.. لأن الشاهدين بنفي كل منهما ما يقرره الآخر. ثم يثبت كل منهما أمراً جديداً.
2 ـ تأكيد النسخ لا يصح:
وأما ما ذكره ثالثاً، من أنه لا بد من الحكم بصدق الخبرين معاً، وأنه لا تكاذب بين الأخبار، بل فيها تأكيد للنسخ.
فلا يصح أيضاً، لأن كون الثاني مؤكداً للأول، إنما هو مع عدم تخلل التحليل فيما بينهما، وقد قرر سبرة بشكل صريح أن المتعة كانت يوم الفتح حلالاً لهم فلا يصح القول: إن التحريم يوم الفتح يؤكد التحريم يوم خيبر.
وبعد أن ثبت أنه لا يمكن الحكم بصحة كلا الخبرين، لم يبق إلا أن يكون أحدهما صحيحاً فقط، أو يكون كلاهما كذباً. وهو الذي تقتضيه أدلة وأخبار بقاء الحلية..
3 ـ الإباحة والنسخ عند الحاجة لا يصح:
وأما القول بأنها أبيحت عند الحاجة ثم نسخت ثم تجددت الحاجة، فأبيحت ثم نسخت إلى يوم القيامة، ثم قياس
________________________________________ الصفحة 322 ________________________________________
ذلك بغسل الجنابة فهو أيضاً كلام غير صحيح.
وذلك لما يلي:
1 ـ إن ما ذكر عن غسل الجنابة غير مسلم.. بل الصحيح هو حديث إذا التقى الختانان وجب الغسل، فقط.
2 ـ ولو سلمنا، فإن قضية الغسل من باب التدرج في التحريم من مرتبة إلى أخرى، وموضوع المتعة هو من قبيل النسخ ثم التشريع أكثر من مرة، فلا يقاس أحدهما بالآخر.
3 ـ إن التشريع عند تجدد الحاجة لا يصح، إذ لا يصح تعدد النسخ كما تقدم.
4 ـ لو سلم أنه يصح، فلا معنى للنسخ إلى يوم القيامة، عند انتهاء الحاجة في المرة الثانية، فإنه إذا كانت الحاجة هي المعيار فلا بد من دوران الأمر معها ثبوتاً، وانتفاءً، وإن كان المعيار شيئاً آخر، فلا بد من بيانه.
وما ذنب الذين تجددت الحاجة لهم بعد حصول النسخ إلى يوم القيامة ليحرموا من بركات هذا التشريع.
________________________________________ الصفحة 323 ________________________________________
4 ـ كون المقصود الإعلام بالتحريم لا يصح:
وأما قوله: إن التحريم في مكة كان إخباراً عن التحليل الذي صدر في خيبر، ليعلم به من لم يكن علمه، لأن أهل مكة كانوا في خيبر على الشرك.
فينافيه: تصريح سبرة بأن النبي (صلى الله عليه وآله) أحل المتعة لهم عام الفتح، وأذن لهم فيها..
وينافيه: قولهم: إنه (صلى الله عليه وآله) أحلها لهم في عمرة القضاء ثلاثة أيام لم تحل قبلها ولا بعدها..
وقولهم: رخص لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام أوطاس بالمتعة.
وغير ذلك من نصوص.
قطعية التحليل، وظنية النسخ:
وقد واجه القائلون بالنسخ إشكالاً قوياً أربكهم إلى درجة كبيرة وقد حاولوا جاهدين أن يتخلصوا منه، فلم يفلحوا..
والإشكال هو: أن تحليل المتعة قطعي، وحديث تحريمها
________________________________________ الصفحة 324 ________________________________________
ونسخها ظني، لأنه مختلف فيه، والظني لا ينسخ القطعي(1).
وهذا الإشكال جعل القائلين بتحريم زواج المتعة يعانون من «الانقطاع عند المناظرة،كما هو حاصل كلام المصنف، كما ذكر المقبلي».
الإجابات الواهية:
وقد اجابوا عن ذلك: «بأن استمرار ذلك القطعي ظني بلا خلاف. والنسخ إنما هو للاستمرار لا لنفي ما قد وقع، فإنه لا يقول عاقل بأنه ينسخ ما قد فرغ من فعله»(2).
وقالوا: «نمنع كون القطعي لا ينسخه الظني فما الدليل على ذلك، ومجرد كونها مذهب الجمهور غير مقنع لمن قام في مقام المنع يسائل خصمه عن دليل العقل والسمع بإجماع المسلمين»(3).
