مناقشة أحاديثهم المستدلّ بها على غسل الرجلين
المصدر : نـهـايـة الاقـدام في وجوب المسح على الاقدام ، تأليف : السيّد نور الله التستري ، تحقيق : هدى جاسم محمّد ابو طبرة ص 430 ـ 457
________________________________________ الصفحة 430 ________________________________________
[مناقشة أحاديثهم المستدلّ بها على غسل الرجلين]
إنْ قيل: لعلّ الباعث للقوم على ارتكاب التمحُّلات المذكورة في توجيه الآية، الاَحاديث الصحيحة ـ عندهم ـ الدالّة على وجوب غسل الرجلين.
منها:
[حديث ابن عباس]
[1] ما رواه البخاري(1) في صحيحة، عن ابن عباس أنّه توضأ ـ إلى أنْ قال ـ ثمَّ أخذ غَرْفةً أُخرى، فغسل بها رِجْلَهُ اليُسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ(2).
____________
(1) هو محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بذدربه ـ وقيل: بردزبة ـ الجُعْفي البخاري. ولد سنة 194هـ، من اشهر مصنفاته جامعه المسمى بـ (صحيح البخاري)، روى فيه عن عمران ابن حطان ومعاوية ومروان وامثالهم، مات سنة 256هـ عن اثنين وستين عاماً.
وفهرست ابن النديم: 483 الفن السادس من المقالة السادسة، وطبقات الحنابلة 1/271، تهذيب الكمال 24/430 رقم505، مقدمة فتح الباري، شذرات الذهب 2/334.
(2) صحيح البخاري 1/47 ـ 48 باب غسل الوجه باليدين من غَرْفَةٍ واحدة، من كتاب الوضوء.
________________________________________ الصفحة 431 ________________________________________
[حديث عثمان]
[2] وما رواه عن ابن شهاب(1): أنّ عطاء بن يزيد(2) أخبره [أنّ حُمرانَ مولى عُثمان أخبره](3) أنّه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفَّيه ثلاث مرات فغسَلهُما، ثُمَّ ادخلَ يمينَه في الاِناء فتمضمضَ واستنشقَ، ثم غسلَ وجْهَهُ ثلاثاً، ويديْهِ إلى المرفقين ثلاث مراتٍ، ثم مسح برأسه(4)، ثم غسل رِجْليهِ ثلاث مِرارٍ إلى الكعبينِ، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ توضّأ نحو وضوئي هذا، ثُمَّ صلى ركعتين لا يُحَدِّثُ بهما نفسهُ غفر الله له ما تقدم مِنْ ذنبِه(5).
____________
(1) هو محمّد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب الزهري، ولد في زمان معاوية سنه 51هـ وقيل غير ذلك. كان كثير العلم ويعد من الحفاظ إلاّ أنه تقرب إلى بلاط الاُمويين واتّهم بالتدليس، سكن دمشق ومات فيها سنة 123 أو 124هـ.
طبقات ابن خياط: 454 رقم2302، الكنى والاسماء 1/122، حلية الاَولياء 3/360، تهذيب الكمال 26/419 رقم5606، تأريخ الاِسلام 5/136.
(2) هو عطاء بن يزيد الليثي ثم الجندعي، أبو محمّد، ـ وقيل: أبو زيد ـ المدني الشامي، ولد في أوائل زمن عثمان، ويعد من طبقة التابعين، سكن الشام ومات سنة 107هـ وقيل سنة 105هـ عن ثمانين سنة.
طبقات ابن سعد 5/249، المعارف: 443، ثقات ابن حبّان 5/200، الكامل في التاريخ 5/126، تهذيب الكمال 20/123 رقم3945.
(3) ما بين العضادتين اثبتناه من المصدر.
(4) في «م»: «رأسه»، وما في «ر» موافق لما في المصدر.
(5) صحيح البخاري 1 / 51 باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً من كتاب الوضوء، 1 / 52 باب المضمضة من كتاب الوضوء و 3 / 40 باب سواك الرطب واليابس للصائم من كتاب الصوم.
واخرجه مسلم في صحيحه 1 / 204 ح266 باب صفة الوضوء وكماله من كتاب الطهارة، واخرجه مالك في المدونة الكبرى 1 / 3 في (التوقيت في الوضوء).
________________________________________ الصفحة 432 ________________________________________
[حديث عبدالله بن زيد]
[3] وروى أيضاً في صحيحه عن عبدالله بن زيد(1)، أنّه سُئِلَ عن وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم فَدَعا بِتَوْرٍ(2) من ماء، فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَأَكْفَأ على يده من التَّوْرِ، فغسل يديهِ ثلاثاً، ثم أدْخلَ (يَدهُ في التَّوْرِ فتمضمضَ واستنشقَ، واسْتَنْثَرَ ثلاثَ غَرفاتٍ، ثمَّ أدخلَ يدَهُ فغسل وجههُ ثلاثاً، ثم أدخلَ يدَهُ)(3) فغسل يديه مرتين إلى المرفقينِ، ثمّ أدخل يده فمسح رأسَه، فأقبلَ بها وأدبرَ مرةً واحدةً، ثمّ غسلَ رجليهِ إلى الكعبينِ(4).
____________
(1) في «م»: «بن يزيد» والصحيح ما في «ر»، وهو عبدالله بن زيد بن عاصم يعرف بابن عمارة، قيل: أنّه بدري، وقيل: أُحدي. قتله دعاة الاَُمويين في موقعة الحرّة بالمدينة سنة 63هـ في زمن اللعين الكافر يزيد بن معاوية لعنه الله.
طبقات ابن سعد 5/531، الطبقات ـ لابن خياط ـ: 162 رقم 586، الاستيعاب 3/913، الكامل 4/117، سير أعلام النبلاء 2/377 رقم 80.
(2) توجد في «ر» آثار حاشية ممسوحة تبدأ بإزاء لفظ «بِتَوْرٍ» الذي وقع في نهاية سطر من النسخة «ر»، ولعلّها في بيان معنى «التور» الذي هو نوع من الاَواني، يصنع من صفر أو حجارة كالاِجانة، ويستعمل للشرب، وقد يتوضأ منه. لسان العرب 2/63 مادة «تَوَرَ».
(3) ما بين القوسين لم يرد في «م».
(4) أخرج البخاري هذا الحديث خمس مرّات في كتاب الوضوء، هي:
الاَُولى: في باب غسل الرِجلين إلى الكعبين 1/58، والمصنّف قدس سره أخذه من هذا الباب للاختلافات اليسيرة معه في نظائره الاَُخرى الآتية.
الثانية: في باب من مضمض واستنشق من غَرْفَةٍ واحدة 1/59.
الثالثة: في باب مسح الرأس مرّة 1/59 ـ 60.
الرابعة: في باب الوضوء من التَّوْرِ 1/16.
الخامسة: في باب الوضوء في المِحصب والقَدَح والخشب والحجارة 1/60 ـ 61.
كما أخرجه مسلم في صحيحه 1/210 ـ 211 ح235 في باب وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، من كتاب الطهارة، ومالك في المدونة الكبرى 1/3 في (التوقيت في الوضوء).
________________________________________ الصفحة 433 ________________________________________
[حديث عبدالله بن عمرو بن العاص]
[4] وروى أيضاً عن عبدالله بن عَمْرُ [و]، قال: تخلَّف النبيّ عنّا في سفرة [سافرناها]، فأدركنا وقد أرْهَقنا العَصْرَ، فجعلنا نتوضّأ ونمسحُ على أرجلِنا، فنادى بأعلى صوته: وَيْلٌ للاَعْقابِ من النار. مرّتينِ، أو ثلاثاً(1).
[حديث أبي هريرة]
[5] وروى أيضاً عن أبي هُريرة، أنّه كان يقول: إنّ أبا القاسم
____________
(1) الحديث الرابع مخرّج في كتب الصحاح والسنن والمسانيد عن عبدالله بن عمرو ـ بالواو ـ بن العاص وليس عن عبدالله بن عمر بن الخطاب.
انظر: صحيح البخاري 1/52 باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، وما بين المعقوفات منه، وصحيح مسلم 1/214 ح 241 (26) باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، وسنن النسائي 1/77 ـ 78 باب إيجاب غسل الرجلين، وسنن أبي داود 1/24 ح 97 باب في إسباغ الوضوء، وسنن الدارمي 1/179 باب ويل للاَعقاب من النار، وسنن البيهقي 1/69 باب الدليل على أنّ فرض الرجلين الغسل وأنّ مسحهما لا يجزىَ، والمصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 1/26 في كتاب الطهارات تحت عنوان: (من كان يأمر بإسباغ الوضوء)، ومسند أحمد 2/ 201، ومسند أبي داود الطيالسي: 302 ح 2290، ومسند أبي عوّانة 1/250 باب إثبات غسل الرجلين.
