رأي الزمخشري في نصب (وأرجلكم) وجرّها
المصدر : نـهـايـة الاقـدام في وجوب المسح على الاقدام ، تأليف : السيّد نور الله التستري ، تحقيق : هدى جاسم محمّد ابو طبرة ص 375 ـ 410
________________________________________ الصفحة 375 ________________________________________
[رأي الزمخشري في نصب (وأرجلكم) وجرّها]
وقد اختار الزمخشري(1) في «الكشاف» قراءة النصب، حيث قال: قرأ(2) جماعة (وأرْجُلَكُم) بالنصب، فدلّ على أنّ الاَرجلَ مغسولةٌ.
ولما لم يلتفت إلى احتمال جر (الاَرجل) بالمجاورة ـ لاِبطاله إيّاه في سائر كتبه، وتشنيعه على القائلين به، حتّى لم يره قابلاً للرواية، ولا ارتضاه(3) للنقل والحكاية ـ تمحّل في دفع تعارض قراءة الجرّ بما لا يغني من جوع(4)، فقال:
إنْ قُلتَ: فما تصنع بقراءة الجر، ودخولها في حكم المسح؟
____________
(1) هو محمود بن عمر بن أحمد، أبو القاسم الزمخشري الخوارزمي المعتزلي، يُلَقَّب بـ (جارالله)؛ لاَنّه جاور بمكة زماناً، ولد في رجب سنة 467هـ بزمخشر إحدى قرى خوارزم، كان واسع العلم، نحوياً ولغوياً ومفسّراً، من تصانيفه المطبوعة التي وقفت عليها: أساس البلاغة، وربيع الاَبرار، والفائق في غريب الحديث، والمفصّل في علم العربية، والمستقصى من أمثال العرب، ومقامات الزمخشري، والكشّاف، وإعجاز سورة الكوثر، مات ليلة عرفة سنة 538هـ.
النجوم الزاهرة 5/274، المنتظم 18/4104، إنباه الرواة 3/265 رقم 753، معجم الاَُدباء 5/489 رقم 945، الكامل 11/97، وفيّات الاَعيان 5/168 رقم 711، العبر 2/455، ميزان الاعتدال 4/78 رقم 8367، مرآة الجنان 3/269، البداية والنهاية 12/219، من المجلد السادس، لسان الميزان 6/4 رقم 6.
(2) «قرأ» لم ترد في «ر».
(3) في «م»: «ولا ارتضا»، وفي «ر»: «وبارتضاه».
(4) لم يكن المصنف قدس سره هنا بصدد تصحيح قراءة الجر بالمجاورة، بمعنى أنْ تكون الاَرجل مجرورة لفظاً، منصوبة بفتحة مقدرة على آخرها منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الجوار! وإنّما بصدد إثبات أنّ تحول الزمخشري من تأويل قراءة الجر بما يوافق الغسل من الجر بالمجاورة الباطل في نفسه إلى غيره كان تحوّلاً من سيء إلى أسوأ، علاوة على مخالفته لتفسيرات من سبقه من العامّة أجمع.
وسوف يأتي ما يوضح هذه الحقيقة في متن هذه الرسالة وهوامشها، فلاحظ.
________________________________________ الصفحة 376 ________________________________________
قلت: الاَرجُل ـ من بين الاَعضاء الثلاثة المغسولة(1) ـ تُغسل بصبّ الماء عليها، فكانت مظنّة للاِسراف(2) المذموم المُنْهى عنه، فَعُطفِت على الرابع(3) الممسوح(4) لا لتمسح(5)، ولكن لِيُنَبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها. وقيل: (إلى الكعبين)، فجيء بالغاية إماطـةً(6) لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحةً؛ لاَنَّ المسح لم يضرب له غاية في الشرع(7). انتهى كلامه.
[تفنيد رأي الزمخشري]
وأقول: في المقامين نظر.
____________
(1) في «ر»: «الثلاث المغسولة»، وفي «م»: «المغسولة الثلاثة»، والمراد بها، هي الوجه، واليدان بالنظر إلى مجموعها.
(2) الاِسراف لغة: تجاوز القصد، ومثله: السَرَف، لسان العرب 6/243، مادة «سَرَفَ»، ويقابله التقتير، وهو التقصير، قال تعالى: (وَالّذينَ إذا أَنفَقوا لَمْ يُسْرِفوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً) سورة الفرقان 25: 67.
(3) في حاشية «ر»: «وهو الرأس؛ لاَنّ أعضاء الوضوء أربعة، فلمّا ذكر المغسولات بلفظ (الثلاثة) كان الممسوح (رابعاً) بالضرورة، وإنْ كان ذلك في القرآن في المرتبة الثالثة».
(4) في حاشية «ر»: «المسح للرأس (ثالث) بالنظر إلى غسل الوجه واليدين، و(رابع) بالنظر إلى مجموع الاَعضاء المغسولة».
(5) في حاشية «ر»: «فيه: إنّه إذا عُطِف على الممسوح، يلزم وجوب مسحهما لا غسلهما».
(6) في حاشية «ر»: «مفعول له».
والاِماطة لغة: إبعاد أمر عن آخر، وتنحيته، وإزالته، وإذهابه، من ماطَ ميطاً. ويتعدّى بالهمزة والحرف، فيقال: أماطه إماطة، وفي حديث الاستنجاء: «الحمد لله الذي أماط عنّي الاَذى».
مجمع البحرين 4/274 مادة «مَيّطَ»، والمحيط في اللغة 9/233 مادة «مَيّطَ».
(7) الكشّاف ـ للزمخشري ـ 1/579.
________________________________________ الصفحة 377 ________________________________________
[المقام الاَوّل]
أمّا الاَوّل(1): فلاَنّه إنْ أراد بما اختاره من قراءة النصب كون «الاَرجل» منصوباً(2) بعطفها على «الوجوه»(3).
فيردّ عليه:
إنّ العطف على الوجوه مرجوع(4) من وجوه:
لاَنَّ القرب مرجّح(5).
____________
(1) في حاشية «ر»: «متعلّق بإماطة».
(2) المراد هنا: «لفظ الاَرجل» ـ وهو مذكر ـ فحذف المضاف واكتفى بالمضاف إليه، أمّا قوله ـ بعد ذلك ـ «بعطفها» أي: بعطف الاَرجل، وإلاّ فلا بُدّ من تأنيث «منصوباً»، فلاحظ.
(3) هذا الوجه في تأويل قراءة النصب في الآية الكريمة (وأرجلكم إلى الكعبين هو) مختار أغلب العامّة.
انظر: تفسير السمرقندي 1/481، ومعالم التنزيل 2/217، وإملاء ما منَّ به الرحمن: 208، والتبيان في إعراب القرآن 2/422، والبيان في غريب إعراب القرآن 1/284، والجامع لاَحكام القرآن 6/91.
(4) في «م»: «مرجوح» والصحيح ما في «ر».
(5) وبيان ذلك: إنّه اجتمع في الآية الكريمة ـ في قراءة النصب ـ عاملان على معمول واحد ـ وهو «الاَرجل» ـ وهما:
الاَوّل: (فاغسلوا) وهو العامل البعيد عن المعمول.
الثاني: (وامسحوا) وهو العامل القريب من المعمول، ولا يخفى أنّه إذا اجتمع عاملان على معمول واحد، فإنّه يقتضي الاَمر إعمال الاَقرب؛ لاَنّه هو الاَوْلى، وعليه فقراءة (وأرجلكم) بالنصب توجب المسح أيضاً.
على أنّ إعمال الاَقرب مصرّح به في شرح التسهيل 2/164 ـ 171، وقد أسهب في إبطال إعمال البعيد في الآية بأمثلة شتّى من القرآن الكريم وأشعار العرب، ومثله في تهذيب الاَحكام 1/72 ـ 74 بعد الحديث: 188، وأمّا في قراءة الجر، فالعامل هو (الباء) في قوله تعالى: (برؤوسِكم)، فلاحظ.
________________________________________ الصفحة 378 ________________________________________
ولاَنّه يوجب حصول اللَّبْسِ؛ لعدم القرينة على ذلك(1).
ووقوع الفصـل الكثـيـر بالاَجـنبـي بيـن المعطـوف والمعطـوف عليـه(2) والاِخـلال بالفصاحـة مـن حيـث الانتقـال عـن جملـة إلـى أُخرى قبـل تمـام الغـرض مـن الاَُولـى. وهذا لـو فعلـه عربـيٌّ أو عَجَمـيٌّ(3)، لاستُسْخِـر بـه، فكيـف يقـع فـي كـلام الله الـذي تحـدّى فيـه فصحـاء
____________
(1) المراد باللَّبْسِ ـ بتسكين الباء الموحدة وفتحها ـ اختلاط الاَمر، من: لَبَسَ عليه الاَمر يَلْبِسُه لَبْساً فالْتَبَسَ، إذا خلطه عليه بحيث لا يعرف جهته، لسان العرب 12/225 مادة «لبس».
وتوضيح حصول اللَّبس في المقام هو:
إنَّ «الاَرجل» يصحُّ فيها المسح كما يصحُّ فيها الغسل، ولا غضاضة على أحد فيما لو مسح، أو غسل رجليه خارج الفرض، إذ لا يمنعه عن ذلك شرع ولا لغة ولا عرف.
أمّا أنْ يجعل فرض «الاَرجل» في الوضوء الغسل بحجة عطفها على المغسول «الوجوه والايدي» بلا قرينة تصرف إرادة عطفها على موضع الممسوح «الرأس» ـ والنصب لا ينافي العطف على الموضع الذي يوجب التشريك في الحكم ـ فهذا مما يؤدّي بطبيعته إلى حصول اللَّبس في فرضها في الوضوء.
(1) الفصل الواقع بين «الاَرجل» المعطوفة، وبين «الوجوه والاَيدي» المعطوف عليها هو قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسِكم)، وهذه الجملة غير معترضة ولا سيقت استطراداً، بل هي مُنشئة لحكم جديد لا يمكن إغفاله أو إهماله بأيّ شكل، ولهذا عبّر قدس سره عن هذه الجملة بـ«الفصل الكثير بالاَجنبي»، إذ لا يجوز تخلّل مثل هذا الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ما لم يكن معترضاً.
وقد منع مثل هذا العطف بسبب الفصل المذكور جملة من علماء العامّة كابن حزم في المحلّى 2/56 مسألة 200، والغزنوي في وضح البرهان 2/307، وتاج الدين الحنفي فـي الدرّ اللقيط 3/436، وأبي حيّان الاَندلسي النحوي المفسّر في البحر المحيط 3/437 ونقـل عن أُستاذه الحسن بن عصفور أنّه قال: «ينزه كتاب الله عن هذا التخريج» ثمّ عقب عليه أبو حيان بقوله: «وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل»!
كما حكى الرازي في تفسيره 11/161 الرد على لسان القائلين بالمسح ولم يعقب عليه بشيء، كما نصّ على الرد المذكور الجمل الشافعي في الفتوحات الاِلهية 1/467.
(2) يقال: رجل عَجَمِيٌّ وَأعْجَمِيٌّ، ويراد بالاَوّل من نُسب إلى جنس العجم، ويراد بالثاني من كانت عُجمة في لسانه سواء كان عربيّاً أو عَجَميّاً. لسان العرب 9/67 مادة «عَجَمَ».
________________________________________ الصفحة 379 ________________________________________
العرب؟!(1)
والقول بأنَّ للفصل المذكور فائدةً هي التنبيه على وجوب الترتيب(1)!
____________
(1) ورد التحدّي القرآني في الآية الثالثة والعشرين من سورة البقرة، وفي الثامنة والثلاثين من سورة يونس، وفي الثالثة من سورة هود، وفي الرابعة والثلاثين من سورة الطور، ثـمّ تحدّى عزّ وجلّ الاِنس والجن في الثامنة عشرة من سورة الرعد.
ولمخالفة هذا التخريج الباطل لبلاغة القرآن الكريم وفصاحته التي أخذت بمجامع القلوب، فقد صرّح غير واحد من أعلام العامّة أنفسهم ببطلانه.
قال الغزنوي (ت 555هـ) في وضح البرهان ـ وهو من مفسري العامّة ـ: «وقد قُرىَ (وأرجلكم) بالنصب عطفاً على قوله [تعالى]: (فاغْسِلُوا وجوهَكم). وإنّما يجوز مثل هذا في الكلام الهجين المعقد والمريج المختلط دون العربي المبين. وهل في جميع القرآن مثل: رأيت زيداً، ومررت بعمرو وخالداً»؟! وضح البرهان 1/307.
