تحريم النبي (ص) أم تحريم عمر؟
المصدر : زواج المتعة ، تأليف : السيّد جعفر مرتضى الحسيني العاملي ، ج3 ، ص 7 ـ 72
________________________________________ الصفحة 7 ________________________________________
الفصل الأول
تحريم النبي (صلى الله عليه وآله)
أم تحريم عمر؟!
________________________________________ الصفحة 8 ________________________________________
________________________________________ الصفحة 9 ________________________________________
الاجتهاد في مقابل النص:
لقد أورد القوشجي قول عمر: «ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا أحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل»، ثم قال: «إن ذلك ليس مما يوجب قدحاً فيه، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع»(1).
وهو كلام عجيب حقاً: فهل تحريم الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، كان رأياً واجتهاداً منه (صلى الله عليه وآله)، حتى يعارضه القوشجي باجتهاد آخرين؟!.
____________
(1) شرح القوشجي ص 484، وعد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ج 3 ص 363 تحريم عمر للمتعة من اجتهاده..
________________________________________ الصفحة 10 ________________________________________
وهل يصح اجتهاد عمر في مقابل النص القرآني، والتشريع النبوي؟!
وإذا كان عمر قد اجتهد في هذا الأمر، ولنفرض أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد اجتهد فيه أيضاً ـ نعوذ بالله من خطل القول ـ فأيهما أحق أن يتبع؟ وأيهما قال الله في حقه: ما آتاكم الرسول فخذوه.. ؟.
وماذا على من ترك اجتهاد عمر لعمر، وأخذ بالنص القرآني، والتشريع الإلهي الوارد على لسان النبي الأمي؟!.
وماذا يصنع القوشجي بقول الرازي: إن ذلك «يوجب تكفير الصحابة، لأن من علم أن النبي (صلى الله عليه وآله) حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة، من غير نسخ لها، فهو كافر بالله»(1).
ومن الواضح: أن القوشجي، وصاحب المنار، والرازي، وغيرهم لم يستطيعوا أن يدركوا وجه العذر لعمر في إقدامه على تحريم المتعة وغيرها، فتشبثوا بالطحلب، بل صدر منهم ما فيه
____________
(1) التفسير الكبير ج 10 ص 50.
________________________________________ الصفحة 11 ________________________________________
أيضاً نيل من كرامة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتصغير لشأنه، من حيث يعلمون، أو من حيث لا يعلمون.
عمر لم يحرم المتعة، وإنما نهى عن الحرام:
يقول البعض: «إن نهي عمر عن المتعة صحيح، ومستفيض، لكن هذا لا يدل على حليتها، بل هو يدل على أنها كانت محرمة، لكن كان ثمة من يمارسها دون علم الحاكم، فلما علم عمر بالأمر منع من ذلك، من باب النهي عن المنكر.
وأما ما ينسب إليه من أنه هو الذي أعلن تحريم المتعة، فذلك بعيد جداً، لأن عمر لم ينصب نفسه في يوم من الأيام مشرعاً أو متشرعاً مكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما كان عمر بوصفه خليفة، ينفذ أحكام الله، ويمنع من مخالفتها..»(1) وقالوا أيضاً: «إن عمر قد نهى عن المتعتين، ولم يحرمهما، لأن التحريم لا يجوز شرعاً، ولا يحـتمل ذلك في حقه.
____________
(1) زواج المتعة حلال ص 142 و 143 عن الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي..
________________________________________ الصفحة 12 ________________________________________
ولأجل ذلك نجده قد قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج ولم يقل: كانتا محللتين. أو كانتا حلالاً، أو حلالين أو أحرمهن»(1)
ونقول:
1 ـ إن ذلك لا يتلاءم مع قول الخليفة: «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أحرمهما، وأعاقب عليهما..».
ولا يتلاءم أيضاً مع قول جابر بن عبد الله الأنصاري: «تمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى عهد أبي بكر، ونصف من خلافة عمر، فنهانا عمر، فلم نعد». أو نحو ذلك..
ولا مع قول الإمام علي (عليه السلام): «لولا أن عمر نهى عن المتعة، ما زنى إلا شقي أو إلا شفا»..
إلى غير ذلك من نصوص تعد بالعشرات ذكرناها في الفصل الذي خصصناه لها في هذا الكتاب.
2 ـ قوله: «إن عمر لم ينصب نفسه في يوم من الأيام
____________
(1) راجع: تحريم المتعة في الكتاب والسنة للمحمدي ص181/ 182 بتصرف وتلخيص.
________________________________________ الصفحة 13 ________________________________________
مشرعاً ولا متشرعاً..» نقول في جوابه:
أولاً:
إن ذلك ينافيه إقدامه على التحليل والتحريم في أكثر من مورد، مثل: متعة الحج، وحذف حي على خير العمل من الأذان، واستبدالها بعبارة: الصلاة خير من النوم، وتشريعه لصلاة التراويح، ولغيرها مما ذكره العلامة الأميني في كتابه «الغدير» وما ذكره العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين في النص والاجتهاد، والعلامة المظفر في دلائل الصدق.. وغيرهم..
ثانياً:
قولهم: لا يحتمل في حق عمر إقدامه على تحريم ما أحله الله.. لا يصح إطلاقه على سبيل الجزم و الحتم في حق شخص لا يدعي له أحد العصمة ولا يصح ادعاؤها من قبل من لا يعلم الغيب، ولا يعرف كثيراً من الماضي والحاضر.
3 ـ ولنفرض أنه لم يشرع أي حكم آخر، ولا تدخل في تشريعه إثباتاً أو نفياً، لكن ذلك لا يمنع من أن يكون قد تَدَخل وشَرّع في خصوص هذا المورد.
4 ـ على أن المنع من ممارسة ما هو جائز لا يلازم إرادة التشريع، وأخذ مقام النبي (صلى الله عليه وآله) فقد يرى أن ثمة ضرورة للمنع المؤقت من ممارسة ما هو حلال
________________________________________ الصفحة 14 ________________________________________
ليتجنب أمراً طارئاً يقتضي ذلك أو تخيل أنه يقتضيه..
5 ـ إن فرضه العقوبة على فعل ما هو حلال، وهو متعة الحج، والتهديد بالرجم في متعة النساء دليل على أن هذا الرجل يقدم على أمور هي أكثر من خطيرة، وأكثر من كونها مجرد مخالفة في شؤون الدين، فراجع الروايات التي أشارت إلى تهديداته بالرجم وبالعقوبة في فصل النصوص والآثار رقم: 17 / 19 / 20/ 67/ 68/ 69/ 74/ 80/ 81/ 83/ 84/ 99/ 100/ 106/ 108.
وراجع أيضاً: رواية الطبري ج3 ص290 ط الاستقامة حول أن الأمة قد أخذت عليه أموراً هي: تحريمه متعة النساء، ومتعة الحج، وعتق الأمة الحامل بمجرد وضع حملها بغير عتاقة سيدها..
6 ـ بالنسبة لقولهم: إنه قال: أنهى، ولم يقل: أحرم.. نقول: هناك نصوص دلت على أنه قد حرم المتعتين، فراجع: الرواية رقم: [76 و77 و82] وهي رواية الطبري المشار إليها آنفاً حيث أنكرت عليه الأمة تحريمه متعة النساء وغيرها.
7 ـ إن علياً (عليه السلام) قد اعتبر تحريم عمر للمتعة رأياً لعمر، حيث قال حسبما روي عنه: «لولا ما سبق من رأي
________________________________________ الصفحة 15 ________________________________________
عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة ثم ما زنى إلا شقي..» وهي الرواية رقم: [76] في الفصل السابق.
8 ـ قد ذكرنا في كتابنا الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام): أن هذا الرجل قد كان يرى أنه يحق له ممارسة التشريع وأورد لهذا الأمر العديد من الشواهد، فراجع.
ونذكر من النصوص التي تشير إلى ذلك، ما يلي:
1 ـ إن عمر يصر على رأيه في من تحيض بعد الإفاضة، رغم أنهم أخبروه بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها(1).
2 ـ وحينما أخبروه بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المرأة التي قتلت أخرى بعمود «كبَّر، وأخذ عمر بذلك، وقال: لو لم أسمع بهذا لقلت فيه»(2).
3 ـ وحين اعترض على من كنّى نفسه بأبي عيسى، وأخبروه بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أذن لهم بذلك.. غير أنه لم يتزحزح عن موقفه على الرغم من أنه قد صدقهم فيما نقلوه
____________
(1) راجع: الغدير ج 6 ص 111 و 112 عن العديد من المصادر.
(2) المصنف لعبد الرزاق ج 10 ص 57.
________________________________________ الصفحة 16 ________________________________________
عن رسول الله لكنه اعتبره ذنباً مغفوراً له..
4 ـ وفي حادثة أخرى نجد عمر يصر على أن يخالف الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)(1)، حتى يستدل عليه بعض الحاضرين بقول الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)(2).
5 ـ وقضية إمضاء عمر للطلاق الثلاث؛ بحجة أنهم قد استعجلوا في ذلك(3)، معروفة ومشهورة وهي تدل على أنه كان يرى لنفسه الحق في ذلك..
6 ـ وقد تقدمت الرواية التي يقول فيها عمر: «أنا زميل محمد» حينما أخبره ذلك الرجل أن أمته نقمت عليه أربعاً، وعد منها تحريم زواج المتعة..
____________
(1) راجع: سنن أبي داود ج 4 ص 291 والسنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 310 وتيسير الوصول ط الهند ج 1 ص 25 والنهاية لابن الأثير ج 1 ص 283 والإصابة ج 3 ص 388 والغدير ج 6 ص 319 / 320 عنهم، وعن الأسماء والكنى للدولابي ج 1 ص 85.