أمّا حديث «ويل للاَعقاب من النار» الذي رواه عبدالله بن عمر بن الخطاب، فهو يختلف عن لفظ الحديث الرابع صدراً ويتفق معه ذيلاً، ولم يروه الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ بل رواه غيرهما كما سيأتي نصّه وتخريجه في الهامش رقم 5 ص443 وهو الحديث رقم [7]، ولكن لا يبعد تحريف (عبدالله بن عمر) إلى (عبدالله بن عمرو) في سند حديث الصحيحين، إذ أخرج السيوطي في قطف الاَزهار المتناثرة في الاَخبار المتواترة: 59 ح 16 الحديث نفسه، وقال: أخرجه الشيخان (البخاري ومسلم) عن ابن عمر، وأبي هريرة. فلاحظ.
________________________________________ الصفحة 434 ________________________________________
(صلى الله عليه وآله وسلم، قال:)(1) ويل للاَعقاب من النار(2).
____________
(1) ما بين القوسين لم يرد في «م».
(2) صحيح البخاري 1/53 باب غسل الاَعقاب من كتاب الوضوء، وقد روي حديث أبي هريرة في الويل للاَعقاب بألفاظ مختلفة كما في صحيح مسلم 1/214 ح242 (28 ـ 30) باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، وسنن ابن ماجة 1/154 ح452، وسنن الترمذي 1/58 ح41 باب ما جاء (ويل للاَعقاب من النار) وقال الترمذي 1/60: «وفقه هذا الحديث: أنّه لا يجوز المسح على القدمين إذا لم يكن عليها خفاف أو جوربان»!! وسنن الدارمي 1/179، باب ويل للاَعقاب من النار، وسنن البيهقي 1/69 باب الدليل على أنّ فرض الرجلين الغسل وأنّ مسحهما لا يجزىَ، ومسند أبي عوانة 1/251 باب إثبات غسل الرجلين. وقد أخرجه الطبري من ثمانية طرق في تفسيره.
انظر: تفسير الطبري 10/64 ـ 65 ح 11497 ـ 11504، من الطبعة المحقّقة.
هذا، وحديث (ويل للاَعقاب من النار) على اختلاف ألفاظه، قد رواه عدد آخر من الصحابة من غير ابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وهم:
1 ـ عائشة: كما في صحيح مسلم 1/213 ح240 (25) باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، وسنن ابن ماجة 1/154 ح451 باب غسل العراقيب، وسنن الدارقطني 1/95 ح2 باب وجوب غسل القدمين والعقبين، سنن الاَوزاعي: 103 ح308 و309 في (إسباغ الوضوء)، وسنن البيهقي 1/69 باب الدليل على أنّ فرض الرجلين الغسل وأنّ مسحهما لا يجزىَ، ومصنّف ابن أبي شيبة 1/26 في (من كان يأمر بإسباغ الوضوء)، ومصنّف عبدالرزاق 23/69 باب غسل الرجلين، ومسند الطيالسي: 217 ح 1552، ومسند أبي يعلى الموصلي 7/400 ح4426 (70)، ومسند أبي عوّانة 1/251، باب إثبات غسل الرجلين، ومسند الحميدي 1/87 ح161، وتفسير الطبري من ستّة طرق 10/66 ـ 68 ح 11505 ـ 11510.
2 ـ معيقب: كما في تفسير الطبري 10/71 ح 11519.
3 ـ أبو أُمامة: المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 8/348 ح 8109 ـ 8112 و8114 ـ 8116 وقد أورده عن أبي أُمامة وأخيه، وتفسير الطبري 10/73 ح 11525.
4 ـ أبو سلمة: سنن ابن ماجة 1/154 ح 453.
5 ـ جابر بن عبدالله، سيأتي تخريج حديثه في الهامش رقم 7 ص441 ح[6].
6 ـ 10 ـ خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعروة بن العاص؛ كلّهم في سند حديث واحد في سنن ابن ماجة 1/154 ح 455.
=
________________________________________ الصفحة 435 ________________________________________
قلنا: الكل مُجاب:
[جواب حديث ابن عبّاس [1]]
أمّا الجواب عن حديث ابن عباس فقد تقدمت الاِشارة إلى أنَّ مذهبه المنقول بين العلماء هو المسح(1).
وقـد روي عنه أيضاً في بيان وضوء رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم ] أنّه مسح على رجليه(2).
فهذا الحديث إنْ صحّ دلّ على الاستحباب(3) وإرادته الوضوء الكامل
____________
=
11 ـ أبو ذرّ: كما في مصنّف عبدالرزاق 1/22 ح64 باب غسل الرجلين، وأخرجه سعيد بن منصور عنه كما في قطف الاَزهار: 59 ح16.
12 ـ عبدالله بن الحارث بن جزء الزبيدى: كما في سنن الدارقطني 1/95 ح1 باب وجوب غسل القدمين والعقبين، وسنن البيهقي 1/69 باب الدليل على أنّ فرض الرجلين الغسل وأنّ مسحهما لا يجزىَ، ومستدرك الحاكم 1/162 في كتاب الطهارة، وقد احتجّ مفسّروا وفقهاء العامّة بهذا الحديث على وجوب الغسل.
انظر: أحكام القرآن ـ للجصاص ـ 2/346، وتفسير الوسيط 2/161، والمبسوط ـ للسرخسي ـ 1/8، وأحكام القرآن ـ للكيا الهراسي ـ 3/42، معالم التنزيل 2/217، والكشاف 1/198، وأحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 2/577، وتفسير ابن كثير 2/28، وفتح القدير 2/180، وقد عده السيوطي متواتراً في قطف الازهار المتناثرة في الاخبار المتواترة: 59 ح16.
وقال ابو الفيض الغماري في شرح الهداية 1/164: «وقد عده الحافظ السيوطي متواتراً، فلم يصب». فلاحظ.
(1) مرّ في الهامش رقم 1 ص 361 تصريح اثنين وعشرين عالماً من علماء العامّة بمسح ابن عباس على قدميه في الوضوء، فراجع.
(2) كما في تهذيب الاَحكام 1/63 ح 172 و173 وعنه في وسائل الشيعة 1/419 ح 1092 و1093 باب وجوب مسح الرجلين وعدم إجزاء غسلها من أبواب الوضوء.
(3) في «م»: «استحبابه».
________________________________________ الصفحة 436 ________________________________________
ـ كما يأتي(1) ـ وإلاّ ناقضت روايته مذهبه
وأيُّ عاقل يتصوّر أن يكون قد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ وغسل رجليه غسلاً واجباً داخلاً في حقيقة الوضوء، ثمّ يذهب إلى وجوب المسح، ويمسح [عليها](2) بالآية الكريمة، وينقل عنه ذلك المخالفون والموالفون(3)؟
[جواب حديث عثمان [2] وحديث عبدالله بن زيد [3]]
وأمّا الجواب عن الحديث الثاني والثالث؛ فمن وجوه:
الاَوّل: إنّه لو [سلمت](4) صحّتهما، فليس فيهما أنّ غسل الرجلين واجبٌ، ولا أمرٌ بغسلهما، ولو كان فيهما أمرٌ بالغسل كان الاَظهر حمله على الاستحباب، كما يدلّ عليه أوَّلي(5) الحديث وسوقه(6)، كما نبيّنه.
وإنّما فيهما حكاية حال فعل النبيّ عليه السلام (7)، وهو أعمّ، فلا يدلّ على الوجوب كما لا يخفى.
____________
(1) سيأتي في جواب حديث عثمان وحديث عبدالله بن زيد بعد الفراغ من جواب حديث ابن عباس.
(2) في «م» و«ر»: «عليه»، وما بين العضادتين هو الصحيح.
(3) في «م»: «والموافقون».
(4) في «م» و«ر»: «لو سلم»، وهو صحيح مع إضافة «تقدير» أو «فرض» ونحو ذلك، وأثبتنا الاَصحّ.
(5) في «م»: «أوّل»، ولعل الاَصوب: الحديث الاَوّل.
(6) «وسوقه»: لم ترد في «م».
(7) في «ر»: «فعله عليه السلام» بدلاً عن «فعل النبيّ عليه السلام».
________________________________________ الصفحة 437 ________________________________________
الثاني: إنّ ظاهر سوق الحديثين إنّ غسل الاَرجل كان على
سبيل النُدب؛ لاَنّ في حديث عثمان: أنّه أفرغ على كفّيه ثلاث مرات فغسلهما، ثمّ أدخل يمينَه في الاِناء فتمضمض واستنشق.