وقد مرّ قبل هامش واحد من ردّ هذا التخريج الباطل ونزّه كتاب الله تعالى عنه.
هذا، وهناك سبب آخر لرد العطف المذكور، وهو كون قراءة الجر متواترة كما بيناه في الهامش رقم 3 ص 370 ومع القول بتواتر قراءة النصب فيلزم منه تناقض القراءتين كما نبّه عليه في تذكرة الفقهاء 1/168.
والحقّ هو ما بينّه الشيخ الطوسي في «تهذيب الاَحكام» ـ وهو المؤيد بأقوال من عرفت ـ قال قدس سره: «إنّ القراءة بالجر مجمع عليها، والقراءة بالنصب مختلف فيها؛ لاَنّا نقول: إنّ القراءة بالنصب غير جائزة، وإنّما القراءة المُنزّلة هي القراءة بالجرِّ» ثمّ أخرج عن الاِمام الباقر عليه السلام ـ وقد سأله غالب بن الهُذيل عن قراءة (وأرجلكم): على الخفض هي، أم على النصب؟ ـ فقال عليه السلام: «بل هي على الخفض».
وهذا ما يسقط أصل المسألة، تهذيب الاَحكام 1/70 ذيل الحديث 187، و1/70 ـ 71 ح 188.
وقد مر اعتراف العامّة بأنَّ الاِمام الباقر عليه السلام كان يقرأ الآية بخفض «الاَرجل» وأنّه كان عليه السلام يمسح رجليه في الوضوء ولا يَرى غسلهما.
انظر هامش رقم 2 ص 363 من هذه الرسالة.
(2) قال القرطبي المالكي في الجامع لاَحكام القرآن 6/92 ـ 93: «ثم إن المسح في الرأس إنّما دخل بين ما يُغسل لبيان الترتيب» لكنّه صرّح في مكان آخر 6/98 ـ 99 بأنّ ظاهر المذهب المالكي على خلاف الترتيب، وأنّ أكثر الروايات عن مالك وأشهرها أنّ (الواو) لا توجب التعقيب، وقال السرخسي الحنفي في أُصوله 1/201: «المنصوص عليه في آية الوضوء الغسل
=
________________________________________ الصفحة 380 ________________________________________
مدفوع وغير مسموع عند من لم يقل بوجوبه(1).
نعم، المسُلّم(2) إفادة حسن الترتيب، وهو غير مهم في العرض الذي سيقت الآية لاَجله حتّى ينسدّ به الخلل اللازم من الفصل المذكور.
ولا يمكن الجمع بين مقتضاهما(3)؛ لاَنّه مخالف للاِجماع، إلاّ لناصر الحقّ من الزيدية(4).
ولا يمكن أن يقال بالتخيير؛ لاَنّه أيضاً مخالف للاِجماع، وقد
____________
=
والمسح من غير ترتيب ولا قِران، ثم كان الترتيب باعتبار فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وسيأتي مزيد بيان لعدم وجوب الترتيب في كلمات العامّة في الهامش الآتي.
(1) ذهب المالكية إلى عدم وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، فيجوز عندهم الابتداء بالرجلين والانتهاء بالوجه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والاَوزاعي، والليث بن سعد، والمُزني، وداود بن علي، وعليه تكون فائدة التنبيه على وجوب الترتيب بالفصل المذكور سالبة بانتفاء الموضوع عند هؤلاء جميعاً.
انظر المنقول عنهم في عدم وجوب الترتيب في: أحكام القرآن ـ للجصاص ـ 2/360، والمبسوط ـ للسرخسي ـ 1/55، وبدائع الصنائع 1/21، والهداية 1/12، وبداية المجتهد 1/17، ومقدمات ابن رشد 1/54، والمغني 1/156، والمجموع شرح المهذب 1/443، والشرح الكبير 1/149، وفتح العزيز 1/361، والجامع لاَحكام القرآن 6/98، وسبل السلام 1/75، وفتح القدير 1/30، واللباب 1/11، وبغية السالك 1/47، وشرح العناية ـ للبابرتي ـ والكفاية على الهداية كلاهما في هامش فتح القدير 1/31، واستدل في الاَخير على عدم الترتيب، بالسُنّة، والاِجماع، والعقل.
(2) «المُسلَّم» لم ترد في «م».
(3) في حاشية «م»، وبإزاء لفظ مقتضاهما: «إنّ الغسل والمسح كلاهما ـ كما مرّ ـ مذهب إمام الزيدية».
أقول: لعلّ كاتب هذه الحاشية لم يلحظ ما قاله المصنّف بعد ذلك، حيث استنثى صراحة من مخالفة الاِجماع ناصر الحقّ من الزيدية، ولو كان موضعها في آخر الكلام لكان أوفق.
(4) انظر الهامش رقم2 ص 369.
وقد ردّ القول بالجمع ـ بين الغسل والمسح ـ الفقيه السمرقندي الحنفي في تفسيره المسمّى بـ «بحر العلوم» 1/419.
________________________________________ الصفحة 381 ________________________________________
انقرض القائل به وهو الجُبّائي، وابن جرير الطبري كما مرَّ(1). وعند ذلك يتعيّن العطف على محل «رؤوسكم»(2)، مع تأييد قراءة الجر
____________
(1) انظر الهامش رقم 3 ص 367.
وقد وصف ابن العربي المالكي في الناسخ والمنسوخ 2/198 القول بالتخيير بأنّه بِدْعَةٌ.
(2) في «م» لم ترد لفظة «رؤوسكم» لكنها استظهرت في الحاشية بلفظ: «الرؤوس ظاهراً».
واعلم، أنّه قد يعبر عن العطف على المحل بالعطف على الموضع، ولا فرق في التسمية، وخلافه العطف على اللفظ، وقراءة «الاَرجل» بالنصب تقتضي المسح، لاَنها معطوفة على موضع الرؤوس المنصوبة بوقوع الفعل (وامسحوا) عليها، وإنّما جُرَّ لفظ «الرؤوس» بالباء، ولا ينكر أنْ تُعْطَف «الاَرجل» على موضع الرؤوس ـ لا لفظها ـ فتنصب، وقد وقع نظير ذلك في القرآن الكريم، ولغة العرب، وأشعارهم.
من ذلك، قوله تعالى: (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَاديَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) سورة الاَعراف 7: 186 بالجزم على موضع (فلا هادي)؛ لاَنّ موضعه الجزم.
ومنه قولهم: لست بقائمٍ ولا قاعداً، بنصب «قاعداً» على موضع «قائمٍ» لا لفظه.
ومنه أيضاً قول تأبّط شراً:
هَلْ أنْتَ بَاعِثُ دِينارٍ لحاجتِنا * أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخا عَونِ بن مِهْراقِ
بنصب (عبَد ربٍ) على موضع (دينار)؛ لاَنَّ من حق الكلام أن يقول: هل أنت باعث ديناراً.
انظر: الناصريات: 221 مسألة 31، وتهذيب الاَحكام 1/71 ـ 72، وتفسير التبيان 3/452 و455، ومجمع البيان 3/208.
وقد اعترف بهذا السرخسي الحنفي في مبسوطه 1/8، قال في شرح قول ابن عباس: «نزل القرآن بغسلين ومسحين» ما نصّه: «يريد به القراءة بالكسر في قوله تعالى (وأرجلِكم إلى الكعبين) فإنّه معطوف على الرأس، وكذلك القراءة في النصب، عطف على الرأس من حيث المحل، فإنَّ الرأس محله من الاِعراب النصب، وإنّما صار مخفوضاً بدخول حرف الجر، وهو كقول الشاعر:
مُعَاويَ إنّنا بشرٌ فأَسْجِحْ * فَلَسْنا بالجِبالِ ولاَ الحَديدا
انتهى.
وأمّا من احتج بأنّ عطف الاَرجل بالنصب على لفظ الوجوه والاَيدي أْولى من العطف على موضع الرؤوس؛ لاَنّ العطف على اللفظ أقوى من العطف على الموضع، فاحتجاجه باطل ولا يمكن أن يصار إليه، وإنّ سلّمنا بقوله بأنّ العطف على اللفظ أقوى منه على الموضع؛ لاَنّ
=
________________________________________ الصفحة 382 ________________________________________
له(1)
____________
=
هذا مشروط بعدم وجود الفصل بالاَجنبي، وعدم مزاحمة العامل بآخر أقرب منه ونحو ذلك من الوجوه التي بيّنها المصنّف في رد العطف على الوجوه كما تقدّم في ص 377 وسوف يأتي في ص 426 أنّ قراءة نصب الاَرجل عطفاً على محل (برؤوسكم)، هي قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص، فلاحظ.
(1) في حاشية «ر»: «فَإنّه مجرور لفظاً، منصوب محلاً على أنّه مفعول لـ (امسحوا). كقولهم: مررت بزيدٍ وعَمْراً، وقرىَ: (وتنبت بالدهنِ وصبغاً)، سورة المؤمنون 23: 20، وقال الشاعر:
مُعَاويَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ * فَلَسْنَا بالجبالِ وَلاَ الحَدِيدا!
وقال بعض الفضلاء المتبحرين في العربية: انه يحتمل أن يكون [تكون] قراءةُ المتبحِّرين النصبَ، بتقدير (الباء)، على أنْ يكون نصباً بنزع الخافض، كما في المفعول فيه والمفعول له المنصوبين، كقولك: صمتُ يومَ الجمعة، وضربت تأديباً، أي: في يوم الجمعة، وللتأديب. فيكون من عطف جار ومجرور على جار ومجرور، أي: امسحوا برؤوسكم وبأرجلكم.
وهذا الاحتمال جارٍ في جميع الاَمثلة المذكورة للعطف على المحل، لجواز أنْ يكون قولك: مررت بزيدٍ وعَمْراً، بتقدير وبعمرٍ.
وقوله تعالى: (تنبت بالدهن وصبغاً للآكلين)، بتقدير: وبصبغٍ، أي: تنبت الشجرة، ومن شجرة الزيتون ملابسة بالدهن وهو الزيت، وبما يصنع به للآكلين وهو الزيتون.
والشعر المذكور بتقدير: ولا بالحديد، أي: معاويَ أسْجِحْ ـ من الاِسجاح بمعنى: حسن العفو ـ فلسنا بالجبالِ ولا بالحديدِ.
ولا يخفى على الفطن أنّ تقدير حرف الجر أنسب ـ من حيث المعنى ـ من العطف على المحل، إلاّ فيما كان حرف الجر زائداً كما في الشعر المذكور. انتهى، منه سلّمه الله وأبقاه».
أقول: في صورة زيادة حرف الجر يكون عطف «الحديد» على موضع «الجبال»؛ لاَنّه نصب على خبر ليس، والباء لا محل لها، فكأنّه قال: فلسنا الجبالَ ولا الحديدا.
والبيت المذكور من البحر الوافر، وقد نسبه البعض إلى عبدالله بن الزبير، وقيل: لعقبة أو عقيبة الاَسَديّ وهو الاَشهر، وهو من شواهد سيبويه، وقد خطّأه بعضهم، بأنّ هذا البيت وما بعده من أبيات محفوظة الرَّوِي، وهي مجرورة، وما بعده:
أَكَلتُمْ أَرْضَنا فَجَرَدْتُموها * فَهَلْ مِنْ قائِمٍ أوْ مِن حَصيدِ
وانتصر آخرون لسيبويه، فقالوا: إنّ الحجّة له في هذا؛ لاَنّه سمع مِن العرب مَن ينشد هذا البيت بالنصب، فكان إنشاده حجّة.
=
________________________________________ الصفحة 383 ________________________________________
وإن أراد(1) نصبها بفعل مُقدَّر كما قيل(2)،اي: اغْسِلُوا أرجلَكم، كقولهم:
عَلَفْتُها تِبْناً وَماءً بارِداً(3).
____________
=
على أنّ بعضهم أورد ما بعده من أبيات بالنصب أيضاً.