____________
(1) نيل الأوطار ج 6 ص 274 وفتح الملك المعبود ج 3 ص 226 و 227 وراجع: عون المعبود ج 6 ص 82 و 83، وراجع: السيل الجرار ج 2 ص 268 وفقه السنة ج 2 ص 45 وسبل السلام شرح بلوغ المرام ج 3 ص 266 و 267، وراجع المنار في المختار من جواهر البحر الزخار ج1 ص 464.
(2) السيل الجرار ج 2 ص 268. وتحريم المتعة للمحمدي ص 190.
(3) نيل الأوطار ج 6 ص 274 وراجع المنار في المختار من جواهر البحر الزخار ج 1 ص 464. وتحريم المتعة للمحمدي ص 190.
________________________________________ الصفحة 325 ________________________________________
وأجابوا أيضاً:
إن الراوين لإباحة المتعة رووا نسخها، وذلك إما قطعي في الطرفين، أو ظني في الطرفين جميعاً(1).
وقالوا أيضا:
يقال: إن كان كون التحليل قطعياً لكونه منصوصاً عليه في الكتاب العزيز فذاك وإن كان قطعي المتن فليس بقطعي الدلالة لأمرين.
الأول:
إنه يمكن حمله على الاستمتاع بالنكاح الصحيح.
الثاني:
إنه عموم، وهو ظني الدلالة.
على أنه قد روى الترمذي، عن ابن عباس انه قال: كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام.
وهذا يدل: على أن التحريم بالقرآن، فيكون ما هو قطعي المتن ناسخاً لما هو قطعي المتن.
____________
(1) سبل السلام شرح بلوغ المرام ج 3 ص 266 و 267. وتحريم المتعة للمحمدي ص 190.
________________________________________ الصفحة 326 ________________________________________
وإن كان، التحليل قطعياً لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر.
فيقال:
وقد وقع الإجماع أيضاً على التحريم في الجملة عند الجميع، وإنما الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا.
وكون هذا التأبيد ظنياً لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به.
فالحاصل:
«أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه، المقيد بقيد ظني، وهو التأبيد، فالناسخ والمنسوخ قطعيان. قاله العلامة صديق بن حسن خان»(1).
وقال يوسف جابر المحمدي: «إن مستندهم لمصادر جواز المتعة هي هذه المصادر التي حرمتها والشك الذي يمكن أن يتسرب إلى هذه المصادر يشمل الحل والتحريم إذا كان بحثهم نزيهاً لم تترتب نتائجه قبل مقدماته. ولكن أتباع مدرسة المتعة يشاركوننا في السبب ويفردوننا بالعجب! فتتعدد روايات التحليل والتحريم فيقبلون
____________
(1) فتح الملك المعبود ج 3 ص 226 و 227 ونيل الأوطار ج 6 ص 274 وفقه السنة ص 45 وعون المعبود ج 6 ص 82 و 83.
________________________________________ الصفحة 327 ________________________________________
الحل والجواز ويرفضون التحريم للتعدد»(1).
لماذا هذه الأجوبة واهية؟!:
ومن الواضح: أن ما أجاب به هؤلاء قد جاء على درجة كبيرة من الضعف والوهن. وذلك لكثرة المآخذ عليه.
ونحن نكتفي هنا بالتذكير ببعض النقاط التي تظهر بطلان ما استدلوا به.. وتحديد الموقف العلمي الصحيح والصريح منها، وإن كنا اسلفنا بعض الكلام في ذلك.
فنقول:
هناك أمور اتضح في الفصول السابقة عدم صحتها وقد اعتمد عليها الذين حاولوا صياغة تلك الإجابات، وهناك أمور أضافوها هنا، ونحن نذكرها ونذكر القارئ بالإجابات المناسبة عليها فيما يلي:
1 ـ قالوا: إن آية (فما استمتعتم به منهن) ناظرة إلى النكاح الدائم..
____________
(1) تحريم المتعة ص 190.
________________________________________ الصفحة 328 ________________________________________
وقد تقدم أن هذا غير صحيح.
2 ـ قالوا: إن آية: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) ناسخة لآية تشريع المتعة..
وقد تقدم عدم صحة هذا القول أيضاً من جهات عديدة.
