تعدد قراءات آية الوضوء وآراء علماء اللغة
المصدر : القول المبين عن وجوب مسح الرّجلين ، تأليف : أبو الفتح محمّد بن علي الكراجكي ، تحقيق : علي موسى الكعبي ، ص 22 ـ 32
________________________________________ الصفحة 22 ________________________________________
تعدد قراءات آية الوضوء وآراء علماء اللغة
فان قال قائل: إنا نجد أكثر القراء يقرؤون الآية بنصب الارجل، فتكون الارجل في قراءتهم معطوفة على الايدي، وذلك موجب للغسل.
قيل له: أما الذين قرؤوا بالنصب من السبعة فليسوا بأكثر من الذين قرؤوا بالجر، بل هم مساوون لهم في العدد.
وذلك أن ابن كثير (9)وأبا عمرو (10) وأبا بكر (11) وحمزة (12) عن عاصم (13) قرؤوا (وأرجلكم) بالجر (14).
____________
(9) ابو معبد عبد الله بن كثير الداري المكي، أحد القراء السبعة، ولد وتوفي بمكة في سنة 120هـ.
سير أعلام النبلاء 318:5، وفيات الاعيان 41:3، تهذيب التهذيب 321:5، تهذيب الكمال 468:15، النشر في القراءات العشر 120:1.
(10) زبان بن عمار التميمي المازني البصري، أبو عمروبن العلاء، من أئمة اللغة والادب، وأحد القراء السبعة، ولد بمكة ونشأ بالبصرة ومات بالكوفة في سنة 154هـ.
سير أعلام النبلاء 407:6، النشر في القراءات العشر 134:1، تهذيب التهذيب 12: 197، وفيات الاعيان 466:3.
(11) شعبة بن عياش بن سالم الازدي الكوفي، أبو بكر، أحد مشاهير القراء، وكان عالمأ فقيهأ، توفي بالكوفة في سنة 193هـ.
سير أعلام النبلاء 495:8، حلية الاولياء 303:8، ميزان الاعتدال 499:4، تهذيب التهذيب 37:12، النشر في القراءات العشر 156:1.
(12) حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التميمي، أحد القراء السبعة، توفي في سنة 56هـ.
سير أعلام النبلاء 90:7، تهذيب التهذيب 24:3، النشر في القراءات العشر 165:1، وفيات الاعيان 216:2.
(13) عاصم بن أبي النجود بهدلة الكوفي الاسدي بالولاء، أحد القراء السبعة، توفي بالكوفة في سنة 127هـ.
سير أعلام النبلاء 256:5، النشر في القراءات العشر 155:1، تهذيب التهذيب 35:1، وفيات الاعيان 9:3.
(14) الحجة للقراء السبعة 214:3، الكشف عن وجوه القراءات 406:1، السبعة في القراءات: 242، حجة القراءات: 223.
________________________________________ الصفحة 23 ________________________________________
ونافعأ(15) وابن عامر (16) والكسائي(17) وحفصأ(18) عن عاصم قرؤوا (وأرجلكم) بالنصب (19).
وقد ذكر العلماء بالعربية أن العطف من حقه ان يكون على أقرب مذكور دون أبعده (20)، هذا هو الاصل، وما سواه عندهم تعسف وانصراف عن حقيقة الكلام إلى
____________
(15) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني، أحد القراء السبعة المشهورين، انتهت إليه رئاسة القراءة في المدينة، وتوفي بها في سنة 169هـ.
النشر في القراءات العشر 112:1، وفيات الاعيان 368:5، سير أعلام النبلاء 336:7، الكامل ـ لابن عدي ـ 2515:7.
(16) عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي الشامي، أحد القراء السبعة، ومقرئ الشاميين، توفي بدمشق في سنة 118هـ.
سير أعلام النبلاء 292:5، النشر في القراءات العشر 144:1، تهذيب التهذيب 156:2، الجرح والتعديل 122:5.
(17) أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الاسدي بالولاء الكوفي، إمام اللغة والنحو والقراءة، ولد في إحدى قرى الكوفة وتوفي بالري في سنة 189هـ.
سير أعلام النبلاء 131:9، النشر في القراءات العشر 172:1، الجرح والتعديل 182:6، تأريخ بغداد 403:11، وفيات الاعيان 295:3.