انظر: الكتاب ـ سيبويه ـ 1/67 و2/292 و 344 ، والمقتضب ـ للمبّرد ـ 2/338، و3/281 و4/122 و371، وأمالي القالي 1/36، والجمل في النحو ـ للزجاجي ـ: 55 رقم 69، والشعر والشعراء ـ لابن قتيبة ـ 1/44، ومعاني القرآن ـ للفراء ـ 2/348؛ في بيان معنى قوله تعالى: (ولا مستأنسين لحديث)، سورة الاَحزاب 33: 53، والاِنصاف في مسائل الخلاف ـ لابن الاَنباري ـ: 332 رقم 207، والحجّة في القراءات السبع ـ لابن خالويه ـ: 132، والعقد الفريد ـ لابن عبد ربّه ـ 1/52 و5/319 ـ 320 و 391 من طبعة دار الكتاب العربي سنة 1406هـ، و1/50 و6/168 و 237 من طبعة دار الكتب العلمية سنة 1404هـ، لسان العرب 1/120، مادة «غَمَرَ»، وخزانة الاَدب 2/260، ومغني اللبيب 2/621 رقم 861، وشرح شواهد المغني ـ للسيوطي ـ 2/870 رقم 719، والاَشباه والنظائر ـ لـه أيضاً ـ 4/313 رقم 410، وشرح الرضي على الكافية 1/380 رقم 120 و2/191 بعد الشاهد 269، وجامع الشواهد 3/33 ـ 34.
(1) أي: الزمخشري، والجملة معطوفة على قوله المتقدم: «إن أراد بما اختاره...»، ص 377.
(2) قاله الفقيه السمرقندي الحنفي في تفسيره 1/419 ونسبه إلى مَن قرأ بالنصب.
(3) البيت من الشواهد التي لا يعرف قائلها، وتجده في أمالي المرتضى 2/259، وأمالي ابن الشجري 2/321، والاِنصاف: 353، وشرح شواهد المغني: 314، وخزانة الاَدب 1/499، وشرح ابن عقيل 1/595 الشاهد رقم 166، ومشكل القرآن: 165، ومعاني القرآن ـ للزجّاج ـ 2/54، وتفسير الوسيط 2/1160، وأحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 2/78، والناسخ والمنسوخ ـ له أيضاً ـ 2/199.
ومحل الشاهد بالبيت ـ عند من احتج به من العامّة ـ قوله: (ماءً)، إذ لا يمكن عطفه على قوله (تبناً)، لامتناع أن يكون العامل في المعطوف عليه هو نفسه في المعطوف؛ لاَنَّ الماء لا يُعلف، فيكون الماء منصوباً بعامل آخر معطوفٍ على (علفتها) ليناسب المعنى، والتقدير: (وسقيتها ماءً) ونحو ذلك لاَجل استقامة المعنى.
وهو كما ترى! خارج عن أصل البحث في المسألة؛ لاَنَّ الماء لا يتوارد عليه العلف مع السقي قطعاً، فلا بُدّ من تقدير ما يناسب المقام لتصحيح المعنى، والاَمر مختلف في الاَرجل تماماً؛ إذ يصحّ توارد الغسل والمسح عليها بلا خلاف، ومع ورود أيٍّ منهما عليها سيكون
=
________________________________________ الصفحة 384 ________________________________________
أي: سقيتها ماءً.
فيردّ عليه:
أوّلاً: إنَّه قول بمجرد التشهي؛ لاَنّ الاَصل عدم التقدير، وعدم الحذف(1)؛ لتمامية المعنى بدونهما.
وثانياً: إنّ ذلك إنّما يجوز مع قيام القرينة وعدم اللَّبْس كما في ما مَثّلْتُم، فَإنّ الماء لا يعلف، فحذفوا الفعل لعدم اللَّبْس(2).
وأمّا هنا فلا؛ لاَنَّ «الاَرجلَ» تُمسح كما تُغسل، وإرادة المسح هو الظاهر، ولا ضرورة إلى تقدير «اغْسِلُوا» إلاّ ترويج المدعى.
وثالثاً: إنّه لو جاز تقدير «اغْسِلوا» ـ بقرينة (فاغْسِلوا) ـ(3)لجاز تقدير «امْسَحوا» بقرينة (وَامْسَحُوا)، بل هو أظهر لقرب القرينة(4).
____________
=
مستغنٍ عن تقدير أي شيء زائد لتصحيح المعنى؛ لاَنّه صحيح في نفسه.
(1) إذا شُكَّ في لفظ بأنّه هل أُضمر فيه شيء يمكن تقدير ما يناسبه؟! فالحكم هو الاَخذ بظاهر اللفظ تمسّكاً بالاَصل وهو عدم التقدير، ويسمّى ذلك في كتب الاَُصول ـ في مباحث الاَلفاظ ـ بأصالة عدم التقدير، أو (عدم الحذف) أحياناً.
(2) ونظير هذا احتجاجهم بقول الشاعر:
يالَيْتَ بَعْلَكِ قَدْ غَدا * مُتَقَلّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
أو بقول الآخر:
وأطْفَلَتْ بالْجَهْلَتَينِ ضِباؤُها وَنَعامُها
أو بقولهم:
وشِرابُ ألْبانٍ وَتمْرٍ وَأُقَط
ومن البداهة أنّ الرمح يحمل لا يُقلَّد، والاَقط يُؤكَل لا يُشْرَب، والنعام تفرخ لا تطفل، فحذفوا التقدير في كل هذا لعدم اللَّبْس، وليس الاَمر في (الاَرجل) كذلك، إذْ يمكن أنْ تمسح، ويمكن أنْ تغسل ولا مانع في ذلك، وعليه فتقدير (اغْسِلُوا) ترجيح بلا مرجّح.
(3) الكلام المحصور بين شارحتين لم يرد في «م».
(4) تقدّم في هامش 5 ص 377 إنّه إذا تنازع عاملان على معمول واحد، فإعمال الاَقرب هو الاَوْلى.
________________________________________ الصفحة 385 ________________________________________
[المقام الثاني]
وأمّا الثاني(1):
فلاَنّ ما تمحلّه لدفع التعارض أَفسد من ارتكاب جر الجوار ـ المهروب عنه ـ من وجوه:
أمَّا أَوّلاً: فلاَنّ النكتة التي ذُكرت لعطف الاَرجل على الممسوح مع إرادة غسلها إنَّما تصحّ(2) نكتة بعد أن يستفاد من خارج الآية، أنّ الاَرجل لا بُدّ وأنْ تكون(3) مغسولةً، لا مِن هذه الآية(4).
وأمّا جعلها دليلاً عليه بواسطة هذه النكتة فممّا لا وجه له في مقام الاستدلال؛ لاَنّهم إنّما يستفيدون غسل الاَرجل من قراءة الآية بالنصب، ويجعلونها دليلاً عليه.
والحاصل: إنّ قراءة النصب لكونها معارضةً بقراءة(5) الجر، في معرض السقوط! فثبوت مدلولها موقوف على نفي مدلول الثانية، بوجهٍ
____________
(1) أي: ثاني المقامين في تفنيد رأي الزمخشري في المسألة، وقد مرّ الاَول ص 377.
(2) في «ر»: «يصحّ».
(3) في «م»: «يكون».
(4) وبيان ذلك:
إنّ عطف الاَرجل على الممسوح ظاهر في مسحها، فكيف استفاد الزمخشري نكتة الاقتصاد بصبّ الماء على الاَرجل لا مسحها من العطف المذكور نفسه؟!
وهل هذا إلاّ هو التعسّف في تأويل قراءة الجر، وتطبيق للآية على المذهب؟!
ولهذا نجد أبا حيّان النحوي الاَندلسي في البحر المحيط 3/437 قد ردّ على الزمخشري بعنف بعد أنْ نقل كلامَهُ المتقدّم، بقوله: «وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الاَحكام».
(5) في «م»: «لقراءة».
________________________________________ الصفحة 386 ________________________________________
لا يتوقّف صحّة(1) شيء من مقدّمات نفي الثانية على ثبوت مدلول الاَُولى، والاّ لدار؛ لاَنّ ثبوت مدلول قراءة النصب يتوقّف على نفي مدلول قراءة الجر(2).
فلو توقّف نفي مدلول قراءة الجرّ على ثبوت مدلول قراءة النصب لَزِم الدور لزوماً، لا سترة به(3).
____________
(1) في «ر»: «صحّته».
(2) بمعنى: أنّ ثبوت مدلول قراءة النصب يكون متوقّفاً على ثبوت مدلول قراءة النصب أيضاً، وهذا هو الدور الباطل، لاستحالة توقّف الشيء على نفسه.
(3) هذا بالبناء على عطف «الاَرجل» في قراءة النصب على «الوجوه والاَيدي» بالنحو الذي قرّره بعض العامّة، وإلاّ فقراءة النصب موافقة لقراءة الجر في صورة عطف الاَرجل على موضع الرؤوس كما تقدّم.
ولا يخفى بأنّ القول بتعارض القراءتين لا يتحقّق إلاّ مع تأويل قراءة النصب بالعطف على المغسول، وعلى فرض ثبوتها فلا بُدّ من فرض التكافؤ مع العطف على الممسوح لكي تتوفّر شرائط التعارض، أو بتوجيه نصب الاَرجل عطفاً على لفظ الممسوح لا محله مع فرض التكافؤ المذكور أيضاً.
وهنا لا يصحّ التعارض على كلا الوجهين، أمّا الاَوّل منهما فقد تقدّم ما فيه، وكذا الثاني لضعفه نحواً وبلاغةً. وعليه لا بُدّ من القول بتوافق القرائتين على نحو ما تقول به الشيعة الاِمامية.
ومن ثمّ، فإنّه لو فرض حصول التعارض بين القراءتين من كلّ وجه، وفقدت الصفات المرجحّة لاَيٍّ منهما على الاَُخرى، فإنّه يستلزم أحد المحاذير التالية، وكلّها باطلة، وهي:
1 ـ إمّا القول بتساقط القراءتين وترك العمل بأيٍّ منهما، وهو باطل بالضرورة.
2 ـ وإمّا القول بالجمع بين الغسل والمسح، وهو باطل لمخالفته الاِجماع.
3 ـ وإمّا القول بالتخيير بينهما، وهو كسابقه في البطلان.
إذن لا تعارض بين القراءتين حقيقة، إذ لا يصدق عنوان التعارض إلاّ على دليلين صحيحين متكافئين قضى مدلول أحدهما بخلاف ما قضى به مدلول الآخر، أمّا نصب التعارض بين الصحيح الثابت الموافق لظاهر القرآن الكريم، وبين الضعيف الذي يمسّ بلاغة القرآن الكريم، فهذا ليس من التعارض المصطلح عليه في شيء.
وعليه، فقراءة النصب بالعطف على المغسول ـ أو على لفظ الممسوح لا محله ـ ساقطة
=
________________________________________ الصفحة 387 ________________________________________
وأمَّا ثانياً: فلاَنّ حقيقة العطف تقتضي(1) أن يكون المعطوف في حكم المعطوف عليه في كلّ اللغات كما لا يشكّ فيه من له أدنى تمييز.
وهل يجوّز عاقل ـ فضلاً عن فاضل ـ أنْ يقول(2): أكرمتُ زيداً وعمرواً، ومررتُ بخالدٍ وبكرٍ، بالجر عطفاً على خالد، ويكون المراد: إنّي أكرمتُ بكراً؟!!
وأمّا ثالثاً: فلاَن قوله: الاَرجل من بين الاَعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها، فكانت مظنّة للاِسراف المذموم... فعطفت على الرابع(3) الممسوح لا لتمسح... إلى آخره(4).
مردود، بأنَّ كلّ الاَعضاء المغسولة تغسل بصب الماء عليها؛ لاَنَّ حقيقة الغسل صب الماء على المغسول مع الجريان أو غمسه في الماء(5).
____________
=
عن الاعتبار جزماً، لمخالفتها لما هو الصحيح الثابت بل المتواتر كما بيّناه.
وصدر عبارة المصنّف قدس سره ناظر إلى هذا المعنى، إلاّ أنّه عبّر عن المخالفة بالمعارضة لكي يبرهن على أنّ صحّة مدلول قراءة النصب يلزم منه الدور الباطل بناءً على صدق عنوان التعارض بين المدلولين، وإلاّ فهو يرى قدس سره كسائر علماء الشيعة، تطابق معنى القراءتين وأنّهما غير متنافيتين، وسوف يصرّح ـ في ص 410 من هذه الرسالة ـ بذلك، فلاحظ.
(1) في «م»: «يقتضي».
(2) في «ر»: «تقول».
(3) في «ر»: «فعطف على الثالث» وما في «م» موافق للاصل، وقد مر في ص 367 هامش رقم 4 أن المسح للرأس (ثالث) بالنظر الى غسل الوجه واليدين، و(رابع) بالنظر الى مجموع الاعضاء المغسولة.