3 ـ قالوا: إن هناك إجماعاً على النسخ والتحريم.. هذا ايضا غير صحيح لما يلي:
أ ـ إن كثيراً من الصحابة قائلون باستمرار التحليل.. بل قد يكون أكثر الصحابة يقول بذلك.. فسكوتهم عن معارضة عمر، مع تهديده ووعيده لا يدل على موافقتهم له، كما سيأتي بيانه.
ب ـ هناك ما يشير إلى أن عامة الصحابة قد استمروا على القول بتحليل هذا الزواج، وهو قول جابر.. كما فهمه غير واحد من الكبار ممن يذهب إلى النسخ!!..
ج ـ هذا فضلاً عن ذهاب فقهاء مكة والمدينة، واليمن.. وغيرهم إلى استمرار تحليل هذا الزواج، وممارسته، حتى إن ابن جريج ـ كما يقولون ـ قد تمتع بسبعين امرأة.
________________________________________ الصفحة 329 ________________________________________
وستأتي في الفصول التالية نصوص وأحاديث تعد بالعشرات، بل المئات مما يدل على بقاء هذا التشريع.
4 ـ قد تقدم: أن الإجماع لا يصح النسخ به، فكيف إذا كان إجماعاً في عصر متأخر عن عصر المعصوم، وكذلك الأخبار، فإنها لا تنسخ حكماً ثبت تشريعه بالقرآن، فكيف إذا كانت أخبار آحاد؟!. وكيف إذا كانت مختلفة بل متناقضة في كثير من مواردها.
5 ـ دعواهم تساوي الدعويين.. من حيث الظن والقطع لا تصح، فإن إباحة هذا الزواج تعتبر من ضروريات هذا الدين.. أما تحريمه، فلم يروه إلا البعض.. وقد عرفنا وسنعرف المزيد من المآخذ والعلل في تلك الروايات.
6 ـ إذا كان الاستمرار ظنياً، فمعنى ذلك أننا لا نعلم إن كان هذا الاستمرار حاصلاً أم غير حاصل.. فلا يبقى معنى لنسخ أمر لم يعلم ثبوته من الأساس، فما معنى قولهم: إنه قد نسخ، فإن لم يكن ثابتاً فأي شيء ينسخ ويرفع.
والحق هو أن يقال: إن المدار على ثبوت الحجة وعدمها. فإذا كانت حجية ذلك الظن قطعية جاء الحديث عن نسخ هذا
________________________________________ الصفحة 330 ________________________________________
القطعي..
7 ـ إن دعواهم تواتر أخبار التحريم(1). وذلك لتناول أصحاب السنن لجميع طرقها، وهي كثيرة، ومتعددة(2).
لا تصح أيضاً، فقد عرفنا أنها أخبار آحاد، متناقضة ومضطربة فيها الكثير من التشتت والاختلاف، ولا يمكن حصول الظن بمضمونها.
8 ـ إن أخبار التحريم لا تصلح لإفادة ظن ولو في حده الأدنى، فضلاً عن أن يرفع بها ظن آخر.
9 ـ لو سلمنا: أنها تفيد ظناً فإن الظن الحاصل من روايات استمرار التحليل والتي تناهز مائة وعشر روايات أقوى بكثير من الظن الحاصل من روايات النسخ..
10 ـ لو سلمنا: تكافؤ الظن في الجانبين، ولم نقل بالتخيير ـ كما عن أبي علي وابنه(3) ـ ولا بالتساقط والرجوع إلى عمومات الحل.
____________
(1) تقدمت مصادر ذلك في هذا الفصل.
(2) تحريم المتعة في الكتاب والسنة ص 135 و136.
(3) راجع: منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي ص 99.
________________________________________ الصفحة 331 ________________________________________
فإن الراجح هو الأخذ بروايات بقاء التحليل، لأنها أكثر عدداً، وأصح سنداً. مع انتفاء التهمة فيها من أنها لأجل تبرئة شخص بعينه من تهمة التصدي لتحريم حلال الله، أو نحو ذلك..
كما أن روايات النسخ والتحريم ظاهرة التهافت والاختلاف متعارضة، فيما بينها، وبعضها مضطرب في نفسه ـ كرواية سبرة ـ لا يصلح للاعتماد عليه.. هذا بالإضافة إلى أن الراوي لها فريق بعينه.. ولم يروها ولا اعترف بها الآخرون.
وهكذا يتضح:
أن الأرجحية لروايات بقاء التحليل ظاهرة جلية، لا مجال للمراء أو التشكيك فيها.
11 ـ بل قال ابن المرتضى: «تحريمها ظني لأجل الخلاف. وإن صح رجوع من أباحها لم تصر قطعية، على خلاف بين الأصوليين»(1).