وتثليث الغسل كلّه مستحب(1). وكذا الحديث الثاني(2).
وظاهرٌ أنهما وردا لبيان مستحبّات الوضوء ومكمّلاته ـ [ومنها](3) غسل الرجلين ـ وترك بيان مسح الرجلين؛ لاَنّه ليس فيه تكرار ولا إسباغ، وهو مقدّر ـ بالآية ـ إلى الكعبين؛ فلا يحتاج ـ بعد الآية ـ(4) إلى بيان.
(*) وإذا احتمل الحديثان وشبههما إرادة الاستحباب بغسل الرجلين سقط الاِستدلال بهما(5).
____________
(1) أفرد في وسائل الشيعة 1/430 باباً بعنوان: «استحباب المضمضة ثلاثاً، والاستنشاق ثلاثاً، قبل الوضوء وعدم وجوبهما» من أبواب الوضوء، ومثله في مستدرك الوسائل 1/324 من أبواب الوضوء أيضاً، وفيهما أحاديث كثيرة تدلّ على استحباب المضمضة والاستنشاق قبل الوضوء، وأنّهما ليسا من أجزائه الواجبة، ومن تركهما ـ عمداً أو سهواً ـ فلا شيء عليه.
وأمّا عن غسل اليدين قبل الاغتراف للوضوء فلم أجد حديثاً بتثليثه، بل المرويّ عن الاِمام الصادق عليه السلام هو أنْ يكون غسل اليدين قبل الوضوء مرّة واحدة من حدث النوم كما في الفقيه 1/29 ح 92، وكذلك مرّة واحدة من حدث البول، ومرتين من حدث الغائط كما في الكافي 3/12 ح 5.
(2) الثاني بالنظر إلى رتبته في هذا الجواب، وإلاّ فهو الثالث بالنظر إلى ما تقدّم من أحاديث البخاري.
(3) في «م» و«ر»: «ومنه»، وما بين العضادتين هو الصحيح.
(4) «بعد الآية»: لم ترد في «م».
* تـنبيه:
من هنا حصل في الوجه الثاني تقديم وتأخير في الكلام في نسخة «م» سننبّه عليه عند غلق القوس في ص 440 تحت عنوان: (تنبيه) معلَّماً بنجمة صغيرة.
(5) ورد في حاشية «ر» لفظ: «بها» معلّماً بالصحّة. وهو اشتباه، والصحيح ما ذكره المصنّف قدس سره في المتن كما سيتّضح من الهامش الآتي.
________________________________________ الصفحة 438 ________________________________________
كيف، وهو الظاهر من [سَوْقهما](1)؟
الثالث: إنَّ ظاهر حال الصحابة وتابعيهم أنّهم إنّما(2) أرادوا بيان مستحبات الوضوء ومُكَمّلاته؛ لاَنَّ الآية قد دلّت صريحاً على الاَفعال الواجبة، وحدّت ما يحتاج إلى التحديد كالاَيدي والاَرجل(3)، وَعُلِمَ منها أنَّ الواجبَ: غسلةٌ واحدةٌ، ومسحةٌ واحدةٌ؛ لحصول الامتثال بذلك(4).
فَعُلِمَ أنَّ(5) المقصد الحقيقي من الوضوء البياني، تعليم الوضوء الكامل، وبيان ما لم يُبيّن في الآية؛ وهي: المندوبات، وصفاتها، واعدادها، ومنها: غسل الرجلين(6).
____________
(1) في «ر»: «سَوْقها»، وما أثتبناه بين العضادتين هو الصحيح، والظاهر أنّ ورود لفظ «بالآية» و«بعد الآية» قبل ذلك بقليل كان مدعاة لتصحيح «بهما» إلى «بها»، و«سَوْقهما» إلى «سَوْقها»، مع أنّ اللفظين المذكورين إنّما ذُكِرا للاِيضاح، ولو حذفا من الكلام لما اختلّ معناه.
ومعنى العبارة: إنّه مع احتمال كون المراد بغسل الرجلين ـ في الحديثين ـ هو بيان مستحبّات الوضوء، فيسقط الاستدلال بهما ـ لا محالة ـ على وجوب الغسل.
وكيف لا يسقط، واستحباب غسل الرجلين ـ كما تقدّم في أوّل هذا الوجه ـ هو الظاهر من سَوْق الحديثين؟
(2) في «م»: «إنْ»، والصحيح ما في «ر»، لعدم إرادة الشرط كما يظهر من خلو العبارة من جوابه.
(3) التحديد في الاَيدي: (إلى المرافق) وهو غير مسلّم، لاَن (إلى) هنا لا تفيد التحديد، وإلاّ وجب الابتداء من الاَصابع! فلاحظ، وأما التحديد في الاَرجل: (إلى الكعبين).
(4) ويدل عليه قول الاِمام الباقر عليه السلام: «الغَرْفَةُ الواحدة تجزي» الكافي 3/26 ح5، وتهذيب الاَحكام 1/81 ح211، والاستبصار 1/71 ح216.
وقد أخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده 9/44 ح 9958 بسنده عن أُبي بن كعب إنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرة مرة، وقال: «هذا وضوءٌ لا يقبل الله الصلاة إلاّ به».
أمّا تثنية الغسلات عند شيعة أهل البيت عليهم السلام، فمحمولة على الاستحباب في صورة استيعاب الغسل بالغَرْفَةِ الواحدة، وأمّا في صورة تخلّف شيء من غسل محل الفرض، فلا شكّ في وجوب غسله ثانياً كما في تذكرة الفقهاء 1/200.
(5) في «ر»: «من» بدلاً من «أنّ».
(6) وقد يكون غسل الرجلين ـ قبل الوضوء ـ واجباً، كما لو كان محل الفرض في المسح نجساً.
________________________________________ الصفحة 439 ________________________________________
وأمّا الواجبات فكانت معروفة متداولة بينهم من حين إسلامهم، يفعلونها في وضوئهم، فلم يحتاجوا إلى بيانها.
وممّا يؤكّد ذلك، أنّهما(1) لم يُعَيّنا في الحديثين وأمثالهما، واجب الوضوء من مندوبه؛ لاَنَّ واجباته كانت معروفة عندهم(2).
ولولا ما قلناه، لوجب أنّ يميزوا الواجب من الندب؛ ليفعل كل واحد على وجهه، وإلاّ كان(3) هذا البيان إيقاعاً لهم في الجهل كما لا يخفى؛ ولهذا لم يقل أحدٌ بوجوب التثليث(4)، والمضمضة ونحوهما(5). فكذلك غسل الرجلين.
إنْ قلت: لعلَّ مَنْ تعلَّمَ بيانَ ذلكَ الوضوء، عَلِمَ استحباب الاَُمور المذكورة من موضع آخر؛ فلهذا(6) لم يميزها عن الواجبات.
____________
(1) أي: عثمان بن عفان، وعبدالله بن زيد، لحكايتهما آنفاً وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم في الحديثين المرقمين [2] و[3]، ويحتمل إرجاع الضمير إلى الصحابة والتابعين الواقعين في سند الحديثين بقرينة قوله الآتي: «لوجب أن يُميزوا».
(2) إذ لا يعقل عدم معرفتهم بها وهم يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يتوضأ عدّة مرات في اليوم الواحد، بما لو جُمِعت وضوءاته صلى الله عليه وآله وسلم ابتداءً من البعثة المشرّفة إلى الوفاة لزادت على أربعين ألف وضوء، هذا مع تقدير خمس وضوءات في اليوم الواحد من أيّامه المباركة، فكيف تُجهل مثل هذه السُنّة الفعلية، لولا السياسة الاَُموية ودعمها للوضوء البدعي الذي ما أنزل الله به من سلطان؟!
(3) في «ر»: «لكان» وهو صحيح أيضاً.
(4) التثليث مستحبّ عند العامّة، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي.
انظر: بداية المجتهد 1/13، وبدائع الصنائع 1/22، والمغني 1/159، والمجموع 1/431، وفتح الباري 1/209، وعند الشيعة الاِماميّة مبطلٌ للوضوء.
(5) المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات قبل الوضوء، من المستحبات عند الشيعة الاِمامية، وليست واجبة، والظاهر أنّها كذلك عند العامّة، إذْ لم أقف على مُصَرّحٍ بوجوبها، وإنْ كانوا يواضبون عليها.
(6) في «ر»: «فلماذا»، وما في «م» هو الاَنسب.
________________________________________ الصفحة 440 ________________________________________
قلت: وكذا وجوب مسح الرجلين، يُحْتَمل أنْ يكون معلوماً لهم من موضع آخر، ويكون عدم الاِتيان به في الوضوء البياني لاَجل ذلك)(*).