(4) في «م» «انتهى» بدلاً من: «الى آخره».
(5) حقيقة الغسل عند مالك: امرار اليد بالماء، وعند الشافعي: امرار الماء على المحل وان لم يدلك، وعند أكثر فقهاء العامة: امرار الماء على المحل حتى يسيل، وزاد بعضهم: مع الدلك.
انظر: تفسير ابن جزي 1/ 49 ـ 509، ومحاسن التأويل 6/102، وسيأتي توضيح الفرق بين الغسل والمسح في هذا الوجه بأتم بيان، وانظر هامش 6 ص 392 ـ 394 ففيه اعتراف العامة بالفرق بينهما.
________________________________________ الصفحة 388 ________________________________________
والاَرجل كثيراً ما تغسل بالاَخير، كالخوض في النهر والحوض، وباقي الاَعضاء قد تغسل بالصبّ(1) من آنية، وقد تغسل(2) بالصبّ(3) في اليد، أو الاغتراف بها ثمّ الصبّ على العضو.
وبالجملة، إنَّ ذلك لا انضباط له؛ لاختلافه باختلاف البلاد وأهاليها.
ففي البلاد الكثيرة الماء المتخذ أهلها في بيوتهم الحياض والاَنهار، كالشام، والعراقين(4)، وأذربيجان، وفارس، وكرمان، وخراسان وما شاكلها، ففي الاَكثر يكون غالب(5) فعل أهلها غسل الاَرجل بالغمس في ما(6) بين أيديهم من الحياض والاَنهار.
وفي البلاد القليلة الماء ـ وهي الاَقل ـ يكون الغالب على أهلها غسل الاَرجل بالصبّ من آنية.
وأمّا ما ظنَّ(7) من «أنَّ غسل الاَرجل(8) مظنَّة الاسراف»(9).
فإنْ أَراد به: أنّه مظنة التكرار والمبالغة باستعمال ما يبلغ مقدار مُدٍّ من الماء(10)، فهو ليس بإسراف شرعاً، بل هو مستحب، كما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) في «ر»: «في الصب».
(2) في «م»: «يغسل».
(3) «بالصبّ»: لم ترد في «م».
(4) المراد بالعراقين هما: البصرة والكوفة.
(5) في «م»: «الغالب».
(6) في «م»: «ماء» بدلاً عن «ما».
(7) في «م»: «ما يظن».
(8) في «م»: «الرِجل» ومافي «ر» موافق للمصدر.
(9) هذا من كلام الزمخشري في الكشاف 1: 597 وقد تقدم في ص376.
(10) في هذا الموضع من «ر» حاشيتان وهما:
الاُولى: «قال بعض الحنفية في كتابه المسمى بـ «كنز العباد في شرح الاَوراد» ما هذه عبارته:
=
________________________________________ الصفحة 389 ________________________________________
........................................................
____________
=
في الطحاوي: ثم قدر الماء على السُنَّة، في باب الوضوء: مُدُّ من الماء، والصاع في الجنابة، لمِا رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إنّه كان يتوضأ بالمُدِّ، ويغتسل بالصاع.
تكلموا فيه، فقال بعضهم: معنى قوله: (يتوضأ بالمُدِّ)، أي: بالمُدِّ من الصاع، ثم يغتسل بثلاثة أمداد، فيكون جملةً أربعة أمداد.
وقال بعضهم: (يتوضأ بالمُدِّ) من غير الصاع، ثم يغتسل بالصاع، فيكون جملة خمسة أمداد.
وهذا كله ليس بتقدير لازم حتى لو توضأ أو اغتسل بأكثر من ذلك ولم يُسْرِف فلا بأس، وإنّما الكراهية في الاسراف. وكذلك لو توضأ أو اغتسل. وينقص عند الحاجة وعدمها، انتهى. منه سلمه الله».
والرواية التي اشار لها الطحاوي ـ كما في هذه الحاشية ـ تجدها في صحيح مسلم 1/ 258 ح 51، وسنن الترمذي 1/ 85 ح56، وسنن البيهقي 4: 172، وسنن الدارقطني 2 /154 ح 73.
الثانية: «وفي حاشية ذلك الكتاب[أي: كتاب «كنز العباد في شرح الاَوراد» المتقدم ذكرِه في الحاشية الاَولى]:
المُدُّ: رطلٌ، وثلاثة عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق.
والمُدُّ: مكيال معلوم، وهو ربع الصاع.
وفيها أيضاً: الصاع: بيمانه جهار منّي، [أي: الصاع: مكيال يزن أربعة أمنان].
وفي أصل الكتاب: بدانكه يك دويست وبنجاه وهفت درهم وسبع درهم است [أي: اعلم، إن المُدَّ الواحد مئتان وسبعة وخمسون درهماً وسبع الدرهم]». انتهت الحاشية الثانية.
أقول: إنَّ بعض ما مذكور من تحديد لوزن الصاع غير صحيح، وبعضه غير موافق لرأي علمائنا رضي الله تعالى عنهم، وإليك التفصيل.
أما الصاع، فهو ستمائة واربعة عشر مثقالاً صيرفياً وربع مثقال.
وبحسب حقّة النجف الاَشرف يكون نصف حقّة، ونصف وقية، وواحداً وثلاثين مثقالا إلاّ مقدار حمصتين.
وبحسب حقه (الاسلامبول) يكون حقتين، وثلاثة أرباع الوقية، ومثقالين الا ربع مثقال.
وبحسب (المن الشاهي) ـ وهو ألف ومائتان وثمانون مثقالاً ـ يكون نصف منٍّ الا خمسة وعشرين مثقالاً، وثلاثة أرباع المثقال.
وبحسب (الكيلو غرام) يكون ثلاثة (كيلو غرامات) تقريباً
=
________________________________________ الصفحة 390 ________________________________________
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاتفاق(1)، وصرحوا بأنَّ المُدَّ زائدٌ عن أداء فرائض الوضوء ومستحباته(2).
____________
=
وبحسب المُدّ: اربعة امداد.
انظر: منهاج الصالحين للسيد الخوئي قدس سره المسألة 1178 من العبادات، ومنهاج الصالحين للسيد السيستاني المسألة 1178 من العبادات.
اما بالنسبة الى المُدّ: فهو ربع الصاع، والمد: رطلان وربع بالعراقي، وقدره مائتان واثنان وتسعون درهماً ونصف الدرهم.
والدرهم: ستة دوانق.
والدانق: ثماني حبات من اوسط حبات الشعير.
وعليه يكون قدر الصاع تسعة أرطال بالعراقي، وستة بالمدني عند علمائنا كما صرح بذلك العلامة في تذكرة الفقهاء 5/388 مسألة 294.
وقد أخرج الكليني في الكافي 4/172 ح 9 باب 75، والصدوق في الفقيه 2/115 ح 943، والشيخ في التهذيب 4/83 ح243، والاستبصار 2/49 ح163، والشيخ الحر في وسائل الشيعة 9/340 ح 2179، باب (7) من أبواب الزكاة. عن جعفر بن ابراهيم ابن محمد الهمداني، انه كتب الى الامام العسكري عليه السلام باختلافهم في الصاع؟
فكتب عليه السلام: «الصاع ستة [ في بعض النسخ: بستة] ارطال بالمدني، وتسعة ارطال بالعراقي».
وقد ذهب ابو حنيفة الى ان الصاع ثمانية ارطال ثمانية ارطال، وان المد رطلان، كما في شرح معاني الآثار ـ للطحاوي ـ 2/50.
أما الصاع عند الشافعي، فهو خمسة ارطال وثلث بالبغدادي، وهو قول مالك، واحمد بن حنبل، واسحاق، وابي يوسف، كما في حلية العلماء 3/129، وبدائع الصنائع 2/73، والمغني 2/657، والمجموع 6/143، وقد اشار الى ذلك العلامة في تذكرة الفقهاء 5/388 ـ 389 مسألة 294، وفي مقدار الصاع والمد الشرعيين بحث مفصل في كتاب الاوزان والمقادير ـ للبياضي ـ: 67 و118، فراجع.
(1) في حاشية «ر»: «روى مسلم في صحيحه، عن سفينة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمُدّ، ولهذا قال الرافعي الشافعي في «المحرر»: ويجب أن لا ينقص ماء الوضوء عن مُدِّ، وماء الغسل عن صاع، انتهى. ومثله في بعض كتب المالكية والحنفية، منه سلمه الله».
(2) روايات استحباب الوضوء بمُدّ، والغسل بصاع تجدها في الكافي 3/82 ح 2، والفقيه 1/23 ح 69 و70 و72، ومعاني الاَخبار: 249 ح 1، والتهذيب 1/135 ح 374 و377
=
________________________________________ الصفحة 391 ________________________________________
على أنَّ القسطلاني(1) ـ شارح البخاري ـ روى في باب إسباغ الوضوء بسندٍ صحيحٍ ـ عنده(2) ـ عن ابن المنذر(3)، عن ابن عمر، أنَّه كان يغسل رجليه في الوضوء سبعَ مرّاتٍ(4).
____________
=
و378 و379، والاستبصار 1/120 ـ 121 ح 408 و409، ووسائل الشيعة 1/481 ـ 483 ح 1 ـ 6 باب 50 من أبواب الوضوء، ويكفي أنَّ الباب باسم: باب استحباب الوضوء بمُدّ من ماء، والغسل بصاع، وعدم جواز استقلال ذلك، ومثل هذا الباب باب 43 من مستدرك الوسائل 1/347.
(1) هو أبو العبّاس شهاب الدين أحمد بن محمّـد بن أبي بكر القسطلاني الشافعي المصري، ولد سنة 851 هـ بمصر، ومات بها سنة 923 هـ ودفن قرب الجامع الاَزهر، من مؤلفاته: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، والمواهب اللدنية بالمنح المحمّـدية، وغيرهما.
الضوء اللامع 2/103 رقم 313، البدر الطالع 1/102 رقم 60، شذرات الذهب 8/121، المختار المصون من أعلام القرون 2/692، هدية العارفين 5/139، تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر ـ للعيدروسي ـ: 106.
(2) حصل تقديم وتأخير في العبارة، لتعليق السند بابن المنذر، والحكم عليه بالصحّة من قبل القسطلاني كما سنبيّنه في الهامش رقم 4 الآتي.
(3) هو محمّـد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، أبو بكر الفقيه الحافظ الشافعي، من مصنّفاته: المبسوط في الفقه، والاَوسط في السنن، وغيرهما، مات بمكة سنة 218 هـ، وقيل غير ذلك.
طبقات الفقهاء ـ للشيرازي ـ: 108، تهذيب الاَسماء واللغات 2/196 ـ 197، وفيّات الاَعيان 4/207، تذكرة الحفّاظ 3/582 ـ 583، سير أعلام النبلاء 14/490 رقم 275، ميزان الاعتدال 3/450 ـ 451، الوافي بالوفيّات 1/336.
(4) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 1/231 من كتاب الوضوء، باب إسباغ الوضوء، وفيه: «وكان ابن عمر يغسل رجليه في الوضوء سبع مرّات كما رواه ابن المنذر بسند صحيح، وإنّما بالغ فيهما دون غيرهما لكونهما محلاًّ للاَوساخ غالباً؛ لاعتيادهم المشي حفاة».
ومنه يظهر التقديم والتأخير المشار إليه قبل هامش واحد؛ لاَنّ القسطلاني لم يروِ عن ابن المنذر، ولا ابن المنذر عن ابن عمر، ولكن ذكر القسطلاني رواية ابن المنذر بسنده عن ابن عمر مع تصريح القسطلاني بصحّة السند، وستأتي عبارة القسطلاني ـ كما هي ـ في الهامش رقم 1 ص 405 نقلاً عن حاشية «ر»، فلاحظ.
________________________________________ الصفحة 392 ________________________________________
وإنْ أراد: أنّه مظنّة لاستعمال ما يزيد(1) عن مقدار المُدّ(2) ونحوه بكثير.
فهو ممنوع، والعرف والعادة شاهِدَة(3) على أنَّ الزيادة على ذلك لا تصدر إلاّ عن صبيٍّ جاهل، أو جلف جاف(4)، يلعب ويلهو بالماء.
ثمّ كيف يكون المسح في معنى الغسل، وفائدة اللفظين ـ في الشرع ـ مختلفة، ولفظ الكتاب والسُنّة قد فرّق بين الاَعضاء المغسولة والممسوحة؟!