(18) حفص بن سليمان بن المغيرة الاسدي بالولاء، قارئ أهل الكوفة، وأعلم الناس بقراءة عاصم، وهو ربيبه: ابن امرأته، توفي في سنة 180هـ.
النشر في القراءات العشر 156:1، ميزان الاعتدال 558:1، تهذيب التهذيب.
(19) الحجة للقراء السبعة 214:3، السبعة في القراءات: 242. الكشف عن وجوه القراءات 406:1، حجة القراءات: 221.
(20) الاكثر في كلام العرب حمل العطف على الاقرب من حروف العطف ومن العاملين، واعمال أقرب العوامل في المعمول، والامثلة على ذلك كثيرة لا يبلغها الاحصاء سيما في باب التنازع، كقوله تعالى من سورة الجن (72: 7): (وانهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله احداً) حيث أعمل (ظننتم) في (أن) لقربه منه، ولو أعمل (ظنوا) في (ان) لوجب أن يقال: (كما ظننتموه) ومثله قوله تعالى: (آتوني أفرغ عليه قطراً) الكهف (96:18) وقوله تعالى: (هاؤم اقرؤا كتابيه) الحاقة (69:19).
كما أن عطف الارجل على الايدي يترتب عليه الفصل بين العامل والمعمول باجنبي بلا ضرورة، ويترتب عليه أيضاً إعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله عليه، وهما خلاف الاصل.
انظر: الانصاف في مسائل الخلاف 92:1، شرح الكافية 79:1، كتاب سيبويه 73:1، الحجة للقراء السبعة 214:3، الكشف عن وجوه القراءات 406:1.
________________________________________ الصفحة 24 ________________________________________
التجوز من غير ضرورة تلجئ إلى ذلك، وفيه إيقاع اللبس، وربما صرف المعنى عن مراد القائل.
ألا ترى أن رئيسأ لو أقبل على صاحب له فقال له: أكرم زيدأ وعمرأ، واضرب خالدأ وبكرأ، لكان الواجب على الصاحب أن يميز بين الجملتين من الكلام، ويعلم انه ابتدا في كل واحدة منهما ابتداءً عطف باقي الجملة عليه دون غيره، وان بكراً في الجملة الثانية معطوف على خالد، كما أن عمراً في الجملة الاولى معطوف على زيد، ولو ذهب هذا المأمور إلى أن بكراً معطوف على عمرو لكان قد انصرف عن الحقيقة ومفهوم الكلام في ظاهره، وتعسف تعسفاً صرف به الامر عن مراد الامر به، فاًداه ذلك إلى إكرام من امر بضربه.
ووجه آخر: وهو ان القراءة بنصب الارجل غير موجبة ان تكون معطوفة على الايدي، بل تكون معطوفة على الرؤوس في المعنى دون اللفظ؛ لان موضع الرؤوس نصب بوقوع الفعل الذي هو المسح، وإنما انجرّت بعارض وهو الباء.
والعطف على الموضع دون اللفظ جائز مستعمل في لغة العرب (21)، الا تراهم يقولون: مررت بزيد وعمراً، ولست بقائم ولا قاعداً؛ قال الشاعر:
معاوي إننا بشر فاًسجِح (22) * فلسنا بالجبال ولا الحديدا(23)
____________
(21) من ذلك قول تأبط شراً ـ وهو من شواهد سيبويه ـ:
هل أنت باعث دينارٍ لحاجتنا * أو عبد رب أخا عون بن مخراق
فعطف «عبد» على محل «دينار» وكان حقه الجر، ألا أنه نصبه عطفاً على الموضع، لان التقدير «باعث ديناراً» ومثله كثير.
الكتاب 67:1،171، خزانة الادب 8: 215، الحجة للقرّاء السبعة215:3، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي 161:11، كنز العرفان 12:1.
(22) أسجح، أرفق.«الصحاح ـ سجح ـ 372:1».
(23) البيت لعقبة بن الحارث الاسدي، وهو من شواهد سيبويه، احتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض، وتبعه في ذلك الزجاج، والبيت الذي يليه:
أديروها بنو حرب عليكم * ولا ترموا بها الغرض البعيدا
=
________________________________________ الصفحة 25 ________________________________________
والنصب في هذه الامثلة كلها إنما هو العطف على الموضع دون اللفظ، فيكون على هذا من قرأ الآية بنصب الارجل كمن قرأها بجرها، وهي في القراءتين جميعاً معطوفة على الرؤوس التي هي اقرب إليها في الذكر من الايدي، ويخرج ذلك عن طريق التعسف، ويجب المسح بهما جميعاً، والحمد لله.