إنْ قلت: لِمَ فَعَلَ مسح الرأس في ذلك الوضوء البياني، والمناسب ـ لما قلت ـ أنْ لا يفعل؛ لاَنه قد ذُكر في الآية كمسح الرجلين؟
قلت: إنّما [فعله](1) لوجوهٍ:
الاَوّل: بيان الترتيب (سيما وقد ذهب بعضهم إلى استحبابه)(2).
الثاني: بيان أنّه لا تكرار ولا إسباغ فيه كما في الغسل.
الثالث: بيان(3) أنّه لا يستحب غسله كما في الرجلين(4).
فقد ظهر الحق والقول السديد (لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْناٌ
____________
* تنبيه:
ما سيأتي بعد العبارات المحصورة بين القوسين مباشرة وهو ابتداءً من قوله ـ قدس سره ـ: «إنْ قلت» وانتهاءً بقوله ـ في آخر الوجه الثالث ـ: «كما في الرجلين» قُدّم في «م» على العبارات المحصورة بين القوسين، وقد ألمحنا إلى هذا التقديم والتأخير في نسخة «م» في التنبيه السابق ص 437. فلاحظ.
(1) في «م»: «فعل»، وفي «ر»: «ذكره»، وما بين العضادتين هو الاَنسب.
(2) ما بين القوسين لم يرد في «ر».
(3) «بيان»: لم ترد في «ر».
(4) راجع التنبيه المذكور قبل ثلاثة هوامش، هذا ويمكن إضافة الوجوه الآتية إلى ما ذكره المُصَنّف قدس سره:
1 ـ بيان مقدار ما يجزىَ من المسح.
2 ـ بيان أن يكون المسح على الرأس مباشرة، لا على العمامة ولا القلنسوة ولا غيرهما.
3 ـ تعيين محلّ المسح، وأنه ليس للاَُذنين، أو الرقبة، أو القفا نصيب منه.
4 ـ تعليم أن المسح يكون بماء الوضوء، لا بماء مستأنف.
5 ـ مباشرة الماسح نفسه بالمسح، لا أن يأمر مولاه ـ مثلاً ـ بذلك.
6 ـ أن يكون المسح بباطن الكفّ من اليد وليس بظهرها.
________________________________________ الصفحة 441 ________________________________________
عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصُركَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(1).
[جواب أحاديث: ويل للاَعقاب من النار [4] و [5] وغيرهما]
وأمّا حديث ابن عمرو(2)، وقوله: «فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويلٌ للاَعقاب من النار..»(3)، (كما رواه البخاري)(4).
(وحديث أبي هريرة: «إنَّ أبا القاسم [ صلى الله عليه وآله وسلم ] قال: ويل للاَعقاب من النار»(5)(6)
[6] وحديث جابر للعراقيب، كما هو مذكور في الكشّاف(7)، فهي دلائل على وجوب المسح.
وبيان ذلك ـ على ما أشار إليه الشيخ الفاضل أبو الفتح محمّد بن علي الكراجكي(8)، في كتابه الموسوم بـ «كنز الفوائد» ـ:
____________
(1) سورة ق 50: 22.
(2) في «م»: «ابن عمر»، والصواب: ابن عمرو كما مر في الهامش رقم 1 ص 433.
(3) تقدم تخريجه في الهامش رقم 1 ص 433 وهو الحديث رقم [4].
(4) ما بين القوسين لم يرد في «ر».
(5) تقدم تخريجه في الهامش رقم 2 ص 434 وهو الحديث رقم [5].
(6) ما بين القوسين لم يرد في «ر».
(7) الكشّاف، 1/598، ونحوه في مصنّف ابن أبي شيبة1/26 في «من كان يأمر بإسباغ الوضوء»، ومسند أبي عوّانة 1/252، وتفسير الطبري من ثمان طرق 10/69 ـ 71 ح 11511 ـ 11518، والحجّة للقراء السبعة 3/215، وأحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 2/577، والناسخ والممسوخ ـ له أيضاً ـ 2/199، والمبسوط ـ للسرخسي ـ 1/8، وتفسير ابن كثير 2/28.
(8) هو الشيخ الجليل أبو الفتح محمّـد بن علي بن عثمان الكراجكي، من أجلاّء مشايخ الشيعة
=
________________________________________ الصفحة 442 ________________________________________
إنَّ أهل الحجاز ـ لِيَبْس [هوائهم](1)، ولبسهم النعال العربية ـ كانت أعقابهم(2) ربّما تُشقّق، فيداوونها بالبول على قديم عادتهم»(3).
ويزعمون أنّه يُزيل [الشقوق](4)؛ ولهذا تسمعهم يقولون: أعرابي بَوّالٌ على عقبيـه(5)، فربما تركوا غسلها(6) نسياناً؛ لتهاونٍ أو نحو ذلك.
____________
=
في عصره، كان متضلعاً بالفقه والحديث والكلام وغيرها، سمع من الشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، وسلاّر وتتلمذ على أيديهم، وكان رحّالة في طلب العلم، سكن مصر في عهد الدولة الفاطمية، واشتهر بغزارة التأليف، وتوفّي رحمه الله في صُور سنة 449هـ.
وقد ينسب القبر الموجود حالياً ببغداد ـ جهة الرصافة في جامع الآصفية، بجنب المدرسة المستنصرية على يسار القادم من الرصافة إلى الكرخ عابراً جسر المأمون [سابقاً، والاحرار حالياً] المشيد على نهر دجلة والمجاور لمرقد أوثق الناس في الحديث وأثبتهم (الكليني) ـ إلى الكراجكي، كما في مراقد المعارف 2/214! وهو بعيد.
معالم العلماء: 118 رقم 788، فهرست منتجب الدين: 154 رقم 355، تذكرة المتبحرين 2/287 رقم 857، رجال السيّد بحر العلوم 3/302، مستدرك الوسائل 3/497 من الخاتمة، روضات الجنات 6/209 رقم 579، الكنى والاَلقاب 3/88، أعيان الشيعة 9/400، معجم رجال الحديث 16/332 رقم 11315.
(1) في «م» و«ر»: «هواهم»، والصحيح بالمدّ كما أثبتناه من العضادتين، والهواء: هو الجو ما بين السماء والاَرض، وبالقصر: هوى النفس؛ أي: محبة الاِنسان الشيء وغَلَبَتُه على قلبه، ومنه قوله تعالى: (وَنَهى النفْسَ عَنِ الهَوى) أي: نهاها عن شهواتها وما تدعو إليه من معاصي الله عزّ وجل. لسان العرب 15/168، مادة «هَوَا».
(2) «أعقابهم»: لم ترد في «م».
(3) كنز الفوائد ـ الكراجكي ـ 1/160، والعبارة فيها شيء من المسامحة كما سننبّه عليه في الهامش رقم 4 ص 451، فلاحظ.
(4) في «م» و«ر»: «الشقاق» وما بين العضادتين هو الصحيح، والشقوق: جمع شقّ، وهو الصدع البائن، يقال: بيد فلان ورجله شقوق، ولا يقال: شقاق، إنّما الشقاق داء يصيب الدوابّ، انظر: لسان العرب 7/164، مادة «شَقَق».
(5) كوالد الشمر اللعين، إذ كان بوّالاً على عقبيه، بشهادة زهير بن القين رضي الله عنه كما في مقتل الاِمام الحسين عليه السلام ـ لاَبي مخنف ـ: 120.
(6) «غسلها»: لم ترد في «م».
________________________________________ الصفحة 443 ________________________________________
فقال صلى الله عليه وآله وسلم، تارة: «ويل للاَعقاب من النار»، وتارة: «ويلٌ للعراقيب»؛ لينبِّه من كان بال على عقبه أنْ يغسله، ولاَنّ البول(1) إنّما كان على الاَعقاب (فقال بلفظ الاَعقاب والعراقيب، ولم يقل بلفظ الاَرجل)(2).
ولو كان المراد إيجاب غسلها للوضوء لقال [ صلى الله عليه وآله وسلم ]: اغسلوا أرجلكم، ولم يأتِ ـ في عِدّةٍ من الاَحاديث ـ بلفظين صريحين في كون الغسل للعقب فقط، وظاهرهما كونه لاِزالة النجاسة.
وهلاّ قال مرةً واحدةً: ويلٌ للاَرجل، أو اغسلوا أرجلكم؛ لاَنَّ الواجب عليكم غسل الاَرجل إلى الكعبين؟
وَلِمَ خَصَّ الاَعقابَ والعراقيب(3) بالذكر لولا ما ذكرناه من التوجيه والبيان الوجيه؟
ويؤيّدهُ ما وقع في:
[7] الحديث الآخر ـ المذكور في الكشّاف ـ عن ابن عمر أيضاً(4)، قال: كُنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتوضأ قومٌ وأعقابهم بيض تلوح، فقال: ويل للاَعقاب من النار(5)... الحديث.