(2) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج 1 ص 382.
(3) راجع: تفسير القرآن العظيم [الخاتمة] ج 4 ص 22 والغدير ج6 ص178 ـ 183 عن مصادر كثيرة.
________________________________________ الصفحة 17 ________________________________________
والشواهد على ذلك كثيرة جداً، لا مجال لاستقصائها في هذه العجالة(1).
عمر يضيف النهي إلى نفسه:
وعن سؤال: لماذا يضيف عمر النهي إلى نفسه، ولا ينسبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ألا يعني ذلك: أنه هو الذي يصدر النهي، أو أنه ينقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)..
نقول:
قد أجاب المقدسي الشافعي عن ذلك بما ملخصه: أن عمر مع علمه وزهده واتباعه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يقدم على تحريم ما أحله الله ورسوله، لا سيما وأنه كان يعاقب من يخالف شيئاً من سنته (صلى الله عليه وآله)، ويأمر بالالتزام بها، ولو رام تحريم ما أحله الله لم يقره
____________
(1) راجع: المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258 / 259 و ج 9 ص 88 و 475 / 476، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ق 2 ص 134 ـ 136 ط ليدن. وراجع: كتاب: النص والاجتهاد ودلائل الصدق ج 3، و كتاب الغدير للأميني ج 6 وغير ذلك..
________________________________________ الصفحة 18 ________________________________________
الصحابة عليه، وقد اعترضوا عليه فيما هو أيسر من ذلك.. وإنما أراد عمر أنها كانت مباحة أول الإسلام، وقد نسخ النبي هذه الإباحة..
ومتعة الحج كانت منسوخة، وإنما أبيحت للركب الذين كانوا مع رسول الله في تلك السنة، فإنه أمرهم بالإحرام بالحج، ثم أمرهم بفسخه إلى العمرة، وهذا لا يجوز لمن بعدهم بالإجماع.
فعمر لم يرد المنع من المتعة التي ورد بها القرآن: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)، وإنما أراد فسخ الحج الذي أجازه النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه، حيث أمر أصحابه أن يفسخوا إحرامهم، لأنهم كانوا يستعظمون فعل العمرة في أشهر الحج، فأمرهم أن يفسخوا الحج ويجعلوها عمرة لتأكيد البيان، وإظهار الإباحة، ثم نسخ ذلك وحرمه كما حرمت متعة النساء. انتهى كلام المقدسى بتصرف وتلخيص(1).
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 107 و 110.
________________________________________ الصفحة 19 ________________________________________
ثم استشهد لما ذكره عن فسخ الحج برواية عن أبي ذر.
وقال ابن قدامة المقدسي: «.. وأما حديث عمر، إن صح عنه، فالظاهر: أنه إنما قصد الإخبار عن تحريم النبي (صلى الله عليه وآله) لها ونهيه (صلى الله عليه وآله) عنها، إذ لا يجوز أن ينهى عما كان النبي (صلى الله عليه وآله) أباحه، وبقي على إباحته»(1).
وقد حاول أبو عمر أن يوجه قول عمر في شأن ربيعة بن أمية: هذه المتعة، ولو كنت تقدمت فيها لرجمت، بأن قوله يحتمل وجهين:
الأول:
أن يكون ذلك تغليظاً في النهي لكي يرتدع الناس عن سوء مذاهبهم، وقبيح تأويلاتهم.
والآخر:
أن يكون تقدمه بإقامة الحجة من الكتاب والسنة على تحريم نكاح المتعة، «لأنه لا ميراث فيه، ولا طلاق، ولا عدة، وأنه ليس بنكاح، وهو سفاح.. إلخ»(2).
____________
(1) الشرح الكبير ـ مطبوع بذيل المغني ـ ج 7 ص 538.
(2) الاستذكار ج 16 ص 305.
________________________________________ الصفحة 20 ________________________________________
وقال أبو عمر أيضاً: «معنى قوله: كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعني ثم نهى عنهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1).
ونقول:
إن ذلك كله لا يصح، وذلك لكثير مما تقدم، ونذكر هنا ما يلي:
1 ـ قد استدل المأمون على جواز المتعة، وهمّ أن يحكم بها استناداً إلى قول عمر نفسه: «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأنا أنهى عنهما»(2).
لكن يحيى بن أكثم خوّفه من عواقب حكمه ذاك.
2 ـ قال الباقوري: «.. وقد أضاف عمر النهي عن المتعتين إلى نفسه، فقد دل
____________
(1) الاستذكار ج 16 ص 294.
(2) الغدير ج 6 ص 211، وراجع: وفيات الأعيان ج 2 ص 218 ط سنة 1310 هـ. ق، والسيرة الحلبية ج 3 ص 46، وقاموس الرجال ج 9 ص 397 عن الخطيب في تاريخ بغداد، والنص والاجتهاد ص 193.
________________________________________ الصفحة 21 ________________________________________
ذلك على أن هذا من عنده، وأنه رأيٌ له»(1).
وقريب منه: ما قاله محمد رشيد رضا في المجلدين الثالث والرابع من المنار، لكنه عاد وقال في تفسير المنار نفسه:
«ثم تبين لنا أن ذلك خطأ، فنستغفر الله منه، وإنما ذكرنا ذلك على سبيل الشاهد والمثال، لا التمحيص للمسألة، على طريق الاستدلال»(2).
والحقيقة هي: أن ما ذكره أولاً كان هو الحق الذي لا محيص عنه، ولعله قد تراجع عنه بعد ذلك بسبب ضغوطات نحتمل أنه قد تعرض لها، والله العالم بحقيقة أمره وحاله.
3 ـ ونقل ابن القيم عن جماعة قولهم عن حديث سبرة بن معبد: «لو صح، لم يقل عمر: إنها كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا أنهى عنهما، وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه
____________
(1) مع القرآن ص 174.
(2) تفسير المنار ج 5 ص 16.
________________________________________ الصفحة 22 ________________________________________
حرمها ونهى عنها»(1).
4 ـ قال السيد المرتضى رحمه الله تعالى: «فلو كان ثمة رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) لكان اللازم أن ينسبه (أي التحريم) إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه أبلغ في الانتهاء»(2).
5 ـ لو كان ثمة نهي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يصح من عمران بن الحصين أن ينفي ذلك بضرس قاطع ويقول: «مات ولم ينهنا عنها قال رجل برأيه ما شاء».
6 ـ لنفترض أن عمر بن الخطاب قد روى لهم النهي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن علياً (عليه السلام)، وعمران بن الحصين، وابن عباس، وعشرات آخرين قد رووا لهم بقاء التحليل، وانكروا وجود هذا النهي، فليكن هذا من هؤلاء معارضاً لما يدعيه أولئك عن عمر، ومقدماً عليه، وذلك بسبب تفرّد عمر به، وكثرة مخالفيه فيه.
7 ـ نضيف إلى ذلك: أنه لو كان ثمة نهي من النبي (صلى
____________
(1) زاد المعاد ج 2 ص 184.
(2) تلخيص الشافي ج 4 ص 29 ودلائل الصدق ج 3 ص 103.
________________________________________ الصفحة 23 ________________________________________
الله عليه وآله)، فلماذا اختص بمعرفته عمر، دون سواه؟ وكيف خفي عن جميع الصحابة، حتى عن كبارهم، أمثال علي (عليه السلام)، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم؟ وقد ذكرنا في هذا الكتاب أسماء طائفة منهم، بالإضافة إلى رواياتهم في حلية المتعة، حسبما ذكرناه في فصل النصوص والآثار.
8 ـ إن هذا التوجيه لكلام عمر بن الخطاب يتعارض مع الروايات التي تقول: إن عمر بن الخطاب قد نهى عن المتعة بسبب عدم الإشهاد.. ومنها رواية الشامي، الذي تمتع في عهد عمر، واحتج عليه بأنه قد تمتع في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم في عهد أبي بكر، ثم في صدر من خلافة عمر نفسه، ولم ينهه النبي، ولا أبو بكر، ولا عمر، فلم يجبه عمر بشيء غير أنه قال له: لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك. بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح.
وثمة روايات أخرى: تتحدث عن ذلك فلتراجع في فصل النصوص والآثار.
وذلك يشير إلى: أن النهي من عمر إنما كان منه على سبيل الاجتهاد لا النقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
________________________________________ الصفحة 24 ________________________________________
بل إن ذلك يدل على أنه كان حينئذ يقول بتحليل زواج المتعة في صورة الإشهاد.. فلعله تدرّج في إظهار اجتهاداته في هذا المجال، فطورها حتى انتهى به الأمر إلى المنع، ثم العقوبة..
9 ـ هذا كله.. عدا عن أن ثمة نصوصاً تصرح بإقرار عمر بحلية المتعة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وعهد أبي بكر. هذا فضلاً عن تصريح جابر وغيره بالحلية قبل نهي عمر.
10 ـ بالنسبة إلى ما ذكره المقدسي حول نسخ متعة الحج، فقد تحدثنا عنه فيما يأتي، فانتظر.
فذلكات في سبب إضافة عمر النهي إلى نفسه:
بالنسبة لإضافة عمر النهي إلى نفسه، حيث قال: أنا أنهى عنهما.
زعم بعضهم: أن السبب في ذلك هو أنه قد حرم المتعتين: ـ الحج والنساء ـ معاً. والمنسوخ هو متعة النساء فقط. أما متعة الحج فلم يرد فيها نهي من النبي.. فلا يجوز لعمر أن يقول: نهى رسول الله عن المتعتين لأنه إنما نهى عن واحدة فقط.. بل
________________________________________ الصفحة 25 ________________________________________
عليه أن يقول: أنا أنهى عنهما.. فهو ينهى عن متعة النساء لأنها منسوخة، وينهى عن متعة الحج لكي تفرد بسفر آخر، ليكثر زيارة البيت.