ولهذا جعلوا بعض أعضاء الطهارة ممسوحاً(5)، وبعضها مغسولاً، وفَصَلوا بين الحكمين، وفرّقوا بين قول القائل: فُلان يرى أنَّ الفرض في الرجلين المسح، وبين قوله: فُلان يرى الغسل(6).
____________
(1) في «م»: «ما زيد».
(2) تقدّم تفصيل مقدار المدّ في الهامش رقم 10 ص 388 ـ 390.
(3) في «ر»: «المُشاهَدَة».
(4) في حاشية «ر»: «وقولهم: (أعرابيٌّ جِلْفٌ)، أي: جافٌّ، وأصله من أجلاف الشاة، وهي المسلوخة بلا رأس، ولا قوائم، ولا بطن. وقال أبو عبيدة: الجلفُ: الدَنِّ الفارغ، قال: والمسلوخ إذا أُخرج بطنه جلف أيضاً».
هذا، وقال في لسان العرب: «والجلْفُ: الاَعرابيّ الجافي... شُبِّـهَ بِجلْفِ الشاة، أي: أنَّ جوفه هواء لا عقل فيه».
ثم نقل بعد هذا عن الجوهري ما مرّ في حاشية «ر» وقال: «الجِلْفُ: الاَحمق، أصله من الشاة المسلوخة، والدَنِّ، شُبِّـه الاَحمقُ بهما لضعف عقله». انتهى.
انظر: لسان العرب 2/332، مادة «جَلَفَ»، وصحاح الجوهري 4/1339 مادة «جَلَفَ».
(5) في «م»: «بعض الاَعضاء ممسوحاً».
(6) سبق إلى هذا الاستدلال السيّـد المرتضى في الانتصار: 22، والشيخ في التهذيب 1/68 ـ 69، والتبيان 3/454، وابن إدريس الحلّي في منتخبه 2/214، والطبرسي في مجمعه 3/208.
=
________________________________________ الصفحة 393 ________________________________________
........................................................
____________
=
والظاهر أنَّ حجّة كون المسح في الاَرجل هو الغسل الخفيف الشبيه بالمسح، جاءت لتبرير مخالفة الظاهر من غير ضرورة كما يبدو من كتاب الحجة للقرّاء السبعة 3/215، وتفسير الوسيط 2/159، والمحرّر الوجيز 5/47 ـ 48، والبيان ـ لاَبي البركات ـ 1/284، وزاد المسير 2/302، والمغني 1/154، وجمال القرّاء 2/41، والجامع لاَحكام القرآن 6/92، وتفسير ابن كثير 2/27، وفتح الباري 1/215، وتفسير أبي السعود 3/11، وتفسير النووي 1/193، وتيسير التفسير 2/33.
هذا مع أن الفرق بين المسح والغسل مصرّح به في كتب العامّة، وأنّه لا يجزىَ أحدهما عن الآخر، كما هو صريح قول الجصّاص في أحكام القرآن 2/333 في أثناء حديثه عن غسل الاَيدي والوجوه، قال: «وأمّا من أجاز مسح هذه الاَعضاء المأمور بغسلها فإنّ قوله مخالف لظاهر الآية؛ لاَنّ الله تعالى شرط في بعض الاَعضاء الغسل وفي بعضها المسح، فما أمر بغسله لا يجزىَ فيه المسح؛ لاَنَّ الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضع وإجراءه عليه.. والمسح لا يقتضي ذلك، وإنَّما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه، ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية، وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل».
وقال في المحرّر الوجيز: «الغسل في اللغة: إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيءٍ عليه كاليد أو ما قام مقامها» وقال أيضاً: «المسح أن يمرّ على الشيء بشيء مبلول بالماء»، راجع المحرّر الوجيز 5/43.
وهكذا نجد التفريق بينهما في تفسير ابن جزي 1/49 ـ 50، وكتاب التسهيل لعلوم التنزيل 1/170 ـ 171، ومحاسن التأويل 6/102.
أمّا علماء الشيعة فقد اتفقوا على ضرورة التفريق بين الغسل والمسح لتباين حقيقة كلّ منهما عن الآخر؛ قال السيد المرتضى في الانتصار: «وحقيقة الغسل يوجب جريان الماء على العضو، وحقيقة المسح يقتضي امرار الماء من غير جريانه، فالتنافي بين الحقيقتين ظاهر؛ لانه من المحال ان يكون الماء جارياً وسائلاً، وغير جار ولا سائل في حالة واحدة» راجع الانتصار: 22.
وفي جواهر الكلام: «لا ينبغي الاشكال في تباين حقيقة الغسل، والمسح، وانهما لا يجتمعان في فرد واحد ابداً كما هو ظاهر الكتاب، والسنة، والاجماع، والعرف، واللغة». راجع جواهر الكلام 2/200.
=
________________________________________ الصفحة 394 ________________________________________
وأيضاً، إنَّ(1) شبهة من جعل المسح غسلاً، إنَّما نشأت من حيثيّة اشتمال الغسل على المسح(2).
ولو جُعِلَ ذلك مصحّحاً لاستعمال المسح في الغسل، لصحّ استعمال الغسل في المسح أيضاً؛ لاَنَّ الاَوَّل من باب اطلاق اسم الجزء على الكلّ، والثاني من باب اطلاق اسم الكلّ على الجزء، وكلاهما علاقتان معتبرتان عند أرباب العربية(3).
وحينئذٍ يسقط استدلالهم بسائر(4) الاَحاديث المتضمّنة لقولهم: أنَّه
____________
=
ولو صح ان يكون المراد بالمسح هو شبيه، اي: الغسل الخفيف ـ كما زعمه بعض العامة ـ لما كان في تخصيص هذا المعنى بفرض الارجل دون الرؤوس اي مبرر معقول؛ لان الرؤوس عندهم ممسوحة على كل حال، بخلاف الارجل المعطوفة على الرؤوس، وهذا من العجب!!
قال الامام الصادق عليه السلام: «ان الرجل ليعبد الله اربعين سنة، وما يطيعه في الوضوء؛ لانه يغسل ما امر الله بمسحه» الفقيه 1/24 ح73، وعنه في وسائل الشيعة 1/422 ح1103 باب 25 من ابواب الوضوء.
وقال عليه السلام: «انه يأتي على الرجل ستون، وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة.. لانه يغسل ما امر الله بمسحه» الكافي 3/31 ح9، وعلل الشرائع: 289 ح2، وتهذيب الاحكام 1/92 ح246، والاستبصار 1/64 ح191، ووسائل الشيعة 1/418 ح 1089 باب 25 من أبواب الوضوء (اخرجه عن الكافي).
(1) «إنّ»: لم ترد في «م».
(2) لعدم الالتفات إلى كون الغسل مقصوداً به الامتثال لاَمر آخر لا يصدق عليه مسمّى المسح، وإنْ قيل باشتمال الغسل عليه؛ لاَنّ من ينوي الغسل ثمّ يعتذر باشتمال الغسل على المسح لم يؤدِّ الفرض كما يجب. وهذا واضح كالشمس، ولكن ليس لمن هو كالاَنعام بل أضلّ سبيلاً.
(3) مثال العلاقة الاَُولى من القرآن الكريم قوله تعالى: (إنَّ الاِنسانَ لَفي خُسْرً) العصر 103: 2، والمراد جنس الاِنسان، ومثال الثانية قوله تعالى: (يَجْعَلونَ أَصابِعَهُمْ في آذانِهِم مِنَ الصَواعِقِ) البقرة 2: 19، والمراد جعل الاَنامل في الاَُذِنِ وهي جزء من كلّي الاَصابع.
(4) في «م»: «لسائر».
________________________________________ الصفحة 395 ________________________________________
عليه السلام توضأ وغسل رجليه(1)؛ لاَنَّه حينئذٍ لا يُنكر أن يكون الغسل المذكور مراداً به المسح(2)، فصار تأويل الآية على هذا الوجه مُبْطِلاً لما هو العمدة في استدلالهم(3). على غسل الرجلين(4).
[والحال](5)، أنَّه ليس كل شيء يشتمل على غيره يصح أن يسمى باسمه؛ لاَنّا نعلم أنَّ الغسل ـ مثلاً ـ يشتمل على أفعال مثل الاعتماد والحركة، ولا يجوز أن يسمى بأسماء ما يشتمل عليه، وكذا (السكنجبين)(6) مشتمل على الخَلِّ والعسلِ، ولا يسمى بأحدهما.
وأمّا استشهاد أبي زيد(7)، بقولهم:
____________
(1) ستأتي مناقشة المصنف في هذه الرسالة لما استدلوا به من تلك الاَحاديث.
(2) في «م»: «مراداً بالمسح».
(3) في «ر»: «استدلالاتهم».
(4) سبق إلى هذا النحو من المحاججة السيد المرتضى في الانتصار: 66، والشيخ الطوسي في التهذيب 1: 69، والطبرسي في مجمع البيان 3: 209.
(5) في «ر» و«م»: «والحل»، ولعله من اشتباه الناسخ، وما اثبتناه بين العضادتين هو الصحيح.
(6) السكنجبين: معرب (سكنگين)، وهو شراب لذيذ، لونه مائل إلى الصفرة، يركّب من الخَلَّ والعسلِ أو الشهد، أو من الخَلّ مضافاً إلى القند والسُكّر الاَبيض. انظر: لغت نامه (معجم فارسي) 28: 560 مادة سكنجبين.
(7) هو سعيد بن أوس أبو زيد الانصاري البصري اللغوي المشهور، من اساتذة سيبويه، ولد سنة 119هـ، أو بعد ذلك، كان صدوقاً صالحاً غلبت عليه النوادر كالاصمعي، صنف في اللغة ما يقرب من عشرين مصنفاً، من تصانيفه المطبوعة: كتاب النوادر في اللغة طبع في المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت سنة 1309هـ/ 1894م بتصحيح وتعليق سعيد الخوري، وكتاب الهمز، واللبأ واللبن ـ مات سنة 215هـ عن أكثر من تسعين سنة.
المعارف لابن قتيبة: 303، الكنى للدولابي 1: 180، الجرح والتعديل 4: 4/12، المجروحين لابن حبان 1: 324، طبقات النحويين واللغويين للاندلسي: 165/90، فهرست ابن النديم: 110 في الفن الاَوّل من المقالة الثانية، تاريخ بغداد 9: 77/466، المنتظم 10: 268/1213، الكامل 6: 418، انباه الرواة 2: 30/269، معجم الادباء 1: 212/64 من المجلد السادس، وفيات الاعيان 2: 378/263،
=
________________________________________ الصفحة 396 ________________________________________
تمسحت(1) للصلاة(2).
فمردود، بأنَّه كنابة عن الطهارة ببعض أفعالها، كما يقال: تغسلت لها، فكأنهم استطالوا (اغتسلت وتمسحت للصلاة) فتجوزوا ذلك، تعويلاً على فهم المراد، روماً للاختصار(3).
والحاصل: إنَّ ما ذكره فرار(4) من مخالفة القواعد
____________
=
تهذيب الكمال 10: 330/2239، خلاصة تذهيب الكمال 2: 215، تاريخ الاِسلام: 164/149، سير أعلام النبلاء 9: 494/186، العِبر 1: 289، الكاشف 1: 281/1873، ميزان الاعتدال 2: 126/3141، و4: 527/10213، مرآة الجنان 2: 58، البداية والنهاية 10: 269 من المجلد الخامس، غاية النهاية 1: 305/1339، تهذيب التهذيب 4: 4/7، النجوم الزاهرة 2/215، بغية الوعاة 1: 582/1222، المزهر 2: 402 في النوع رقم (44)، شذرات الذهب 2: 34 ـ 35، الاَعلام 3: 92.
هذا، وقد اشتبه محقق التفسير الكبير لابن تيميّة الدكتور عبدالرحمن عميره فظن أنَّ أبا زيد الاَنصاري البصري هو قاضي البصرة محمّد بن عبدالله بن المثنى بن عبدالله بن أنس بن مالك الاَنصاري البصري الذي اتفق مع أبي زيد الاَنصاري باللقب والنسبة إلى البصرة مع الوفاة بسنة واحدة وهي سنة 215هـ، فنقل ترجمة القاضي في هامش التفسير 4: 50 هامش رقم 1 وجعلها لاَبي زيد النحوي، مع أن كنية القاضي (أبو عبدالله) بلا خلاف في سائر مصادر ترجمته.