وقد تقدم بعض ما يفيد في ذلك في الفصول السابقة، فلا نعيد.
____________
(1) البحر الزخار ج 4 ص 23.
________________________________________ الصفحة 332 ________________________________________
12 ـ إن كلام الشوكاني يعطي: أن مراد القائلين بأن التحليل لزواج المتعة قطعي والتحريم ظني، هو دعوى أن النسخ هو نفي ما قد وقع في السابق. أي ادعاء أن التحليل لم يقع من الأساس..
وهو كلام باطل، ونسبة غير صحيحة، بل هم يقولون: إنه إذا ثبت التحليل بصورة قطعية، فلا بد من ثبوت ناسخه، ورافع استمراره بصورة قطعية أيضاً.
13 ـ إن استمرار التحليل قطعي أيضاً، لأن الخليفة الثاني حين أصدر أوامره بالمنع عن هذا الزواج قد اعترف بأن التحليل كان ثابتاً في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي عهد أبي بكر، وأنه هو الذي يصدر هذا المنع.. وسنرى أن كثيراً من الصحابة، وكثيراً من فقهاء الأمصار لم يوافقوه على هذا الأمر..
هذا عدا عشرات من الروايات تثبت استمرار حلية هذا الزواج، وعشرات منها صحيحة السند كما سيأتي.
14 ـ وقد رد ابن المرتضى على من أنكر أن تكون إباحة المتعة قطعية ـ بقوله: «فيه نظر، إذ لم يسمع بمن أنكرها من
________________________________________ الصفحة 333 ________________________________________
الأصل»(1).
15 ـ لا معنى للقول: إن مصادر التحليل هي مصادر التحريم، فالشك ينبغي أن يشملهما معاً..
فإن الأدلة على التحليل لا تنحصر بروايات التحريم بل هناك إجماع الأمة وهناك الآية الشريفة، وهناك أحاديث استمرار الحل التي ستأتي في فصل مستقل..
أما أخبار التحريم فسيأتي أنها تعاني من إشكالات كثيرة لا مجال لردها.
عود على بدء:
وقد حاول بعضهم التخلص من إشكال: أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، بل لا بد من آية قرآنية أو خبر متواتر، فطوّر في أسلوبه البياني قليلاً. فذكر ما يلي:
أولاً:
إن المتعة إنما شرعت بالسنة، فنسخها بالسنة جائز، فيكون قوله (صلى الله عليه وآله) منسوخاً بقوله.
____________
(1) المصدر السابق.
________________________________________ الصفحة 334 ________________________________________
ثانياً:
المتواتر هو العلم بما كانت عليه قبل النسخ. وأما بقاء الحكم فليس متواتراً بعد ورود النسخ، لأن القائلين بحليتها بعد النسخ أفراد معدودون ومعروفون بأسمائهم.
ثالثاً:
هناك خلاف حول إمكان وجود التواتر..
رابعاً:
يشترط في المتواتر: «أن يرويه جمع عن جمع عن جمع، من أول السند إلى آخره، مع ملاحظة عدم إمكان اجتماعهم على الكذب».
وبعد النسخ لم يعد هناك رواية لجمع عن جمع عن جمع ببقاء التحليل. أي أنهم أصبحوا أفراداً يروون عن أفراد أمرا قد كان.
فالمنسوخ هو استمرار حل المتعة، وهو ظني لا قطعي.
خامساً:
البحث إنما هو في استمرار الحل استصحاباً للحال. وهذا ظني. ورفع الظني بالظني جائز. فدعوى تواتر الحل مغالطة.
سادساً:
إن الناسخ ليس خبر آحاد بل هو متواتر(1).
____________
(1) راجع: تحريم المتعة في الكتاب والسنة ص 136 و137 و138.
________________________________________ الصفحة 335 ________________________________________
ونقول:
إن جميع ذلك لا يمكن أن يصح، وذلك للأمور التالية:
1 ـ أما قوله: إن الناسخ ليس خبر واحد بل هو متواتر، فقد تقدمت الإجابة عنه. وظهر وسيظهر أنها أخبار آحاد متعارضة فيها الكثير من الهنات والعديد من المشكلات، فلا نعيد.