إذن، فلا يصح الاعتراض على عمر: بأنه لو كان التحريم من النبي لكان على عمر أن يقول: نهى النبي عنهما، لأن النبي إنما نهى عن واحدة منهما فقط ولم ينه عن المتعتين، فلو قال عمر ذلك لكان مفترياً على رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).
ويقول البعض أيضاً: «لما كان نهيه عن متعة الحج إنما هو رأي رآه واختاره، غير مستند إلى نص كمتعة النساء، لم يسلم الصحابة ذلك، حتى قال عمران بن حصين: نزلت آية المتعة ـ أي متعة الحج ـ في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.
ومع أن نهي عمر لم يكن على وجه التحريم، والحتم،
____________
([1]) راجع: تحريم المتعة ص 181 بتصرف وتلخيص.
________________________________________ الصفحة 26 ________________________________________
وإنما كان ينهى عنها لتفرد عن الحج بسفر آخر، ليكثر زيارة البيت».
إلى أن قال: «ولكن رغم ذلك خالفه الصحابة. وهذا يؤكد ما قلناه في بداية البحث: أن عمر لو رام تحريم ما أحله الله لم يقره الصحابة عليه».
قال ابن تيمية: «وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس وغيرهم، وهذا بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن علياً وسائر الصحابة وافقوه على ذلك»(1).
ونقول:
1 ـ إن هؤلاء يريدون الجمع بين قولهم: إن عمر لا يحرم ما أحل الله، وبين قولهم: إن متعة الحج حلال، و إن متعة النساء حرام.. وبين قول ثالث لهم، وهو أن عمر قد نهى عنهما معاً. فهل يمكن الجمع بين ذلك كله؟!.
____________
(1) تحريم المتعة للمحمدي ص 178، وقال: إن كلام ابن تيمية في الفتاوى 33/96.
________________________________________ الصفحة 27 ________________________________________
ومهما يكن من أمر فإننا نقول: إذا كان نهيه عن متعة الحج رأياً رآه، فما الذي يؤمننا من أن يكون نهيه عن متعة النساء رأياً رآه أيضاً؟!.
2 ـ لو كانت متعة النساء منسوخة وقد استند عمر فيها إلى النص عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فلماذا أضاف النهي إلى نفسه فقال: أنا أنهى عنهما أو أنا أحرمهن.. مع أن نسبة النص إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) أدعى للامتناع، وللامتثال والانصياع.
3 ـ إذا كانت متعة الحج حلالاً، وقد أحب أن تكثر زيارة البيت. فلماذا توعد فاعلها بالعقاب؟! فهل يجوز العقاب على فعل الحلال؟!
4 ـ وإذا جاز النهي عن الحلال والعقوبة على فعله، فلم لا يجوز الأمر بفعل الحرام، والعقوبة على تركه؟! وما الفرق؟!.
5 ـ إن جمعه بين المنسوخ وهو متعة النساء، وبين الثابت وهو متعة الحج ليس وحياً من الله، إذ قد كان بإمكانه أن يفرق بينهما، فيقول عن هذه أنا أنهى عنها، وعن تلك، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عنها.
________________________________________ الصفحة 28 ________________________________________
6 ـ قولهم: إن عمران بن الحصين قد اعترض على متعة الحج ولم يعترض على متعة النساء، ما هو إلا مجرد دعوى وافتراض، وتفسير لكلامه من عند أنفسهم.. وإلا، فإنه هو نفسه قد صرح في الرواية المتقدمة رقم 56 بأنه إنما يعترض على عمر في تحريمه للمتعتين معاً.. فتكون هذه الرواية صريحة في بيان المراد، ويجب أن تحمل عليها سائر الروايات التي أغفلت التصريح، وأفسحت المجال لتكهن الرواة.
7 ـ إذا كان النهي نهي تحريم في متعة النساء، فلماذا لا يكون كذلك في متعة الحج؟!، وإذا كان في متعة الحج نهي ترجيح، فلماذا لا يكون كذلك في متعة النساء؟!، مع أنه قد عبر عنهما معاً بكلمة واحدة..
ومن الواضح: أن استعمال المشترك في أكثر من معنى غير ممكن، فلا يصح أن يستعمل النهي ويريد به معنى يستبطن المنع عن الترك، ومعنى آخر يستبطن الرخصة بالترك..
إلا أن يقال: إنه قد استعمل اللفظ في التحريم الحقيقي المستبطن للمنع عن الترك في كلا المتعتين لكن في إحداهما، من حيث هو ناقل للمنع النبوي، وفي الآخر من حيث هو سلطان يريد أن يلزم الناس بذلك لمصلحة يراها.. ولأجل ذلك قرر العقوبة
________________________________________ الصفحة 29 ________________________________________
على فاعله..
أو يقال: إنه قد استعمله في القدر المشترك، وهو مطلق الكراهة، لكن يفهم الالزام في إحداهما، والرخصة في الآخر بواسطة قرينة خارجية.
ويجاب عن هذا الأخير: بأن التوعد بالعقاب عليهما معاً يدل على أنه لا يسمح بالترك فيهما معاً، فلا معنى للرخصة سواء بواسطة قرينة، أو بدونها.
ويجاب عن الأول: بأن المعترض نفسه يصرح بأن نهي عمر عن متعة الحج لم يكن على وجه التحريم والحتم.
8 ـ إنهم يقولون: إن عمران قد اعترض على عمر في متعة النساء، ويضيف ابن تيمية علياً (عليه السلام) وابن عباس..
ونقول:
أ: لا دليل كما قلنا على أن اعتراض عمران كان على خصوص متعة النساء. بل الدليل موجود على أنه قد اعترض على المتعتين معاً كما تقدم في الفصل السابق في الحديث رقم: [56].
________________________________________ الصفحة 30 ________________________________________
ب: إن الصحابة ليسوا هم خصوص علي (عليه السلام) وابن عباس، بل كانوا يعدون بالألوف. فلماذا لم يعترضوا عليه حين أعلن ذلك؟!. وأين هي الروايات المثبتة لتلك الاعتراضات؟!
وحتى هؤلاء المعترضون، فإنهم لم يعترضوا عليه حينما أعلن ذلك، ولا ردوا عليه قوله. وإنما قرروا هم أنفسهم الالتزام بحكم الله. ولما طولبوا بذلك، سجلوا موقفهم هذا.
9 ـ قول ابن تيمية إن سائر الصحابة وعلياً قد وافقوا عمر على موقفه من متعة النساء.. قد أظهرت الروايات والفصول المتقدمة أنه غير صحيح أبداً.. وموقف ابن عباس كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار.
10 ـ إن إعلانه للمنع عن متعة الحج إذا لم يكن على وجه التحريم كما ذكره المعترض. فقد كان بالإمكان أن يعترض عليه الحاضرون بأنه لا معنى لمعاقبة الفاعل، لأن هذا يمثل جهراً بالتصميم على التعدي على الناس.
فعدم اعتراضهم هذا يدل على خوفهم الشديد منه، فإذا خافوا من الاعتراض عليه في هذا الأمر البديهي، فهل يمكنهم الاعتراض عليه في غيره؟!.
________________________________________ الصفحة 31 ________________________________________
ما شرّع عمر بل بلّغ:
يدعي البعض: أن الصحابة الذين ثبتوا على حلية المتعة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد موته إلى آخر أيام عمر، ما كانوا يعرفون بالنسخ المؤبد، ومن علم به حجة على من لم يعلم، واستمرار من استمر عليها، إنما كان لعدم علمه بالناسخ(1).
وربما يقال أيضاً: بأن الحديث الذي يرويه بعض الصحابة ويقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أحل المتعة، ثم لم ينهنا عنها حتى مات.. لا يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يحرم المتعة، بل يدل على أنهم لم يعرفوا بورود التحريم أو النسخ على ذلك التحليل وتلك الرخصة..
فنهي عمر بن الخطاب بعد ذلك عن المتعة إنما هو إعلان لمن لم يعرف بذلك التحريم أو النسخ، فيطلع عليه من خلال كلام عمر ونهيه عنه في خلافته.
____________
(1) راجع: فتح الملك المعبود ج 3 ص 226.
________________________________________ الصفحة 32 ________________________________________
ونقول:
1 ـ إن هذا لا ينسجم مـع قول الصحابي المعروف عمران بن حصين: «.. ثم لم ينهنا عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء» تعريضاً منه بعمر، فإن كلمة: «برأيه» وكلمة: «ما شاء» تدلان على أن تحريم عمر لم يكن لتأكيد التحريم الصادر من النبي (صلى الله عليه وآله) فيما سبق، بل كان قولاً برأيٍ من عمر نفسه.
2 ـ كما أن ذلك لا ينسجم مع نسبة التحريم لنفسه حيث قال: «وأنا أحرمهما» ولم يقل حرّمهما رسول الله. بل إن هذا اعتراف منه بعدم النسخ، وبقاء الحكم الأصلي، ومن المعلوم أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
3 ـ وهو لا ينسجم أيضاً مع قول علي (عليه السلام): «لولا ما سبق من نهي ابن الخطاب ما زنى إلا شقي أو إلا شفا» وغير ذلك من نصوص تشير إلى هذا المعنى أو تدل عليه صراحة.
إذن.. فلا مجال للأخذ بقول عمر، الذي هو اجتهاد
________________________________________ الصفحة 33 ________________________________________
منه في مقابل النص، وليس هو من قبيل الاجتهاد في النص.