وشيء آخر: وهو أن حمل الارجل في النصب على أن تكون معطوفة على الرؤوس أولى من حملها على أن تكون معطوفة على الايدي؛ وذاك ان الآية قد قرئت بالجر والنصب معاً، والجر موجب للمسح، لانه عطف على الرؤوس، فمن جعل النصب إنما هو لعطف الارجل على الايدي أوجب الغسل، وأبطل حكم القراءة بالجر الموجب للمسح.
ومن جعل النصب إنما هو لعطف الارجل على موضع الرؤوس أوجب المسح الذي اوجبه الجر، فكان مستعملاً للقراءتين جميعاً، غير مبطل لشيء منهما، ومن استعملهما فهو أسعد ممن استعمل أحدهما.
فان قيل: ما أنكرتم أن يكون استعمال القراءتين إنما هو بغسل الرجلين، وهو أحوط في الدين، وذلك أن الغسل يأتي على المسح ويزيد عليه، فالمسح داخل فيه، فمن غسل فكأنما مسح وغسل، وليس كذلك من مسح؛ لان الغسل غير داخل في المسح.
قلنا: هذا غير صحيح؛ لان الغسل والمسح فعلان كل واحد منهما غير الآخر وليس بداخل فيه، ولا قائم مقامه في معناه الذي يقتضيه.
ويبين ذلك ان الماسح كأنه قيل له: اقتصر فيما تتناوله من الماء على ما يندى به العضو الممسوح، والغاسل كانما قيل له: لاتقتصر على هذا القدر، بل تناول من الماء ما يسيل ويجري على العضو المغسول.
____________
=
الانصاف في مسائل الخلاف: 332، الكتاب 67:1، العقد الفريد 50:1، مغني اللبيب 621:2، شرح شواهد المغني 870:2، خزانة الادب 260:2.
________________________________________ الصفحة 26 ________________________________________
فقد تبين أن لكل واحد من الفعلين كيفية يتميز بها عن الآخر، ولولا ذلك لكان من غسل رأسه فقد أتى على مسحه، ومن اغتسل للجمعة فقد اتى على وضوئه، هذا مع إجماع إهل اللغة والشرع على أن المسح لا يسمى غسلاً، والغسل لا يسمى مسحاً(24).
فان قيل: لم زعمتم ذلك وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله سبحانه: (فطفق مسحاً بالسوق والاعناق) (25) أنه غسل سوقها وأعناقها، فسمي الغسل مسحاً.
قلنا: ليس هذا مجمعاً عليه في تفسير هذه الآية؛ وقد ذهب قوم إلى أنه أراد المسح بعينه(26)، وقال أبو عبيدة (27) والفراء (28) وغيرهما: أنه أراد بالمسح الضرب (29).
وبعد: فإن من قال: إنه أراد بالمسح الغسل، لا يخالف في أن تسمية الغسل لا
____________
(24) المسح: مروراليد على الممسوح، والغسل: سيلان الماء على المغسول ولو قليلاً.
ولو جاز أن يطلق المسح على الغسل مجازاً، كما قالوا: تمسحت للصلاة، وكقول أبي زيد: المسح خفيف الغسل، لو جاز ذلك لما جاز شرعاً، لان الشرع فرق بين الغسل والمسح، ولذلك قالوا: بعض أعضاء الطهارة مغسولة وبعضها ممسوحة: وفلان يرى غسل الرجلين وفلان يرى مسحهما.
التعريفات ـ للجرجاني ـ:93، مفردات ألفاظ القرآن ـ للاصفهاني ـ:360، التبيان ـ للطوسي ـ 454:3.
أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 567:2 و 562:2، تفسير الطبري 83:6.
(25) سورة ص 33:38.
(26) كابن عباس والزهري وابن كيسان وابن جرير الطبري وعلي بن أبي طلحة والنحاس ومجاهد والقاضي أبي يعلى.
تفسير الطبري 100:23، تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير ـ 37:4، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 206:26، الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 195:15، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ 382:3، تفسير البيضاوي 312:2، إعراب القرآن ـ للنحاس ـ 463:3، زاد المسير 131:7، مجمع البيان ـ للطبرسي ـ 475:4، لسان العرب 595:2.