ومن الطريف.. أنَّ القاضي المذكور فيه تشيع يسير ـ ولعله بسبب المسح ـ على ما ذكر مترجموه من العامّة، وظاهر استشهاد أبي زيد ـ وهو من العامّة ـ بقول العرب (تمسحت للصلاة)، أنه قائل بغسل الرجلين، ولكن الخلط في ترجمته إدّى إلى كون المتشيع غاسلا!! وهو ما ظنّه الدكتور كما يظهر من تأكيده على تشيع أبي زيد النحوي!!
(1) في حاشية «م»: «والمراد: غسلت، فأُطْلقِ المسح على الغسل».
(2) نقل استشهاد ابي زيد في الحجة للقراء السبعة 3/215، وتفسير الوسيط للواحدي 2/ 159.
(3) نظير هذا الرد تجده في الانتصار: 22، وتهذيب الاحكام 1: 69، وتفسير التبيان 3: 454، ومنتخب ابن إدريس الحلّي 1: 214، ومجمع البيان 3: 209.
(4) في «م»: «فراراً».
________________________________________ الصفحة 397 ________________________________________
النحوية(1)، والوقوع في مخالفة الوضع اللغوي والشرعي(2)؛ لاَنَّ المعلوم منهما اختلاف حقيقتي الغسل والمسح. فأيُّ باعثٍ على التعبير بأحدهما على الآخر بغير قرينة؟
ولهذا ذهب القفّال(3) وجماعة من قدماء الشافعية، إلى أنّ الغسل لا
____________
(1) كما تقدم تفصيله في ص377 و378، فراجع.
(2) الوضع الشرعي هنا هو الوضع اللغوي للفظ (المسح)، اذ لم يستعمل الشارع المقدس هذا اللفظ في آية الوضوء الا بإزاء معناه اللغوي المتبادر، وتخصيصه به، ولم يستعمله كاستعماله للفظ الصلاة في الاَفعال المخصوصة بعد وضعها في اللغة للدعاء، ولا كاستعماله للزكاة في القدر المُخرج من المال بعد وضعها في اللغة للنمو، ولا كاستعماله الحج في اداء المناسك المعروفة بعد وضعه في اللغة لمطلق القصد، بل كان الاستعمال الشرعي واللغوي للفظ المسح واحداً، ويراد به المسح حقيقة، ويدل عليه: إنَّ الشارع المقدس قد جاء بلفظتي (الغسل) و(المسح) معاً وفي سياق آية واحدة، والتفريق بينهما دليل أختلافهما. على أنَّ سيرة العقلاء قاضية بذلك فإنهم اذا ما شكّوا بلفظ صدر عن متكلم، وهل أنّه اراد به معناه الموضوع له لغة، أو أراد غيره، حكموا بإرادة المعنى الاَوَّل تمسكاً منهم بأصالة الحقيقة. وهكذا نجد تمسكهم بأصالتي عدم النقل، وعدم التقدير في مثل المورد المذكور؛ بيد أن الغاسل اضطرَّ إلى القول بالمجاز تارة، وبنقل اللفظ عن معناه اُخرى، وبتقدير اغسلوا ثالثة! وكل هذا لا تحتاج إليه الآية أصلاً؛ لاَنّه ليس بموضع ضرورة كما اكدّه المُصَنِّفُ قدس سره مراراً.
(3) هو أبو بكر محمّد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفّال الكبير، ولد سنة 291هـ، وبرع في الفقه والاُصول حتى صار من مشاهير علماء خراسان، كان شافعي المذهب، وهو من تلاميذ ابن جرير الطبري المفسر، مات بالشاش سنة 365هـ.
ومن الجدير بالاِشارة أنّ كلا من أبي بكر أحمد بن محمّد (ت/ 507هـ)، وعبدالله بن أحمد بن عبدالله (ت/ 417هـ) يعرف بالقفال، وقد خلط ابن أبي الدم في أدب القضاء: 351 بين القفال الكبير وبين عبدالله بن أحمد المعروف بالقفال الصغير المروزي، ومراد المصنف هو القفال الكبير، فلاحظ.
انظر ترجمته في فهرست ابن النديم: 303، وطبقات الفقهاء ـ للشيرازي ـ: 112، والانساب 7: 244، واللباب 2: 174، وتهذيب الاسماء واللغات 2: 282، والعِبر 2: 338، وسير أعلام النبلاء 16: 283 رقم300، ومرآة الجنان 2: 318، وطبقات الشافعية
=
________________________________________ الصفحة 398 ________________________________________
يجزئ عن المسح، مستدلين بأنَّه ليس بمسح، وهو المأمور به. نقل ذلك شارح «الينابيع في فقه المذاهب الاَربعة»(1).
وذكر صاحب «تقريب المتدارك»(2) ـ وهو من علماء العامّة ـ: أنَّ المالكيّة أيضاً على الفرق بينهما، وأنَّه لا يجوز أنْ يراد بالمسح الغسل، وبالغسل المسح(3)، فلا بُدّ للفرق من فائدة.
وأمّأ رابعاً: فَلاَنّه إذا كانت (الاَرجل) معطوفة على (الرؤوس) والمقصود غسلها، يكون قد استعمل (سبحانه وتعالى) لفظ (امْسَحُوا) ـ وهو لفظ واحد ـ حقيقةً(4) في (الرؤوس)، ومجازاً(5) في (الاَرجل)(6) بغير قرينة(7)َِ!!
____________
=
ـ للسبكي ـ 3: 200، وطبقات الشافعية ـ للاَسنوي ـ 2: 79، والنجوم الزاهرة 4: 111، وطبقات المفسرين للداوودي 2: 196، وطبقات المفسرين للسيوطي: 36، وشذرات الذهب 3: 51، وهدية العارفين 2: 28.
(1) لم أقف على هذا المصدر ولا على اسم مؤلفه، ولم أجد ذكراً له في معجم المؤلفين، ولا في بقية الفهارس المتيسرة ككشف الظنون وغيره.
(2) لمن أقف على هذا المصدر ولا على اسم مؤلفه، ولم أجد له أثراً في الفهارس المتيسرة المعدّة لهذا الغرض.
(3) في «ر»: «أنْ يراد بالغسل المسح، وبالعكس».
(4) في «ر»: «في حقيقته في الرؤوس».
(5) المراد بالحقيقة: استعمال اللفظ فيما وُضِع له، وبالمجاز: استعمال اللفظ في غير ما وُضِع له مع مناسبة تبرر هذا الاستعمال كلفظ (الاَسد). في الرجل الشجاع، ونحو ذلك. ولكلِّ مجاز حقيقة ولا عكس، فبعض الحقائق لا مجاز لها كاسماء الاَعلام.
(6) في «م»: «ومجازة في الاَرجل».
(7) إذا كان اللفظ مستعملاً في معنى وله معنى حقيقي ومعنى مجازي معاً، وأطلق في الكلام من دون نصب قرينة على المراد، فانه يجب حمل اللفظ على معناه الحقيقي بلا خلاف، اذ لولاه لما حصل التفاهم، ولانقطع استكشاف الارادات في المحاورات.
انظر: رسالة «في ان الاصل في الاستعمال الحقيقة أو اعم من الحقيقة والمجاز»، لابي المعالي
=
________________________________________ الصفحة 399 ________________________________________
وتفصيل هذا الاِجمال:
إنّه لو أُريد بالمسح معناه الحقيقي بالنسبة إلى (الرؤوس)، والغسل الشبيه به بالنسبة إلى (الاَرجل) بقرينة التحديد المذكور(1)، لَزِمَ:
إمّا الجمع بين الحقيقة والمجاز ـ كما ذكره العلاّمة التفتازاني(2) ـ بأنْ
____________
الكرباسي، ص: 9 من المقام الاَوّل (الطبعة الحجرية).
ولهذا نرى الغزنوي في وضح البرهان 1: 307 يؤكد أن الحسن البصري إنّما قرأ (وأرجلُكم) بالرفع على الابتداء، لكي لا يحتاج إلى اعتبار المجاز، فتوقى العطف عما يليه. لكن الغزنوي رد قراءة الحسن، وقال بالعطف على الممسوح حقيقة، إلاّ أنّه زعم نسخ المسح على الرجلين بالسنّة، وبالتحديد!!
أقول: أمّا السنة فقد بين المصنف ـ كما مر ويأتي مفصلاً أيضاً ـ عدم دلالة شيء منها على الغسل في الفرض الواجب، وأمّا عن التحديد فهو باطل قطعاً وسنشير إلى من ردّهُ في الهامش الآتي.
(1) المراد بالتحديد هو قوله تعالى: (إلى الكعبين) وقد استدل بعضهم بهذا التحديد على وجوب غسل الارجل، قياساً على التحديد المذكور في غسل الاَيدي!! وسيأتي في هذه الرسالة ص408 و409 و453 و454 وهامش 1 ص454 بطلان هذا القياس وعلى لسان علماء العامّة انفسهم كما في الهامش المشار إليه. ولا بأس هنا بالاِشارة إلى المصادر التي ذكرت التحديد مع الاحتجاج به على وجوب غسل الرجلين.
انظر: مجاز القرآن لاَبي عبيدة 1/ 155، ومعاني القرآن للزجاج 2/ 154، واحكام القرآن للجصاص 2/ 346، والحجة للقراء السبعة 3/ 215، وحجة القراءات: 223، وتفسير الوسيط 2/ 159 ـ 160، ووضح البرهان 1/ 307، والبيان لاَبي البركات 1/ 284، وزاد المسير 2/ 301، والتبيان في اعراب القرآن 1/ 424، وإملاء ما منّ به الرحمن 1/ 210، والمغني لابن قدامة 1/ 154، والجامع لاَحكام القرآن 6/ 91، والمجموع شرح المهذب 1/ 479، وتفسير أبي السعود 3/ 11، وتفسير النووي 3/ 11.
هذا، وقد حكم ببطلان القول بالتحديد ابن حزم في المحلى 2: 57 ـ 58 مسألة: 200، وابن عطية الاندلسي المالكي في المحرر الوجيز 5/ 48، والرازي الشافعي في التفسير الكبير 11/ 162.
(2) هو مسعود بن عمر بن عبدالله، سعد الدين التفتازاني الشافعي، ولد سنة 733 هـ بقرية تفتازان من مدينة نسا في خراسان، ثم انتقل الى سمرقند، وجرجانية، وهراة، وغيرها.
=
________________________________________ الصفحة 400 ________________________________________
يراد حقيقة المسح بالنسبة إلى المعطوف عليه، والغسل الشبيه به بالنسبة إلى المعطوف!
وذلك غير جائز(1).
وَإمَّا عموم المجاز مع الاِجمال المحتاج إلى البيان، بأنْ يُراد من المسح(2)، ما يعمّ المسح الحقيقي، والغسل الشبيه به مطلقاً!!
وهذا مما لا يتكلم به رشيد، فكيف يأتي به الباري (جل اسمه) في كتابه العزيز لتعليم الخواص والعوام، ويجعله مضلّةً للاَفهام(3)، وعرضة للاَوهام؟!
وكان يمكن أنْ يقول [عزّ وجلّ]: (فاغسلوا أرجلَكم)، ولو جاز مثل هذا التأويل في القرآن، أو الكلام؛ لارتفع الاَمان عن فهم المرام، وخرج القرآن عن كونه دليلاً للمحقين، وأَمكن للفِرَق المُضِلَّةِ أنْ يُؤوِّلوه بما يوافق مدّعاهم، بل بما هو أقرب منه بيقين.
____________
=
له شرح المقاصد، وشرح الشمسية، والارشاد في النحو، وغيرها، مات سنة 792 هـ عن سبعين عاماً.
انظر: مقدمة ابن خلدون 3/1091، والدرر الكامنة 4/350، والبدر الطالع 2/303، وشذرات الذهب 6/319، وله ترجمة مفصلة كتبها الدكتور عبدالرحمن عميرة في مقدمة تحقيقية لكتاب شرح المقاصد.
(1) سبب عدم الجواز، هو أنَّ من أحكام الحقيقة والمجاز أنّهما لا يجتمعان في لفظ واحد في حالة واحدة بحيث يكون كل منهما مراداً في آنٍ واحدٍ؛ لاَنَّ الحقيقة هي الاَصل والمجاز مستعار، ولا يمكن تصور كون اللفظ الواحد مستعملاً في موضوعه ومستعاراً في موضع آخر سوى موضوعه في حالة واحدة، وهذا ما صرح به السرخسي الحنفي في اُصوله 1: 73 وسبب آخر هو أنَّ حكم الرؤوس هو المسح حقيقة بلا خلاف، وبما أنَّ الاَرجل معطوفة على الممسوح فتأخذ حكمه حقيقة.