ولو كان ثمة نص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقال عمر: حرمتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما، وأعاقب من خالف نهي رسول الله عنهما، ولكان ذلك أبعد أثراً في دفع الناس إلى الالتزام بمقتضى النهي، ولكان ذلك أغناه عن التهديد والوعيد الذي لم يترك الأثر الذي توخاه منه.. بل استمر الناس على العمل بهذا التشريع.
عمر ينسب التحريم للنبي (صلى الله عليه وآله):
وهنا سؤال يقول: كيف ينسب عمر التحريم إلى نفسه ويقول: «وأنا أحرمهما، وأعاقب عليهما» مع أنه ليس بنبي، وقد أجاب البعض برواية رواها ابن ماجة عن عمر، تقول: «إنه لما ولي خطب الناس فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحلها بعد أن حرمها.
هذا بالإضافة إلى ما قدمناه في فصل: النسخ بالأخبار،
________________________________________ الصفحة 34 ________________________________________
فليراجعها من أراد، فذلك يدل على أن عمر لم يحرم بل نقل التحريم».
ونقول:
أما بالنسبة للروايات التي تقدمت في فصل النسخ بالأخبار؛ فلا نرى أننا بحاجة إلى الحديث عنها، فإن ما قدمناه في هذا الكتاب لايترك مجالاً للشك بعدم صحة الاستناد إلى تلك الروايات..
أما بالنسبة للرواية المذكورة آنفاً عن ابن ماجة، فإننا نقول أيضاً:
إنها لا يمكن أن تصح، وذلك للأمور التالية:
أ ـ لقد ادعوا: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أحلها أكثر من مرة.. وليس ثلاثة أيام فقط.
ب ـ إن المتمتع لا يرجم..
ج ـ إن حديث عمر هذا ـ لو صح ـ معارض بأحاديث جابر، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الحصين، وغيرهم كثيرون، تقدمت رواياتهم..
________________________________________ الصفحة 35 ________________________________________
د ـ إنه قد نقل حكماً ونسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو شخص واحد.. فلماذا يحتاج الراوي لخلافه إلى أكثر من واحد، فإنه تكفي رواية صحابي آخر لتسقط رواية هذا الرجل عن الاعتبار.
هـ ـ إن هذا الحديث يدل على أن تحريمها من قبل عمر لم يكن مؤبداً، فإن قوله: إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله).. إلخ، فإن هذا يدل على أنه كان يترقب حلها بمجرد شهادة أربعة من الناس، والروايات التي ذكرناها في فصل: النصوص والآثار.. وكذلك الفصل الذي سبقه، تدل على ورود هذا التحليل لهذا الزواج.
وبالمناسبة نشير إلى أن هذه الرواية ـ لو صحت ـ فهي تدل على أن عمر بن الخطاب لم يكن على علم بما يزعمونه أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حرم المتعة إلى يوم القيامة في خطبته بين الركن والمقام كما يرويه سبرة بن معبد وحده، دون كل أحد من ذلك الجيش العرمرم الذي حضر فتح مكة، وأحل النبي (صلى الله عليه وآله) له المتعة؟!!!.
و ـ لماذا لا بد من أربعة يشهدون على التحليل، بعد
________________________________________ الصفحة 36 ________________________________________
التحريم، فإنه يكفي في ذلك شهادة الثقة الواحد، فإن هذه ليست شهادة على زنا، وإنما هي لإثبات حكم شرعي، ولماذا لم يكتف باثنين، أو بثلاثة، لا سيما مع قولهم: إن الصحابة كلهم عدول، وقد اثبتوا عدم توريث الأنبياء بخبر واحد وهو أبو بكر!!!.
ز ـ إن قوله: «إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون ـ إلخ» يشير إلى أنه لم يكن متيقناً من استمرار النهي ـ أو أنه يشير إلى أنه لا يتيقن كون النهي تحريمياً، فلعله كان نهياً تدبيرياً للحفاظ على حق النساء اللواتي سيتركهن أزواجهن، حيث يرجعون من الغزو إلى بلادهم.
عمر يقول: هدم المتعة النكاح والطلاق:
بل إن قول عمر: هدم المتعة النكاح والطلاق، والعدة، والميراث، يدل على أن نهيه كان اجتهاداً منه..
ولا يؤاخذ المجتهد باجتهاده، بل هو إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران..
________________________________________ الصفحة 37 ________________________________________
والجواب:
أولاً:
لابد من إثبات أن عمر يملك القدرة على الاجتهاد، وفق القواعد الصحيحة.
ثانياً:
لامجال للاجتهاد في مقابل النص. والنص موجود، وهو نفسه يقر بوجوده، ويعلن أنه يسعى لإبطاله..
ثالثاً:
إنه توجيه لا يرضى به صاحبه، إذ أن لنا إن نسأل: هل لم يكن قبل هذا الوقت طلاق، وعدّة، وميراث، وهل ليس في المتعة عدّة ولا عقد.
رابعاً:
إن هذه الرواية تدل على أن النكاح الذي كان شائعاً هو نكاح المتعة، ثم جاء النكاح الدائم فهدمه..
ولا ريب في عدم صحة هذه المقولة..
________________________________________ الصفحة 38 ________________________________________
لو كان قول عمر رواية:
ولو سلمنا أن قول عمر قد كان رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تشريعاً من عند نفسه(1)، فإنما هو خبر واحد، لم يرد في الصحيحين اللذين رويا أخبار الحلّية، ولا يثبت النسخ بخبر الواحد، فكيف إذا كان معارضاً بكل تلك الروايات التي تثبت بقاء الحلية في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر، ثم في شطر من خلافة عمر نفسه، بل وبعد ذلك أيضاً، حسبما أوضحناه في بعض فصول هذا الكتاب..
لماذا سكت عمر؟! ولماذا تكلم؟!.
ولست أدري لماذا لم يظهر عمر هذه الرواية له عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في عهد أبي بكر، أو على الأقل في أوائل خلافته هو نفسه، فهل كان يعلم بحكم الله، ولـم يبلّغه للناس عن عمد وقصد طيلة هذه السنين؟
أم أنه قد نسي أن يبلّغهم إياه؟!.
____________
(1) كما حاولت بعض الروايات أن تدعي فراجع فتح الباري ج 9 ص 149.
________________________________________ الصفحة 39 ________________________________________
أم أن الحقيقة هي أنه لم يكن ثمة نهي من النبي (صلى الله عليه وآله) أصلاً؟.
وماذا كان يصنع المسلمون في عهد أبي بكر، وفي أيام عمر، قبل تحريمه للمتعة؟!، فهل كانوا يمارسون هذا الزواج؟ أم كانوا ممنوعين عنه؟ فإن كانوا يمارسونه، وكان حراماً، فلماذا لم يمنعهم أبو بكر، عما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! وإن كانوا ممنوعين عن هذا الزواج، فماذا نصنع بالروايات التي تحدثت عن ممارسة الصحابة لهذا الزواج، بصورة طبيعية، وشائعة، وذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبي بكر، وشطر من خلافة عمر؟! أم أن الصحابة كانوا يمارسون الزنا المحرم والعياذ بالله؟!..
وقد عرفنا في رواية أم عبد الله ابنة أبي خيثمة: أن ذلك الشامي قد أخبر عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينه عن المتعة، وكذلك أبو بكر، وحتى عمر نفسه في شطر من خلافته، ولم يكذبه عمر في قوله ذاك..
النكير على عمر:
وإذا كان عدم إنكار الناس على عمر يصلح شاهداً على
________________________________________ الصفحة 40 ________________________________________
أنه قد تلقى النسخ من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فلماذا لا يكون إصرار الناس على مخالفته، واستمرارهم ـ حتى بعد نهيه ـ على العمل بهذا الزواج، وعلى الإفتاء بحليته ـ لماذا لا يكون ـ من أعظم النكير عليه؟! ويعتبر رفضاً قاطعاً لما جاء به؟!.
وقد صرحت بعض الروايات: التي أوردناها في فصل النصوص والآثار بأن الناس كانوا ينكرون على عمر تحريمه لزواج المتعة..
بل إن عمران بن حصين: قد تصدى له في نفس المجلس الذي أعلن فيه أنه يحرم المتعتين، ويعاقب عليهما، فراجع فصل النصوص والآثار الحديث رقم: [56] وغيره.
وإذا كان المقصود: بالنكير عليه هو أن يواجهوه بالعنف، فمن ذلك الذي يجرؤ على ذلك؟.
ثم إنهم أيضاً: لم ينكروا عليه توعده بالرجم لمن يتزوج امرأة إلى أجل! مع أنه عندهم لا يستحق الرجم حتى بناء على التحريم كما أسلفنا!.
كما أنه قد منع النبي من كتابة الكتاب، وقال إن النبي
________________________________________ الصفحة 41 ________________________________________
(صلى الله عليه وآله) ليهجر، ولم يقوموا في وجهه، ولا اعترضوا عليه.
إن الاعتراض قد لا يتيسر في بعض المواقع، بسبب خطورة الموقف وتهديدات عمر بالرجم تؤذن بوجود خطرٍ عظيم، لو كان ثمة اعتراض من أحد..
كما أن الاعتراض قد لا يكون مفيداً، إذا كان ثمة إصرار على هذا الأمر الواضح والبين..
التحدي والاستفزاز:
والملفت للنظر هنا: أن عمر بن الخطاب يواجه هذا الأمر بطريقة التحدي والاستفزاز: «وأنا أنهى عنهما»
فهل من حق عمر أن يحلل ويحرم؟!
إن ذلك لا يحق للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) نفسه، فهل يحق لعمر؟!!.