فَإنَّ الظاهر من قوله: «وأعقابهم بيض تلوح»، إنَّ ذلك الابيضاض
____________
(1) في «م»: «البول والدم».
(2) ما بين القوسين لم يرد في «ر».
(3) في حاشية «ر»: «العرقوب: العصب الغليظ المُوَتَّر فوق عقب الاِنسان».
(4) قوله: «أيضاً» بالبناء على كون حديث البخاري المتقدم برقم [4] هو عن ابن عمر، والصحيح أنّه كان عن ابن عمرو كما بيناه في محلّه، فراجع.
(5) الكشّاف 1/598، وأخرجه ابن ماجة في سننه 1/154 ح 450 باب غسل العراقيب من كتاب الطهارة وسننها؛ بسنده عن ابن عمر، بلفظ قريب مما ذُكرِ، ونحوه في سنن البيهقي 1/68 باب الدليل على أنّ فرض الرجلين الغسل وأنَّ مسحهما لا يجزىَ.
________________________________________ الصفحة 444 ________________________________________
[واللِّياح](1) من الاَجزاء المالحة الحاصلة من البول كما لا يخفى على من نظر في الاَراضي التي بال عليها الاِنسان، أو غيره من الحيوانات، أو شاهد بعض الصبيان السوقيّة(2) الذين لا يبالون بالبول قائماً على ساقهم، إنْ لم تتفق(3) له مشاهدة الاَعرابي الذي شأنه ما ذكرناه.
وأيضاً، يجوز أنّه صلى الله عليه وآله وسلم رأى [أُولئك](4) القوم غسلوا أرجلهم في الوضوء عوضاً عن مسحها، فرأى أعقابهم تلوح، عليها الماء. فقال: «ويلٌ للاَعقاب من النار».
وعلى التقديرين، لا دلالة لهذا الحديث(5) أيضاً على مدعاهم، بل هو عليهم لا لهم كما أوضحناه، وهذا ـ بحمد الله ـ واضح(6)، وكاف في سقوط الاستدلال بهذين الحديثين(7)، بل الاَحاديث الثلاثة(8).
____________
(1) في «ر» و«م»: «التلويح»، وما بين العضادتين هو الصحيح لغة، مِن: لاَحَ يلوح لِياحاً، إذا بدا وظهر، واللِّياح هو الاَبيض المتلاَليَ. لسان العرب 12/353 مادة «لَوَحَ». وأمَّا التلويح فهو دون التصريح رتبة.
(2) المراد بـ «السوقيّة» هنا: الصبيان الذين يقضون معظم أوقاتهم في الاَسواق، كناية عن تسيّبهم والظاهر كون اللفظ مُوَلّداً، إذْ لم أجد له استعمالاً في المعاجم اللغوية، ولعلّه أُخذ من السُوقة، وهي لغة من السوق، أمّا السُوقية من الناس، فهم من لم يكن من السلطان، وكثيرٌ من الناس من يظنّ أنَّ السُوقة هم أهل الاَسواق، بينما هم الرعيّة.
انظر: لسان العرب 6/437 مادة «سَوَقَ».
(3) في «م»: «يتفق».
(4) في «م» و«ر»: «ذلك»، ولم يُشر القرآن الكريم إلى (القوم) إلاّ بالجمع كما في سورة النساء 4: 78، والكهف 18: 15، وغيرهما.
(5) أي: حديث ابن عمر المتقدم برقم [7].
(6) في «م»: «أوضح».
(7) وهما المتقدمان برقم [4] و[5].
(8) وهي المتقدمة برقم [4] و[5] و[6]، أمّا السابع فقد بيّن عدم دلالته على المطلوب آنفاً.
________________________________________ الصفحة 445 ________________________________________
ثم أقول حينئذٍ:
إنَّ عبدالله بن عمر، والذين توضؤوا ومسحوا(1) على أرجلهم بمرأى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا من أصحابه قطعاً.
ولا شكّ ولا شبهة أنّ أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم (2) أعْلَمَ مِمَّنْ سِواهم ـ منّا ومنكم ـ بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لمشاهدتهم له في أفعاله ـ سيّما في الاَسفار ـ وَلاَخذهم معالم دينهم، وواجباتهم، وسننهم عنه [ صلى الله عليه وآله وسلم ] بغير واسطة، خصوصاً الضرورية المتكررة.
فلولا علمهم بوجوب المسح ما مسحوا، وهل يُتَصوّر من مثل عبدالله ابن عمر إنه من حين بلوغه(3)، بل من أيام تمرينه [على الصلاة](4) إلى حين وقوع ذلك السفر، لم يشاهد من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من أبيه الفاروق(5)!!
____________
(1) في «ر»: «أو مسحوا».
(2) في «م»: «عليه السلام».
(3) دخل ابن عمر سن التكليف الشرعي في حدود السنة الخامسة بعد الهجرة الشريفة؛ لاَنّه وُلِد قبل الهجرة الشريفة بعشر سنين كما في الاستيعاب 3/950، وأُسد الغابة 2/227، والاِصابة 2/44 رقم 3834.
(4) في «م» و«ر»: «للصلاة»، وما اثبتناه بين المعقوفين هو الصحيح، والتمرين هو التدريب على الشيء، من الفعل «مرّن» المتعدّي بـ «على» لا «اللام»، انظر لسان العرب 13/87 مادة «مَرَنَ».
(5) الفاروق لغة: هو من يفرّق بين شيئين، ورجل فاروق: يفرق بين الحق والباطل، لسان العرب 1/234 مادة «فَرَقَ»، وتسمية عمر بالفاروق باطلة جزماً؛ لاَنَّهم ذكروا في تسميته بالفاروق أسباباً، منها: أنَّه ضُرِبَ بالحق على لسانه!! وهذا كذب والله، إذْ لو كان هذا القول صدقاً وحقاً لكان تدوين السُنّة باطلاً، إذْ منعه عمر، وما بعد الحق إلاّ الباطل.
ومنها: زعمهم أنَّ الله تعالى سمّاه بذلك، وهذا كذب على الله والله؛ إذْ لو كان ذلك لكان من أُولى الناس أنْ يُفرق بين الحقّ في «هلموا أكتب لكم..» وبين الباطل في «إنّه ليهجر!!». والثابت من طرقنا، أنّ الوصي عليه السلام هو الفاروق، ولكن من غصبه حقّه، تلفّع بألقابه عليه السلام.
(6) في «م»: «مثلهم»، وما في «ر» هو الاَنسب.
________________________________________ الصفحة 446 ________________________________________
وضوءاً، ولا تعلم منهم (1)الوضوء الشرعي، و كان يصلي بالوضوء الخترع من تلقاء نفسه(2)؟
[8] [حديث ابن عمرو في كتاب «المشكاة»]
ونظير حديث عبدالله بن عمر، ما ذكره في كتاب «المشكاة»، عن عبدالله بن عمرو، قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة(3)، حتى إذا كُنّا بماءٍ في الطريق، تَعَجَّلَ قومٌ عند العصر، فتوضؤوا وهم عُجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ويل للاَعقاب من النار، اسبغوا الوضوء(*). رواه مسلم(5) (4).انتهى.
____________
(1) في «م»: «مثلهم»، وما في «ر» هو الانسب.
(2) ليس في جميع الاَحاديث المتقدمة ما يدلّ على كون ابن عمر من جملة المتوضئين الذين لم يسبغوا الوضوء، حتّى صاح بهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم «ويل للاَعقاب من النار» إلاّ ما كان في الحديث رقم [4] الذي نُسب إليه في المتن، وكان ـ كما في مصادره ـ لابن عمرو كما بيناه.
(3) في «م»: «مدينة» من غير ال التعريف.
* تنبيه:
جملة «اسبغوا الوضوء» وقعت في بداية سطر من نسخة «ر»، وقد كتبت حاشية بإزائها مباشرة ولكن لا علاقة لها بتلك الجملة، ولهذا سوف نذكرها في موقعها المناسب، مع التنبيه على ذلك أيضاً وذلك في الهامش رقم 4 ص 453، علماً بأنّ ما بين الموقعين في «ر» لوحة واحدة.
(4) هو مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري، ولد سنة 204هـ، فضّل المغاربة صحيحه المعروف بـ «صحيح مسلم» على صحيح البخاري، مات سنة 261هـ عن سبعة وخمسين عاماً.