(27) معمر بن المثنى، التيمي بالولاء، البصري، أبو عبيدة، من أئمة العلم والادب واللغة، مولده، ووفاته بالبصرة، توفي في سنة 209هـ.
وفيات الاعيان 235:5، ميزان الاعتدال 155:4، تأريخ بغداد 252:13.
(28) يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، مولى بني أسد، إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو والفقه وفنون الادب، توفي في سنة 207هـ.
وفيات الاعيان 176:6، تهذيب التهذيب 186:11، سير أعلام النبلاء 118:10، تأريخ بغداد 149:14.
(29) ويضاف لما ذكره المصنف ـ قدس سره ـ: قتاده والزجاج وابن الاثير والسدي والحسن البصري ومقاتل والخليل
=
________________________________________ الصفحة 27 ________________________________________
تخالف مسحاً مجازاً واستعارة، وليس هو على الحقيقة، ولا يجوز لنا أن نصرف كلام الله تعالى عن حقائق ظاهرة إلاّ بحجة صارفة.
فان قال: ما تنكرون من أن يكون جر الأرجل في القراءة إنّما هو لأجل المجاورة لا للنسق، فإن العرب قد تعرب الاسم باعراب ما جاوره؛ كقولهم: جحر ضبٍ خربٍ، فجروا خرباً لمجاورته لضبّ، وإن كان في الحقيقة صفة للحجر لا للضبّ.
فتكون كذلك الأرجل، إنما جرّت لمجاورتها في الذكر لمجرور وهو الرؤوس؛ قال امرؤالقيس (30):
كأن ثبيراً في عرانين وبله * كبير اُناس في بجادٍ مزمل (31)
فجر مرملاً لمجاورته لبجاد، وان كان من صفات الكبير، لا من صفات البجاد، فتكون الارجل على هذا مغسولة، وان كانت مجرورة.
قلنا: هذا باطل من وجوه:
____________
=
ابن أحمد والكلبي وابن السائب وابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي.
تفسير الطبري 100:23، الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 195:15، تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير ـ 37:4، زاد المسير 131:7، معاني القرآن ـ للفراء ـ 405:2، مجاز القرآن ـ لابي عبيدة ـ 183:2، الكشف عن وجوه القراءات 406:1، مجمع البيان ـ للطبرسي ـ 475:4، لسان العرب 595:2، العين 156:3.
(30) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، أشهر شعراء العرب،يماني الاصل، نجدي المولد، من شعراء المعلقات، توفي في سنة 80 ق هـ.
طبقات فحول الشعراء 52:1 و 82، خزانة الادب 329:1، شرح ابن أبي الحديد 244:9. (31) المعنى العام للبيت: كأن ثبيراً في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس، قد تلفف بكساء مخطط، شبه تغطيته بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء، وقد جر «مزمل» صفة لكبير، وكان حقها الرفع، وانما خفض لمجاورته لبجاد عند بعض العلماء، ولاناس عند بعضهم وهو المرجح، وقال أبو علي الفارسي: إنه ليس على الخفض بالجوار، بل جعل مزملاً صفة حقيقية لبجاد، قال: لانه أراد «مزمل فيه» ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير واستتر في اسم المفعول؛ كما أن الاقواء جار على ألسنتهم، فيمكن أن يكون حرف الروي مرفوعاً وجر إقواء، كما قال النابغة الذبياني:
زغم البوارح أن رحلتنا غداً * وبذاك حدثنا الغراب الاسود
لا مرحباً بغد ولا أهلاً به* إن كان توديع الاحبة في غد
مغني اللبيب 669:2 و895، ديوان امرئ القيس: 62، المعلقات العشر: 92، خزانة الادب 98:5، لسان العرب 177:12.
________________________________________ الصفحة 28 ________________________________________
أولها: اتفاق أهل العربية على أن الاعراب بالمجاورة شاذ نادر ولايقاس عليه، وإنما ورد مسموعاً في مواضع لا يتعداها إلى غيرها، وما هذا سبيله فلا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة تلجئ إليه (32).
وثانيها: أن المجاورة لا يكون معها حرف عطف، وهذا ما ليس فيه بين العلماء خلاف(33)، وفي وجود واو العطف في قوله تعالى: (وأرجلكم) دلالة على بطلان دخول المجاورة فيه، وصحة العطف.