2 ـ قوله: إن استمرار الحل، مستند إلى الاستصحاب.. غير سليم. بل هو مستند إلى دليل التحليل نفسه، الذي هو الآيات والروايات الظاهر في أن الحكم ثابت على نحو العموم والشمول، على جميع الناس وفي جميع الأحوال.. وفي مختلف الأزمان.. وهو قطعي الثبوت بواسطة الآيات والروايات، فعلى مدعي وجود ناسخ ورافع أن يثبت ذلك بصورة قاطعة.
فما معنى الحديث عن استصحاب الحال ليقال: إنه ظني.. ويصح رفع الظني بالظني؟!
3 ـ وبذلك تتضح الإجابة عن قوله: إن المنسوخ هو استمرار حل المتعة، وهو ظني.. وتوضيح الجواب بما يلي:
إن ما دل على ثبوت التحليل عن رسول الله (صلى الله
________________________________________ الصفحة 336 ________________________________________
عليه وآله) قطعي وثابت.
وبغض النظر عن الآية الشريفة، فإن الأخبار الدالة على ثبوت هذا الحكم في مختلف الأحوال والأزمان متواترة، بل إن ذلك من الضروريات..
يضاف إلى ذلك، ما سنذكره في فصل «النصوص والآثار في مصادر أهل السنة» مما دل على بقاء هذا التشريع إلى ما بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنها أيضاً كثيرة، ومتنوعة ولا ريب في تواترها..
وليس المقصود بالتواتر تواتر نص واحد بعينه رواه جمع عن جمع بل المقصود التواتر الإجمالي، لبقاء الحل، والذي ستأتي نصوصه في فصل «النصوص والآثار».
وكذلك تواتر ما دل على اصل تشريع هذا الزواج بصورة مطلقة وعلى نحو العموم والشمول لمختلف الأحوال والأزمان إلى أن يرد الناسخ.. وهذا الأمر حاصل، كما ذكرنا..
إذن، فلا معنى لقوله: إن استمرار حل المتعة ظني، ليس بمتواتر إذ لم يروه جمع عن جمع، عن جمع؟!
والنسخ المدعى، ما هو إلا أخبار آحاد متعارضة ومتنافرة
________________________________________ الصفحة 337 ________________________________________
لا جدوى منها.
وحتى لو كانت متواترة فإنها لا ترفع تواتر روايات ثبوت الحكم الشامل لجميع الأحوال والأزمان ولا ترفع أيضاً تواتر الروايات الدالة على استمرار التشريع إلى ما بعد وفاة النبي التي ذكرناها في «فصل النصوص والآثار في كتب أهل السنة»، فضلاً عن الأخبار المتواترة من طريق أهل البيت (عليهم السلام)، فراجع.
4 ـ بالنسبة للخلاف في ثبوت أصل التواتر نقول: لو صح هذا، فإنه ينفي دعواه تواتر نصوص النسخ. وأما نصوص التشريع فلا يضرها شيء، لوجود الآية والإجماع بالإضافة إلى الأخبار، وكون ذلك من ضروريات الدين.
5 ـ قوله: إن المتعة إنما شرعت بالسنة.. قد تقدم أنه بعيد عن الإنصاف، فإنها قد شرعت بآية قرآنية، ظاهرة الدلالة إلى حد أنه قد ظهر أنها لو اريد بها النكاح الدائم لاختلت الآيات في دلالاتها وفي سياقها.. بالإضافة إلى إجماع المسلمين. وكونها من ضروريات الدين.
________________________________________ الصفحة 338 ________________________________________
6 ـ حتى لو كانت المتعة قد شرعت بالسنة، فإن خبر الواحد لا يكفي لنسخ حكم ثابت بالتواتر وبالقطع إلى حد الضرورة.
7 ـ قوله: إن بقاء الحكم ليس متواتراً بعد ورود النسخ، لأن القائلين بحليتها بعد النسخ افراد معدودون.. لا معنى له.. لأن النسخ لا يوجب رفع تواتر ما هو ثابت في السابق.. لأن المطلوب تواتر النص بما له من دلالة.
وقد قلنا فيما تقدم.
أولاً:
إن النص المتواتر الذي أثبت الحلية قد أثبتها في جميع الأحوال والأزمان إلى أن يرد الناسخ القطعي.. وليس الناسخ المدعى قطعياً..
ثانياً:
إن النص المثبت لبقاء المشروعية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الآخر ثابت بالتواتر والقطع، فرافعه لا بد أن يكون متواتراً وقطعياً أيضاً.
ومجرد كثرة القائلين بالنسخ لا يرفع تواتر ذلك النص ولا يجعل الناسخ متواتراً. فإنه لا ربط لهذا بذاك.
التعلیقات