________________________________________ الصفحة 42 ________________________________________
سعي الشيعة إلى اتهام عمر:
وقد حاول البعض: أن يدافع عما ذهب إليه من تحريم هذا الزواج بطريقة أكثر جرأة على الادعاء غير الواقعي، فقال ما ملخصه:
إن الشيعة لم يأخذوا بأحاديث تحريم المتعة، لأنها من غير طرقهم وعن غير أئمتهم، وقد روى الشيعة أقوالاً تؤيد مذهبهم، كقول علي (عليه السلام): «لولا أن عمر نهى عن المتعة لما زنى إلا شقي».
وفيه اتهام لعمر بأنه نهى عما كان في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) سائغاً حلالاً، وهذا يوجب إسقاط الحديث، ويوهم أن التحريم لم يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله)، بل صدر عن عمر، مع أن المروي أنه عزا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهناك حديث صحيح: رواه الخمسة أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي نهى عنها، ونحن نستبعد صدور هذا الحديث عن علي، وقد روى علي (عليه السلام) نفسه: أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن المتعة..
كما أن حديث عمران بن الحصين، وحديث جابر، وحديث بدون سند عن عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله إلخ..»
________________________________________ الصفحة 43 ________________________________________
إن جميع هذه الأحاديث لم ترد في أي كتاب حديث معتبر ومشهور، بل لم ترد في كتب الطبري، والبغوي، والخازن، وابن كثير، ومن تبعهم الذين دأبوا على استقصاء الأحاديث، باستثناء الحديث المروي عن علي (عليه السلام) الذي رواه الطبري..
ولكننا قرأنا: هذه الأحاديث مجتمعة في تفسيري الطوسي والطبرسي الشيعيين.
والأحاديث الثلاثة المشار إليها (حديث ابن الحصين، وجابر، وعمر) فيها ما يثير الشبهة، وهو أنها تريد أن تثبت كون التحريم ليس نبوياً، وإنما هو من عمر، لتشويه اسم عمر وتصويره أنه حرم ما أحل الله ورسوله عن بينة وقصد، وهو ما لا يعقل وقوعه منه..
وسكوت أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن جملتهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه دليل على أنه محرم من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)(1)، انتهى بتصرف وتلخيص.
____________
(1) المرأة في القرآن والسنة ص 181 و 183.
________________________________________ الصفحة 44 ________________________________________
أضف إلى ذلك: أن عمر قد حرم المتعة، وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة (رض)، وما كانوا ليقرّوه على خطأ لو كان مخطئاً(1).
ونقول:
إن ما ذكره لا يمكن قبوله من جهات عديدة، بعضها ذكرناه فيما تقدم أو سيمرّ معنا فيما يأتي.. وبعضها نشير إليه باختصار شديد هنا.
فنقول:
أولاً:
قوله: إن الشيعة لم يأخذوا بأحاديث تحريم المتعة لأنها من غير طرقهم، وعن غير أئمتهم.. ليس فيه أية غضاضة على الشيعة. بل إن هذا هو النهج الصحيح، والمقبول. ونحن لا نطلب من أحد أن يأخذ بما لا تجتمع فيه شرائط الحجية بحسب ما لديه من قناعات ومقررات..
غير أننا نقول:
إن تشريع هذا الزواج باق وفق الضوابط والمعايير التي يستند إليها أهل السنة أيضاً، وروايات أهل السنة هي التي تثبته، وليس روايات الشيعة فقط.
____________
(1) فقه السنة ج 2 ص 42.
________________________________________ الصفحة 45 ________________________________________
هذا بالإضافة إلى نزول القرآن بتشريع هذا الزواج باعتراف الجميع..
ثانياً:
رده رواية علي (عليه السلام)، بسبب أنها تتهم عمر بأنه قد نهى عما كان حلالاً في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك روايات جابر، وعمران بن حصين، ثم ردّه لقول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلخ..
في غير محله.. فإن علينا أن نأخذ الحقيقة استناداً إلى النصوص الثابتة بغض النظر عن الأشخاص، لأن البحث في أخلاقيات، ومواقف الأشخاص لا يأتي من مجرد الظن، والحدس. وقد ذكرنا:
أ ـ إن بعض التأويلات لما صدر عن عمر، لا يلزم منها اتهامه بما يسيء له حيث قال بعضهم: إن عمر قد منع عن هذا الزواج منعاً مدنياً، بهدف دفع الناس إلى الاحتياط فيه، وعدم التسرع الموجب لظهور المشكلات.
ب ـ قد وجدنا لعمر بن الخطاب نظائر في مجال تناول مفردات التشريع برأيه واجتهاده. وهي تدعونا إلى إعادة النظر في الأوامر التي يصدرها، وذلك كما هو الحال في كلمة «حي على
________________________________________ الصفحة 46 ________________________________________
خير العمل» في الاذان، وكما في صلاة التراويح، وغير ذلك.
ثالثاً:
بالنسبة لسكوت الصحابة وعلي (عليه السلام) عن الاعتراض عليه، نقول:
أ ـ إنهم لم يسكتوا بل استمروا على مخالفته في هذا الأمر، وعلى القول بحلية هذا الزواج وممارسته طيلة عقود من الزمن. وقد تقدم ذلك بصورة تفصيلية، فلا نعيد.
ب ـ إنهم إذا كانوا يخافون بطشه، وسطوته، ويريدون الحفاظ على وحدتهم في مقابل الذين يريدون محق دين محمد (صلى الله عليه وآله) ـ على حد تعبير الإمام علي (عليه السلام) ـ فلا مجال للتعجب من هذا السكوت، كما سكتوا في قضية صلاة التراويح، وغيرها..
رابعاً:
قوله: إن حديث عمران بن حصين، وجابر، وقول عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا أحرمهما.. إلخ» وقول علي (عليه السلام): «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي» هي من روايات الشيعة، ليس بصحيح بل هي موجودة في أمهات مصادر أهل السنة وفي الصحاح أيضاً، كما يظهر من ملاحظة المصادر التي أرجعنا القارئ إليها حين
________________________________________ الصفحة 47 ________________________________________
إيرادنا لها في مواضعها في فصل النصوص والآثار.
ولا نعتقد أن هذا القائل يجهل هذه الحقيقة، فقد رأيناه، يستقصي أحاديث المنع بما لا مزيد عليه، والأحاديث المشار إليها موجودة معها فلماذا يدعي هذه الدعوى العجيبة والغريبة؟!!.
ويا ليت هذا القائل يناقش روايات المنع بنفس الروح التي يناقش فيها روايات التحليل، لنجد كيف تكون النتيجة عنده.
قد يكون الحضور آنئذٍ أفراداً قلائل.
خامساً:
إن الإنكار المتأخر عن عهد عمر، يكفي في المطلوب: إذ أنه يكشف عن أن السكوت في زمنه قد كان لأسباب قاهرة هي التي فرضته، ولا يكشف عن الرضا.
سادساً:
قد أثبتت النصوص الكثيرة التي ذكرنا الشطر الأكبر منها: أن المتعة لم تنسخ على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل بقيت حلالاً على عهده (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر، وشطر كبير من خلافة عمر نفسه، فلماذا سكت عمر على هذا الأمر طيلة سبع أو ثمان سنوات على الأقل، وسكت هو وأبو بكر وسائر الصحابة على ذلك طيلة خلافة أبي بكر أيضاً..
________________________________________ الصفحة 48 ________________________________________
سابعاً:
إن عدم إنكار الصحابة لا ينحصر بكونهم عالمين بالتحريم وسكتوا، ولا بكونهم عالمين بالإباحة، وسكتوا مداهنة، إذ إن سكوتهم قد يكون بسبب الخوف من سطوته.
قد يكون سكوتهم مجاملة له.
وقد يكون سكوتهم لكونهم ناسين كما نسي خليفتهم حكم القرآن في مسألة الصداق، حين اعترضت عليه تلك المرأة، فإذا جاز النسيان عليه جاز على غيره.
وقد يكون سكوت بعضهم ـ ولعلهم هم الذين حضروا ذلك المجلس ـ بسبب الجهل بأنه لا يجوز له التحريم من قبل نفسه.
أو لأنهم يرون أن الخليفة قد اجتهد برأيه لمصلحة زمنية اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة.
فعدم إنكارهم على هذا الفرض لا يوجب تكفيرهم، إذا اعتقدوا أن لولي الأمر مثل هذه الصلاحية، لكن اتباع الخليفة كانوا بسطاء لا يعرفون ذلك، فالتجأوا إلى دعوى النسخ..
ولعلهم يحتملون أن الخليفة كان يرى أن بعض الأحكام ليس ابدياً، بل هو تابع للظروف الوقتية، وهو رأي وإن كان
________________________________________ الصفحة 49 ________________________________________
باطلاً، لكن يمنع من تكفير من يذهب إليه، وعدم إنكار المسلمين ذلك عليه إنما هو مخافة العقوبة والتنكيل الذي توعدهم به كما قلنا..
بل إن تنزيه الصحابة بهذه الطريقة القاطعة، والشاملة غير صحيح، فإن القول بعدالة كل صحابي يلزم منه تكذيب القرآن الحاكم بوجود المنافقين بينهم، وصريح بانقلاب بعضهم على أعقابه بمجرد موت النبي (صلى الله عليه وآله)..
فلعل من سكت من الصحابة عن هذا الأمر كان من المداهنين المنافقين.
ومن أصر على بقاء التحريم كان من الأتقياء الأبرار..
ومهما يكن من أمر: فقد حرم عمر وغيّر كثيراً من الأمور، ولم يجرؤ أحد على مواجهته.
وقد ذكرنا بعضاً من هذه الأمور: في موضع آخر من هذا الكتاب.
وذكر العلامة: الأميني في كتابه: «الغدير» شطراً من ذلك، فراجع ج 6 ص 83 باب نوادر الأثر في علم عمر.. ويشير رحمه الله إلى أن سكوت الصحابة إنما كان بسبب تهديده بالعقاب..