وثالثها: أن الاعراب بالجوار إنما يكون بحيث ترتفع الشبهة عن الكلام، ولايعترض اللبس في معناه، ألا ترى أن الشبهة زائلة والعلم حاصل في قولهم: جحر ضبٍ خربٍ، بأن خرباً صفة للجحر دون الضب، وكذلك ما أنشد في قوله: مزمل، وأنه من صفات الكبير دون البجاد؟!
وليس هكذا الآية، لان الارجل يصح ان يكون فرضها المسح، كما يصح أن يكون الغسل، فاللبس مع المجاورة فيها قائم، والعلم بالمراد منها مرتفع، فبان بما ذكرناه ان الجر فيها ليس هو بالمجاورة، والحمد لله.
فإن قيل: كيف ادعيتم أن المجاورة لا تجوز مع واو العطف، وقد قال الله
____________
(32) اتفق كثير من أئمة اللغة على أن الجر بالمجاورة ضعيف جداً ولا يقاس عليه، وأنكر البعض أن يكون الجر بالمجاورة جائزاً في كلام العرب، ومن جملة من أنكره السيرافي وابن جني، وقد تأولا«خربٍ» في قولهم: «هذا جحر ضبٍ خربٍ» صفة للضب لا للجحر، قال السيرافي: أصله «خربٍ الجحر منه» ثم حذف الضمير للعلم به، كما تقول:«مررت برجل حسن الوجه» بالاضافة، والاصل:«حسن الوجه منه».
وقال ابن جني: الاصل:«خرب جحره» ثم اُنيب المضاف إليه عن المضاف فارتفع واستتر.
وقال الفرّاء: لا يخفض بالجوار إلا ما استعملته العرب.
وقال ابو إسحاق النحوي: الجر بالمجاورة لا يجوز في كتاب الله عز وجل، وانما يجوز في ضرورة الشعر.
وقال جل النحاة: إن المسموع من كلام العرب في «جحر ضبٍ خربٍ» وغيره الرفع والجر، والرفع في كلامهم أكثر وافصح.
اُنظر: مغني اللبيب 894:2 و 896، الكتاب 436:1، لسان العرب 593:2، خزانة الادب 91:5، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 161:11، كنز العرفان 16:1.
(33) خزانة الادب 94:5و 444:9، مغني اللبيب 895:2، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 11: 161.
________________________________________ الصفحة 29 ________________________________________
عزّ وجلّ:(يطوف عليهم ولدان مخلدون* باكواب وأباريق) (34) ثم قال:(وحور عين) (35) فخفضهن بالمجاورة، لانهن يطفن ولا يطاف بهن.
قلنا: أول ما في هذا أن القراء لم يجمعوا على جر(حور عين) بل أكثر السبعة يرى أن الصواب فيها الرفع، وهم: نافع وابن كثير، وعاصم في رواية أبي عمرو، وابن عامر (36).
وإنما قرأها بالجر حمزة والكسائي وفي رواية المفضل (37) عن عاصم (38).
وقد حكي عن اُبي (39) أنه كان ينصب فيقرأ. (وحوراً عينا)(40)
ثم إن للجر فيها وجهاً صحيحاً غير المجاورة، وهو أنه لما تقدم قوله تعالى: (أولئك المقربون* في جنات النعيم)(41) عطف بحور عين على جنات النعيم، فكأنه قال: هم في جنات النعيم، وفي مقارنة أو معاشرة حور عين، وحذف المضاف، وهذا وجه
____________
(34) سورة الواقعة 17:56،18.
(35) سورة الواقعة 22:56.
(36) الرفع على تقدير«وعندهم حور عين» قال الكسائي: من قال:«وحور عين» بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في«فاكهة ولحم» لان ذلك لا يطاف به، وليس يطاف إلاّ بالخمر وحدها.
اُنظر: الكشف عن وجوه القراءات 304:2، السبعة في القراءات:622، حجة القراءات: 695.
(37) المفضل بن محمد بن يعلى بن عامر الضبي، صاحب عاصم، كان راوية وعلامة بالشعر والادب وأيام العرب، من اهل الكوفة، قيل في وفاته: إنها في سنة 168هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 362:14، تاريخ بغداد 121:13، البداية والنهاية 228:10، لسان الميزان 81:6، ميزان الاعتدال 170:4.
(38) الكشف عن وجوه القراءات 304:2، السبعة في القراءات: 622، حجة القراءات: 695.