فهرست ابن النديم: 484، الفن السادس من المقالة السادسة، طبقات الحنابلة 1/337، اللباب 3/38، تهذيب الاَسماء واللغات 2/89، تذكرة الحفّاظ 2/588، العِبر 2/32، البداية والنهاية 11/33، النجوم الزاهرة 3/23.
(5) مشكاة المصابيح ـ للخطيب التبريزي ـ: 46، باب سنن الوضوء.
________________________________________ الصفحة 447 ________________________________________
[جواب حديث عبدالله بن عمرو بن العاص [8]]
وفيه:
أوّلاً: إنَّ الاِسباغ إنَّما يقال في الزائد على الواجب، فلو كان غسل الاَعقاب داخلاً في أصل واجب الوضوء ـ كما يدل عليه الوعيد بالويل ـ كان ذكر الاِسباغ لغواً، بل كان الواجب أنْ يُقال: تمّموا الوضوء، ونحوه(1).
____________
(1) حصر الاِسباغ في الزائد على الواجب، فيه تأمّل؛ لصحة اطلاقه على الواجب دون المستحب تارة، وأُخرى عليها معاً.
أمّا الاَوّل، فيدل عليه حديث رفاعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّ وجلّ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين» وتقدم تخريجه في ص 371 هامش رقم 3، التسلسل 15، وأما الثاني، فيدل عليه معنى الوضوء لغة، وهو المبالغة فيه، واتمامه، وكماله، وتوسعته، كقولهم أسْبَغَ الله عليه النعمة، أي: أكملها، وأتّمها، ووسعها. لسان العرب 6/159، مادة «سبغ».
ومع هذا فلا يصح الاستدلال بالحديث على وجوب غسل الرجلين؛ لكونه مجملاً ولا يعلم من داخله أنّ (القوم) كانوا قد تركوا أعقابهم تلوح بعد غسل أرجلهم، فعبدالله بن عمرو قال: «توضأوا» والوضوء أعمّ من الغسل.
والظاهر من قوله: «لم يمسها الماء»، أنَّ القوم كانوا قد مسحوا أرجلهم، لا أنّهم غسلوها، وإلاّ لقال: «ولم يغسلوا أعقابهم»، خصوصاً وأنَّ لفظة «لم يمسها» أقرب في الدلالة على المسح.
ويؤيد هذا إنَّ الحديث في صحيح مسلم جاء بلفظ «فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى: ويل للاَعقاب من النار». صحيح مسلم 1/214 ح 27 باب 9 من كتاب الطهارة.
وهنا لا يُعلم سبب الويل للاَعقاب.
ألاَنّها كانت نجسة، فتوضأ القوم قبل تطهيرها؟
أو أنّها كانت طاهرةً فَتُرِكت بلا مسح؟
والحديث مجمل من هذه الناحية، ولا يدل على شيء منهما، هذا على فرض صحّة الحديث، ولكن سيأتي في الهامش اللاّحق ما يدلُّ على وضعه، فلاحظ.
________________________________________ الصفحة 448 ________________________________________
فهذا أوَّل دليل على وضع الحديث(1).
____________
(1) الحديث الموضوع: هو المختلف المجعول، ويعرف إمّا بإقرار الواضع نفسه واعترافه، أو بما هو شبيه بالاِقرار، وإمّا بقرينة ـ كركاكة الاَلفاظ مثلاً ـ ما لم يكن النقل بالمعنى، أو بمخالفته لدلالة الكتاب العزيز، أو السُنّة المتواترة، أو دليل العقل، أو إجماع أهل الحق وهم شيعة أهل البيت عليهم السلام، أو أن يكون الاِخبار فيه عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله غير واحد، كما في هذا الحديث المروي عن ابن عمرو فقط، وإمّا بالاِفراط بالوعيد الشديد على الاَمر الصغير، أو الوعد العظيم على الفعل الحقير، ومنها كون الراوي موصوفاً بالوضع، أو مائلاً إلى جهةٍ ينتصر لها بالحديث، كما في هذا الحديث المروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص، الذي كان كأبيه في بغض الوصيّ ونصرة الدعيّ، وكان ممّن استماله معاوية فقدم معه إلى الكوفة، والمعروف أنّ معاوية كان على سُنّة عثمان في وضوئه البدعي الذي ما أنزل الله به من سلطان.
إلى غير ذلك من الاَُمور الاَُخرى المذكورة في كتب الدراية في مجال معرفة الموضوعات.
ولا بأس هنا بإلقاء نظرة سريعة على سند الحديث.
إنَّ سند الحديث في صحيح مسلم هو هذا: «حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، ح.
وحدثنا إسحاق، أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساق، عن أبي يحيى، عن عبدالله بن عمرو».
فهذا السند له شعبتان، إحداهما ابتدأت بزهير بن حرب، والاَُخرى بإسحاق وكلاهما من مشايخ مسلم صاحب الصحيح.
أمّا زهير بن حرب بن شداد، فهو أبو خيثمة الحَرَشي ولد سنة 160هـ ومات سنة 234هـ، في خلافة المتوكل، وثقه العامّة كثيراً وعدّوه من نظراء أحمد بن حنبل وابن معين، ولم يضعفه أحد منهم.
انظر: سير أعلام النبلاء 11/489 رقم 130، وتهذيب التهذيب 3/196 رقم 637، ومع هذا يمكن الخدش فيه، إذْ اعترف ـ بجهلٍ ـ على نفسه بأنّه صار مرتداً عن الاِسلام لَمّا أجاب المأمون العباسي بما يريد حين امتحنه بمسألة خلق القرآن! كما نص على ذلك ابن عساكر الدمشقي في تبيين كذب المفتري: 352 ـ 353.
مع أنه لم يرتدّ عن الاِسلام بهذا، ولكنَّ لجهله بالمسألة أولاً، وعدم معرفته حكم التقية على ما خالف الاعتقاد ظاهراً عند الاِكراه ثانياً، جعل قوله ملزماً للردة، ومن يكُ هذا علمه، فالوثاقة ـ على تقدير ثبوتها ـ غير كافية في قبول مروياته مطلقاً من غير فحص، إذ قد يستغل في ترويج الباطل خصوصاً وأنه عاش في العصر العباسي الاَوّل وامتد به العمر إلى زمان
=
________________________________________ الصفحة 449 ________________________________________
.........................................................
____________
=
المتوكل الذي كان من أشدّ بني العباس حقداً على أهل البيت عليهم السلام، ونصرة للفكر السلفي الذي يتبنّاه زهير بن حرب ونظرائه من أهل الحديث.
وأمّا إسحاق، فهو ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المعروف بابن راهويه المروزي.
ولد سنة 161 ـ أو 166، ومات سنة 237 ـ أو 238هـ وثَّقه رجال العامّة كثيراً ولم نجد في كتبهم من ضعفه، لكنّه اختُلِف عليه في حديث الجمع بين الظهرين في الصلاة، ففي التهذيب لابن حجر: أنَّهُ روى حديث أنس، أنّه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم أرتحل» بينما رواه ابن راهويه نفسه في صحيح مسلم ـ من طريق آخر ـ وفيه «إذا كان في سفر وأراد الجمع أخّر الظهر حتى يدخل أوّل وقت العصر ثم يجمع بينهما». تهذيب التهذيب 1/190 ـ 192 رقم 408، والاختلاف بينهما ظاهر مع أنّ راويهما واحد وهو ابن راهويه، وهذا وان كان غير قادح فيه الا أنه يعني انه ليس كل ما رواه الثقة يرى صحته، لا سيما في صورة المعارضة أو الاختلاف، وقد يكون حديث «ويل للاعقاب» من هذا القبيل عند ابن راهويه.
وأما جرير، فهو ابن عبدالحميد بن يزيد القاضي ابو عبدالله الضبي، نزيل الري، ولد سنة 107 هـ ـ أو 110 ـ ومات سنة 188 هـ، وثقوه كثيراً ومع هذا لم يكن فطناً، واتهمه سليمان الشاذكوني بالكذب.
قال الشاذكوني: «قدمت على جرير، فأُعجب بحفظي، وكان لي مكرماً، قال: قدم يحيى بن معين والبغداديون الذين معه.. فرأوا موضعي منه، فقال له بعضهم: ان هذا انما بعثه يحيى القطان، وعبدالحميد ليفسد حديثك عليك، ويتبع عليك الاحاديث»!!
الى ان جرى الكلام بينهما عن حديث طلاق الاخرس الذي كان يحدث به جرير تارة عن مغيرة، وأخرى: عن سفيان، عن مغيرة، وثالثة: عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة!! وكان الحديث موضوعاً.