ثامناً:
قد ثبت أن عمر قد حرم متعة الحج ومتعة النساء
________________________________________ الصفحة 50 ________________________________________
في آن واحد، مع أن متعة الحج لم يحرمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) طيلة حياته، فلو كان تحريمه لمتعة النساء، يوجب تكفيره فلماذا لا يوجب تحريمه لمتعة الحج ذلك أيضاً.
تاسعاً:
دعوى أن بعض الصحابة قد يكونون سمعوا الناسخ ثم نسوه، ثم تذكروه بتذكير عمر لهم، تنافي الروايات التي تتحدث عن إصرار كثير من الصحابة على القول بحلية المتعة، كما أنها تنافي نسبة جابر التحريم إلى عمر بعد أن ذكر استمرار الصحابة على العمل بالمتعة في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر، وشطراً أو إلى النصف من خلافة عمر، حيث يظهر منه أنهم إنما امتنعوا من أجل نهي عمر لهم، لا لأجل تذكرهم للنسخ.
كما أن عمران بن حصين، وابن مسعود يؤكدان عدم صحة ما صدر من عمر من منع لهذا الزواج.
وأحدهما يقول: «قال رجل برأيه ما شاء».
والآخر يستشهد: «بقوله تعالى: (لا تحرموا طيبات) إلخ».
عاشراً:
إن آية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).. لا تدل على
________________________________________ الصفحة 51 ________________________________________
عصمة الأمة.
ولأجل ذلك نجد: أن عدداً من الصحابة لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر.
أحد عشر:
إن لزوم الكفر من القبول بتغيير أحكام الله، إنما هو فيما لو كان ثمة قبول بذلك من قبل الصحابة.. وقد عرفنا أنهم لم يقبلوا بذلك، بل استمروا على الخلاف، قولاً وفعلاً.
وسكوت بعضهم عن خوف بسبب التهديد والوعيد الصادر من الخليفة كما أشرنا يمنع من نسبة الكفر إلى ذلك البعض..
ثاني عشر:
إن عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يلزم منه الكفر، بل يلزم منه ارتكاب المعصية.
رجم عمر للمتمتع:
ويلفت نظرنا: تهديدات عمر للمتمتع بالرجم، وقد تبعه في هذه الشدة والحدة، عبد الله ابن الزبير حين هدد ابن عباس بالرجم إن هو تمتع.
وهو أمر غريب حقاً، وذلك لما يلي:
1 ـ فإن الفتوى المتداولة إلى يومنا هذا تقول: إنه لا رجم
________________________________________ الصفحة 52 ________________________________________
على المتمتع..
2 ـ كما أنه لا خلاف في أن الحدود تدرأ الشبهات، فلو لم تكن المتعة حلالاً، فلا أقل من وجود الشبهة فيها، فكيف يجوز التهديد بالرجم، أو الجلد فيها.
3 ـ أضف إلى ذلك: أن عمر نفسه قد درأ الحد عن بغي بأجرة فكيف لا يدرأ الحد عن مستمتع(1) ولذلك حملوا كلامه هذا على المبالغة في النهي(2).
توجيهات لا تجدي لتهديدات عمر بالرجم:
وحين أشكل عليهم توعد عمر بن الخطاب بالرجم لمن تزوج متعة، لأنهم لا يرون عقوبة الرجم فيه، نجدهم قد ذهبوا في توجيه ذلك يميناً وشمالاً، ولعل ما ذكره الكاندهلوي هو الأجمع لأطراف هذه المسألة.
فهو يقول:
____________
(1) تعليقات لصاحب كتاب المناكحات والمفارقات مطبوعة بهامش كتاب صحيح مسلم سنة 1334 هـ ج 4 ص 38.
(2) المصدر السابق.
________________________________________ الصفحة 53 ________________________________________
فأراد بقوله: «لو تقدمت ما عندي» فيه من النص الذي لا يحتمل التأويل فيزول الخلاف لرجمت، لتقدم الإجماع وانعقاده.
ويحتمل أن يريد بذلك: لو كنت أعلمت الناس برأيي في ذلك من تحريمه، ووجوب الحد، فيه لأقمت الحد لأن الأحكام لا تجري عند الخلاف إلا على ما رآه الإمام الذي يحكم في ذلك لا سيما إذا كان عنده في ذلك، من النص أو وجه التأويل ما يمنع قول المخالف.
وقال ابن عبد البر: الخبر عن عمر رضي الله عنه من رواية مالك منقطع، ورويناه متصلاً، ثم أسنده عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر: لو تقدمت فيها لرجمت، يعني المتعة، وهذا القول منه قبل نهيه عنها، وهو تغليظ ليرتدع الناس وينزجروا عن سوء مذهبهم وقبيح تأويلاتهم.
واحتمال أنه لو تقدم بإقامة الحجة من الكتاب والسنة على تحريمها لرجمت.. ضعيف لا يصح إلا على من وطئ حراماً، لم يتأول فيه سنة ولا قرآناً.
وروى ابن مزين عن عيسى بن دينار، وعن يحيى بن يحيى، عن ابن نافع: أنه يرجم من فعل ذلك اليوم إن كان محصناً، ويجلد من لم يحصن.
________________________________________ الصفحة 54 ________________________________________
وقال ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون: وأصبغ، عن ابن القاسم: «لا رجم فيه، وان دخل على معرفة منه بمكروه ذلك، ولكن يعاقب عقوبة موجعة لا يبلغ بها الحد».
وروى عن مالك أنه قال: يذكر فيه الحد، ويعاقب إن كان عالماً بمكروه ذلك.
وجه قول عيسى بن دينار، ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك للناس، وخطبهم به، وخطبه تنتشر، وقضاياه تنتقل، ولم ينكر ذلك عليه أحد ولا حفظ له مخالف.
ووجه القول الثاني ما احتج به أصبغ: أن كل نكاح حرمته السنة، ولم يحرمه القرآن، فلا حد على من أتاه عالما عامداً، وإنما فيه النكال، وكل نكاح حرمه القرآن، أتاه رجل عالماً عامداً فعليه الحد، قال: وهذا الأصل الذي عليه ابن القاسم.
قال الباجي: وعندي أن ما حرمته السنة، ووقع الإجماع والإنكار على تحريمه، يثبت فيه الحد، كما يثبت فيما حرمه القرآن.
قال: والذي عندي في ذلك، أن الخلاف إذا انقطع، ووقع الإجماع على أحد أقواله بعد موت قائله، وقبل رجوعه عنه، فإن
________________________________________ الصفحة 55 ________________________________________
الناس مختلفون فيه، فذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا ينعقد الإجماع بموت المخالف، فعلى هذا حكم الخلاف باقٍ في حكم قضية المتعة، وبذلك لا يحد فاعله.
وقال جماعة: ينعقد الإجماع بموت إحدى الطائفتين، فعلى هذا وقع الإجماع على تحريم المتعة، لأنه لم يبق قائل به، فعلى هذا يحد فاعله. وهذا على أنه لم يصح رجوع ابن عباس عنه.
ومما يدل على أنه لم ينعقد الإجماع على تحريمه: أنه يلحق به الولد. ولو انعقد الإجماع بتحريمه، وأتاه أحد عالماً بالتحريم لوجب أن لا يلحق به الولد، إلى أن قال:
وقال محمد في موطأه، بعد أثر الباب، وقول عمر رضي الله عنه: لو كنت تقدمت فيها لرجمت إنما نضعه من عمر رضي الله عنه على التهديد، وهذا قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا(1).
ونقول:
إننا نلفت النظر إلى أن ما ذكره آنفاً لا يمكن قبوله
____________
(1) أوجز المسالك ج 9 ص 410 و 411.
________________________________________ الصفحة 56 ________________________________________
لأسباب عديدة، لعل أكثرها قد اتضح، ويتضح من خلال ما ذكرناه ونذكره في هذا الكتاب، غير أننا نشير هنا إلى بعض النقاط التي قد لا تكون نالت ما تستحقه من التوضيح، فنقول:
1 ـ إن هؤلاء يريدون أن ينعقد الإجماع على تحريم المتعة قبل قول عمر الآنف الذكر: «لو تقدمت لرجمت» أو «لا أجد رجلاً نكحها [أي المتعة] إلا رجمته بالحجارة» من أجل أن يصح التوعد بالرجم، بسبب أن الإجماع إذا انعقد صح الرجم، وصح التوعد به، ولأجل ذلك فسروه بأنه لو بيّن عمر ما عنده من النص لانعقد الإجماع، وصح له عند ذلك أن يرجم الفاعل..
ولكن بما أن الخلاف باق فإنه لا يستطيع أن يبادر إلى الرجم..
ونلاحظ على هذا التأويل:
أولاً:
إنه رغم بيان عمر لما عنده، فإن الناس لم يقبلوا منه ذلك، بل استمروا على القول بالحلية، وعلى ممارسة هذا الزواج.
ثانياً:
إن هذا التأويل لا ينسجم مع نسبة عمر المنع عن هذا الزواج إلى نفسه، لا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
________________________________________ الصفحة 57 ________________________________________
بل هو قد قرر أن هذا الزواج كان حلالاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه هو الذي يحرمه من عند نفسه.
ثالثاً:
إن حكم الرجم تابع لثبوت الحكم بالدليل القاطع، سواء أكان الدليل هو قول الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو الآية، أو الإجماع، أو غير ذلك، وليس تابعاً لخصوص الإجماع..
2 ـ وأما الاحتمال الثاني القائم على أساس قاعدة: «إن الأحكام لا تجري عند الخلاف، إلا على ما رآه الإمام، الذي يحكم في ذلك، لا سيما إذا كان عنده في ذلك من النص، أو وجه التأويل ما يمنع قول المخالف..».