(39) اُبي بن كعب بن قيس بن عبيدة صحابي أنصاري، كان قبل الاسلام من أحبار اليهود، شهد كل المشاهد مع الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، وتوفي بالمدينة في سنة 21هـ.
ا'تظر:سير اعلام النبلاء 389:1، الجرح والتعديل 29:1، اُسد الغابة 49:1، حلية الاولياء 250:1.
(40) كما حكي النصب عن الاشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي، وذلك على تقدير إضمار فعلٍ فكأنه قال:«ويزوجون حوراً عيناً» كما وجد في مصحف اُبي.
اُنظر: الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 205:17، معاني القرآن ـ للفراء ـ 124:3، إعراب القرآن ـ للنحاس ـ 327:4.
(41) سورة الواقعة 11:56،12.
________________________________________ الصفحة 30 ________________________________________
حسن، وقد ذكره أبو علي الفارسي (42)في كتاب الحجة في القراءات، واقتصر عليه دون ما سواه (43)، ولو كان للجر بالمجاورة فيه وجه لذكره.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون القراءة بالجر موجبة للمسح، إلا أنه متعلق بالخفين لا بالرجلين (44)، وأن تكون القراءة بالنصب موجبة للغسل المتعلق بالرجلين بأعيانهما، فتكون الآية بالقراءتين مفيدة لكلا الآمرين؟
قلنا: أنكرنا ذلك لانه انصراف عن ظاهر القرآن والتلاوة إلى التجوز والاستعارة من غير أن تدعو إليه ضرورة ولا أوجبته دلالة، ذلك خطأ لا محالة،والظاهر يتضمن ذكر الارجل بأعيانها، فوجب أن يكون المسح متعلقاً (45) بها دون
____________
(42) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، الفارسي الاصل، أحد الائمة في علوم العربية، وله فيها تصانيف قيمة، ولد في «فسا» من أعمال فارس، وتجول في كثير من البلدان وعاد إلى فارس ومنها إلى بغداد فتوفي بها في سنة 377هـ.
اُنظر: سير أعلام النبلاء 379:16، تأريخ بغداد 275:7، وفيات الاعيان 80:2، معجم الادباء 232:7.
(43) قال قطرب: يجوز أن تكون «وحور عين» معطوفة على الاكواب والاباريق، فجعل الحور يطاف بهن عليهم، لان لاهل الجنة لذة في التطواف عليهم بالحور.
وقال النحاس: الخفض يحمل على المعنى بالعطف على أكواب، لان المعنى ينعمون بهذه الاشياء وينعمون بحور عين، وهذا جائز في العربية كثير.
كما وافق أبا علي الفارسي كثير من العلماء فيما ذهب إليه، فضلاً عن أنهم ذهبوا مذاهب شتى في التأويل بعيداً عن العطف بالجوار.
اُنظر: الكشف عن وجوه القراءات 304:2، معاني القرآن ـ للفراء ـ 123:3، مغني اللبيب 895:2، خزانة الادب 95:5، حجة القراءات:695، الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 204:17.
(44) قال به الشافعي وبعض علماء الجمهور، والقائلين به يعولون على الخبر، لكن الرجوع إلى القرآن أولى من التعويل على الخبر الواحد سيما في هذه الآية، لوجهين:
أولهما: أجمع المفسرون على أن هذه الايات لا نسخ فيها، فامتنع أن يكون المسح على الرجلين منسوخاً بالمسح على الخفين.
ثانيهما: إذا افترضنا تقدم خبر«المسح على الخفين» على النزول فإنه منسوخ بالقرآن بالمسح على الرجلين كما تبين، والاخبار المروية في المسح على الخفين مؤولة بالمسح على النعل العربي لانه لا يحول دون مس ظاهر القدم، أو أنها قبل النزول، وقد روي عن ابن عباس قوله: المسح على الخفين منسوخ بسورة المائدة.
اُنظر: الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 93:6، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 163:11، تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير ـ 27:2.
(45) في الاصل: منغلقاً.
________________________________________ الصفحة 31 ________________________________________
غيرها، كما أنه تضمن ذكر الرؤوس وكان الواجب بها أنفسها دون أغيارها.