فقال له الشاذكوني: «حديث طلاق الاخرس ممن سمعته؟
قال: حدثنيه رجل من خراسان، عن ابن المبارك.
قلت: قد رويته، مرة: عن مغيرة، ومرة: عن سفيان، عن مغيرة، ومرة: عن رجل، عن بن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة. ولست أراك تقف على شيء! فمن الرجل؟!
قال: رجل من أصحاب الحديث جاءنا.
قال: فوثبوا بي، وقالوا: ألم نقل لك: انما جاء ليفسد عليك حديثك؟
قال: فوثب بي البغداديون، وتعصب لي قوم من أهل الري، حتى كان بينهم شديد»!!
=
________________________________________ الصفحة 450 ________________________________________
وثانياً: إنَّ الظاهر هو أنَّ [أُولئك](1) القوم ـ مع إسلامهم ـ كانوا من الصحابة، فكيف يُتَصوّر منهم أنْ لا يعلموا ـ في مُدَّة إسلامهم وعبادتهم إلى ذلك الوقت ـ أنَّ الوضوء التمام المشروع هو أنْ تُغسل كلّ الرِجل(2)، حتى نبّههم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؟
____________
=
انظر: سير اعلام النبلاء 9/9 رقم 3.
ولهذا قال عنه ابن حجر في التهذيب 3/166 ـ 117 رقم 65: «قلت: ان صحت حكاية الشاذكوني، فجرير كان يدلس. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول. حتى قدم عليه بهز، فعرفه».
وأما بقية رجال السند، فهم:
منصور: وهو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي الكوفي، كان من العباد الأجلاء، ثبت، ثقة، وفيه تشيع قليل على ما قاله ابن حجر في التهذيب 10/277 رقم 547 مات سنة 132هـ.
وهلال بن يساف أو أساف، كوفي تابعي ثقة كما في تهذيب 11/76 رقم 144، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 130.
وأبو يحيى: محدث جليل ثقة، عرض عليه أحد كلاب الأُمويين سب الوصي عليه السلام، فأبى، فقطع عرقوبه ـ رحمه الله ـ لتشيعه.
ولهذا قال عنه الجوزجاني الناصبي: «زائغ جائر عن الطريق» يعني: طريق معاوية. قال ابن حجر: «والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف، فلا يقدح فيه قوله». تهذيب التهذيب 10 / 143 رقم 301.
وعبد الله بن عمرو بن العاص: وهو رابع أربعة اشتهروا بأحاديث غسل الرجلين ـ كما يلحظه كل متتبع لكتب الحديث ـ أولهم أم المؤمنين، وآخرهم خالهم!!!
ومن هنا يعلم أن في سند الحديث من حكم على نفسه بالارتداد جهلاً، ومن لا يطمأن لحديثه لكذبه وتدليسه، ومن سار على خط السلطة وعرف بانحرافه عن أهل البيت عليهم السلام، وشهرة أحاديث الغسل عنه. على أنه قد تقدم عدم دلالة الحديث على الغسل، بل حتى مع فرض صحة الحديث ودلالته على غسل الرجلين، فإنه يلزم من يترك الأخبار الصحيحة لأجل القياس تركه كما سنبينه في ص 454 الهامش رقم 1، فلاحظ.
(1) في «م» و«ر»: «ذلك» وما بين العضادتين هو الصحيح، وقد مر مثله كما بيناه في ص 444 الهامش رقم 4.
(2) هذا على فرض أنَّ الفرض في الرجلين هو الغسل كما لا يخفى.
________________________________________ الصفحة 451 ________________________________________
ولو قيل: إنَّ العجلة دعتهم إلى ذلك!!
قلنا: هذا يؤول إلى نسبة التشريع إلى الصحابة(1)، وتواطؤ قوم منهم على ذلك.
على أنَّ متن الحديث لا يقتضي أنْ يكون عدم غسل الاَعقاب للعجلة، بل ظاهره أنَّ تقديم الوضوء قبل وقت العصر عند الوصول ـ في الطريق ـ إلى ذلك الماء، كان على سبيل الاستعجال، وخوف فقد الماء ـ في ذلك الطريق ـ عند تضيّق وقت العصر.
فعلى ما ذكرنا، يجب أنْ يحمل ذلك على أنَّ في اعقابهم كان نجاسة(2) لم يزيلوه، وذلك لاَنّهم ـ كما مرَّ(3) ـ لِيَبْس هواء الحجاز، ولبس النعال العربية كثيراً ما يتشقق(4) اعقابهم، فيداوونها بالبول.
وهذا الاِهمال منهم ليس بمستبعد، على تقدير القول بوجوب المسح؛ لاَنها لم تكن(5) محلاً لمسح الوضوء.
والمعتبر في صحة الوضوء: طهارة موضع العضو المختص به لا باقي
____________
(1) بمعنى تجويزهم اسقاط بعض الفرض عند الاستعجال، وهو كما ترى!
(2) النَّجَسُ يكون للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ومثله الرِّجس ـ على مذهب الفراء ـ وهو النجاسة. لسان العرب 14/53 ـ 54، مادة «نَجَسَ».
(3) التعليل المذكور بعد ذلك، مر في متن الرسالة ص442 منقولاً عن كنز الفوائد ـ للكراجكي ـ.
(4) فاعل يتشقق ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى (الجلد)، والتقدير: يتشقق جلد اعقابهم، والا لقال: تتشقق، وقوله: (يداوونها)، أي: يداوون الجروح الحاصلة بسبب الشقوق في الجلد المحيط بالعقب؛ لاَن العقب عظمٌ لا يتشقق بجفاف الهواء، وغير ذلك مما ذكره قدس سره، حتى يحتاج إلى المداواة، وقد تقدم ما له صلة بالمقام في الهامشين رقم 3 و4 ص442، فراجع.
(5) في «م»: «يكن».
________________________________________ الصفحة 452 ________________________________________
الاَعضاء(1)، وإنّما تُشترط طهارة سائر الاَعضاء في الصلاة، وهو ظاهر.
ومعنى الاِسباغ متجه أيضاً على هذا التقدير؛ لاَنَّ القائلين بالمسح، يقولون باستحباب تقديم(2) غسل الرجلين لو احتاج إليه، لتنظيف أو تبريد، ولو نَسِبَهُ تراخى به عن المسح والدلك باليد.
وأمّا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ويلٌ للاَعقابِ مِنَ النَّارِ». فقد بَانَ وجهه.
على أنَّ خبر أبي هُريرة، ونحوه، غايته الاِخبار(3) بحصول الويل للاَعقاب، وليس السبب بمعلوم، فالمراد غير مفهوم.
ولو سلمنا العلم بالسبب المقتضي للتوعّد، لكنا لا نعلم بماذا يحصل الاَمان لها، فلعل ذلك يعني الغسل.
[الاحتجاج بالقياس على وجوب غسل الرجلين]
هذا، وقد يحتج الخصم لمذهبه من طريق القياس(4)، فيقول: إنَّ الاَرجل عضوٌ تجب فيه الديّة(5)، اُمرنا بإيصال الماء إليه، فيجب أنْ يكون
____________
(1) لاطلاقات الاَدلّة، وظهور الاجماع، وأصالة البراءة عن الشرطية كما في مهذب الاَحكام ـ للسيّد السبزواري ـ 2/406 المسألة الثانية، في شرائط الوضوء.
(2) «تقديم»: لم ترد في «م».
(3) في «ر»: «ونحوه عدّة من الاَخبار، وما في «م» هو الاَنسب.
(4) القياس: إثبات حكم في محل بعلّة، لثبوته في محل آخر بتلك العلّة، اُصول الفقه ـ الشيخ المظفر ـ 2/168، وله تعريفات اُخرى.
(5) الديّة: من وَديَ يَديَ ودْياً، وأصلها: ودْيَةَ، فحذفت الواو، فقيل: ديّة وهي حق القتيل، أي: المال الذي يأخذه ولي المقتول أو وارثه عوضاً عن نفسه، وتكون فيما دون النفس أيضاً. لسان العرب 15: 458 مادة «وَدِي»، واللمعة الدمشقية 10: 244.
________________________________________ الصفحة 453 ________________________________________
مغسولاً كاليدين(1)!
[بطلان هذا الاحتجاج واثبات ان القياس يفيد المسح]
ولا يذهب عليك، أنّ هذا احتجاج باطل، وقياس فاسد؛ لاَنّ الرأس عضو تجب(2) فيه الديّة(3)، وقد أُمرنا بإيصال الماء إليه، وهو ـ مع ذلك ـ ممسوح.