فمن المعلوم: أن هذه القاعدة غير سليمة، والذي أطلقها هو الخليفة نفسه، وقد عارضه في ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) وردها عليه..
فقد روي: أن عمر بن الخطاب كان يعسّ ذات ليلة بالمدينة فلما أصبح قال للناس: «أرأيتم لو أن اماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد، ما كنتم فاعلين؟!
________________________________________ الصفحة 58 ________________________________________
قالوا: إنما أنت إمام.
فقال علي بن أبي طالب: [ليس ذلك لك، إذن يقام عليك الحد، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود](1).
ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم، ثم سألهم. فقال القوم مثل مقالتهم الأولى. وقال علي مثل مقالته الأولى»(2).
هذا إذا كان النظر إلى ما هو من قبيل الموضوعات الخارجية والتطبقيات، وأما في الأحكام، فالأمر فيها أكثر حساسية، وأعظم خطراً، فإذا لم يقبل ذلك في الموضوعات، فإن عدم قبوله في الأحكام يكون أولى.
أضف إلى ذلك: أن النص من شأنه أن يمنع قول المخالف، لكن كيف يمنع وجه التأويل، بل قول من يخالفه في التأويل، ومن الذي يحسم الأمر في مواضع الخلاف على هذا الأمر أيضاً.
ثم إنه لا يعقل أن يكون هذا الأمر العام والشامل، الذي يتعاطاه الناس استناداً إلى الآية الكريمة، وإلى أقوال رسول الله
____________
(1) راجع السنن الكبرى للبيهقي ج10 ص 144 والمصنف للصنعاني ج8 ص 340.
(2) الفتوحات الإسلامية [للسيد زيني دحلان] ج2 ص 466 وراجع: الاستغاثة ص 92 و93. وراجع كنز العمال ج5 ص 457 ط مؤسسة الرسالة بيروت ـ لبنان.
________________________________________ الصفحة 59 ________________________________________
(صلى الله عليه وآله) لا يعقل أن ينفرد في حكم نسخه رجل بعينه، بحيث يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اختصه بالنص الناسخ، ولا يمكن قبول ذلك ممن يدعي النص الناسخ، وإلا لفتح باب خطير ينال مختلف التشريعات الإلهية، ويجعلها موضع ترديد وريب، بل قد يدفع ذلك الكثيرين لادعاءات نصوص ناسخة لمختلف الأحكام. لو عرفوا أن ذلك يقبل منهم.
على أن كلام ابن عبد البر يمنع هذا الإحتمال، ويمنع الإحتمال السابق أيضاً، فليتفق هؤلاء على تفسير بعينه ليمكن النظر فيه.
3 ـ وأما عدم إنكار الصحابة على عمر حين هدد بالرجم، فقد ذكرنا مراراً أن عدم اعتراضهم عليه، ربما كان مخافة منه، ولعمر سوابق عديدة في إعلان أمور لا يجرؤ أحد على الاعتراض عليه فيها، مثل صلاة التراويح، وغيرها.
أضف إلى ذلك: أن الكثيرين قد اعترضوا عليه في ذلك، وذلك لإعلانهم عن رفضهم لقراره هذا، وقد قال عمران بن حصين: «قال رجل برأيه ما شاء» وتقدم موقف علي (عليه السلام)، وابن عباس، من أنه لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى
________________________________________ الصفحة 60 ________________________________________
إلا شقي أو إلا شفا، وغير ذلك كثير جداً، تقدم في فصل النصوص والآثار، فما معنى قوله: «ولم ينكر ذلك عليه أحد، ولا حفظ له مخالف»!!.
4 ـ واما قولهم: كل نكاح حرمته السنة، ولم يحرمه القرآن، فلا حدّ على من أتاه عالماً، عامداً، وإنما فيه النكال..
فهو غير صحيح:
أولاً:
ما هو الفرق بين التحريم بالسنة، وبين التحريم بالقرآن؟.
ثانياً:
إن هذا يبطل ما يزعمونه، من أن آيات حفظ الفروج، والعدة، والطلاق، والميراث، وغيرها قد حرمت زواج المتعة..
ثالثاً:
ما الدليل على هذه القاعدة المدعاة، فهل دلت عليها آية، أو رواية، أو غير ذلك؟!.
رابعاً:
قال الباجي المالكي: «عندي أن ما حرمته السنة، ووقع الإجماع والإنكار على تحريمه يثبت فيه الحد، كما يثبت فيما حرمه القرآن». وهو ما ذكر في المتن السابق نقله.
________________________________________ الصفحة 61 ________________________________________
توجيهات وافتراضات لما صدر عن عمر:
بعد أن ظهر أن عمر بن الخطاب هو الذي حرّم زواج المتعة، ولم يعد يمكن إنكار ذلك، حتى قال ابن القيم: إن طائفة من الناس يقولون: «إن عمر هو الذي حرمها، ونهى عنها، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) باتّباع ما سنه الخلفاء الراشدون إلخ..»(1) ـ نعم بعد أن أظهر ذلك ـ تعددت الافتراضات، والتفسيرات حول سر، وسبب إقدام عمر بن الخطاب على تحريم زواج المتعة، والظروف التي رافقت هذا النهي.
ولعل منشأ ذلك هو اختلاف رواياتهم في ذلك:
1 ـ فيرى ابن حزم، وتبعه الباقوري: أن سبب تحريم عمر للمتعة، هو ما رآه من إسراف الناس في الإقبال عليها(2).
وذلك يعني: أنه لم يحرمها، بل حرم الإكثار منها، والإسراف فيها.
2 ـ ويرى البعض الآخر: أن عمر إنما حرم المتعة، التي لا
____________
(1) زاد المعاد ج 2 ص 184.
(2) المحلى ج 9 ص 519 و 520، ومع القرآن ص 174.
________________________________________ الصفحة 62 ________________________________________
يشهد فيها الشهود، ولا تجمع الشرائط، كما ربما يظهر من بعض الروايات المتقدمة، وكمـا يظهر ذلك أيضاً من كلام الباقوري، وابن حزم، الذي قال: «وعن عمر بن الخطاب: أنه إنما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط، وأباحها بشهادة عدلين»(1).
3 ـ وهناك أسباب أخرى ذكرتها بعض الرويات في هذا المجال(2) لكن بعض رواتها متهمون؛ فلا مجال للتوقف عندها، ولا سبيل إلى تأييدها، ولأجل ذلك أهملنا التعرض لها..
4 ـ ويرى العلامة الكبير السيد محمد تقي الحكيم: أن سر ذلك يرجع إلى: «.. أن بعض المسلمين أساؤوا استعمال هذا التشريع، ودفعه في سورةٍ عاطفية إلى هذا التحريم المطلق، وقد ذكر اسم عمرو بن حريث في هذا المجال، وما ندري تفصيل قصتة، غير أننا ذكرنا قصته بالتفصيل في فصل: النصوص والآثار، فراجع.
____________
(1) راجع: المصدرين السابقين..
(2) راجع: بحار الأنوار ج 100 ص 303 و 304 وج 53 ص 28.
________________________________________ الصفحة 63 ________________________________________
ويبدو أن هذا التشريع: وهو جديد على المسلمين، إذ لم يسبق له نظير في أية شريعة سابقة، دينية، أو مدنية لم يسهل تقبله ـ وهو في البداية ـ لأن الناس لا يتقبلون أي تشريع يتعلق بشؤون الجنس بسهولة، وربما قابلوه واستنكروه في اعماقهم، ولم تمر عليه بعد مدة كافية لترويض نفوسهم لتقبله، واعتباره شريعة»(1).
ونذكر القارئ الكريم هنا:
بأن ما ذكره من أن هذا التشريع كان جديداً على المسلمين هو الحق الذي لا محيص عنه، فإن القرآن الكريم، وكذلك النبي العظيم (صلى الله عليه وآله)، لم يكن ليشرع شيئاً من أمر الجاهلية، أو يقبل بالزنا، ويحلله للناس..
وذلك يوضح: عدم صحة ما ذكره أنيس النصولي في مقال له في جريدة الرأي العام، وموسى جار الله في كتابه: الوشيعة ص 32: من أن المتعة من أنكحة الجاهلية.
ومما يدل على عدم صحة هذه الدعوى أيضاً: أن
____________
(1) الزواج المؤقت ص 40 و 41، وقصة عمرو بن حريث التي أشار إليها قد ذكرنا تفصيلها في فصل: النصوص والآثار.
________________________________________ الصفحة 64 ________________________________________
عائشة قد حصرت أنكحة الجاهلية في أربعة، وليس نكاح المتعة منها، فراجع(1).
5 ـ أما العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، فيرى: أن عمر قد استنكر قصة في واقعة، مما أوجب تأثره، وتهيجه الشديد، فرأى أن من المصلحة المنع عنها مطلقاً، خوفاً من تكرار مثل تلك الواقعة الخاصة، اجتهاداً منه ورأياً، تمكن من ذهنه، فهو قد اجتهد برأيه لمصلحة رآها بنظره، في زمانه، ووقته، فمنع من استعمال المتعة منعاً مدنياً، لا دينياً.
ولكن بعض معاصريه، ومن جاء بعده من المحدثين البسطاء، لم يلتفتوا إلى الحقيقة، فارتبكوا، وتحيروا، وحاولوا إيجاد مخرج من هذا الأمر، وتصحيح ما صدر من الخليفة الثاني(2).
فكان ما كان.. ولفقت الحجج، وبذلت المحاولات، التي لم
____________
(1) راجع: صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وتيسير الوصول ج 2 ص 330 ط الهند، وغير ذلك.