ولاخلاف في أن الخفاف لا يعبر عنها بالارجل، كما أن العمائم لا يعبر عنها بالرؤوس، ولا البراقع بالوجوه، فوجب أن يكون الغرض متعلقاً بنفس المذكور دون غيره على جميع الوجوه، ولو شاع سوى ذلك في الارجل حتى تكون هي المذكورة والمراد سواها، لشاع نظيره في الوجوه والرؤوس ولجاز أيضاً أن يكون قوله سبحانه: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ) (46) محمولاً على غير الابعاض المذكورة، ولا خلاف في أن هذه الآية دالة بظاهرها على قطع الايدي والارجل بااعيانها، وانه لا يجوز أن ينصرف عن دليل التلاوة وظاهرها؛ فكذلك آية الطهارة لانها مثلها.
فإن قيل: إن عطف الارجل على الايدي أولى من عطفها على الرؤوس؛ لاجل أن الارجل محدودة كاليدين، وعطف المحدود على المحدود أشبه بترتيب الكلام ً (47).
قلنا: لو كان ذلك صحيحاً، لم يجز عطف الايدي وهي محدودة، على الوجوه وهي غير محدودة في وجود ذلك، وصحة اتفاق الوجوه والايدي في الحكم مع اختلافهما في التحديد، دلالة على صحة عطف الارجل على الروؤس، واتفاقهما في الحكم، وإن اختلفا في التحديد.
على أن هذا أشبه بترتيب الكلام مما ذكر الخصم؛ لان الله تعالى ذكر عضواً مغسولاً غير محدود، وهو الوجه، وعطف عليه من الايدي بمحدود مغسول، ثم ذكر عضواً ممسوحاً غير محدود، وهو الرأس، وعطف عليه من الارجل بممسوح محدود،
____________
(46) سورة المائدة 33:5.
(47) ذهب إليه بعض اللغويين.
اُنظر: لسان العرب 593:2، معاني القرآن ـ للزجاج ـ 154:2، الكشف عن وجوه القراءات 407:1، الحجة للقراء السبعة 215:3.
________________________________________ الصفحة 32 ________________________________________
فتقابلت الجملتان من حيث عطف فيهما مغسول محدود على مغسول غير محدود، وممسوح محدود على ممسوح غير محدود.
فأما من ذهب إلى التخيير، وقال: أنا مخير في أن امسح الرجلين وأغسلهما؛ لان القراءاتين تدلان على الامرين كلاهما، مثل: الحسن البصري (48)، والجبائي (49)، ومحمد بن جرير الطبري(50) ، ومن وافقهم(51)، فيسقط قولهم بما قدمناه من أن القراءتين لا يصح أن تدلا إلا على المسح، وأنه لا حجة لمن ذهب إلى الغسل، واذا وجب المسح بطل التخير.
____________
(48) الحسن بن يسار البصري، كان إمام أهل البصرة، وهو أحد العلماء الفقهاء العظماء الشجعان النساك، ولد بالمدينة وشب في كنف الامام علي عليه السلام، وسكن البصرة وتوفي بها في سنة 110هـ.
اُنظر: سير أعلام النبلاء 563:4، حلية الاولياء 131:2، وفيات الاعيان 69:2، تهذيب التهذيب 263:2.
(49) محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، من أئمة المعتزلة وإليه نسبت الطائفة الجبائية، اشتهر في البصرة وتوفي بها في سنة 303هـ.
وفيات الاعيان 267:4، الفرق بين الفرق:183، سير اعلام النبلاء 183:14، الملل والنحل 73:1، لسان الميزان 271:5.
(50) محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المؤرخ والمفسر، ولد في آمل بطبرستان، واستوطن بغداد وتوفي بها في سنة 310هـ.
سير أعلام النبلاء 267:14، تأريخ بغداد 162:2، وفيات الاعيان 191:4، تذكرة الحفاظ 710:2.
(51) وقد وافقهم أيضاً ابن العربي والاوزاعي والثوري، وأوجب الناصر للحق من أئمة الزيدية وداود الاصفهاني الجمع بين المسح والغسل.
اُنظر: المبسوط ـ للسرخسي ـ 8:1، المجموع 417:1، المغني 150:1، البحر الزخار 67:2، الفتوحات المكية 343:1، الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 91:6ـ 92، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ 345:2، تفسير الطبري 83:6، أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 575:2، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 161:11، الكشف عن وجوه القراءات 406:1.
وانظر: الخلاف ـ للطوسي ـ 90:1، مجمع البيان ـ للطوسي ـ 164:2.
التعلیقات