أدلّة القائلين بالغسل
المصدر : المسح على الرجلين في الوضوء ، تأليف : السيّد علي الحسيني الميلاني ، ص 35 ـ 44
________________________________________ الصفحة 35 ________________________________________
النظر في أدلّة القائلين بالغسل
ننتقل الان إلى دليل القائلين بالغسل من أهل السنّة.
أمّا من الكتاب، فليس عندهم دليل.
قالوا: نستدلّ بالسنّة، فما هو دليلهم ؟
إنّ المتتبع لكتب القوم لا يجد دليلاً على القول بالغسل إلاّ دليلين:
الاوّل:
ما اشتمل من ألفاظ الحديث عندهم على جملة: «ويل للاعقاب من النار»، وسأقرأ نصّ الحديث، فهم يستدلّون بهذا الحديث على وجوب الغسل دون المسح.
الثاني:
ما يروونه في بيان كيفيّة وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسأقرأ لكم بعض تلك الاحاديث.
إذن، لا يدلّ على وجوب الغسل إلاّ ما ذكرت من الاحاديث:
أوّلاً: ما اشتمل على «ويل للاعقاب من النار».
________________________________________ الصفحة 36 ________________________________________
وثانياً: ما يحكي لنا كيفيّة وضوء رسول الله.
لاحظوا كتبهم التي يستدلّون فيها بهذين القسمين من الاحاديث على وجوب الغسل، كلّهم يستدلّون، أحكام القرآن لابن العربي، فتح الباري، تفسير القرطبي، المبسوط، معالم التنزيل للبغوي، الكواكب الدراري في شرح البخاري، وغير هذه الكتب، تجدونهم يستدلّون بهذين القسمين من الحديث فقط على وجوب الغسل دون المسح، وعلينا حينئذ أنْ نحقق في هذين الخبرين.
الاستدلال بحديث «ويل للاعقاب من النار»
والعمدة هي رواية: «ويل للاعقاب من النار»، وهي رواية عبدالله بن عمرو بن العاص، هذه الرواية موجودة في البخاري، وموجودة عند مسلم، فهي في الصحيحين، أقرأ لكم الحديث بالسند، ولاحظوا الفوارق في السند والمتن:
قال البخاري: حدّثنا موسى، حدّثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف ابن ماهك، عن عبدالله بن عمرو قال: تخلّف النبي (صلى الله عليه وسلم)عنّا في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا العصر ـ أي صلاة العصر ـ فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:
________________________________________ الصفحة 37 ________________________________________
«ويل للاعقاب من النار، ويل للاعقاب من النار، ويل للاعقاب من النار». مرّتين أو ثلاثاً كرّر هذه العبارة.
هذا الحديث في البخاري بشرح ابن حجر العسقلاني(1) .
وأمّا مسلم فلاحظوا: حدّثني زهير بن حرب، حدّثنا جرير وحدّثنا إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبدالله بن عمرو قال: رجعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)من مكّة إلى المدينة ـ هذه السفرة كانت من مكّة إلى المدينة ـ حتّى إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر، فتوضّؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء [ وهذه القطعة من الحديث غير موجودة عند البخاري، وهي المهم ومحل الشاهد هذه القطعة ] فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول الله: «ويل للاعقاب من النار أسبغوا الوضوء»(2) .
مناقشة الاستدلال بحديث «ويل للاعقاب من النار»
نقول: عندما نريد أن نحقّق في هذا الموضوع ـ ولنا الحقّ أنْ
____________
(1) فتح الباري في شرح البخاري 1 / 213.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 128، هامش ارشاد الساري.
________________________________________ الصفحة 38 ________________________________________
نحقق ـ فأوّلاً نبحث عن حال هذين السندين وفيهما من تكلّم فيه، لكنّا نغضّ النظر عن البحث السندي، لانّ أكثر القوم على صحّة الكتابين.
إذن، ننتقل إلى البحث عن فقه هذا الحديث:
لاحظوا في صحيح البخاري: فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته «ويل للاعقاب من النار، ويل للاعقاب من النار» لكنْ لابدّ وأنْ يكون الكلام متعلّقاً بأمر متقدّم، رسول الله يقول: «ويل للاعقاب من النار» وليس قبل هذه الجملة ذكر للاعقاب، هذا غير صحيح.