________________________________________ الصفحة 65 ________________________________________
تسمن، ولم تغن، بل زادت الطين بلة، والأمر إشكالاً..
ومهما يكن من أمر: فإننا وإن كنا نوافق إلى أن الوقائع المختلفة، التي أشير إليها في الروايات المتقدمة تدل على أن عمر، قد اقدم على هذا النهي، بسبب أمر أهاجه، وأثاره، ثم تكرر هذا النهي لتكرر العودة إلى ممارسة هذا الزواج، فكان ثمة إصرار على ممارسته والتأكيد على حليته، يقابله إصرار على المنع، وذلك في مناسبات ووقائع مختلفة، حسبما أشرنا إليه..
نعم، إننا وإن كنا نوافق على ذلك لكننا نقول: إن ذلك لا يبرر التعدي على التشريع، وتناوله بالتغيير والتبديل، كما لا يبرر الانفعال من واقعةٍ بعينها وادعاء الألوهيه أو النبوة من قبل أي كان من الناس، فينصب نفسه للتلاعب بالأحكام، والابتداع وللتشريع وفق أهوائه وميوله.. فإن على من يواجه أمراً يحرجه أن يدفع ثمن التخلص من الإحراج من جيبه هو، ومن حسابه الخاص، لا أن يتعدى على التشريع، ويتصرف فيه كما يحلو له.
وأما دعوى: أنه أراد بذلك مصلحة المسلمين، فلا أدري ما هي مصلحة المسلمين السياسية أو غيرها في المنع عن متعة الحج، التي حرمها مع متعة النساء في مقام واحد..
________________________________________ الصفحة 66 ________________________________________
وذلك يجعلنا نطمئن إلى أن القضية ترتبط بالانفعالات العاطفية، والتذوق الشخصي لبعض الأمور واستساغتها، أكثر مما ترتبط بمصلحة الإسلام العليا، أو بمصلحة المسلمين..
التحريم إداري أم ديني ؟!:
وقد حاول البعض أن يقول: إن تحريم الخليفة لزواج المتعة إداري لا ديني، والعقاب كما يكون على مخالفة الأمر الديني الشرعي، كذلك يكون على مخالفة الأمر الإداري.
وقد يؤيد هذا القول ما رواه الطبري حيث قال: «حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا عيسى بن يزيد بن دأب، عن عبد الرحمن بن ابي زيد، عن عمران بن سواد، قال: صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان، وسورة معها، ثم انصرف، وقمت معه، فقال: أحاجة ؟ قلت: حاجة. قال: فالحق، قال فلحقت. فلما دخل أذن لي، فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء. فقلت نصيحة. فقال: مرحباً بالناصح غدواً وعشياً.
قلت: عابت أمتك منك أربعاً.
________________________________________ الصفحة 67 ________________________________________
قال: فوضع رأس درته في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه، ثم قال: هات.
قلت: ذكروا أنك حرمت العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا ابو بكر (رض)، وهي حلال.
قال: هي حلال، لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية عن حجهم، فكانت قائبة قوب عامها. فقرع حجهم، وهو بهاء من بهاء الله، وقد اصبت.
قلت: وذكروا انك حرمت متعة النساء، وقد كانت رخصة من الله، نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.
قال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحلها في زمان ضرورة، ثم رجع الناس الى السعة، ثم لم أعلم أحداً من المسلمين عمل بها، ولاعاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضةٍ وفارق عن ثلاث بطلاق وقد اصبت.
قال: قلت: وأعتقت الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها.
قال: الحقت حرمة بحرمة، وما أردت إلا الخير واستغفر الله.
قلت: وتشكو منك نهر الرعية، وعنف السياق.
________________________________________ الصفحة 68 ________________________________________
قال: فشرع الدرة ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد الخ»(1).
ونقول:
إن لنا تحفظاً على هذا الاعتذار نوضحه فيما يلي:
1 ـ إن التحريم الإداري لا يقتضي العقوبة بالرجم، بل الذي يقتضي ذلك هو خصوص التحريم الشرعي؟.
2 ـ إن سياق كلام الخليفة لا يتلائم مع هذا التخريج، لأنه قد حرم متعة الحج أيضاً، وكذلك حي على خير العمل في الأذان في نفس الوقت.. ولا نجد وجهاً للتحريم الإداري لهما.
3 ـ إن تشريعها لحالات الضرورة، يقتضي عدم المنع عنها بصورة مطلقة. إلا بعد دراسة كل حالة على حدة، والتحقق من عدم وجود الضرورة فيها..
4 ـ سيأتي الحديث عن أن القول بأن تشريعها لأجل الضرورة لا يصح.
____________
(1) تاريخ الأمم والملوك ج3 ص 290 و291 وشرح النهج للمعتزلي ج12 ص 121 والجواهر ج30 ص 146 والغدير ج6 ص 212.
________________________________________ الصفحة 69 ________________________________________
شواهد على أن التحريم إداري:
ولعل البعض يقول: إن ما تقدم من أن عمر لم يحرم المتعة دينياً، وإنما حرمها تحريماً مدنياً، وقتياً، حسبما أدى إليه اجتهاده، ورأيه، بسبب أن البعض قد أساء استعمال هذا التشريع، أو بسبب ثورة عاطفية كما يراه الحكيم، هو الصحيح، والحق الصريح، الذي لا محيص عنه، ولا مجال لإنكاره وله شواهد كثيرة.
فنلاحظ في الروايات المتقدمة: أن فيها ما يشير إلى ارتباك في تعليل النهي، وفي مورده من قبل الناهي نفسه..
فتارة: ينهى عن أن يتزوج المحصن متعة.
وتارة: ينهى عنها، لعدم الإشهاد الصحيح، والكافي بنظره.
وثالثة: بسبب أن البعض قد ولد لهم من المتعة، ولم يلتفتوا إلى أولادهم، أو أنكروا الأولاد.. وهكذا.. فقد تعددت واختلفت التعليلات باختلاف وتعدد الوقائع، حسبما قدمنا.
وهذا ما يؤيد، ويؤكد: أن النهي لم يكن على سبيل التشريع، أو جعل الحكم، بل على سبيل الاستفادة من هيبة الحكم، وشوكة السلطان.
________________________________________ الصفحة 70 ________________________________________
ومما يدل على ذلك: أن لدينا تصريحاً بهذا الأمر من قبل عمر نفسه، واعترافاً منه بأنه لم يحرم المتعة اصلاً، بل يعترف: أنه ليس لعمر أن يحرم ما أحل الله، فقد روى: أحمد بن عيسى، عن القاسم، عن أبان، عن إسحق، عن الفضل، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «بلغ عمر: أن أهل العراق يزعمون: أن عمر حرم المتعة، فأرسل إليهم فلاناً ـ سماه ـ فقال: أخبرهم: إنّي لم أحرمها، وليس لعمر أن يحرم ما أحل الله، ولكن عمر قد نهى عنها..»(1).
وهذا التفريق بين النهي والتحريم، كان موجوداً منذ ذلك الحين.
فقد روى: في الكافي بسنده عن علي بن يقطين قال: «سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل، فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم لها، فقال له أبو الحسن: بل هي محرمة في كتاب الله إلخ..»(2).
____________
(1) البحار ج 100 ص 319، وفي هامشه عن: نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ص 66، ومستدرك الوسائل ج 2 ص 87، عن النوادر أيضاً.
(2) الكافي ج 6 ص 406 والبحار ج 48 ص 149.
________________________________________ الصفحة 71 ________________________________________
ونقول:
إن ذلك كله لا يصلح شاهداً على ذلك، وذلك لما يلي:
1 ـ إن عمر قد قال في خطابه لهم بالتحريم: إن المتعتين وحي على خير العمل قد كانتا حلالاً في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو يحرمها جميعاً.. والحديث هو عن التحريم المقابل لتحليل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2 ـ إننا لا نجد وجهاً للتحريم الإداري لمتعة الحج، وحي على خير العمل..
3 ـ إن التهديد بعقوبة الرجم يشير إلى ذلك أيضاً.
4 ـ محاولات عمر بعد ذلك: نسبة التحريم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن من يتمتع فإن عليه أن يأتي بأربعة يشهدون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أحلها بعد إذ حرمها.. وغير ذلك مما تقدم. يشهد على أن عمر قد حرم ما أحل الله، ولم يكن ما فعله مجرد منع إداري.
ولعله، حين ظهرت الاعتراضات عليه، وتفاقمت الأمور ضده.. قد حاول أو حاول محبوه تلطيف الأجواء، والتخفيف من وقع وهول ما جرى. فكانت التأويلات والتعليلات..
________________________________________ الصفحة 72 ________________________________________
خلاصة وبيان:
ومهما يكن من أمر، فإننا لو سلمنا: أن تحريم عمر للمتعة كان تحريماً إدارياً لظروف معينة اقتضت ذلك، فإن ذلك يدل على أنه لا مسوّغ لاستمرار القول بالتحريم، لأن التدبير الإداري ينتهي بانتهاء ظرفه، ولا مجال بعد ذلك للاستمرار فيه.
وإن كان تحريمه: لأن لديه رواية في التحريم عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن ذلك يتعارض مع قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرمهما، حيث نسب التحريم إلى نفسه، لا إلى رواية رواها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى النصوص الأخرى التي تدل على بقاء الحلية بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
بالإضافة إلى شواهد أخرى: أشرنا إلى كثير منها فيما سبق.
وإن كان تحريمه بسبب: أنه يرى أن له الحق في الاجتهاد في مقابل النص، فذلك أمر يرجع إليه وحجته فيه قائمة عليه، وليس حجة على سواه، والله ورسوله أولى بالاتباع من عمر، ومن كل أحد.
التعلیقات