ولو تُرِكْنَا والقياس، لكانت لنا منه حجّة هي أوْلى من حجتهم، وهي: إنَّ الاَرجلَ عضوٌ من اعضاء الطهارة الصغرى يسقط حكمه في التيمُّم، فيجب أنْ يكون فرضه المسح في الرأس(4).
لا يقال: هذا(5) ينتقض عليكم بالجنب؛ لاَنَّ غسل جميع بدنه
____________
(1) لاَنَّ اليدين تغسل، وهما من الاَعضاء التي تجب فيها الديّة اجماعاً، فالعلة في اثبات غسل الرجلين هي الدية!!
(2) في «م»: «يجب».
(3) دية الرأس تكون بحسب الشجاج، كالحارصة، والدامية، والباضعة، وغيرها على ما هو مفصل في كتب الفقه. انظر: اللمعة الدمشقية 10: 267.
(4) في حاشية «ر» ـ وهو ما نبهنا عليه في ص446 ـ ما نصه: «وَاستُشْهدَ على مسح الرجلين، بأن الله تعالى لما نقل المسلمين من فريضة الوضوء بالماء عند الضرورة إلى فريضة التيمم، أوجب في التيمم ما كان غسلاً بالماء مسحاً بالتراب، وأسقط ما كان مسحاً بالماء من فريضة التيمم. فإنّ ذلك يدل على أنّ فرضهما بالماء فرض واحد. منه سلمه الله».
وقد نسب العامّة نظير هذا الكلام إلى جملة من الاَعلام كابن عباس وقتادة. كما في الدر المنثور: 28.
وقد مرّ في الهامش رقم (6) ص359 من هذه الرسالة تفصيل اسماء مصادر العامّة التي نسبت القول بمسح الرجلين إلى الشعبي، وذكرت له نظير هذا الاستدلال، فراجع.
(5) «هذا»: لم يرد في «م».
________________________________________ الصفحة 454 ________________________________________
واعضائه يسقط في التيمُّم، وفرضه ـ مع ذلك ـ الغسل!
لاَنَّا قد احترزنا عن هذا بقولنا: إنَّ الاَرجلَ عضوٌ من اعضاء الطهارة الصغرى، فلا يتوجه علينا النقض بالجنب(1).
[مسلك الشيعة في انكار مشروعية غسل الرجلين]
هذا، وللشيعة المنكرين لمشروعية الغسل، مسلك آخر.
____________
(1) توجد حجج كثيرة اُخرى مستفادة من القياس لرد القول بغسل الرجلين، وقد وعدنا بذكرها في آخر الهامش رقم 1 ص450 الخاص بمناقشة سند حديث «ويلٌ للاَعقاب من النّار» وإليك هذه الحجج.
قال ابن حزم في المحلّى 2/57 مسألة 200 عن حديث «ويلٌ للاَعقاب من النار» ما نصه: «فكان هذا الخبر زائداً على ما في الآية، وعلى الاَخبار التي ذكرنا [يعني بها أخبار المسح]، وناسخاً لما فيها، ولما في الآية. والاَخذ بالزائد واجب، ولقد كان يلزم من يترك الاَخبار الصحاح للقياس أن يترك هذا الخبر.
*لاَننا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمم، كما يسقط الرأس، فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه ويثبتان بثباته، أولى من حملهما على مالا يثبتان بثباته.
*وأيضاً، فالرجلان مذكوران مع الرأس، فكان حملهما على ما ذكرا معه، أولى من حملهما على ما لم يذكرا معه.
*وأيضاً، فالرأس طرف، والرجلان طرف، فكان قياس الطرف على الطرف، أولى من قياس الطرف على الوسط.
*وأيضاً، فمنهم من يقول بالمسح على الخفين، فكان تعويض المسح من المسح، أولى من تعويض المسح من الغسل.
*وأيضاً، فانه لمّا جاز المسح على ساتر للرجلين، ولم يجز على ساتر دون الوجه والذراعين، دلّ ـ على اُصول اصحاب القياس ـ أنّ أمر الرجلين أخفّ من أمر الوجه والذراعين.
فَإذا ذلك كذلك، فليس إلاّ المسح ولا بُدّ، فهذا أصح قياس في الاَرض لو كان القياس حقاً». انتهى.
________________________________________ الصفحة 455 ________________________________________
قالوا: إنَّ الوضوء فريضةٌ عامة، فلو تعين فيها الغسل، لما خَفِي عن أعيان الصحابة، والمخالفة ثابتة، بخلاف علي عليه السلام (1)، وابن عباس(2)، وأنس(3)، وغيرهم من الصحابة(4)، فالتعين منتفٍ.
لا يقال: هذه النكتة مقلوبة، إذْ لو تعين فيه المسح لما خالف بعض الصحابة:
لاَنّا نقول(5): عنه جوابان:
أحدُهما: إنَّ المخالف ربما يكون قد اعتقد إنَّ الغسل أسبغ، فَإنَّ المسح يدخل فيه، فاستعمله نُدْباً، واستمرَّ، فاشتبه المقصد.
وهذا غير بعيد؛ ولهذا ذهب جماعة إلى التخيير(6).
أو يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسل رجليه تطهيراً من نجاسة [قُبَيْل](7) الوضوء، فظنَّ بعض الصحابة أنَّ ذلك لرفع الحدث، وقَوِيَ ذلك في ظنه، فاجتزأ به عن السؤال، واستمرت حاله فيه.
وليس كذلك المسح؛ لاَنّه لا يحصل فيه الاِحتمال المذكور.
____________
(1) راجع: ص363 مع الهامش رقم 2.
(2) راجع: ص361 مع الهامش رقم 1.
(3) راجع: ص362 مع الهامش رقم 3.
(4) مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبدالله، وعم عباد بن تميم، وأوس الثقفي، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، كما فصلناه في الهامش رقم 3 ص370، فراجع.
(5) في «م»: «لاَنّا نقول لهم».
(6) كالحسن البصري، والطبري، والجبائي، واتباعهما كما تقدم في ص366 مع الهامش رقم 2، وقد ذكرنا في الهامش رقم 4 ص367 اختلافهم في بيان حكم الاَرجل عند الحسن البصري، فراجع.
(7) في «ر» و«م»: «عقيب»، وهو اشتباه ـ لعله من تصرف الناسخ ـ والصحيح هو ما اثبتناه بين العضادتين، لاَنَّ رفع النجاسة يكون قبيل الوضوء لا عُقيبه.
________________________________________ الصفحة 456 ________________________________________
الثاني: أنْ يسلم تساوي الاِحتمالين(1).
ويقال: إذا اشتبه على الصحابة ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى اختلفوا فيه على طائفتين، فلاَنْ يستمرّ الاِشتباه على غيرهم أوْلى. فتكون(2) دلالة الآية ـ حينئذٍ ـ سليمة عن معارضة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
[صريح الآية وظاهرها يدلاّن على وجوب المسح]
ولقد تلخّص مما اسْلفناه تصريحاً وتلويحاً:
إنَّ صريح الآية الكريمة ـ على قراءة الجر، وظاهرها على قراءة النصب ـ يدل على وجوب المسح، وما تَقَدَّمتْ روايته من حديث ابن عباس(3) رضي الله عنه (4)، المشتمل على حكاية وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه غسل رجليه، وكذا ما اشتمل على حكاية وضوء عثمان(5)، ووضوء عبدالله بن زيد(6)…، وما شابه ذلك(7). فليس في شيءٍ منها دليل على وجوب الغسل كما بينَّاه(8). بل تدل بظاهرها(9)على
____________
(1) أي: تساوي احتمال كون الغسل هو المتعين والاشتباه في المسح، مع احتمال العكس.
(2) في «م»: «فيكون».
(3) تقدم حديثه في ص430 برقم [1].
(4) في «ر» بلا ترضٍ.
(5) تقدم حديثه في ص431 برقم [2].
(6) تقدم حديثه في ص432 برقم [3].
(7) كما في الاَحاديث المرقمة من [4] إلى [8]، والمتقدمة في ص433 ـ 446.
(8) بيّنه رضي الله عنه في مناقشاته احاديثهم المتقدمة، وابطل دلالتها على وجوب الغسل، ولاَجل الفائدة سنذكر رقم الحديث وموضع مناقشته، كالآتي: حديث [1] ص435، و[2] و[3] ص436، و[4] و[5] ص441، و[6] ص441، و[7]ص 443 ـ 446، و[8] ص 447.
(9) في «م»: «لا يدل بظاهره»، وفي «ر»: «بل تدل بظاهره».
________________________________________ الصفحة 457 ________________________________________
إرادة بيان الوضوء الكامل، والسنن. فَإنْ صحَّت، فإنَّما تدل على الاِستحباب.
التعلیقات