أمّا في لفظ مسلم: فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء فقال: «ويل للاعقاب من النار» وهذا هو اللفظ الصحيح.
إذن، من هذا الحديث يظهر أنّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يغسلوا أرجلهم في الوضوء، وإنّما مسحوا، لكنّهم لمّا مسحوا لم يمسحوا كلّ ظهر القدم وبقيت الاعقاب لم يمسّها الماء، فاعترض عليهم رسول الله، لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم، ولم يقل رسول الله لماذا لم تغسلوا، قال: لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم.
لابد وأنّكم تشكّون فيما أقول، ولا تصدّقون، ولا توافقوني في دلالة الحديث على المعنى الذي ذكرته، وتريدون أن آتي لكم
________________________________________ الصفحة 39 ________________________________________
بشواهد من القوم أنفسهم، فيكون هذا الحديث دالاًّ على المسح دون الغسل !! مع إنّهم يستدلون بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص على وجوب الغسل دون المسح !! لاحظوا:
يقول ابن حجر العسقلاني بعد أن يبحث عن هذا الحديث ويشرحه، ينتهي إلى هذه الجملة ويقول: فتمسّك بهذا الحديث من يقول بإجزاء المسح.
ويقول ابن رشد ـ لاحظوا عبارته ـ: هذا الاثر وإنْ كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدلّ على جوازه منه على منعه، وجواز المسح أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين(1) .
رسول الله لم يقل لماذا لم تغسلوا أرجلكم، قال: لماذا لم تمسحوا على أعقابكم، يعني: بقيت أعقابكم غير ممسوحة، وقد كان عليكم أن تمسحوا على ظهور أرجلكم وحتّى الاعقاب أيضاً يجب أنْ تمسحوا عليها، ويل للاعقاب من النار.
يقول صاحب المنار: هذا أصحّ الاحاديث في المسألة، وقد يتجاذب الاستدلال به الطرفان.
____________
(1) بداية المجتهد 1 / 16.
________________________________________ الصفحة 40 ________________________________________
أي القائلون بالمسح والقائلون بالغسل(1) .
ولاحظوا بقيّة عباراتهم، فهم ينصّون على هذا.
والحاصل: إنّ رسول الله لم يعترض على القوم في نوع ما فعلوا، أي لم يقل لهم لماذا لم تغسلوا، وإنّما قال لهم: لماذا لم تمسحوا أعقابكم «ويل للاعقاب من النار» وهذا نصّ حديث مسلم، إلاّ أنّ البخاري لم يأت بهذه القطعة، فأُريد الاستدلال بلفظه على الغسل.
ولا أدري هل لم يأت بالقطعة من الحديث عمداً أو سهواً، وهل أنّه هو الساهي أو المتعمّد، أو الرواة هم الساهون أو المتعمّدون ؟
ولمّا كان هذا الحديث الذي يريدون أن يستدلّوا به للغسل، كان دالاً على المسح، اضطرّوا إلى أن يحرّفوه، لاحظوا التحريفات، تعمّدت أن أذكرها بدقّة:
فالحديث بنفس السند الذي في صحيح مسلم الدالّ على المسح لا الغسل، بنفس السند، يرويه أبو داود في سننه ويحذف منه ما يدلّ على المسح(2) .
____________
(1) تفسير المنار 6 / 228.
(2) سنن ابي داود 1 / 15.
________________________________________ الصفحة 41 ________________________________________
وهكذا صنع الترمذي في صحيحه، والنسائي في صحيحه، وابن ماجة في صحيحه، كلّهم يروون الحديث عن منصور عن هلال بن يسار عن يحيى عن عبدالله بن عمرو، نفس السند الذي في صحيح مسلم، لكنّه محرّف، قارنوا بين الالفاظ، وهذا غريب جدّاً.
أمّا النسفي، فلو تراجعون تفسيره في ذيل الاية المباركة يقول هكذا: قد صحّ أنّ النبي رأى قوماً يمسحون على أرجلهم فقال: «ويل للاعقاب من النار»(1) وكم فرق بين هذا اللفظ ولفظ مسلم.