(2) في «م»: «بأن يراد منه المسح».
(3) في «ر»: «الاَفهام».
________________________________________ الصفحة 401 ________________________________________
وأمّا خامساً: فَلاَنّا نمنع كون (الاَرجل) مظنة لاِسراف الغسل فيها، وكونهما قريبين من الاَرض ـ كما قد علل بعضهم(1) ـ لا يوجب السَّرَفَ(2).
ولو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أوْلى بالمسح من أعلاه(3)، مع أنّ المسح على ظاهرهما وفاقاً منهم(4).
____________
(1) كالسخاوي في جمال القرّاء 2: 41، ومن المتأخرين عن عصر المصنف قدس سره محمّد بن يوسف اطفيش الاِباضي في تيسير التفسير 3: 33.
(2) السّرَفُ والاِسراف لغة: تجاوز القصد، وقد سبق تعريف الاسراف في ص376 هامش رقم2.
(3) هذا هو المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، أنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أوْلى بالمسح من ظاهره».
انظر: سنن أبي داود 1/42 ح162، وسنن البيهقي 1/292، وسنن الدارقطني 1/199 ح23، والمحلّى 2/ 111، ونصب الراية 1/181.
وفي كتاب الحجّة على أهل المدينة لمحمّد بن الحسن الشيباني ـ تلميذ أبي حنيفة ـ 1/35 نسبه إلى عمر بن الخطاب، وأوْرَدَ عن الحسن البصري، وابن شهاب الزهري مثله. كما أوْرَدَ ابن حزم في المحلى 2/56 مسألة 200 عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، قوله: «كنت أرى باطن القدمين أحقّ بالمسح حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح ظاهرهما»، وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 35 في باب فرض الرجلين في وضوء الصلاة، عن عبد خير، عن أمير المؤمنين عليه السلام، إنّه توضأ ومسح على ظهر القدم، وقال: «لولا أنيّ رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعله، لكان باطن القدم أحقّ من ظاهره».
(4) ذهب جمهور العامّة إلى جواز المسح على الخفين؛ لِمَا رواه سعد بن أبي وقاص، من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين، كما في صحيح البخاري 1/62، ومسند أحمد 1/15، وسنن البيهقي 1/269 وغيرها.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والاَوزاعي، وأحمد بن حنبل، وداود: إنَّ المسح يكون على ظاهر الخف، ولا مدخل لاَسفله فيه، كما في المبسوط للسرخسي 1/101، واللباب 1/37، والمغني 1/335، والمجموع 1/521، وبداية المجتهد 1/19، والجامع لاَحكام القرآن 6/103، والمحلّى 2/111.
وقال الشافعي: يستحب مسح أعلى الخف وأسفله، وبه قال عبدالله بن عمر، وعمر بن عبدالعزيز، والزهري، ومالك، وابن المبارك، وإسحاق، كما في بداية المجتهد 1/19، والمجموع 1/518 و521، وفتح العزيز 2/392، ومغني المحتاج 1/67، والمغني
=
________________________________________ الصفحة 402 ________________________________________
وأيضاً، الاِسراف في كلّ شيء(1)مذموم(2)، ولا خصوصية له
____________
=
1/335، والمحلّى 2/113، واحتجوا لذلك بما رواه المغيرة من أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسح أعلى الخف وأسفله كما في سنن أبي داود 1/4 ح251، وسنن البيهقي 1/290.
هذا، وقد تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام المنع عن المسح على الخفين، وأنّه باطل، بل منعوا عليهم السلام من الاِئتمام بمن يمسح على خفيه؛ لاَنّه يصلي بدون طهارة.
وبالجملة، فإن المسح على الخفين يُعد من أكبر العيوب التي اُلصقت في الفقه الاِسلامي لمخالفة هذا المسح للذوق السليم فضلاً عن الشرع الحنيف وجماله، ولهذا نجد من تنبه إلى ذلك ـ من غير الشيعة الاِمامية ـ فرفضه، منهم: أبو بكر بن داود، والخوارج كما في حلية العلماء ـ للقفال ـ 1/159.
كما أنكر المسح على الخفين مالك بن أنس في احدى الروايتين عنه، أورد ذلك الرازي في تفسيره الكبير 11/163، والقرطبي في الجامع لاَحكام القرآن 6/93، وقال: «المسح على الخفين إن كان، فهو منسوخ بسورة المائدة».
وقد أثر عن بعض الصحابة انكار المسح على الخفين جملة وتفصيلاً، فعن عائشة: «لاِنْ تُقطع قدماي، أحبّ إليّ من أن امسح على الخفين».
وعن ابن عباس: «لاِن أمسح على جلد حمار، أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين»، كما انكره أبو هريرة. نص على ذلك الرازي في تفسيره، والقرطبي في الجامع لاَحكام القرآن، كلٌّ في الموضع المشار إليه آنفاً.
والظاهر، توهم القائلين بالمسح على الخفين، بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الشيخ الصدوق في الفقيه 1/30 ذيل الحديث 97، وعنه في الوسائل 1/461 ح1221 باب 38 من أبواب الوضوء: «ولم يُعْرف للنبي (صلّى الله عليه وآله) خفٌّ، إلاّ خفّا أهداه له النجاشي، وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقاً، فمسح النبي (صلّى الله عليه وآله) على رجليه، وعليه خفاه.
فقال الناس: «إنه مسح على خفيه..».
هذا، ومن أغرب الاَقوال وأبعدها عن الحق في مسألة الوضوء، هو القول بجواز المسح على الخفين، وحرمة المسح على ظاهر القدمين، مع أن قياسهم ـ لو صح ـ يقتضي العكس.
وسوف يأتي ماله صلة بمسألة المسح على الخفين في ص423 مع هامش رقم 3 من الصفحة المذكورة، وكذلك في ص458 وهامش رقم 6 من الصفحة المذكورة، فلاحظ.
(1) في كل شيء: لم ترد في «م».
(2) ورد ذم الاِسراف والنهي عنه في جملة من الآيات الكريمة، كقوله تعالى في سورة الاَعراف:
=
________________________________________ الصفحة 403 ________________________________________
بالاَرجل، ولا بالوضوء، فقد يكون مكروهاً(1)، وقد يكون حراماً كما إذا أدّى إلى ضرر(2)، أو ضياع مال(3). بل قد يكون الاِسباغ(4) المستحب، بل الوضوء الواجب حراماً، كما إذا احتيج إلى الماء لحفظ نفس محترم(5).
وهذه أُمور مقررة بين أهل الاِسلام، مؤيّدة بحكم العقل(6)، كما أشار إليها ابن همام الحنفي(7) في «شرح الهداية»، قبيل فصل نواقض
____________
=
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وفي سورة الاَنعام: (وَآتوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا) وفي سورة الاِسراء: (فَلا يُسْرِف في القَتْلِ إنَّه كَانَ مَنْصُوراً).
(1) مثل الاِسراف في الاَكل والشرب على مائدة الاِفطار في ليالي شهر رمضان!
(2) مثل الاِسراف في العقوبة، قال تعالى في سورة البقرة: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فالزيادة على المثل اعتداء محرم بقوله تعالى في سورة البقرة أيضاً: (وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ).
(3) كالاِسراف في أموال القاصرين من قبل القيم عليهم، بحيث يتجاوزالحد المشروع.
(4) المراد بالاِسباغ هو إتمام الوضوء وإكماله، قال ابن حجر في إرشاد السّاري 1/231: «وقال في المصابيح: والمعروف في اللغة، إنّ إسباغ الوضوء إتمامه، وإكماله، والمبالغة فيه». وعرّفه الشافعية بأنّه: «كمال إتمام الوضوء وتوفيته».
انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 3/142 مادة «إسباغ».
وفي صحيح البخاري 1/47، باب إسباغ الوضوء: «قال ابن عمر: إسباغ الوضوء الانقاء»، وهو من تفسير الشيء بلازمه، إذ الاِتمام يستلزم الانقاء عادة، كما في إرشاد السّاري 1/23.
وقد عرفه المصنف قدس سره في ص405 من هذه الرسالة بأنَّه: «مبالغة في الغسل وتكريره».
(5) كما لو دار الاَمر في نفاد الماء الموجود في الصحراء مثلاً، بين الشرب ـ مع الضمأ الشديد ـ وبين الوضوء به لاَجل الصلاة، ففي هذا الفرض يحرم الوضوء بلا خلاف.
(6) لاَن احتمال الضرر في شيء ما يلزم العاقل تجنبه، إذا ما استحق صاحبه اللائمة لو أقدم عليه، أخذاً بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، والوضوء إذا ما احتمل الضرر فيه، يدفع بالتيمم.
(7) هو كمال الدين محمّد بن عبدالواحد بن عبدالحميد بن مسعود السيواسي الاسكندري، المعروف بابن همام، حنفي المذهب، ولد سنة 790هـ، له: فتح القدير في شرح الهداية في الفقه، والتحرير في الاُصول وغيرهما، مات بالقاهرة سنة 861هـ.
الضوء اللامع 8/127 رقم 301 من المجلد الرابع، وبغية الوعاة 1/ 166 ـ 169 رقم
=
________________________________________ الصفحة 404 ________________________________________
الوضوء(1).
وليست الآية منساقة لتعليم شيء من ذلك(2). وتكلف ذلك ـ لتخرج الآية عن دلالتها على المسح ـ خبط بغير ضبط.
وأمّا سادساً: فَلاَنَّ ما ذكره من أَنَّ فائدة العطف على الوجه المذكور التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها(3). فرية بلا مرية. وكأنَّه صدر(4) عمّن لا خبر له عن الشرع، ولا عن أهله.
وأيَّ حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أثر عن الصحابة، أو تابعيهم(5)، أو قول للفقهاء الاَربعة(6)، ومن يحذو حذوهم، يدلُّ على وجوب الاقتصاد في صب الماء على الاَرجل؟ (سُبْحَانَكَ هَذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)(7)، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بَغِيْرِ عِلْمٍ)(8).
____________
=
290، وشذرات الذهب 7/297، هدية العارفين 6/201.
(1) فتح القدير للعاجز الفقير (في شرح الهداية للمرغيناني) لابن همام الحنفي 1/ 31 ـ 32 في آداب الوضوء من كتاب الطهارة، قُبيل فصل نواقض الوضوء بالضبط.
(2) لاِنحصار مدلولات الآية في تعيين ما يغسل، وما يمسح من اعضاء الوضوء، ولا علاقة لها بشيء من ذلك.
(3) تقدم كلام الزمخشري في ص376 من هذه الرسالة.
(4) في «م»: «صدَّ» بدلاً عن «صدر».
(5) في «ر»: «أو عن تابعيهم».
(6) في الواقع هم ثلاثة: مالك بن أنس (ت 179هـ)، وأبو حنيفة (ت 150هـ)، والشافعي (ت 204 هـ)، واما احمد بن حنبل (ت 240 هـ) فليس بفقيه، بل هو محدث ولهذا لم يذكره الطبري في كتابه «اختلاف الفقهاء»، ولكنه ألحقه اتباعه بالفقهاء، فصار رابعاً على كل حال!!!
(7) سورة النوّر 24: 16.
(8) سورة الاَنعام 6: 144.
________________________________________ الصفحة 405 ________________________________________
بل الّذي ورد في السُّنة المطهّرة، وعمل به جميع العلماء، إسباغ الوضوء(1). وهو: المبالغة في الغسل وتكريره.
ولو كانت الاَرجل مما تغسل، لكان ينبغي أنْ يكون الاِسباغ فيها،
____________
(1) في حاشية «ر»: «قال البخاري في صحيحه، في أوائل كتاب الوضوء: قال ابن عمر: إسباغ الوضوء: الاِنقاء. حدثنا عبدالله بن سلمة، عن مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن اُسامة بن زيد، أنّه سمعه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عرفة، حتى إذا كان بالشِعب، نزل فبال ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء. فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، فركب، فلما جاء مزدلفة، نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء. فأُقيمت الصلاة... إلى آخر الحديث.