أمّا في مسند أحمد وتبعه الزمخشري في الكشّاف، فجعلوا كلمة الوضوء بدل المسح.
ففي صحيح مسلم يقول: فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم تمسّها الماء.
يقول أحمد في المسند وفي الكشّاف ينقل: وعن ابن عمرو بن العاص كنّا مع رسول الله فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: «ويل للاعقاب من النار»(2) .
قارنوا بين اللفظين لتروا كيف يحرّفون الكلم عن مواضعها متى ما كانت تضرّهم.
____________
(1) تفسير النسفي (هامش الخازن) 2 / 441.
(2) مسند أحمد 2 / 193، الكشاف 1 / 611.
________________________________________ الصفحة 42 ________________________________________
الاستدلال بحديث كيفية وضوء رسول الله ومناقشته
وأمّا الحديث الثاني، الحديث الذي يروونه في كيفية وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، استدلّوا به على الغسل دون المسح، وهو الحديث الذي يرويه حمران عن عثمان بن عفّان.
فظهر أنّ الحديث الذي يروونه عن حمران عن عثمان بن عفّان يروونه على شكلين: تارة يدلّ على المسح، وتارة يدلّ على الغسل، والسند نفس السند والراوي حمران نفسه.
لاحظوا في البخاري: حدّثنا عبدالعزيز بن عبدالله الاويسي، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب ـ هذا الزهري ـ أنّ عطاء بن يزيد أخبره: أنّ حمران مولى عثمان أخبره: أنّه رأى عثمان بن عفّان دعا بإناء فأفرغ على كفّه ثلاث مرّات فغسلهما، ثمّ أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنشق، ثمّ غسّل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرافق ثلاث مرّات، ثمّ مسح برأسه ثمّ غسل رجليه [ والحال قرأنا: مسح رجليه ] ثمّ غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثمّ قال: قال رسول الله: «من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين
________________________________________ الصفحة 43 ________________________________________
لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله ما تقدّم من ذنبه».
هذا الحديث في البخاري بشرح ابن حجر(1) وفي مسلم أيضاً بنفس السند عن الزهري، عن عطاء، عن حمران، عن عثمان بن عفّان.
وإذا لاحظتم الاسناد، عبدالعزيز بن عبدالله الاويسي: مذكور في المغني في الضعفاء للذهبي(2) ، وقال أبو داود: ضعيف، وذكره ابن حجر العسقلاني في مقدّمة فتح الباري فيمن تكلّم فيه(3) .
ثمّ إبراهيم بن سعد: ذكره ابن حجر فيمن تكلّم فيه(4) ، وأورده ابن عدي في الكامل في الضعفاء(5) ، وعن أحمد كأنّه يضعّفه، وقال صالح جزرة: ليس حديثه عن الزهري بذاك.
وأمّا ابن شهاب الزهري: ففيه ما فيه.
وأمّا حمران نفس الراوي عن عثمان ـ مولى عثمان هذا ـ: قال ابن سعد صاحب الطبقات: لم أرهم يحتجّون بحديثه، غضب عليه
____________
(1) فتح الباري 1 / 208.
(2) المغني في الضعفاء، ميزان الاعتدال 2 / 630.
(3) هدي الساري ـ مقدمة فتح الباري: 419.
(4) هدي الساري ـ مقدمة فتح الباري: 385.
(5) الكامل في الضعفاء 1 / 399.
________________________________________ الصفحة 44 ________________________________________
عثمان فنفاه(1) ، وأورده البخاري في الضعفاء.
وكذا الكلام في سند حديث مسلم وهو ينتهي إلى حمران أيضاً.
وبعد التنزّل عن المناقشة السنديّة في هذا الحديث المخرّج في الصحيحين، والتسليم بصحة هذا السند، تكون رواية حمران الدالّة على الغسل معارضة لرواية حمران الدالّة على المسح، ويكون الخبران متعارضين، حينئذ يعرضان على الكتاب، وقد رأينا الكتاب دالاًّ على المسح دون الغسل، فالكتاب إذن يكذّب ما يدلّ على الغسل.
____________
(1) انظر: ميزان الاعتدال 1 / 604، تهذيب التهذيب 3 / 21.
التعلیقات