وروى مؤلف «المشكاة» في الفصل الثاني من باب سنن الوضوء، عن لقيط بن صبرة، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: اسبغ الوضوء، وخلل بين الاَصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلاّ أن تكون صائماً... الحديث.
قال الشيخ الطيبي: قوله: (أخبرني عن الوضوء). التعريف فيه للعهد الذهني، وهو ما اشتهر بين المسلمين وتعورف عندهم، إنَّ الوضوء ما هو فيكون [كذا] الاستخبار عن أمر زائد على ما عرفه، فلذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اسبغ الوضوء)، أي: إكماله بإيصال الماء من فوق الغرّة إلى تحت الحنك طولاً، ومن الاُذن إلى الاُذن عرضاً، مع المبالغة في الاستنشاق والمضمضة، هذا في الوجه، وأمّا في اليدين والرجلين، فإيصال الماء إلى فوق المرافق والكعبين، مع تخليل كل واحد من أصابع اليدين والرجلين، انتهى. منه سلمه الله».
انظر: صحيح البخاري 1/47 باب اسباغ الوضوء.
هذا، وبإزاء العبارة (قال ابن عمر: اسباغ الوضوء: الاِنقاء) ـ المذكورة في صدر الحاشية ـ ورد في حاشية «ر» ما نصه:
«قوله: (الاِنقاء). قال الشيخ القسطلاني: وكان ابن عمر يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات، كما رواه ابن المنذر بسند صحيح، وإنّما بالغ فيها دون غيرهما؛ لكونهما محلاً للاَوساخ غالباً، لاعتيادهم المشي حفاة.
واستشكل بما تقدم من أنّ الزيادة على الثلاث ظلم وتعدٍّ.
وأُجيب: بأنَّه في من لم يرَ الثلاث سُنّة، أمّا إذا رآها وزاد على أنّه من باب الوضوء، يكون نوراً على نور، انتهى منه سلمه الله».
انظر: إرشاد السّاري ـ للقسطلاني ـ 2/231، كتاب الوضوء، باب اسباغ الوضوء.
وانظر: هامش رقم 2 وهامش رقم 4 ص 391 من هذه الرسالة.
________________________________________ الصفحة 406 ________________________________________
والمبالغة في صبِّ الماء عليها، آكد وأفضل؛ لاَنها أكثر الاَعضاء تعلقاً بالوسخ، وأكثرها عرضة للنجاسة، خصوصاً في الحجاز؛ لِلَبْسِهم النعال العربية(1)، وهي لا تحجب إلاّ(2) أسفل القدم الملاصق للاَرض، ولا تردّ وسخاً ولا غباراً، ولا تمنع(3) النجاسة(4).
فكيف يجب الاِقتصاد في صبِّ الماء عليها؟ والحال، أنَّ إسباغ الوضوء مستحب إجماعاً(5).
____________
(1) العربية: لم ترد في «م».
(2) إلاّ: لم ترد في «ر»، وصورتها في «م» هكذا: (اللا).
(3) في «ر»: «ولا يمنع».
(4) ولهذا كان ابن عمر يغسل رجليه سبع مرات قبل الوضوء، على ما حكاه ابن المنذر كما مرّ في ص391 وقبل ثلاثة هوامش ايضاً.
(5) وردت في استحباب اسباغ الوضوء أحاديث كثيرة في كتب الطرفين.
انظر: الفقيه 4/260، والخصال: 84 ح12 و: 180 ح246، وثواب الاعمال: 45، وأمالي الصدوق: 264، وعيون أخبار الرضا عليه السلام 2/29 ح32، وعلل الشرائع: 334، والمحاسن: 4 ح4 و 290 ح438، وفقه الاِمام الرضا عليه السلام: 2، والجعفريات: 37 ودعائم الاِسلام 1/100، وفلاح السائل: 23، ووسائل الشيعة 1/487 ح 1288 ـ 1295 باب استحباب إسباغ الوضوء من أبواب الوضوء، ومستدرك الوسائل 1/349 ح815 ـ 826 باب استحباب اسباغ الوضوء وبحار الاَنوار 80/310 ح24 و27، وجامع أحاديث الشيعة 2/303 ح2050 ـ 2772، باب إسباغ الوضوء من أبواب الوضوء.
وانظر: صحيح البخاري 1/143، باب من رفع صوته من كتاب العلم، وصحيح مسلم 1/214 ح241 باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما من كتاب الطهارة، ومسند أحمد 4/33، وسنن أبي داود 1/99 ح142 باب فـي الاستنثـار مـن كتاب الطهارة، وسنن الترمذي 3/155 ح788 باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم من كتاب الصوم، قال: (حديث حسن صحيح)، وسنن النسائي 1/66 باب المبالغة في الاستنشاق من كتاب الطهارة و1/79 باب الاَمر بتخليل الاَصابع، وسنن ابن ماجة 1/142 ح407 باب المبالغة في الاستنشاق من كتاب الطهارة و1/153 ح448 باب تخليل الاَصابع، ومستدرك الحاكم 1/147 ح148 باب الامر بإسباغ الوضوء من كتاب الطهارة.
________________________________________ الصفحة 407 ________________________________________
وأمّا سابعاً: فَلاَنّ قوله: (لم يضرب للمسح غاية)(1)، أوضح فساداً، وأكثر تهافتاً.
أمّا أوّلاً: فَلاَنّه أوّل المسألة.
وأمّا ثانياً: فلاَنّه افْتِرَاءٌ على الشرع، كيف، وقد ضربوا للمسح ـ على الخفين عندهم، ومسح الرأس ـ غاية؟! فكيف ينكرون الغاية هنا؟!
قال شيخ الاِسلام التفتازاني في «حاشية شرح الوقاية»: وإنَّما حُمِلَ على ذلـك لِمـا اشتهر من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، لا لاَنّ المسح لم يضرب له غاية في الشرع، وذلك أنّه ليس في الشرع ولا في اللغة(2) ما يقتضي أنْ لا بُدّ(3)، للمسح [من] غاية.
غاية الاَمر، أنّه لم يُذْكَر سوى هذا الموضع. ومع أنّه نقل في الكافي(4)، أنَّه قال صلى الله عليه وآله وسلم: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلم(5)، وضع يديه(6) على خُفَّيه ومدَّهُما من الاَصابع إلى أعلاهما مسحة واحدة(7)..، انتهى كلامه.
وقـال بعـض الحنفيّـة ـ فـي بحـث التعـارض، مـن شرحـه المـوسـوم
____________
(1) الغاية هنا: الانتهاء في مقابل الابتداء، ومن الاَلفاظ الدالة على مفهوم الغاية: (إلى) و(حتى).
(2) في «م»: «ولا في لغة».
(3) في «م»: «لا يذكر».
(4) لم نجده في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: لابن عبدالبر النمري القرطبي، ولا في كتاب الكافي في فقه أحمد بن حنبل لابن قدامه المقدسي، مما يظهر أنّ المراد بالكافي غيرهما من كتب العامّة.
(5) وآله وسلم: لم ترد في «م».
(6) في «م»: (يده).
(7) لم نعثر على «حاشية شرح الوقاية» للتفتازاني.
________________________________________ الصفحة 408 ________________________________________
بـ «المنتخب لكتاب المغني»(1) في أُصولهم ـ معترضاً على أصحابه في هذه المسألة: ثم قولكم: ضَرْبُ الغاية يمنع الحمل على المحل؛ لاَنَّ المسح لم يضرب له غاية. منظورٌ فيه، [إذْ](2) الكعب عندهم(3) عبارة عن معقد الشِراك، وهم يقولون بوجوب المسح إليه(4)، انتهى.
وأمّا ثالثاً: فَلاَنَّ ضرب الغاية لا يدلّ على الغسل بوجه، فإنّه تعالى لو لم يعطف، وقال: (امسحوا بأرجلكم إلى الكعبين)، لم ينكر، وكان يجب المسح عليها(5) فكذا إذا عطف على الممسوح(6).
وبالجملة، ضَرْبُ الغاية، نسبةٌ إلى الغسل والمسح على سواء، فالوجه قد أمر بغسله ولم يضرِب له غاية، ولا يلزم من ضَرِب الغاية في بعض الغسل ـ وهو غسل اليدين ـ أنْ يكون بكل ما ضرب له غاية غسلاً، وهو ظاهر.
وأمّا رابعاً: فأيُّ محذورٍ(7) في عطف المحدود على غير المحدود؟ بل هو في هذه الآية أفصح وأبلغ(8)؛ لاَنَّهُ تعالى قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكَمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى الْمُرَافِقِ) فعُطِف الغسل المحدود على غيره، فالمناسب في
____________
(1) لم نظفر بهذا الكتاب لا في فهارس الكتب الخطيّة، ولا المطبوعة.
(2) في «م» و«ر»: «إذا»، وما بين العضادتين هو الصحيح، لظهور المراد في تعليل قوله: (منظور فيه)، (واذا) شرطية لا تفيد التعليل «واذ» هنا حرف تعليل لا محل له من الاِعراب.
(3) في: عند الشيعة الاِمامية.
(4) سبق إلى هذا الاعتراض الرازي الشافعي في تفسيره 11/162 للرد على من استدلّ بالتحديد المذكور في الاَرجل بـ (إلى) الغائية، على وجوب الغسل.
(5) «ر»: «عليهما».
(6) هذا الوجه ذكره السيّد المرتضى في الانتصار: 24.
(7) في «م»: «المحذور».
(8) في «م»: «أبلغ وأفصح».
________________________________________ الصفحة 409 ________________________________________
الآية: أن يُعْطَف في المسح كذلك؛ لتتناسب(1) الجملتان فيها. فإنَّ الترتيب والتناسب في الآية إنَّما يحصل بهذا الوجه دون ما ذهبوا إليه؛ لاَنَّها ـ كما ذكرنا ـ قد تضمنت ذكر عضوٍ مغسول غير محدود ـ وهو الوجه ـ وَعُطِف عليه مغسولٌ محدود ـ وهو اليد(2) ـ ثم اسْتُؤنِف(3) ذكِر عضوٍ ممسوح غير محدود ـ وهو الرأس ـ فحسن أنْ تكون(4) الاَرجل ممسوحة، وهي محدودة معطوفة عليه دون غيره، [لتتقابل](5) الجملتان.
في عطف مغسول محدود، على مغسول غير محدود(6).
وفي عطف ممسوح محدود، على ممسوح غير محدود(7).
وأيضاً، فقد أمر الله بغسل الوجوه، وجعل الاَيدي مثل حكمها ـ من الغسل ـ بواو العطف، ثم ابتدأ(8) جملة اُخرى، فقال: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ)، فأوجب للرؤوس المسح، وجعل للاَرجل مثل حكمها بالعطف.
فلو جاز أنْ يُخالف بين حكم الاَرجل والرؤوس في المسح، جاز أن يُخالف بين حكم الوجوه والاَيدي في الغسل؛ لاَنّ الحال واحدة.
فقد بَانَ لك، أنَّه لا يجوز أنْ يكون نصب (وأرجلكم) للعطف على
____________
(1) في «م»: «التناسب».
(2) في «ر»: «اليدان»، وما قبله يدل على إرادة «اليد».
(3) «استؤنف»: لم ترد في «م».
(4) في «ر»: «يكون».
(5) في «ر» و«م»: «ليتقابل»، وما بين العضادتين هو الصحيح.
(6) أي: عطف (وأيديكم إلى المرافق) على (فاغسلوا وجوهكم)
(7) أي: عطف (وأرجلكم إلى الكعبين) على (وامسحوا برؤوسكم). وأوّل من ذكر هذا الوجه هو السيّد المرتضى في الانتصار: 24.
(8) في «م» «أبتداء».
________________________________________ الصفحة 410 ________________________________________
(وجوهكم وأيديكم)؛ لاَنّ الجملة المأمور فيها بالغسل، قد نُقِضَتْ وبطل حكمها باستيناف الجملة الثانية(1).
ولا يجوز بعد انقطاع الجملة الاُولى أنْ يُعْطَف عليها، إذ يجري ذلك مجرى: ضربت زيداً وعمرواً، ومررت بخالدٍ وبكراً! وهو ظاهر.
وعلى ما قلناه يتطابق معنى القراءتين ولا تتنافيان(2).
____________
(1) تقدّم الردُّ على ادّعاء نصب الاَرجل عطفاً على الوجوه والاَيدي في ص377 من هذه الرسالة.
(2) راجع الهامش رقم 3 ص 368 ـ 387.
التعلیقات